الروض الأنف ت السلامي

حديث نقض الصحيفة:
بلاء هشام بن عمرو في نقض الصحيفة:
قال ابن إسحاق: وبنو هاشم، وبنو المطلب في منزلهم الذي تعاقدت فيه قريش عليهم في الصحيفة التي كتبوها، ثم إنه قام في نقض تلك الصحيفة التي تكاتبت فيها قريش على بني هاشم وبني المطلب نفر من قريش، ولم يبل فيها أحد أحسن من بلاء هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي، وذلك أنه كان ابن أخي نضلة بن هاشم بن عبد مناف لأمه فكان هشام لبني هاشم واصلا، وكان ذا شرف في قومه فكان - فيما بلغني - يأتي بالبعير وبنو هاشم وبنو المطلب في الشعب ليلا، قد أوقره طعاما، حتى
ـــــــ
عن الشعب ونقض الصحيفة:
فصل: وذكر نقض الصحيفة وقيام هشام فيها ونسبه فقال هشام بن الحارث بن حبيب وفي الحاشية عن أبي الوليد إنما هو هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث، وهكذا وقع نسبه في رواية يونس عن ابن إسحاق، وكان أبوه عمرو أخا نضلة بن هاشم لأمه.
وذكر أنه كان يأتي بالبعير قد أوقره بزا بالزاي المعجمة وفي غير نسخة الشيخ أبي بحر برا، وفي رواية يونس برا أو برا على الشك من الراوي. وذكر أن منصور بن عكرمة كان كاتب الصحيفة فشلت يده وللنساب من قريش في كاتب الصحيفة قولان: أحدهما : أن كاتب الصحيفة هو بغيض بن عامر بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار، والقول الثاني : أنه منصور بن عبد

(3/215)


إذا أقبل به فم الشعب ، خلع خطامه من رأسه ثم ضرب على جنبه فيدخل الشعب عليهم ثم يأتي به قد أوقره بزا، فيفعل به مثل ذلك.
سعي هشام في ضم زهير بن أبي أمية له:
قال ابن إسحاق: ثم إنه مشى إلى زهير بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم - وكانت أمه عاتكة بنت عبد المطلب - فقال يا زهير أقد رضيت أن تأكل الطعام وتلبس الثياب وتنكح النساء وأخوالك حيث قد علمت، لا يباعون ولا يبتاع منهم ولا ينكحون ولا ينكح إليهم ؟ أما إني أحلف بالله أن لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام ثم دعوته إلى ما دعاك إليه منهم ما أجابك إليه أبدا، قال ويحك يا هشام فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد والله لو كان معي رجل آخر لقمت في نقضها حتى أنقضها، قال قد وجدت رجلا قال فمن هو ؟ قال أنا، قال له زهير أبغنا رجلا ثالثا.
سعي هشام في ضم المطعم بن عدي له :
فذهب إلى المطعم بن عدي، فقال له يا مطعم أقد
ـــــــ
شرحبيل بن هاشم من بني عبد الدار أيضا، وهو خلاف قول ابن إسحاق، ولم يذكر الزبير في كاتب الصحيفة غير هذين القولين والزبيريون أعلم بأنساب قومهم.
وذكر ما أصاب المؤمنين مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشعب من ضيق الحصار لا يبايعون ولا يناكحون وفي الصحيح أنهم جهدوا حتى كانوا يأكلون الخبط وورق السمر حتى إن أحدهم ليضع كما تضع الشاة وكان فيهم سعد بن أبي وقاص. روي أنه قال لقد جعت، حتى إني وطئت ذات ليلة على شيء رطب فوضعته في فمي وبلعته، وما أدري ما هو إلى الآن وفي رواية يونس أن سعدا قال خرجت

(3/216)


رضيت أن يهلك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهد على ذلك موافق لقريش فيه أما والله لئن أمكنتموهم من هذه لتجدنهم إليها منكم سراعا، قال ويحك فماذا أصنع ؟ إنما أنا رجل واحد قال قد وجدت ثانيا، قال من هو ؟ قال أنا، قال أبغنا ثالثا، قال قد فعلت، قال من هو ؟ قال زهير بن أبي أمية، قال أبغنا رابعا
سعي هشام في ضم أبي البختري إليه :
فذهب إلى أبي البختري بن هشام فقال له نحوا مما قال لمطعم بن عدي فقال وهل من أحد يعين على هذا ؟ قال نعم قال من هو ؟ قال زهير بن أبي أمية، والمطعم بن عدي، وأنا معك، قال أبغنا خامسا.
سعي هشام في ضم زمعة له :
فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد، فكلمه وذكر له قرابتهم وحقهم فقال له وهل على هذا الأمر الذي تدعوني إليه من أحد ؟ قال نعم ثم سمى له القوم.
ما حدث بين هشام وزملائه ، وبين أبي جهل، حين اعتزموا تمزيق الصحيفة:
فاتعدوا خطم الحجون ليلا بأعلى مكة ، فاجتمعوا هنالك فأجمعوا أمرهم وتعاقدوا على القيام في الصحيفة حتى ينقضوها، وقال زهير أنا أبدؤكم فأكون
ـــــــ
ذات ليلة لأبول فسمعت قعقعة تحت البول فإذا قطعة من جلد بعير يابسة فأخذتها وغسلتها، ثم أحرقتها ثم رضضتها، وسففتها بالماء فقويت بها ثلاثا وكانوا إذا قدمت العير مكة يأتي أحدهم السوق ليشتري شيئا من الطعام لعياله فيقوم أبو لهب عدو الله فيقول يا معشر التجار غالوا على أصحاب محمد حتى لا يدركوا معكم شيئا، فقد علمتم ما لي ووفاء ذمتي، فأنا ضامن أن لا خسار عليكم فيزيدون عليهم في السلعة قيمتها أضعافا، حتى يرجع إلى أطفاله وهم يتضاغون من الجوع وليس في يديه شيء يطعمهم به ويغدو التجار على أبي لهب، فيربحهم فيما اشتروا من الطعام واللباس حتى جهد المؤمنون ومن معهم جوعا وعريا، وهذه إحدى الشدائد

(3/217)


أول من يتكلم. فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم وغدا زهير بن أبي أمية عليه حلة فطاف بالبيت سبعا، ثم أقبل على الناس فقال يأهل مكة، أنأكل الطعام ونلبس الثياب وبنو هاشم هلكى لا يباع ولا يبتاع منهم والله لا أقعد حتى تشق هذه الصحيفة القاطعة الظالمة.
قال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد: كذبت والله لا تشق، قال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب ما رضينا كتابها حيث كتبت، قال أبو البختري صدق زمعة لا نرضى ما كتب فيها، ولا نقر به قال المطعم بن عدي: صدقتما، وكذب من قال غير ذلك نبرأ إلى الله منها، ومما كتب فيها، قال هشام بن عمرو نحوا من ذلك. فقال أبو جهل هذا أمر قضي بليل تشوور فيه بغير هذا المكان وأبو طالب جالس في ناحية المسجد، فقام المطعم إلى الصحيفة ليشقها، فوجد الأرضة قد أكلتها، إلا " باسمك اللهم ".
كاتب الصحيفة وشل يده:
وكان كاتب الصحيفة منصور بن عكرمة. فشلت يده فيما يزعمون.
إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم بأكل الأرضة للصحيفة، وما كان من القوم بعد ذلك:
قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأبي طالب "يا عم إن ربي الله قد سلط الأرضة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسما هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان" ، فقال أربك أخبرك بهذا ؟ قال "نعم" ،
ـــــــ
الثلاث التي دل عليها تأويل الغطات الثلاث التي غطه جبريل حين قال له اقرأ قال: "ما أنا بقارئ" وإن كان ذلك كان في اليقظة ولكن مع ذلك له في مقتضى الحكمة تأويل وإيماء وقد تقدمت الإشارة إلى هذا قبل وإلى آخر حديث الصحيفة ليس فيها ما يشكل.

(3/218)


قال فوالله ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش، فقال يا معشر قريش، إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم فإن كان كما قال ابن أخي، فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذبا دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم رضينا، فتعاقدوا على ذلك ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فزادهم ذلك شرا فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
شعر أبي طالب في مدح النفر الذين نقضوا الصحيفة:
قال ابن إسحاق: فلما مزقت الصحيفة وبطل ما فيها. قال أبو طالب، فيما كان من أمر أولئك النفر الذين قاموا في نقضها يمدحهم:
ألا هل أتى بحرينا صنع ربنا ... على نأيهم والله بالناس أرود
فيخبرهم أن الصحيفة مزقت ... وأن كل ما لم يرضه الله مفسد
تراوحها إفك وسحر مجمع ... ولم يلف سحر آخر الدهر يصعد
ـــــــ
شرح دالية أبي طالب:
وقول أبي طالب: ألا قد أتى بحرينا، يعني الذين بأرض الحبشة، نسبهم إلى البحر لركوبهم إياه وهكذا وجه النسب إليه وقد قال عليه السلام "إذا نشأت بحرية" وزعم ابن سيده في كتاب المحكم له أن العرب تنسب إلى البحر بحراني على غير قياس وأنه من شواذ النسب ونسب هذا القول إلى سيبويه والخليل، ولم يقله سيبويه قط، وإنما قال في شواذ النسب: تقول في بهراء: بهراني وفي صنعاء: صنعاني كما تقول بحراني في النسب إلى البحرين التي هي مدينة وعلى هذا تلقاه جميع النحاة وتأولوه من كلام سيبويه، وإنما شبه على ابن سيده لقول الخليل في هذه المسألة أعني مسألة النسب إلى البحرين، كأنهم بنوا البحر على بحران، وإنما أراد لفظ البحرين ألا تراه يقول في كتاب العين تقول بحراني في النسب إلى

(3/219)


تداعى لها من ليس فيها بقرقر ... فطائرها في رأسها يتردد
ـــــــ
البحرين، ولم يذكر النسب إلى البحر أصلا للعلم به وأنه على القياس جار وفي الغريب المصنف عن اليزيدي أنه قال إنما قالوا: بحراني في النسب إلى البحرين، ولم يقولوا: بحري ليفرقوا بينه وبين النسب إلى البحر وما زال ابن سيده يعثر في هذا الكتاب وغيره [عثرات] يدمي منها الأظل، ويدحض دحضات تخرجه إلى سبيل من ضل ألا تراه قال في هذا الباب وذكر بحيرة طبرية، فقال هي من أعلام خروج الدجال وأن ماءها ييبس عند خروجه والحديث إنما جاء في غير زغر، وإنما ذكرت بحيرة طبرية في حديث يأجوج ومأجوج وأنهم يشربون ماءها، وقال في الجمار في غير هذا الكتاب [إنما] هي التي ترمى بعرفة، وهذه هفوة لا تقال وعثرة [لا] لعا لها وكم له من هذا إذا تكلم في النسب وغيره ومن النسب إلى البحر قوله عليه السلام لأسماء بنت عميس حين قدمت من أرض الحبشة: "البحرية الحبشية" فهذا مثل قول أبي طالب: ألا هل أتى بحرينا.
وقوله والله بالناس أرود أي أرفق ومنه رويدك، أي رفقا جاء بلفظ التصغير لأنهم يريدون به تقليلا أي ارفق قليلا، وليس له مكبر من لفظه لأن المصدر إروادا، إلا أن يكون من باب تصغير الترخيم وهو أن تصغر الاسم الذي فيه الزوائد فتحذفها في التصغير فتقول في أسود سويد، وفي مثل إرواد رويد.
وقوله: من ليس فيها بقرقر أي ليس بذليل لأن القرقر: الأرض الموطوءة التي لا تمنع سالكها، ويجوز أن يريد به ليس بذي هزل لأن القرقرة: الضحك.
وقوله: وطائرها في رأسها يتردد. أي حظها من الشؤم والشر وفي التنزيل:

(3/220)


وكانت كفاء رقعة بأثيمة ... ليقطع منها ساعد ومقلد
ويظعن أهل المكتين فيهربوا ... فرائصهم من خشية الشر ترعد
ويترك حراث يقلب أمره ... أيتهم فيهم عند ذاك وينجد
وتصعد بين الأخشبين كتيبة ... لها حدج سهم وقوس ومرهد
فمن ينش من حضار مكة عزه ... فعزتنا في بطن مكة أتلد
نشأنا بها، والناس فيها قلائل ... فلم ننفكك نزداد خيرا ونحمد
ونطعم حتى يترك الناس فضلهم ... إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد
جزى الله رهطا بالحجون تبايعوا ... على ملأ يهدي لحزم ويرشد
قعودا لدى خطم الحجون كأنهم ... مقاولة بل هم أعز وأمجد
__________
{أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء 13]، وقوله لها حدج سهم وقوس ومرهد وجدت في حاشية كتاب الشيخ مما كتبه عن أبي الوليد الكناني على هذا البيت لعله حدج بضم الحاء والدال جمع حدج على ما حكى الفارسي، وأنشد شاهدا عليه عن ثعلب:
قمنا فآنسنا الحمول والحدج
ونظيره ستر وستر ذكر ذلك عنه ابن سيده في محكمه فيكون المعنى: إن الذي يقوم لها مقام الحدج سهم وقوس ومرهد. إلى هنا انتهى ما في حاشية كتاب الشيخ. قال المؤلف وفي العين الحدج حسك القطب [ما دام رطبا] فيكون الحدج في البيت مستعارا من هذا، أي لها حسك ثم فسره فقال سهم وقوس ومرهد هكذا في الأصل بالراء وكسر الميم فيحتمل أن يكون مقلوبا من مرهد مفعل من رهد الثوب إذا مزقه ويعني <165> به رمحا أو سيفا، ويحتمل أن يكون غير مقلوب,

(3/221)


أعان عليها كل صقر كأنه ... إذا ما مشى في رفرف الدرع أحرد
جري على جلى الخطوب كأنه ... شهاب بكفي قابس يتوقد
من الأكرمين من لؤي بن غالب ... إذا سيم خسفا وجهه يتربد
طويل النجاد خارج نصف ساقه ... على وجهه يسقى الغمام ويسعد
عظيم الرماد سيد وابن سيد ... يحض على مقرى الضيوف ويحشد
ويبنى لأبناء العشيرة صالحا ... إذا نحن طفنا في البلاد ويمهد
ألط بهذا الصلح كل مبرأ ... عظيم اللواء أمره ثم يحمد
قضوا ما قضوا في ليلهم ثم أصبحوا ... على مهل وسائر الناس رقد
__________
ويكون من الرهيد وهو الناعم أي ينعم صاحبه بالظفر أو ينعم هو بالري من الدم وفي بعض النسخ مزهد بفتح الميم والزاي، فإن صحت الرواية به فمعناه مزهد في الحياة وحرص على الممات والله أعلم. وقوله فيها: إذا جعلت أيدي المفيضين ترعد. يعني: أيدي المفيضين بالقداح في الميسر وكان لا يفيض معهم في الميسر إلا سخي، ويسمون من لا يدخل معهم في ذلك البرم. وقالت امرأة لبعلها - وكان برما بخيلا، ورأته يقرن بضعتين في الأكل أبرما قرونا ويسمونه أيضا: الحصور يريد أبو طالب إنهم يطعمون إذا بخل الناس. والميسر هي الجزور التي تقسم يقال يسرت إذا قسمت، هكذا فسره القتبي وأنشد:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ... ألم ييأسوا أني ابن فارس زهدم
قال ييسرونني أي يقتسمون مالي، ويروى: يأسرونني من الأسر.
وقوله: رفرف الدرع أحرد. رفرف الدرع فضولها، وقيل في معنى: رفرف خضر فضول الفرش والبسط وهو قول ابن عباس، وعن علي أنها: المرافق وعن سعيد بن جبير: الرفارف رياض الجنة والأحرد الذي في مشيه تثاقل وهو من

(3/222)


هم رجعوا سهل ابن بيضاء راضيا ... وسر أبو بكر بها ومحمد
متى شرك الأقوام في جل أمرنا ... وكنا قديما قبلها نتودد
وكنا قديما لا نقر ظلامة ... وندرك ما شئنا، ولا نتشدد
فيا لقصي هل لكم في نفوسكم ... وهل لكم فيما يجيء به غد
فإني وإياكم كما قال قائل ... لديك البيان لو تكلمت أسود
شعر حسان في رثاء المطعم، وذكر نقضه الصحيفة:
وقال حسان بن ثابت يبكي المطعم بن عدي حين مات ويذكر قيامه في نقض الصحيفة:
أيا عين فابكي سيد القوم واسفحي ... بدمع وإن أنزفته فاسكبي الدما
وبكي عظيم المشعرين كليهما ... على الناس معروفا له ما تكلما
__________
الحرد وهو عيب في الرجل.وفيه :هم رجعوا سهل ابن بيضاء راضيا. سهل هذا هو ابن وهب بن ربيعة بن هلال بن ضبة بن الحارث بن فهر، يعرف بابن البيضاء وهي أمه واسمها: دعد بنت جحدم بن أمية بن ضرب بن الحارث بن فهر، وهم ثلاثة إخوة سهل وسهيل وصفوان بنو البيضاء. وقوله:
وإني وإياهم كما قال قائل ... لديك البيان لو تكلمت أسود
أسود اسم جبل كان قد قتل فيه قتيل فلم يعرف قاتله فقال أولياء المقتول هذه المقالة فذهبت مثلا.
قول حسان في مطعم وهشام بن عمرو
فصل : وذكر قول حسان في مطعم بن عدي، ويذكر جواره للنبي - عليه

(3/223)


فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
أجرت رسول الله منهم ... فأصبحوا عبيدك، ما لبى مهل وأحرما
فلو سئلت عنه معد بأسرها ... وقحطان أو باقي بقية جرهما
لقالوا: هو الموفى بخفرة جاره ... وذمته يوما إذا ما تذمما
فما تطلع الشمس المنيرة فوقهم ... على مثله فيهم أعز وأعظما
وآبى إذا يأبى وألين شيمة ... وأنوم عن جار إذا الليل أظلما
قال ابن هشام: قوله "كليهما" عن غير ابن إسحاق.
ـــــــ
السلام - وذلك حين رجع من الطائف ، وقيامه في أمر الصحيفة:
فلو كان مجد يخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده اليوم مطعما
وهذا عند النحويين من أقبح الضرورة لأنه قدم الفاعل وهو مضاف إلى ضمير المفعول فصار في الضرورة مثل قوله:
جزى ربه عني عدي بن حاتم
غير أنه في هذا البيت أشبه قليلا لتقدم ذكر مطعم، فكأنه قال أبقي مجد هذا المذكور المتقدم ذكره مطعما. ووضع الظاهر موضع المضمر كما لو قلت: إن زيدا ضربت جاريته زيدا، أي ضربت جاريته إياه ولا بأس بمثل هذا، ولا سيما إذا قصدت قصد التعظيم وتفخيم ذكر الممدوح كما قال الشاعر:
وما لي أن أكون أعيب يحيى ... ويحيى طاهر الأثواب بر
ويجوز نصبه عندي على البدل من قوله وبكي عظيم المشعرين ويكون المفعول من قوله أبقى مجده محذوفا، فكأنه قال أبقاه مجده أبدا، والمفعول لا

(3/224)


كيف أجاز المطعم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
قال ابن هشام: وأما قوله أجرت رسول الله منهم، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما انصرف عن أهل الطائف، ولم يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من تصديقه ونصرته صار إلى <168> حراء ، ثم بعث إلى الأخنس بن شريق، ليجيره فقال أنا حليف والحليف لا يجير، فبعث إلى سهيل بن عمرو، فقال إن بني عامر لا تجير على بني كعب. فبعث إلى المطعم بن عدي، فأجابه إلى ذلك ثم تسلح المطعم وأهل بيته وخرجوا حتى أتوا المسجد، ثم بعث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن ادخل فدخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فطاف بالبيت ، وصلى عنده ثم انصرف إلى منزله فذلك الذي يعني حسان بن ثابت.
مدح حسان لهشام بن عمرو لقيامه في الصحيفة:
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت الانصاري أيضا: يمدح هشام بن عمرو لقيامه في الصحيفة:
هل يوفين بنو أمية ذمة ... عقدا كما أوفى جوار هشام
من معشر لا يغدرون بجارهم ... للحارث بن حبيب بن سخام
ـــــــ
قبح في حذفه إذا دل عليه الكلام كما في هذا البيت.
وذكر قول حسان في هشام بن عمرو، وقال فيه للحارث بن حبيب بن سخام وقد تقدم نسبه وهو حبيب بالتخفيف تصغير حب وجعله حسان تصغير حبيب فشدده وليس هذا من باب الضرورة إذ لا يسوغ أن يقال في فليس فليس ولا في كليب كليب في شعر ولا غيره ولكن لما كان الحب والحبيب بمعنى واحد جعل أحدهما مكان الآخر وهو حسن في الشعر وسائغ في الكلام وهشام بن عمرو هذا أسلم، وهو معدود في المؤلفة قلوبهم وكانوا أربعين رجلا فيما ذكروا.
وقوله ابن سخام هو اسم أمه، وأكثر أهل النسب يقولون فيه شحام بشين معجمة وألفيت في حاشية كتاب الشيخ أن أبا عبيدة النسابة وعوانة يقولون فيه:

(3/225)


وإذا بنو حسل أجاروا ذمة ... أوفوا وأدوا جارهم بسلام
وكان هشام أخا سخام بالضم.
قال ابن هشام: ويقال شحام.
قصة إسلام الطفيل بن عمرو الدوسي
تحذير قريش له من الاستماع للنبي صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما يرى من قومه يبذل لهم النصيحة ويدعوهم إلى النجاة مما هم فيه. وجعلت قريش، حين منعه الله منهم يحذرونه الناس ومن قدم عليهم من العرب.
وكان الطفيل بن عمرو الدوسي يحدث أنه قدم مكة - ورسول الله صلى الله عليه وسلم بها - فمشى إليه رجال من قريش - وكان الطفيل رجلا شريفا شاعرا لبيبا - فقالوا له يا طفيل إنك قدمت بلادنا، وهذا الرجل الذي بين أظهرنا قد أعضل بنا، وقد فرق جماعتنا، وشتت أمرنا، وإنما قوله كالسحر يفرق بين الرجل وبين أبيه وبين الرجل وبين أخيه وبين الرجل وبين زوجته وإنا نخشى عليك وعلى قومك ما قد دخل
__________
سحام بسين وحاء مهملتين والذي في الأصل من قول ابن هشام: سخام بسين مهملة وخاء معجمة ولفظ شخام من شخم الطعام وخشم إذا تغيرت رائحته قاله أبو حنيفة.
حول حديث طفيل الدوسي وذي الكفين:
فصل: وذكر حديث طفيل بن عمرو الدوسي، وهو طفيل بن عمرو بن

(3/226)


علينا، فلا تكلمنه ولا تسمعن منه شيئا.
قال فوالله ما زالوا بي حتى أجمعت أن لا أسمع منه شيئا، ولا أكلمه حتى حشوت في أذني حين غدوت إلى المسجد كرسفا فرقا من أن يبلغني شيء من قوله وأنا لا أريد أن أسمعه. قال فغدوت إلى المسجد، فإذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائم يصلي عند الكعبة. قال فقمت منه قريبا، فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله. قال فسمعت كلاما حسنا. قال فقلت في نفسي: واثكل أمي والله إني لرجل لبيب شاعر ما يخفى علي الحسن من القبيح فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول فإن كان الذي يأتي به حسنا قبلته وإن كان قبيحا تركته.
التقاؤه بالرسول وقبوله الدعوة:
قال فمكثت حتى انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى بيته فاتبعته، حتى إذا دخل بيته دخلت عليه فقلت: يا محمد إن قومك قالوا لي كذا وكذا - للذي قالوا - فوالله ما برحوا يخوفونني أمرك حتى سددت أذني بكرسف لئلا أسمع قولك، ثم أبى الله إلا أن يسمعني قولك، فسمعته قولا حسنا، فاعرض علي أمرك. قال فعرض علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الإسلام وتلا علي القرآن فلا والله ما سمعت قولا قط أحسن منه ولا أمرا أعدل منه قال فأسلمت، وشهدت شهادة الحق وقلت: يا نبي الله إني امرئ مطاع في قومي، وأنا راجع إليهم وداعيهم إلى الإسلام فادع الله أن يجعل لي آية تكون لي عونا عليهم فيما أدعوهم إليه فقال: "اللهم اجعل له آية" .
__________
طريف بن العاصي بن ثعلبة بن سليم بن جهم بن دوس إلى آخره وليس فيه إشكال إلا قوله حنا ذي الشرى ، وقد قال ابن هشام: هو حمى، وهو موضع حموه لصنمهم ذي الشرى ، فإن صحت رواية ابن إسحاق، فالنون قد تبدل من الميم كما قالوا: حلان وحلام للجدي ويجوز أن يكون من حنوت العود ومن محنية الوادي، وهو ما انحنى منه.

(3/227)


الآية التي جعلت له:
قال فخرجت إلى قومي، حتى إذا كنت بثنية تطلعني على الحاضر وقع نور بين عيني مثل المصباح فقلت: اللهم في غير وجهي، إني أخشى، أن يظنوا أنها مثلة وقعت في وجهي لفراق دينهم. قال فتحول فوقع في رأس سوطي. قال فجعل الحاضر يتراءون ذلك النور في سوطي كالقنديل المعلق وأنا أهبط إليهم من الثنية ، قال حتى جئتهم فأصبحت فيهم
دعوة أباه إلى الإسلام:
قال فلما نزلت أتاني أبي، وكان شيخا كبيرا، قال فقلت: إليك عني يا أبت فلست معك، ولست مني، قال ولم يا بني ؟ قال قلت: أسلمت، وتابعت دين محمد - صلى الله عليه وسلم - قال أي بني فديني دينك، قال فقلت: فاذهب فاغتسل وطهر ثيابك، ثم تعال حتى أعلمك ما علمت. قال فذهب فاغتسل وطهر ثيابه. قال ثم جاء فعرضت عليه الإسلام فأسلم.
دعوته زوجه إلى الإسلام:
قال ثم أتتني صاحبتي، فقلت: إليك عني، فلست منك ولست مني، قالت لم ؟ بأبي أنت وأمي، قال قلت: قد فرق بيني وبينك الإسلام وتابعت دين محمد - صلى الله عليه وسلم - قالت فديني دينك، قال قلت: فاذهبي إلى حنا ذي الشرى - قال ابن هشام: ويقال حمى ذي الشرى - فتطهري منه.
قال وكان ذو الشرى صنما لدوس، وكان الحمى حمى حموه له به وشل من ماء يهبط من جبل.
قال فقلت بأبي أنت وأمي، أتخشى على الصبية من ذي الشرى شيئا، قال قلت: لا، أنا ضامن لذلك فذهبت فاغتسلت ثم جاءت فعرضت عليها الإسلام فأسلمت.
ـــــــ
.......................................

(3/228)


دعوته قومه إلى الإسلام، وما كان منهم، ولحاقهم بالرسول:
ثم دعوت دوسا إلى الإسلام فأبطئوا علي ثم جئت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، فقلت له يا نبي الله أنه قد غلبني على دوس الزنا، فادع الله عليهم فقال "اللهم اهد دوسا، ارجع إلى قومك فادعهم وارفق بهم" قال فلم أزل بأرض دوس أدعوهم إلى الإسلام حتى هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة ، ومضى بدر وأحد والخندق، ثم قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بمن أسلم معي من قومي، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر حتى نزلت المدينة بسبعين أو ثمانين بيتا من دوس، ثم لحقنا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بخيبر فأسهم لنا مع المسلمين.
ذهابه إلى ذي الكفين ليحرقه، وشعره في ذلك :
ثم لم أزل مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى إذا فتح الله عليه مكة ، قال قلت: يا رسول الله ابعثني إلى ذي الكفين صنم عمرو بن حممة حتى أحرقه.
قال ابن إسحاق: فخرج إليه فجعل طفيل يوقد عليه النار ويقول:
يا ذا الكفين لست من عبادكا ... ميلادنا أقدم من ميلادكا
إني حشوت النار في فؤادكا
ـــــــ
وقوله: يا ذا الكفين لست من عبادكا أراد الكفين بالتشديد فخفف للضرورة غير أن في نسخة الشيخ أن الصنم كان يسمى: ذا الكفين وخفف الفاء بخطه بعد أن كانت مشددة فدل أنه عنده مخفف في غير الشعر فإن صح هذا فهو محذوف اللام كأنه تثنية كفء من كفأت الإناء أو إذا كفئ بمعنى كفء ؟ ثم سهلت الهمزة وألقيت حركتها على الفاء كما يقال الخبء والخب وفي الحديث أن أهل الحاضر من دوس كانوا يتراءونه في الثنية ، وفي سوطه كالقنديل المعلق وذكره المبرد فقال في لفظ الحديث جعلوا ينظرون إلى الجبل وهو يهتف من شدة الضياء والنور وروى، أبو الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال لما قال طفيل للنبي - صلى الله عليه وسلم - إن دوسا غلب عليها الزنى والربا، فادع الله عليهم قلنا: هلكت

(3/229)


جهاده مع المسلمين بعد قبض الرسول، ثم رؤياه ومقتله:
قال ثم رجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فكان معه بالمدينة ، حتى قبض الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - فلما ارتدت العرب، خرج مع المسلمين فسار معهم حتى فرغوا من طليحة، ومن أرض نجد كلها.ثم سار مع المسلمين إلى اليمامة - ومعه ابنه عمرو بن الطفيل - فرأى رؤيا وهو متوجه إلى اليمامة، فقال لأصحابه إني قد رأيت رؤيا، فاعبروها لي، رأيت أن رأسي حلق وأنه خرج من فمي طائر وأنه لقيتني امرأة فأدخلتني في فرجها، وأرى ابني يطلبني طلبا حثيثا، ثم رأيته حبس عني، قالوا: خيرا. قال أما أنا والله فقد أولتها، قالوا: ماذا ؟ قال أما حلق رأسي فوضعه وأما الطائر الذي خرج من فمي فروحي وأما المرأة التي أدخلتني فرجها، فالأرض تحفر لي، فأغيب فيها، أما طلب ابني إياي ثم حبسه عني، فإني أراه سيجهد أن يصيبه ما أصابني، فقتل رحمه الله شهيدا باليمامة، وجرح ابنه جراحة شديدة ثم استبل منها، ثم قتل عام اليرموك في زمن عمر رضي الله عنه شهيدا.
أمر أعشى بني قيس بن ثعلبة:
شعره في مدح الرسول عند مقدمه عليه:
قال ابن هشام: حدثني خلاد بن قرة بن خالد الدوسي وغيره من مشايخ
ـــــــ
دوس، حتى قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "اللهم اهد دوسا"
الأعشى وداليته وحمزة والشرف:
فصل: وذكر ابن هشام حديث الأعشى وقصيدته إلى آخرها، فلما كان قريبا من مكة لقيه بعض المشركين فقال إلى أين يا أبا بصير ؟ الحديث وذكر تحريمه الخمر وتحريمه الزنى، وقول الأعشى: أما الخمر ففي الناس منها علالات وقال غير

(3/230)


بكر بن وائل من أهل العلم أن أعشى بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل، بن قاسط بن هنب بن أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار] خرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الإسلام فقال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم
ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا ... وبت كما بات السليم مسهدا
ـــــــ
ابن هشام: كان القائل للأعشى هذه المقالة أبو جهل. قالها في دار عتبة بن ربيعة، وكان نازلا عنده قال المؤلف وهذه غفلة من ابن هشام، ومن قال بقوله فإن الناس مجمعون على أن الخمر لم ينزل تحريمها إلا بالمدينة بعد أن مضت بدر وأحد، وحرمت في سورة المائدة وهي من آخر ما نزل وفي الصحيحين من ذلك قصة حمزة حين شربها وغنته القينتان ألا يا حمز للشرف النواء فبقر خواصر الشارفين واجتنب أسنمتها. وقوله للنبي عليه السلام هل أنتم إلا عبيد لآبائي، وهو ثمل. الحديث بطوله.فإن صح خبر الأعشى، وما ذكر له في الخمر فلم يكن هذا بمكة، وإنما كان بالمدينة، ويكون القائل له أما علمت أنه يحرم الخمر من المنافقين أو من اليهود، فالله أعلم.وفي القصيدة ما يدل على هذا قوله فإن لها في أهل يثرب موعدا، وقد ألفيت للقالي رواية عن أبي حاتم عن أبي عبيدة قال لقي الأعشى عامر بن الطفيل في بلاد قيس، وهو مقبل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكر له أنه يحرم الخمر فرجع فهذا أولى بالصواب وقول الأعشى: أتروى منها هذا العام ثم أعود فأسلم لا يخرجه عن الكفر بإجماع قال الإسفراييني في عقيدته إذا قال المؤمن سأكفر غدا أو بعد غد، فهو كافر لحينه بإجماع وإذا قال الكافر سأومن غدا، أو بعد فهو على كفره لا يخرجه عن حكم الكفر إلا إيمانه إذا آمن ولا خلاف في هذا والله المستعان.
وقوله ألم تغتمض عيناك ليلة أرمدا لم ينصب ليلة على الظرف لأن ذلك

(3/231)


وما ذاك من عشق النساء وإنما ... تناسيت قبل اليوم خلة مهددا
ولكن أرى الدهر الذي هو خائن ... إذا أصلحت كفاي عاد، فأفسدا
كهولا وشبانا فقدت وثروة ... فلله هذا الدهر كيف ترددا
وما زلت أبغي المال مذ أنا يافع ... وليدا وكهلا حين شبت وأمردا
وأبتذل العيس المراقيل تعتلي ... مسافة ما بين النجير فصرخدا
ألا أيهذا السائلي أين يممت ... فإن لها في أهل يثرب موعدا
فإن تسألي عني، فيا رب سائل ... حفي عن الأعشى به حيث أصعدا
أجدت برجليها النجاء وراجعت ... يداها خنافا لينا غير أحردا
وفيها - إذا ما هجرت - عجرفية ... إذاخلت حرباء الظهيرة أصيدا
ـــــــ
يفسد معنى البيت ولكن أراد المصدر فحذفه والمعنى: اغتماض ليلة أرمد فحذف المضاف إلى الليلة وأقامها مقامه فصار إعرابها كإعرابه وقد روي هذا البيت ليلك بالكاف ومعناه غمض أرمد وقيل بل أرمد على هذه الرواية من صفة الليل أي حال منه على المجاز كما تقول ليلك ساهر.
وقوله تناسيت قبل اليوم خلة مهددا مهدد فغلل من المهد ولولا قيام الدليل على أن الميم أصلية لحكمنا بأنه مفعل لأن الكلمة الرباعية إذا كان أولها ميما أو همزة فحملها على الزيادة إلا أن يقوم دليل على أنها أصلية والدليل على هذه الكلمة ظهور التضعيف في الدال إذ لو كانت الميم زائدة لما ظهر التضعيف ولقلت فيه مهد كما تقول مرد ومكر ومفر في كل ما وزنه مفعل من المضاعف وإنما الدال في مهدد ضوعفت ليلحق ببناء جعفر.
وقوله إذا خلت حرباء الظهيرة أصيدا والأصيد المائل العنق ولما كانت

(3/232)


وآليت لا آوي لها من كلالة ... ولا من حفى حتى تلاقي محمدا
متى ما تناخى عند باب ابن هاشم ... تراحي، وتلقي من فواضله ندى
ـــــــ
الحرباء تدور بوجهها مع الشمس كيفما دارت كانت في وسط السماء في أول الزوال كالأصيد وذلك أحر ما تكون الرمضاء. يصف ناقته بالنشاط وقوة المشي في ذلك الوقت. وقوله خنافا لينا. في العين: خنفت الناقة تخنف بيديها في السير إذا مالت بهما نشاطا، وناقة خنوف قال الراجز:
إن الشواء والنسيل والرغف ... والقينة الحسناء والكأس الأنف
للظاعنين الخيل والخيل خنف
وقوله: لينا غير أحردا، أي تفعل ذلك من غير حرد في يديها، أي اعوجاج والنجير وصرخد بلدان وأهل النجير أول من ارتد في خلافة أبي بكر بعد أهل دبا وكان أهل دبا قد حاصرهم حذيفة بن أسيد وحاصر أهل النجير زياد بن لبيد بأمر أبي بكر، حتى نزلوا على حكمه. وأما صرخد فبلد طيب الأعناب وإليه تنسب الخمر الصرخدية. وفي الأمالي: ولذ كطعم الصرخدي تركته.
وقوله وآليت لا آوي لها من كلالة ولا من وجى، أي لا أرق لها، يقال آويت للضعيف إية ومأوية إذا رقت له كبدك. وقوله أغار لعمري في البلاد وأنجدا المعروف في اللغة غار وأنجد وقد أنشدوا هذا البيت:

(3/233)


نبيا يرى ما لا ترون وذكره ... أغار لعمري في البلاد وأنجدا
له صدقات ما تغب ونائل ... وليس عطاء اليوم مانعه غدا
أجدك لم تسمع وصاة محمد ... نبي الإله حيث أوصى، وأشهدا
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى ... ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله ... فترصد للأمر الذي كان أرصدا
فإياك والميتات لا تقربنها ... ولا تأخذن سهما حديدا، لتفصدا
وذا النصب المنصوب لا تنسكنه ... ولا تعبد الأوثان والله فاعبدا
__________
لعمري غار في البلاد وأنجدا
والغور: ما انخفض من الأرض والنجد ما ارتفع منها، وإنما تركوا القياس في الغور، ولم يأت على أفعل إلا قليلا، وكان قياسه أن يكون مثل أنجد وأتهم لأنه من أم الغور، فقد هبط ونزل فصار من باب غار الماء ونحو ذلك فإن أردت: أشرف على الغور، قلت: أغار ولا يكون خارجا عن القياس.
وقوله وليس عطاء اليوم مانعه غدا معناه على رفع العطاء ونصب مانع أي ليس العطاء الذي يعطيه اليوم مانعا له غدا من أن يعطيه فالهاء عائدة على الممدوح فلو كانت عائدة على العطاء لقال وليس عطاء اليوم مانعه هو بإبراز الضمير الفاعل لأن الصفة إذا جرت على غير من هي له برز الضمير المستتر بخلاف الفعل وذلك لسر بيناه في غير هذا الموضع لم يذكره الناس ولو نصب العطاء لجاز على إضمار الفعل المتروك إظهاره لأنه من باب اشتغال الفعل عن المفعول بضميره ويكون اسم ليس على هذا مضمرا فيها عائدا على النبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: فانكحن أو تأبدا. يريد أو ترهب لأن الراهب أبدا عزب فقيل له متأبدا اشتق من لفظ الأبد.
وقوله فالله فاعبدا، وقف على النون الخفيفة بالألف وكذلك فانكحن أو تأبدا، ولذلك كتبت في الخط بألف لأن الوقف عليها بالألف وقد قيل في مثل

(3/234)


ولا تقربن حرة كان سرها ... عليك حراما فانحكن أو تأبدا
وذا الرحم القربى فلا تقطعنه ... لعاقبة ولا الأسير المقيدا
وسبح على حين العشيات والضحى ... ولا تحمد الشيطان والله فاحمدا
ولا تسخرا من بائس ذي ضرارة ... ولا تحسبن المال للمرء مخلدا
رجوعه لما علم بتحريم الرسول للخمر، وموته:
فلما كان بمكة أو قريبا منها، اعترضه بعض المشركين من قريش، فسأله عن أمره فأخبره أنه جاء يريد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليسلم فقال له يا أبا بصير، إنه يحرم
__________
هذا: إنه لم يرد النون الخفيفة وإنما خاطب الواحد بخطاب الاثنين وزعموا أنه معروف في كلام العرب، وأنشدوا في ذلك:
فإن تزجراني يا ابن عفان أزدجر ... وإن تدعاني أحم عرضا ممنعا
وأنشدوا أيضا في هذا المعنى:
وقلت لصاحبي: لا تحبسانا ... بنزع أصولها واجتث شيحا
ولا يمكن إرادة النون الخفيفة في هذين البيتين لأنها لا تكون ألفا، إلا في الوقف وهذا الفعل قد اتصل به الضمير فلا يصح اعتقاد الوقف عليه دون الضمير وحكي أن الحجاج قال يا حرسي اضربا عنقه وقد يمكن فيه حمل الوصل على الوقف ويحتمل أن يريد اضرب أنت وصاحبك: وقد قيل في قوله سبحانه {أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ} [ق:24] إن الخطاب لمالك وحده حملا على هذا الباب وقيل بل هو راجع إلى قوله تعالى: {سَائِقٌ وَشَهِيدٌ} [ق:21] وفي القصيدة زيادة لم تقع في رواية ابن هشام وهي قوله في وصف الناقة
فأما إذا ما أدلجت فترى لها ... رقيبين نجما لا يغيب وفرقدا

(3/235)


الزنا، فقال الأعشى: والله إن ذلك لأمر ما لي فيه من أرب فقال له يا أبا بصير، فإنه يحرم الخمر فقال الأعشى: أما هذه فوالله إن في النفس منها لعلالات ولكني منصرف فأتروى منها عامي هذا، ثم آتيه فأسلم. فانصرف فمات في عامه ذلك ولم يعد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ذل أبي جهل للرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وقد كان عدو الله أبو جهل بن هشام مع عداوته لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبغضه إياه وشدته عليه يذله الله له إذا رآه.
أمر الإراشي الذي باع أبا جهل إبله
مماطلة أبي جهل له واستنجاده بقريش، واستخفافهم بالرسول:
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الملك بن عبد الله بن أبي سفيان الثقفي وكان
ـــــــ
وقع هذا البيت بعد قوله لينا غير أحردا.
وقوله في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أغار لعمري في البلاد وأنجدا وبعده:
به أنقذ الله الأنام من العمى ... وما كان فيهم من يريع إلى هدى
حديث الإراشي:
فصل: وذكر حديث الإراشي الذي قدم مكة ، واستعدى على أبي جهل.
قال ابن إسحاق: هو من إراش وهو ابن الغوث أو ابن عمرو، بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ، وهو والد أنمار الذي ولد بحيلة وخثعم. وإراشة الذي ذكر ابن هشام: بطن من خثعم، وإراشة مذكورة في العماليق في نسب

(3/236)


واعية قال قدم رجل من إراش - قال ابن هشام: ويقال إراشة - بإبل له مكة ، فابتاعها منه أبو جهل فمطله بأثمانها. فأقبل الإراشي حتى وقف على ناد من قريش، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ناحية المسجد جالس فقال يا معشر قريش من رجل يؤديني على أبي الحكم بن هشام فإني رجل غريب ابن سبيل وقد غلبني على حقي ؟: فقال له أهل ذلك المجلس أترى ذلك الرجل الجالس - لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يهزءون به لما يعلمون بينه وبين أبي جهل من العداوة - اذهب إليه فإنه يؤديك عليه.
إنصاف الرسول له من أبي جهل:
فأقبل الإراشي حتى وقف على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال يا عبد الله إن أبا الحكم بن هشام قد غلبني على حق لي قبله وأنا غريب ابن سبيل وقد سألت هؤلاء القوم عن رجل يؤديني عليه يأخذ لي حقي منه فأشاروا لي إليك،
__________
فرعون صاحب مصر ، وفي بلي أيضا بنو إراشة وقوله من [رجل] يؤديني على أبي الحكم أي يعينني على أخذ حقي معه وهو من الأداة التي توصل الإنسان إلى ما يريد كأداة الحرب وأداة الصانع فالحاكم يؤدي الخصم أي يوصله إلى مطلبه وقد قيل إن الهمزة بدل من عين ويؤدي وبعدي بمعنى واحد أي يزيل العدوان والعداء وهو الظلم كما تقول هو يشكيك أي يزيل شكواك، وفي حديث خباب شكونا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حر الرمضاء فلم يشكنا معناه على أحد القولين لم يرفع شكوانا ولم يزلها.
وقوله فخرج إليه وما في وجهه رائحة أي بقية روح فكان معناه روح باقية فلذلك جاء به على وزن فاعله والدليل على أنه أراد معنى الروح وإن جاء به على بناء فاعلة قول الإراشي في آخر الحديث خرج إلي وما عنده روحه.

(3/237)


فخذ لي حقي منه يرحمك الله، قال انطلق إليه وقام معه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلما رأوه قام معه قالوا لرجل ممن معهم اتبعه فانظر ماذا يصنع.
قال وخرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى جاءه فضرب عليه بابه فقال من هذا ؟ قال" محمد فاخرج إلي" فخرج إليه وما في وجهه من رائحة قد انتقع لونه فقال "أعط هذا الرجل حقه" قال نعم لا تبرح حتى أعطيه الذي له قال فدخل فخرج إليه بحقه فدفعه إليه. قال ثم انصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال "للإراشي الحق بشأنك"، فأقبل الإراشي حتى وقف على ذلك المجلس فقال جزاه الله خيرا، فقد والله أخذ لي حقي.
ما رواه أبو جهل عن سبب خوفه من الرسول:
قال وجاء الرجل الذي بعثوا معه فقالوا: ويحك ماذا رأيت ؟ قال عجبا من العجب والله ما هو إلا أن ضرب عليه بابه فخرج إليه وما معه روحه فقال له أعط هذا حقه فقال نعم لا تبرح حتى أخرج إليه حقه فدخل فخرج إليه بحقه فأعطاه إياه. قال ثم لم يلبث أبو جهل أن جاء فقالوا له ويلك ما لك ؟ والله ما رأينا مثل ما صنعت قط قال ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب علي بابي، وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثل هامته ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، والله لو أبيت لأكلني
أمر ركانة المطلبي ومصارعته للنبي صلى الله عليه وسلم:
غلبة النبي له وآية الشجرة:
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، قال كان ركانة بن عبد
__________
مصارعة ركانة:
فصل : وذكر حديث ركانة ومصارعته للنبي - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم مثل هذا

(3/238)


يزيد بن هاشم بن عبد المطلب بن عبد مناف أشد قريش، فخلا يوما برسول الله - صلى الله عليه وسلم - في بعض شعاب مكة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يا ركانة ألا تتقي الله، وتقبل ما أدعوك إليه" ؟ قال إني لو أعلم أن الذي تقول حق لاتبعتك، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "أفرأيت إن صرعتك، أتعلم أن ما أقول حق" ؟ قال نعم قال فقم حتى أصارعك. قال فقام إليه ركانة يصارعه فلما بطش به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أضجعه وهو لا يملك من نفسه شيئا، ثم قال عد يا محمد فعاد فصرعه فقال يا محمد والله إن هذا للعجب أتصرعني فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "وأعجب من ذلك إن شئت أن أريكه إن اتقيت الله واتبعت أمري" ، قال ما هو ؟ قال: "أدعو لك هذه الشجرة التي ترى فتأتيني،" قال ادعها، فدعاها، فأقبلت حتى وقفت بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال فقال لها: ارجعي إلى مكانك. قال فرجعت إلى مكانها.
__________
الحديث عن أبي الأشدين الجمحي ولعلهما أن يكونا جميعا صارعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقد تقدم التعريف بأبي الأشدين وباسمه ونسبه وركانة هذا هو ابن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب من مسلمة الفتح وتوفي في خلافة معاوية وهو الذي طلق امرأته ألبتة فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن نيته فقال إنما أردت واحدة فردها عليه ومن حديثه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إن لكل دين خلقا، وخلق هذا الدين الحياء" ولابنه يزيد بن ركانة صحبة أيضا، ويروى عن يزد بن ركانة ابنه علي، وكان علي قد أعطى من الأيد والقوة ما لم يعط أحد، نزع في ذلك إلى جد ركانة وله في ذلك أخبار ذكرها الفاكهي، منها: خبره مع يزيد بن معاوية وكان يزيد بن معاوية من أشد العرب، فصارعه يوما، فصرعه علي صرعة لم يسمع بمثلها، ثم حمله بعد ذلك على فرس جموح لا يطلق فعلم علي ما يراد به فلما جمح به الفرس ضم عليه فخذيه ضمة نفق منها الفرس، وذكر عنه أيضا أنه تأبط رجلين أيدين ثم جرى بهما، وهما تحت إبطيه حتى صاحا: الموت الموت فأطلقهما.

(3/239)


قال فذهب ركانة إلى قومه فقال يا بني عبد مناف ساحروا بصاحبكم أهل الأرض فوالله ما رأيت أسحر منه قط، ثم أخبرهم بالذي رأى، والذي صنع.
أمر وفد النصاري الذين أسلموا
محاولة أبي جهل ردهم عن الإسلام وإخفاقه:
قال ابن إسحاق: ثم قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو بمكة - عشرون رجلا، أو قريب من ذلك من النصارى، حين بلغهم خبره من الحبشة ، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وسألوه ورجال من قريش في أنديتهم حول الكعبة، فلما فرغوا من مسألة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عما أرادوا، دعاهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الله - عز وجل - وتلا عليهم القرآن فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ثم استجابوا لله وآمنوا به وصدقوه وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره. فلما قاموا عنه اعترضهم أبو جهل بن هشام في نفر من قريش، فقالوا لهم خيبكم الله من ركب بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه بمال ما نعلم ركبا أحمق منكم أو كما قالوا، فقالوا لهم سلام عليكم لا نجاهلكم لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه لم نأل أنفسنا خيرا.
مواطنهم وما نزل فيهم من القرآن:
ويقال إن النفر من النصارى من أهل نجران، فالله أعلم أي ذلك كان. فيقال - والله أعلم - فيهم نزلت هؤلاء الآيات: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ
ـــــــ
وفد نصارى الحبشة:
فصل وذكر قدوم وفد النصارى من الحبشة وإيمانهم وما أنزل الله فيهم من قوله تعالى: {الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى}[ المائدة: من الآية82] ولم يقل من النصارى، ولا سماهم هو سبحانه بهذا الاسم وإنما حكى قولهم الذي قالوه حين عرفوا بأنفسهم,

(3/240)


وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ} إلى قوله: {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ} [القصص 52 - 55].
قال ابن إسحاق: وقد سألت ابن شهاب الزهري عن هؤلاء الآيات فيمن أنزلن فقال لي: ما سمع عن علمائنا أنهن أنزلن في النجاشي وأصحابه والآية من سورة المائدة <180> من قوله {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} إلى قوله: {فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة 82، 83].
تهكم المشركين بمن من الله عليهم ونزول آيات في ذلك:
قال ابن إسحاق: وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا جلس في المسجد فجلس إليه المستضعفون من أصحابه خباب وعمار وأبو فكيهة يسار مولى صفوان بن أمية بن محرث، وصهيب، وأشباههم من المسلمين هزئت بهم قريش، وقال بعضهم لبعض هؤلاء أصحابه كما ترون أهؤلاء من الله عليهم من بيننا بالهدى والحق لو كان ما جاء به محمد خيرا ما سبقنا هؤلاء إليه وما خصهم الله به دوننا. فأنزل الله تعالى فيهم: {وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى
ـــــــ
ثم شهد لهم بالإيمان وذكر أنه أثابهم الجنة وإذا كانوا هكذا فليسوا بنصارى، هم من أمة محمد - عليه السلام - وإنما عرف النصارى بهذا الاسم لأن مبدأ دينهم كان من ناصرة قرية بالشام فاشتق اسمهم منهم كما اشتق اسم اليهود من يهود بن يعقوب ثم لا يقال لمن أسلم منهم يهودي اسم الإسلام أولى بهم جميعا من ذلك النسب.

(3/241)


نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنعام 52 - 54].
ادعاء المشركين على النبي بتعلم جبر له، وما أنزل الله في ذلك:
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيرا ما يجلس عند المروة إلى مبيعة غلام نصراني يقال له جبر عبد لبني الحضرمي فكانوا يقولون والله ما يعلم محمدا كثيرا مما يأتي به إلا جبر النصراني، غلام بني الحضرمي فأنزل الله تعالى في ذلك من قولهم {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل 103].
قال ابن هشام: يلحدون إليه يميلون والإلحاد الميل عن الحق
ـــــــ
عن غلام المبيعة وصهيب وأبي فكيهة
فصل: ذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يجلس إلى مبيعة غلام. المبيعة مفعلة مثل المعيشة وقد يجوز أن يكون مفعلة بضم العين - وهو قول الأخفش وأما قولهم سلعة مبيعة فمفعولة حذفت الواو منها في قول سيبويه حين سكنوا الياء استثقالا للضمة وفي قول أبي الحسن الأخفش إن الياء بدل من الواو الزائدة في مبيوعة، ووزنها عنده مقولة بحذف العين وللكلام على هذين المذهبين موضع غير هذا. وذكر صهيبا وأبا فكيهة وسنذكر اسم أبي فكيهة والتعريف به فيما بعد لأنه بدري، وكذلك صهيب بن سنان، ونقتصر في هذا الموضع على ذكر اسمه وهو يسار مولى عبد الدار.

(3/242)


قال رؤبة بن العجاج:
إذا تبع الضحاك كل ملحد
ابن هشام: يعني الضحاك الخارجي، وهذا البيت في أرجوزة له.
نزول سورة الكوثر
مقالة العاص في الرسول، ونزول سورة الكوثر:
قال ابن إسحاق: وكان العاص بن وائل السهمي - فيما بلغني - إذا ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال دعوه فإنما هو رجل أبتر لا عقب له لو مات لانقطع ذكره واسترحتم منه فأنزل الله في ذلك {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] ما هو خير لك من الدنيا وما فيها والكوثر: العظيم
ـــــــ
الأبتر والكوثر
فصل وذكر قول العاص بن وائل إن محمدا أبتر إذا مات انقطع ذكره وأنزل الله تعالى فيه قوله من سورة الكوثر على قول ابن إسحاق، وأكثر المفسرين. وقيل إن أبا جهل هو الذي قال ذلك. وقد قيل كعب بن الأشرف ويلزم على هذا القول الأخير أن تكون سورة الكوثر مدنية وقد روى يونس عن أبي عبد الله الجعفي عن جابر الجعفي عن محمد بن علي، قال كان القاسم ابن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد بلغ أن يركب الدابة ويسير على النجيبة فلما قبضه الله قال العاصي: أصبح محمد أبتر من ابنه فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه وسلم {إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر:1] وضا يا محمد من مصيبتك بالقاسم {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ} [الكوثر:2, 3] ولم يقل إن شانئك أبتر يتضمن اختصاصه بهذا الوصف لأن هو في مثل هذا الموضع تعطي الاختصاص مثل أن يقول قائل إن زيدا فاسق فلا يكون مخصوصا بهذا

(3/243)


......................................
__________
الوصف دون غيره فإذا قلت: إن زيدا هو الفاسق فمعناه هو الفاسق الذي زعمت فدل على أن بالحضرة من يزعم غير ذلك وهكذا قال الجرجاني وغيره في تفسير هذه الآية أن هو تعطي الاختصاص وكذلك قالوا في قوله سبحانه {وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى} [لنجم:48] لما كان العباد يتوهمون أن غير الله قد يغني، قال هو أغنى وأقنى، أي لا غيره وكذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} [لنجم:44] إذ كانوا قد يتوهمون في الإحياء والإماتة ما توهم النمرود حين قال أنا أحيي وأميت أي أنا أقتل من شئت، وأستحيي من شئت، فقال عز وجل {وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا} أي لا غيره وكذلك قوله تعالى: {وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى} [لنجم:49] أي هو الرب لا غيره إذ كانوا قد اتخذوا أربابا من دونه منها: الشعرى، فلما قال وإنه خلق الزوجين وأنه أهلك عادا استغنى الكلام عن هو التي تعطي معنى الاختصاص لأنه فعل لم يدعه أحد، وإذا ثبت هذا، فكذلك قوله {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ} أي لا أنت. والأبتر الذي لا عقب له يتبعه فعدمه كالبتر الذي هو عدم الذنب فإذا ما قلت هذا، ونظرت إلى العاصي، وكان ذا ولد وعقب وولده عمرو وهشام ابنا العاصي بن وائل فكيف يثبت له البتر وانقطاع الولد وهو ذو ولد ونسل ونفيه عن نبيه وهو يقول: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} [الأحزاب: 40] الآية. فالجواب أن العاصي - وإن كان ذا ولد - فقد انقطعت العصمة بينه وبينهم فليسوا بأتباع له لأن الإسلام قد حجزهم عنه فلا يرثهم ولا يرثونه وهم من أتباع محمد عليه السلام، وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم. كما قرأ أبي بن كعب: وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم والنبي أولى بهم كما قال الله سبحانه فهم وجميع المؤمنين أتباع النبي في الدنيا، وأتباعه في الآخرة إلى حوضه وهذا

(3/244)


..............................................
__________
معنى الكوثر، وهو موجود في الدنيا لكثرة أتباعه فيها، ليغذي أرواحهم بما فيه حياتهم من العلم وكثرة أتباعه في الآخرة ليسقيهم من حوضه ما فيه الحياة الباقية وعدو الله العاصي على هذا هو الأبتر على الحقيقة إذ قد انقطع ذنبه وأتباعه وصاروا تبعا لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ولذلك قوبل تعييره للنبي - صلى الله عليه وسلم - بالبتر بما هو ضده من الكوثر ; فإن الكثرة تضاد معنى القلة ولو قال في جواب اللعين إنا أعطيناك الحوض الذي من صفته كذا وكذا لم يكن ردا عليه ولا مشاكلا لجوابه ولكن جاء باسم يتضمن الخير الكثير والعدد الجم الغفير المضاد لمعنى البتر وأن ذلك في الدنيا والآخرة بسبب الحوض المورود الذي أعطاه فلا يختص لفظ الكوثر بالحوض بل يجمع هذا المعنى كله ويشتمل عليه ولذلك كانت آنيته كعدد النجوم ويقال: هذه الصفة في الدنيا: علماء الأمة من أصحابه ومن بعدهم فقد قال "أصحابي كالنجوم" وهم يروون العلم عنه ويؤدونه إلى من بعدهم كما ترتوي الآنية في الحوض وتسقي الواردة عليه تقول رويت الماء أي استقيته كما تقول رويت العلم وكلاهما فيه حياة ومنه قيل لمن روى علما أو شعرا: راوية تشبيها بالمزادة أو الدابة <183> التي يحمل عليها الماء وليس من باب علامة ونسابة وفي حديث أبي برزة في صفة الحوض أنها تنزو في أكف المؤمنين يعني الآنية وحصباء الحوض اللؤلؤ والياقوت ويقابلهما في الدنيا الحكم المأثورة عنه ألا ترى أن اللؤلؤ في علم التعبير حكم وفوائد علم وفي صفة الحوض له المسك أي حمأته ويقابله في الدنيا: طيب الثناء على العلماء وأتباع النبي الأتقياء كما أن المسك في علم التعبير ثناء حسن وعلم التعبير من علم النبوءة مقتبس. وذكر في صفة الحوض الطير التي ترده كأعناق البخت ويقابله من صفة العلم في الدنيا ورود الطالبين من كل صقع وقطر

(3/245)


........................................................
__________
على حضرة العلم وانتيابهم إياها في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - وبعده فتأمل صفة الكوثر معقولة في الدنيا، محسوسة في الآخرة مدركة بالعيان - هنالك يبين لك إعجاز التنزيل ومطابقة السورة - لسبب - نزولها، ولذلك قال فضيل: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} أي تواضع لمن أعطاك الكوثر بالصلاة له فإن الكثرة في الدنيا تقتضي في أكثر الخلق الكبر وتحدو إلى الفخر والمحيرية، فلذلك كان عليه السلام طأطأ رأسه عام الفتح حين رأى كثرة أتباعه وهو على الراحلة حتى ألصق عثنونه بالرحل امتثالا لأمر ربه وكذلك أمره بالنحر شكرا له ورفع اليدين إلى النحر في الصلاة عند استقبال القبلة التي عندها ينحر وإليها يهدي معناه الجمع بين الفعلين. النحر المأمور به يوم الأضحى، والإشارة إليه في الصلاة برفع اليدين إلى النحر كما أن القبلة محجوجة مصلى إليها، فكذلك ينحر عندها، ويشار إلى النحر عند استقبالها، وإلى هذا التفت عليه السلام حين قال "من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، ونسك نسكنا فهو مسلم" وقد قال الله سبحانه {قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} [الأنعام 162، 163] فقرن بين الصلاة إلى الكعبة، والنسك إليها، كما قرن بينهما حين قال {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} [الكوثر:2] وذكر في صفة الحوض كما بين صنعاء وأيلة وقد جاء فيه أيضا في الصحيح "كما بين جرباء وأذرح" وبينهما مسافة بعيدة وفي الصحيح أيضا في صفته "كما بين عدن أبين إلى عمان" وقد تقدم ذكر أبين وأنه ابن زهير بن أيمن بن حمير، وأن عدن سميت برجل من حمير عدن بها، أي أقام وتقدم أيضا ما قاله الطبري أن عدن وأبين هما ابنا عدنان أخوا معد وأما عمان بتشديد الميم وفتح العين فهي بالشام قرب دمشق، سميت بعمان بن لوط بن هاران كان سكنها - فيما ذكروا - وأما عمان بضم العين وتخفيف الميم فهو باليمن سميت بعمان بن سنان

(3/246)


صاحبا ملحوب والرادع:
قال ابن إسحاق: قال لبيد بن ربيعة الكلابي:
ـــــــ
وهو من ولد إبراهيم - فيما ذكروا - وفيه نظر إذ لا يعرف في ولد إبراهيم لصلبه من اسمه سنان. وفي صفة الحوض أيضا كما بين الكوفة ومكة ، وكما بين بيت المقدس والكعبة، وهذه كلها روايات متقاربة المعاني، وإن كانت المسافات بعضها أبعد من بعض فكذلك الحوض أيضا له طول وعرض وزوايا وأركان فيكون اختلاف هذه المسافات التي في الحديث على حسب ذلك جعلنا الله من الواردين عليه ولا أظمأ أكبادنا في الآخرة إليه. ومما جاء في معنى الكوثر ما رواه ابن أبي نجيح عن عائشة - قالت الكوثر نهر في الجنة لا يدخل أحد إصبعيه في أذنيه إلا سمع خرير ذلك النهر وقع هذا الحديث في السيرة من رواية يونس ورواه الدارقطني من طريق مالك بن مغول عن الشعبي عن مسروق عن عائشة قالت قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "إن الله أعطاني نهرا يقال له الكوثر لا يشاء أحد من أمتي أن يسمع خرير ذلك الكوثر إلا سمعه" فقلت: يا رسول الله وكيف ذلك ؟ قال "أدخلي أصبعيك في أذنيك وشدي، فالذي تسمعين فيهما من خرير الكوثر". وروى الدارقطني من طريق جابر بن عبد الله أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعلي "والذي نفسي بيده إنك لذائد عن حوضي يوم القيامة تذود عنه كفار الأمم كما تذاد الإبل الضالة عن الماء بعصا من عوسج" إلا أن هذا الحديث يرويه حرام بن عثمان عن ابني جابر وقد سئل مالك عنه فقال ليس بثقة وأغلظ فيه الشافعي القول وأما قوله - عليه السلام – "ومنبري على حوضي" فقد قيل في معناه أقوال ويفسره عندي الحديث الآخر وهو قوله عليه السلام وهو على المنبر "إني لأنظر إلى حوضي الآن من مقامي هذا" فتأمله.

(3/247)


وصاحب ملحوب فجعنا بيومه ... وعند الرداع بيت آخر كوثر
يقول عظيم.
قال ابن هشام: وهذا البيت في قصيدة له. وصاحب ملحوب: عوف بن الأحوص بن جعفر بن كلاب مات بملحوب. وقوله: عند الرداع بيت آخر كوثر يعني شريح بن الأحوص بن جعفر بن كلاب مات بالرداع. وكوثر أراد الكثير ولفظه مشتق من لفظ الكثير. قال الكميت بن زيد يمدح هشام بن عبد الملك بن مروان:
وأنت كثير يا بن مروان طيب ... وكان أبوك ابن العقائل كوثر
وهذا البيت في قصيدة له. وقال أمية بن أبي عائذ الهذلي يصف حمار وحش:
يحامي الحقيق إذا ما احتدمن ... وحمحمن في كوثر كالجلال
ـــــــ
استشهاد ابن هشام على معنى الكوثر:
وذكر ابن هشام في الاستشهاد على معنى الكوثر قول لبيد بن ربيعة:
وصاحب ملحوب فجعنا بيومه ... وعند الرداع بيت آخر كوثر
وبالفورة الحراب ذو الفضل عامر ... فنعم ضياء الطارق المتنور
يعني عامر بن مالك ملاعب الأسنة وهو عم لبيد وسنذكر لم سمي ملاعب الأسنة إذا جاء ذكره إن شاء الله تعالى. وصاحب ملحوب: عوف بن الأحوص وقد ذكره ابن هشام. والذي عند الرداع: شريح بن الأحوص في قوله، وقال غيره هو حبان بن عتبة بن مالك بن جعفر بن كلاب. والرداع : من أرض اليمامة. وملحوب : مفعول من لحبت العود إذا قشرته، فكأن هذا الموضع سمي ملحوبا، لأنه لا أكم فيه ولا شجر.

(3/248)


يعني بالكوثر الغبار الكثير شبهه لكثرته عليه بالجلال. وهذا البيت في قصيدة له.
سئل رسول الله عن الكوثر ما هو فأجاب:
قال ابن إسحاق: حدثني جعفر بن عمرو - قال ابن هشام: هو جعفر بن عمرو بن أمية الضمري - عن عبد الله بن مسلم أخي محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن أنس بن مالك، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل له: يا رسول الله ما الكوثر الذي أعطاك الله ؟ قال "نهر كما بين صنعاء إلى أيلة، آنيته كعدد نجوم السماء ترده طيور لها كأعناق الإبل". قال يقول عمر بن الخطاب: إنها يا رسول الله لناعمة قال "آكلها أنعم منها"
قال ابن إسحاق: وقد سمعت في هذا الحديث أو غيره أنه قال - صلى الله عليه وسلم: "من شرب منه لا يظمأ أبدا"
نزول {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ}
مقالة زمعة وصحبه ونزول هذه الآية :
قال ابن إسحاق: ودعا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قومه إلى الإسلام وكلمهم فأبلغ إليهم فقال له زمعة بن الأسود، والنضر بن الحارث والأسود بن عبد يغوث، وأبي بن خلف، والعاص بن وائل لو جعل معك يا محمد ملك يحدث عنك الناس ويرى معك فأنزل الله تعالى في ذلك من قوله {وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ} [الأنعام 8، 9].
ـــــــ
.......................................................

(3/249)


نزول {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ}
مقالة الوليد وصحبه، ونزول هذه الآية:
قال ابن إسحاق: ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - بالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، وبأبي جهل بن هشام فغمزوه وهمزوه واستهزءوا به فغاظه ذلك فأنزل الله تعالى عليه في ذلك من أمرهم { وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنبياء 41]
ـــــــ
ذكر حديث المستهزئين:
وذكر حديث المستهزئين برسول الله - صلى الله عليه وسلم - وما أنزل الله فيهم من قوله تعالى: {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} [الأنبياء 41] الآية. فقال فيها: استهزئ برسل ثم قال: {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ} ولم يقل استهزءوا، ثم قال: {مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} ولم يقل يسخرون. ولا بد في حكمة في هذا من جهة البلاغة وتنزيل الكلام منازله فقوله استهزئ برسل أي أسمعوا من الكلام الذي يسمى استهزاء ما ساءهم تأنيسا له ليتأسى بمن قبله من الرسل وإنما سمي استهزاء إذا كان مسموعا، وهو من فعل الجاهلين قال الله تعالى: {أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} [البقرة 67]. وأما السخر والسخرى، فقد يكون في النفس غير مسموع ولذلك تقول سخرت منه كما تقول عجبت منه إلا أن العجب لا يختص بالمعنى المذموم كما يختص السخر وفي التنزيل خبرا عن نوح {إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} [هود: 28] ولم يقل نستهزئ بكم كما تستهزئون لأن الاستهزاء ليس من فعل الأنبياء إنما هو من فعل الجاهلين كما قدمنا من قول موسى عليه السلام فالنبي يسخر أي يعجب من كفر من يسخر به ومن سخر عقولهم فإن قلت: فقد قال الله تعالى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة:15] قلنا: العرب تسمي الجزاء على الفعل باسم الفعل كما قال تعالى: {نَسُوا اللَّهَ

(3/250)


....................................................
__________
فَنَسِيَهُمْ} [التوبة:67] وهو مجاز حسن وأما الاستهزاء الذي كنا بصدده فهو المسمى استهزاء حقيقة ولا يرضى به إلا جهول. ثم قال سبحانه {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنعام:10] أي حاق بهم من الوعيد المبلغ لهم على ألسنة الرسل ما كانوا يستهزئون به بألسنتهم فنزلت كل كلمة منزلها، ولم يحسن في حكم البلاغة وضع واحدة مكان الأخرى. وذكر أيضا قوله سبحانه {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَجَعَلْنَاهُ رَجُلاً} [الأنعام:9] أي لو جعلنا الرسول إليهم من الملائكة لم يكن إلا على صورة رجل ولدخل عليهم من اللبس فيه ما دخل في أمر محمد وقوله لبسنا يدل على أن الأمر كله منه سبحانه فهو يعمي من شاء عن الحق ويفتح بصيرة من شاء وقوله ما يلبسون معناه يلبسون على غيرهم لأن أكثرهم قد عرفوا أنه الحق، ولكن جحدوا بها، واستيقنتها أنفسهم فجعلوا، يلبسون أي يلبس بعضهم على بعض ويلبسون على أهليهم وأتباعهم أي يخلطون عليهم بالباطل تقول العرب: لبست عليهم الأمر ألبسه أي سترته وخلطته، ومن لبس الثياب لبست ألبس لأنه في معنى كسيت، وفي مقابلة عريت، فجاء على وزنه والآخر في معنى: خلطت أو سترت، فجاء على وزنه.

(3/251)