الروض الأنف ت السلامي

سعى الرسول إلى ثقيف بطلب النصرة
قال ابن إسحاق: ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، يلتمس النصرة من ثقيف، والمنعة بهم من قومه ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل فخرج إليهم وحده.
نزول الرسول بثلاثة من أشرافهم، وتحريضهم عليه :
قال ابن إسحاق: فحدثني يزيد بن زياد، عن محمد بن كعب القرظي، قال لما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف ، عمد إلى نفر من ثقيف، هم يومئذ سادة ثقيف وأشرافهم وهم إخوة ثلاثة عبد ياليل بن عمرو بن عمير، ومسعود بن عمرو بن عمير، وحبيب بن عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة بن عوف بن ثقيف، وعند
__________
خروج النبي صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
وسنذكر السبب في تسميتها بالطائف وأن الدمون رجل من الصدف من حضرموت نزلها، فقال لأهلها: ألا أبني لكم حائطا يطيف ببلدتكم فبناه فسميت الطائف ، وقيل غير ذلك مما سنذكره.
وقوله فيذئرها عليه قد فسره ابن هشام، وأنشد:

(4/23)


أحدهم امرأة من قريش من بني جمح فجلس إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم إلى الله وكلمهم بما جاءهم له من نصرته على الإسلام والقيام معه على من خالفه من قومه فقال له أحدهم هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك ; وقال الآخر أما وجد الله أحدا يرسله غيرك وقال الثالث والله لا أكلمك أبدا. لئن كنت رسولا من الله كما تقول لأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام ولئن كنت تكذب على الله ما ينبغي لي أن أكلمك. فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من عندهم وقد يئس من خير ثقيف، وقد قال لهم - فيما ذكر لي - إذا فعلتم ما فعلتم فاكتموا عني، وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ قومه عنه فيذئرهم ذلك عليه قال ابن هشام: قال عبيد بن الأبرص:
ولقد أتاني عن تميم أنهم ... ذئروا لقتلى عامر وتعصبوا
ـــــــ
ذئروا لقتلى عامر وتعصبوا
وفي الحديث لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ضرب النساء قال ذئر النساء على أزواجهن وفسره أبو عبيد بالنشوز على الأزواج وأنشد البيت الذي أنشده ابن هشام، ومعنى كلامهما واحد.
وذكر ما لقي من أشراف ثقيف، وذكر موسى بن عقبة زيادة في الحديث حين أغروا به سفهاءهم قال وكان يمشي بين سماطين منهم فكلما نقلوا قدما، رجموا عراقيبه بالحجارة حتى اختضب نعلاه بالدماء وذكر التيمي كما ذكر ابن عقبة وزاد قال كان إذا أذلقته الحجارة قعد إلى الأرض فيأخذون بعضديه فيقيمونه فإذا مشى رجموه وهم يضحكون حتى انتهى إلى الموضع الذي ذكره ابن إسحاق من حائط عتبة وشيبة.
قال ابن إسحاق: فجلس إلى ظل حبلة والحبلة الكرمة اشتق اسمها من

(4/24)


فلم يفعلوا، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة، وهما فيه ورجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه فعمد إلى ظل حبلة من عنب فجلس فيه. __________
الحبل لأنها تحمل بالعنب ولذلك فتح حمل الشجرة والنخلة فقيل حمل بفتح الحاء تشبيها بحمل المرأة وقد يقال فيه حمل بالكسر تشبيها بالحمل الذي على الظهر ومن قال في الكرمة حبلة بسكون الباء فليس بالمعروف وقد قال أبو الحسن بن كيسان في نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع حبل الحبلة إنه بيع العنب قبل أن يطيب كما جاء في الحديث الآخر من نهيه عن بيع التمر قبل أن يبدو صلاحه وهو قول غريب لم يذهب إليه أحد في تأويل الحديث وقد قال عمر بن الخطاب في الأرضين التي افتتحت في زمانه - وقد قيل له قسمها على الذين افتتحوها - فقال والله لأدعنها حتى يجاهد بها حبل الحبلة يريد أولادها في البطون. ذكره أبو عبيد في كتاب الأموال والقول الذي ذكره أبو الحسن في حبل الحبلة وقع في كتاب الألفاظ ليعقوب وإنما أشكل عليه وعلى غيره دخول الهاء في الحبلة حتى قالوا فيه أقوالا كلها هباء فمنهم من قال إنما قال الحبلة لأنها بهيمة أو جنينة ومنهم من قال دخلت للجماعة ومنهم من قال للمبالغة وهذا كله ينعكس عليهم بقوله حبل الحبلة فإنه لم تدخل التاء إلا في أحد اللفظين دون الثاني، وتبطل أيضا على من قال أراد معنى البهيمة بحديث عمر المتقدم وإنما النكتة في ذلك أن الحبل ما دام حبلا لا يدرى: أذكر هو أم أنثى، لم يسم حبلا، فإذا كانت أنثى، وبلغت حد الحمل فحبلت فذاك الحبل هو الذي نهى عن بيعه والأول قد علمت أنوثته بعد الولادة فعبر عنه بالحبلة وصار معنى الكلام أنه نهى عن بيع حبل الجنينة التي كانت حبلا لا يعرف ما هي ثم عرف بعد الوضع وكذلك في الآدميين فإذا لا يقال لها: حبلة إلا

(4/25)


وابنا ربيعة ينظران إليه ويريان ما لقي من سفهاء أهل الطائف، وقد لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - المرأة التي من بني جمح فقال لها: "ماذا لقينا من أحمائك ؟"
توجهه صلى الله عليه وسلم إلى ربه بالشكوى:
فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما ذكر لي: "اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس يا أرحم الراحمين أنت رب المستضعفين
__________
بعد المعرفة بأنها أنثى، وعند ذكر الحبل الثاني لأن هذه الأنثى قبل أن تحبل وهي صغيرة رخلى، وتسمى أيضا حائلا وأشباه ذلك وقد زال عنها اسم الحبل فإذا حبلت وذكر حبلها وازدوج ذكره مع الحالة الأولى التي كانت فيها حبلا فرق بين اللفظين بتاء التأنيث وخص اللفظ الذي هو عبارة عن الأنثى بالتاء دون اللفظ الذي لا يدرى ما هو أذكر أم أنثى، وقد كان المعنى قريبا والمأخذ سهلا لا يحتاج إلى هذه الإطالة لولا ما قدمناه من تخليطهم في تأويل هذا الكلام الفصيح البليغ الذي لا يقدر قدره في البلاغة إلا عالم بجوهر الكلام.
نور الله ووجهه:
فصل: وذكر دعاءه - عليه السلام - عند الشدة وقوله "اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي" إلى آخر الدعاء وفيه "أعوذ بنور وجهك الكريم الذي أشرقت به الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة" ويسأل عن النور هنا، ومعنى الوجه وإشراق الظلمات أما الوجه إذا جاء ذكره في الكتاب والسنة فهو ينقسم في الذكر إلى موطنين موطن تقرب واسترضاء بعمل كقوله تعالى: {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ} [الأنعام:52] وكقوله {إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى} [الليل:20] فالمطلوب في هذا الموطن رضاه وقبوله للعمل وإقباله على العبد العامل وأصله أن من رضي عنك، أقبل عليك، ومن غضب عليك أعرض عنك، ولم يرك وجهه فأفاد قوله بوجهك هاهنا معنى الرضى والقبول والإقبال وليس بصلة في الكلام كما قال أبو عبيدة لأن قوله ذلك هراء من القول ومعنى الصلة عنده أنها كلمة لا تفيد إلا تأكيدا للكلام,

(4/26)


وأنت ربي، إلى من تكلني ؟ إلى بعيد يتجهمني ؟ أم إلى عدو ملكته أمري ؟ إن لم
ـــــــ
وهذا قول من غلظ طبعه وبعد بالعجمة عن فهم البلاغة قلبه وكذلك قال هو ومن قلده في قوله تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن 27] أي يبقى ربك، وكل شيء هالك إلا وجهه أي إلا إياه فعلى هذا قد خلا ذكر الوجه من حكمة وكيف تخلو كلمة منه من الحكمة وهو الكتاب الحكيم ولكن هذا هو الموطن الثاني من مواطن ذكر الوجه والمعنى به ما ظهر إلى القلوب والبصائر من أوصاف جلاله ومجده والوجه لغة ما ظهر منالشيء معقولا كان أو محسوسا، تقول هذا وجه المسألة ووجه الحديث أي الظاهر إلى رأيك منه وكذلك الثوب ما ظهر إلى بصرك منه والبصائر لا تحيط بأوصاف جلاله وما يظهر لها من ذلك أقل مما يغيب عنها، وهو الظاهر والباطن - تعالى وجل - وكذلك في الجنة نظر أهلها إلى وجهه سبحانه إنما هو نظر إلى ما يرون من ظاهر جلاله إليهم عند تجليه ورفع الحجاب دونهم وما لا يدركون من ذلك الجلال أكثر مما أدركوا.
وقوله سبحانه {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْأِكْرَامِ} [الرحمن: 26، 27] لما كانت السموات والأرض قد أظهرت من قدرته وسلطانه ما أظهرت أخبر تعالى أن فناءها لا يغير ما علم من سلطانه وظهر إلى البصائر من جلاله فقد كان ذلك الجلال قبل أن يخلقها، وهو باق بعد فنائها كما كان في القدم فهو ذو الجلال والإكرام قال الحسن معناه تجلل بالبهاء وأكرم من شاء بالنظر إلى وجهه أما الأشعري فذهب في معنى الوجه إلى ما ذهب فيه من معنى العين واليد وأنها صفات لله تعالى لم تعلم من جهة العقول ولا من جهة الشرع المنقول وهذه عجمة أيضا فإنه نزل بلسان عربي مبين فقد فهمته العرب لما نزل بلسانها، وليس في لغتها أن الوجه صفة ولا إشكال على المؤمن منهم ولا على الكافر في معنى هذه الآي التي احتيج آخر الزمان إلى الكلام فيه مع العجمان لأن المؤمن لم يخش على عقيدته شكا ولا تشبيها، فلم يستفسر أحد منهم رسول الله عليه السلام ولا سأله عن

(4/27)


يكن بك علي غضب فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك، أو
__________
هذه الآية التي هي اليوم مشكلة عند عوام الناس ولا الكافر في ذلك الزمان لم يتعلق بها في معرض المناقضة والمجادلة كما فعلوا في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء 98] ولا قال أحد منهم يزعم محمد أن الله ما يشبهه شيء من خلقه ثم يثبت له وجها ويدين إلى غير ذلك فدل على أنهم لم يروا في الآية إشكالا، وتلقوا معانيها على غير التشبيه وعرفوا من سمانة الكلام وملاحة الاستعارة أنه معجز فلم يتعاطوا له معارضة ولا توهموا فيه مناقضة وقد أملينا في معنى اليدين والعين مسألة بديعة جدا، فلتنظر هنالك.
وأما النور فعبارة عن الظهور وانكشاف الحقائق الإلهية وبه أشرقت الظلمات أي أشرقت محالها وهي القلوب التي كانت فيها ظلمات الجهالة والشكوك فاستنارت القلوب بنور الله وقد قال المفسرون في قوله تعالى: {مَثَلُ نُورِهِ} [النور:35] أي: مثل نوره في قلب في المؤمن {كَمِشْكَاةٍ} فهو إذا نور الإيمان والمعرفة المجلي لكل ظلمة وشك قال كعب المشكاة مثل لفهمه والمصباح مثل للسانه والزجاجة مثل لصدره أو لقلبه أي قلب محمد صلى الله عليه وسلم وقال: " أعوذ بنور وجهك" ولو قال بنورك لحسن ولكن توسل إليه بما أودع قلبه من نوره فتوسل إلى نعمته بنعمته وإلى فضله ورحمته بفضله ورحمته وقد تكون الظلمات هاهنا أيضا الظلمات المحسوسة وإشراقها جلالتها على خالقها، وكذلك الأنوار المحسوسة الكل دال عليه فهو نور

(4/28)


يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك" .
قصة عداس النصراني معه صلى الله عليه وسلم:
قال فلما رآه ابنا ربيعة، عتبة وشيبة وما لقي تحركت له رحمهما فدعوا غلاما لهما نصرانيا، يقال له عداس فقالا له خذ قطفا من العنب فضعه في هذا الطبق ثم اذهب به إلى ذلك الرجل فقل له يأكل منه. ففعل عداس، ثم أقبل به حتى وضعه بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم قال له كل فلما وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه يده قال: " باسم الله" ثم أكل، فنظر عداس في وجهه ثم قال والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلاد فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "ومن أهل أي البلاد أنت يا عداس، وما دينك" ؟ قال نصراني، وأنا رجل من أهل نينوى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قرية الرجل الصالح يونس بن متى" ؟ فقال له عداس: وما يدريك ما يونس بن متى ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ذاك أخي، كان نبيا وأنا نبي" ، فأكب عداس على رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل رأسه ويديه وقدميه.
__________
النور أي مظهره منور الظلمات أي جاعلها نورا في حكم الدلالة عليه سبحانه وتعالى.
خبر عداس
فصل : وذكر خبر عداس غلام عتبة وشيبة ابني ربيعة حين جاء بالقطف من عندهما إلى آخر القصة وفيه قبول هدية المشرك وأن لا يتورع عن طعامه وسيأتي استقصاء ذلك إن شاء الله تعالى، وزاد التيمي فيها أن عداسا حين سمعه يذكر يونس بن متى قال والله لقد خرجت منها يعني: نينوى ، وما فيها عشرة يعرفون ما متى، فمن أين عرفت أنت متى، وأنت أمي، وفي أمة أمية ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم:-

(4/29)


قال يقول ابنا ربيعة أحدهما لصاحبه أما غلامك فقد أفسده عليك. فلما جاءهما عداس، قالا له ويلك يا عداس ما لك تقبل رأس هذا الرجل ويديه وقدميه ؟ قال يا سيدي ما في الأرض شيء خير من هذا، لقد أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي، قالا له ويحك يا عداس، لا يصرفنك عن دينك، فإن دينك خير من دينه.
__________
"هو أخي، كان نبيا، وأنا نبي" وذكروا أيضا أن عداسا لما أراد سيداه الخروج إلى بدر أمراه بالخروج معهما فقال لهما: أقتال ذلك الرجل الذي رأيته بحائطكما تريدان والله ما تقوم له الجبال فقالا له ويحك يا عداس: قد سحرك بلسانه وعندما لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الطائف، ما لقي ودعا بالدعاء المتقدم نزل عليه جبريل ومعه ملك الجبال كما روى البخاري عن عبد الله بن يوسف، عن يونس عن ابن شهاب قال حدثني عروة أن عائشة زوج النبي - صلى الله عليه وسلم حدثته أنها قالت للنبي عليه السلام هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من أحد ؟ فقال "لقد لقيت من قومك، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال فلم يجبني إلى ما أردت، فانطلقت على وجهي، وأنا مهموم فلم أستفق إلا وأنا بقرن الثعالب فرفعت رأسي، فإذا أنا بسحابة قد أظلتني، فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله قد سمع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم فناداني ملك الجبال فسلم علي فقال يا محمد ذلك لك، إن شئت أطبق عليهم الأخشبين فقال النبي صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئا" . هكذا قال في الحديث ابن عبد كلال وهو خلاف ما نسبه ابن إسحاق.

(4/30)


أمر الجن الذين استمعوا له وآمنوا به:
قال ثم إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - انصرف من الطائف راجعا إلى مكة ، حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان بنخلة قام من جوف الليل يصلي، فمر به النفر من الجن الذين ذكرهم الله تبارك وتعالى، وهم - فيما ذكر لي - سبعة نفر من جن أهل
__________
جن نصيبين:
فصل: وذكر حديث وفد جن نصيبين وما أنزل الله فيهم وقد أملينا أول المبعثين من هذا الكتاب طرفا من أخبارهم وبينا هنالك أسماءهم ونصيبين مدينة بالشام أثنى عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم. روي أنه قال: " رفعت إلي نصيبين حتى رأيتها فدعوت الله أن يعذب نهرها، وينضر شجرها، ويطيب ثمرها" أو قال "ويكثر ثمرها" وتقدم في أسمائهم ما ذكره ابن دريد. قال هم منشي وماشي وشاصر وماصر والأحقب، ولم يزد على تسمية هؤلاء وقد ذكرنا تمام أسمائهم فيما تقدم وفي الصحيح أن الذي أذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجن ليلة الجن شجرة وأنهم سألوه الزاد فقال كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدهم. أوفر ما يكون لحما، وكل بعر علف لدوابهم. زاد ابن سلام في تفسيره أن البعر يعود خضرا لدوابهم ثم " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستنجى بالعظم والروث وقال: إنه زاد إخوانكم من الجن" ولفظ الحديث في كتاب مسلم كما قدمناه كل عظم ذكر اسم الله عليه ولفظه في كتاب أبي داود كل عظم لم يذكر اسم الله عليه وأكثر الأحاديث تدل على معنى رواية أبي داود وقال بعض العلماء رواية مسلم في الجن المؤمنين والرواية الأخرى في حق الشياطين منهم وهذا قول صحيح تعضده الأحاديث إلا أنا نكره الإطالة وفي هذا رد على من زعم أن الجن لا يأكل ولا يشرب وتأولوا قوله - عليه السلام "إن الشيطان يأكل بشماله، ويشرب بشماله" على غير ظاهره وهم ثلاثة أصناف كما جاء في حديث آخر صنف على صور الحيات وصنف على صور الكلاب سود وصنف ريح طيارة أو قال هفافة ذوو أجنحة وزاد بعض الرواة في الحديث وصنف يخلون ويظعنون وهم السعالي، ولعل هذا الصنف الطيار هو الذي لا يأكل,

(4/31)


نصيبين فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا إلى قومهم منذرين قد آمنوا وأجابوا إلى ما سمعوا. فقص الله خبرهم عليه صلى الله عليه وسلم قال الله عز وجل {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} إلى قوله تعالى: {وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الاحقاف:29-31] وقال تبارك وتعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} [الجن: 1]إلى آخر القصة من خبرهم في هذه السورة.
عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه على القبائل:
عرض الرسول نفسه على العرب في مواسمهم:
قال ابن إسحاق: ثم قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة، وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه إلا قليلا مستضعفين ممن آمن به. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه في المواسم إذا كانت على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبي
__________
ولا يشرب إن صح القول المتقدم والله أعلم.
وروينا في حديث سمعته يقرأ على الشيخ الحافظ أبي بكر بن العربي بسنده إلى جابر بن عبد الله، قال بينا أنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم نمشي إذ جاءت حية فقامت إلى جنبه وأدنت فاها من أذنه وكانت تناجيه أو نحو هذا، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "نعم" فانصرفت قال جابر فسألته، فأخبرني أنه رجل من الجن، وأنه قال له مر أمتك لا يستنجوا بالروث ولا بالرمة فإن الله جعل لنا في ذلك رزقا
ذكر عرض نفسه على القبائل:
فصل : وذكر عرضه نفسه - صلى الله عليه وسلم - على القبائل ليؤمنوا به ولينصروه قبيلة قبيلة فذكر بني حنيفة واسم حنيفة أثال بن لجيم ولجيم تصغير اللجم وهي دويبة قال قطرب وأنشد:

(4/32)


مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين عن الله ما بعثه به.
قال ابن إسحاق: فحدثني من أصحابنا، من لا أتهم عن زيد بن أسلم عن ربيعة بن عباد الديلي أو من حدثه أبو الزناد عنه - قال ابن هشام: ربيعة بن عباد.
قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، قال سمعت ربيعة بن عباد يحدثه أبي، قال إني لغلام شاب مع أبي بمنى، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقف على منازل القبائل من العرب، فيقول "يا بني فلان إني رسول الله إليكم، يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا، وأن تخلعوا ما تعبدون من دونه من هذه الأنداد وأن تؤمنوا بي، وتصدقوا بي، وتمنعوني، حتى أبين عن الله ما بعثني به" قال وخلفه رجل أحول وضيء له غديرتان عليه حلة عدنية فإذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله وما دعا إليه قال ذلك الرجل يا بني فلان إن هذا إنما يدعوكم أن تسلخوا اللات والعزى من أعناقكم وحلفاءكم من الجن من بني مالك بن أقيش,
__________
لها ذنب مثل ذيل العرو ... س إلى سبة مثل جحر اللجم
ابن صعب بن علي بن بكر بن وائل، وسمي حنيفة لحنف كان في رجليه وقيل بل حنيفة أمهم وهي بنت كاهل بن أسد عرفوا بها، وهم أهل اليمامة، وأصحاب مسيلمة الكذاب، وقد أملينا في أول الكتاب سبب نزولهم اليمامة وأول من نزلها منهم.
وذكر بيحرة بن فراس العامري وقوله لرسول الله صلى الله عليه وسلم أفنهدف نحورنا، للعرب دونك. نهدف أي نجعلها هدفا لسهامهم والهدف الغرض.
وذكر قول الشيخ هل لها من تلاف أي تدارك وهو تفاعل من تلافيتهم وهل لذناباها من مطلب مثل ضرب لما فاته منها، وأصله من ذنابي الطائر إذا أفلت من الحبالة فطلبت الأخذ بذناباه وقال ما تقولها إسماعيلي قط أي ما ادعى النبوة كاذبا أحد من بني إسماعيل.

(4/33)


إلى ما جاء به من البدعة والضلالة فلا تطيعوه ولا تسمعوا منه.
قال فقلت لأبي: يا أبت من هذا الذي يتبعه ويرد عليه ما يقول ؟ قال هذا عمه عبد العزى بن عبد المطلب، أبو لهب.
قال ابن هشام: قال النابغة
كأنك من جمال بني أقيش ... يقعقع خلف رجليه بشن
قال ابن إسحاق: حدثنا ابن شهاب الزهري: أنه أتى كندة في منازلهم وفيهم سيد لهم يقال له مليح فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه فأبوا عليه.
عرض الرسول نفسه على بني كلب:
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عبد الرحمن بن عبد الله بن حصين أنه أتى كلبا في منازلهم إلى بطن منهم يقال لهم بنو عبد الله فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه حتى إنه ليقول لهم " يا بني عبد الله إن الله عز وجل قد أحسن اسم أبيكم" فلم يقبلوا منه ما عرض عليهم
__________
عرض نفسه على كندة:
فصل: وذكر عرضه نفسه على كندة، وهم بنو ثور بن مرة بن أدد بن زيد بن ميسع بن عمرو بن عريب بن زيد بن كهلان بن سبأ على أحد الأقوال بين النسابين في كندة،
وسمي كندة لأنه كند أباه أي عقه وسمى ابنه مرتعا لأنه كان يجعل لمن أتاه من قومه مرتعا، فهم بنو مرتع بن ثور وقد قيل إن ثورا هو مرتع وكندة أبوه.
في هذا الكتاب تتمة لفائدته:
فصل : وذكر غير ابن إسحاق ما لم يذكر ابن إسحاق مما رأيت إملاء بعضه في

(4/34)


عرض الرسول نفسه على بني حنيفة:
قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أصحابنا عن عبد الله بن كعب بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى بني حنيفة في منازلهم فدعاهم إلى الله وعرض عليهم نفسه فلم يكن أحد من العرب أقبح عليه ردا منهم.
عرض الرسول نفسه على بني عامر:
قال ابن إسحاق: وحدثني الزهري أنه أتى بني عامر بن صعصعة فدعاهم إلى الله عز وجل وعرض عليهم نفسه فقال له رجل منهم - يقال له بيحرة بن فراس. قال ابن هشام: فراس بن عبد الله بن سلمة بن قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة والله لو أني أخذت هذا الفتى من قريش، لأكلت به العرب، ثم قال: أرأيت إن نحن تابعناك على أمرك، ثم أظهرك الله على من خالفك، أيكون لنا الأمر من بعدك ؟ قال : "الأمر إلى الله يضعه حيث يشاء " قا:ل فقال له: أفنهدف
__________
هذا الكتاب تتمة لفائدته. ذكر قاسم بن ثابت والخطابي عرضه نفسه على بني ذهل بن ثعلبة ثم <239> على بني شيبان بن ثعلبة فذكر الخطابي وقاسم جميعا ما كان من كلام أبي بكر مع دغفل بن حنظلة الذهلي زاد قاسم تكملة الحديث فرأينا أن نذكر زيادة قاسم فإنها مما تليق بهذا الكتاب قال ثم دفعنا إلى مجلس آخر عليهم السكينة والوقار فتقدم أبو بكر فسلم قال علي: وكان أبو بكر مقدما في كل خير فقال ممن القوم فقالوا: من شيبان بن ثعلبة فالتفت أبو بكر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: "بأبي أنت وأمي، هؤلاء غرر في قومهم" وفيهم مفروق بن عمرو وهانئ بن قبيصة، ومثنى بن حارثة والنعمان بن شريك وكان مفروق بن عمرو قد غلبهم جمالا ولسانا وكانت له غديرتان تسقطان على تريبتيه وكان أدنى القوم

(4/35)


نحورنا للعرب دونك، فإذا أظهرك الله كان الأمر لغيرنا لا حاجة لنا بأمرك، فأبوا عليه
فلما صدر الناس رجعت بنو عامر إلى شيخ لهم قد كانت أدركته السن، حتى لا يقدر أن يوافي معهم المواسم فكانوا إذا رجعوا إليه حدثوه بما يكون في ذلك الموسم فلما قدموا عليه ذلك العام سألهم عما كان في موسمهم فقالوا: جاءنا فتى من قريش، ثم أحد بني عبد المطلب، يزعم أنه نبي، يدعونا إلى أن نمنعه ونقوم معه ونخرج به إلى بلادنا. قال فوضع الشيخ يديه على رأسه ثم قال يا بني عامر هل لها من تلاف هل لذناباها من مطلب والذي نفس فلان بيده ما تقولها إسماعيلي قط، وإنها لحق، فأين رأيكم كان عنكم
__________
مجلسا من أبي بكر فقال أبو بكر كيف العدد فيكم ؟ قال له مفروق إنا لنزيد على الألف ولن تغلب ألف من قلة فقال أبو بكر كيف المنعة فيكم ؟ فقال مفروق علينا الجهد ولكل قوم جد، فقال أبو بكر كيف الحرب بينكم وبين عدوكم ؟ فقال مفروق إنا لأشد ما نكون غضبا لحين نلقى، وإنا لأشد ما نكون لقاء حين نغضب وإنا لنؤثر الجياد على الأولاد والسلاح على اللقاح والنصر من عند الله يديلنا مرة ويديل علينا، لعلك أخو قريش ؟ فقال أبو بكر أوقد بلغكم أنه رسول الله فها هو ذا، فقال مفروق قد بلغنا أنه <240> يذكر ذلك فإلى م تدعو إليه يا أخا قريش ؟ فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أدعو إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وإلى أن تؤووني، وتنصروني، فإن قريشا قد ظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق والله هو الغني الحميد" فقال مفروق وإلى م تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي

(4/36)


........................................................
__________
حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الأنعام 151] فقال مفروق: وإلى مم تدعو أيضا يا أخا قريش ؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم - {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل 90] فقال مفروق دعوت والله يا أخا قريش إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال والله لقد أفك قوم كذبوك، وظاهروا عليك، وكأنه أراد أن يشركه في الكلام هانئ بن قبيصة، فقال وهذا هانئ بن قبيصة شيخنا، وصاحب ديننا، فقال هانئ قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، وإني أرى أن تركنا ديننا واتباعنا إياك على دينك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر زلة في الرأي وقلة نظر في العاقبة وإنما تكون الزلة مع العجلة ومن ورائنا قوم نكره أن نعقد عليهم عقدا، ولكن ترجع ونرجع وتنظر وننظر وكأنه أحب أن يشركه في الكلام المثنى، فقال وهذا المثنى بن حارثة شيخنا وصاحب حربنا، فقال المثنى: قد سمعت مقالتك يا أخا قريش، والجواب هو جواب هانئ بن قبيصة في تركنا ديننا، واتباعنا إياك لمجلس جلسته إلينا ليس له أول ولا آخر وإنا إنما نزلنا بين صريان اليمامة والسماوة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم – "ما هذان الصريان" ؟ فقال أنهار كسرى، ومياه العرب، فأما ما كان من أنهار كسرى، فذنب صاحبيه غير مغفور وعذره غير مقبول وأما ما كان من مياه العرب، فذنبه مغفور وعذره مقبول وإنما نزلنا على عهد أخذه علينا كسرى أن لا نحدث حدثا ولا نؤوي محدثا، وإني أرى هذا الأمر الذي تدعونا إليه هو مما تكرهه الملوك فإن أحببت أن نؤويك وننصرك مما يلي مياه العرب، فعلنا فقال رسول

(4/37)


<241> عرض الرسول نفسه على العرب في المواسم:
قال ابن إسحاق: فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك من أمره كلما اجتمع له الناس بالموسم أتاهم يدعو القبائل إلى الله وإلى الإسلام ويعرض عليهم نفسه وما جاء به من الله من الهدى والرحمة وهو لا يسمع بقادم يقدم مكة من العرب له اسم وشرف إلا تصدى له فدعاه إلى الله وعرض عليه ما عنده.
سويد بن صامت ورسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، ثم الظفري عن
__________
الله - صلى الله عليه وسلم – "ما أسأتم في الرد إذ أفصحتم بالصدق وإن دين الله لن ينصره إلا من حاطه من جميع جوانبه أرأيتم إن لم تلبثوا إلا قليلا حتى يورثكم الله أرضهم وأموالهم ويفرشكم نساءهم أتسبحون الله وتقدسونه" فقال النعمان بن شريك اللهم لك ذا، فتلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً مُنِيراً} [الأحزاب: ، 47 ،46] ثم نهض النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ بيدي فقال: "يا أبا بكر يا أبا حسن أية أخلاق في الجاهلية ما أشرفها بها يدفع الله بأس بعضهم عن بعض وبها يتحاجزون فيما بينهم" قال: ثم دفعنا إلى مجلس الأوس والخزرج، فما نهضنا حتى بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا صدقاء صبراء وروى في حديث مسند إلى طارق قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين رأيته بسوق ذي المجاز يعرض نفسه على القبائل يقول: " يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا" وخلفه رجل له غديرتان يرجمه بالحجارة حتى أدمى كعبيه يقول يا أيها الناس لا تسمعوا منه فإنه كذاب فسألت عنه فقيل هو غلام عبد المطلب، قلت: ومن الرجل يرجمه ؟ فقيل لي: هو عمه عبد العزى أبو لهب وذكر الحديث بطوله. خرجه الدارقطني، ووقع أيضا في السيرة من رواية يونس.
فصل: ذكر حديث سويد بن صامت وشعره. وفي الشعر:

(4/38)


أشياخ من قومه قالوا:
قدم سويد بن صامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا أو معتمرا، وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه وهو الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى ... مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كان شاهدا ... وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه ... نميمة غش تبتري عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتم ... من الغل والبغضاء بالنظر الشزر
فرشني بخير طالما قد بريتني ... وخير الموالي من يريش ولا يبري
__________
وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يعني السيف ومأثور من الأثر وهو فرند السيف ويقال فيه أثر وإثر. قال الشاعر:
جلاها الصيعلون فأخلصوها ... خفاقا كلها يتقي بأثر
أراد يتقي، وسويد: هو الكامل وهو ابن الصلت بن حوط بن حبيب بن عوف بن عمرو بن عوف بن مالك بن الأوس وأمه ليلى بنت عمرو النجارية أخت سلمى بنت عمرو [بن زيد بن لبيد بن خداش بن عامر بن غنم بن عدي بن النجار [تيم الله بن ثعلبة بن عمرو بن الخزرج] أم عبد المطلب بن هاشم، فسويد هذا ابن خالة عبد المطلب، وبنت سويد هي أم عاتكة أخت سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل امرأة عمر بن الخطاب، فهو جدها لأمها واسم أمها: زينب وقيل جليسة بنت سويد، هكذا ذكره الزبير بن أبي بكر.

(4/39)


وهو الذي يقول ونافر رجلا من بني سليم ثم أحد بني زعب بن مالك مائة ناقة إلى كاهنة من كهان العرب، فقضت له. فانصرف عنها هو والسلمي ليس معهما غيرهما، فلما فرقت بينهما الطريق قال ما لي، يا أخا بني سليم قال أبعث إليك به قال فمن لي بذلك إذا فتني به ؟ قال أنا، قال كلا، والذي نفس سويد بيده لا تفارقني حتى أوتى بمال فاتخذا فضرب به الأرض ثم أوثقه رباطا ثم انطلق به إلى دار بني عمرو بن عوف فلم يزل عنده حتى بعثت إليه سليم بالذي له فقال في ذلك:
لا تحسبني يا بن زعب بن مالك ... كمن كنت تردي بالغيوب وتختل
تحولت قرنا إذ صرعت بعزة ... كذلك إن الحازم المتحول
ضربت به إبط الشمال فلم يزل ... على كل حال خده هو أسفل
في أشعار كثيرة كان يقولها:
فتصدى له رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سمع به فدعاه إلى الله وإلى الإسلام فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم: "وما الذي معك" ؟ قال: مجلة لقمان - يعني حكمة لقمان. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اعرضها علي"
ـــــــ
ذكر مجلة لقمان:
فصل : وذكر مجلة لقمان وهي الصحيفة وكأنها مفعلة من الجلال والجلالة أما الجلالة فمن صفة المخلوق والجلال من صفة الله تعالى، وقد أجاز بعضهم أن يقال في المخلوق جلال وجلالة وأنشد
فلا ذا جلال هبنه لجلالة ... ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر
ولقمان كان نوبيا من أهل أيلة وهو لقمان بن عنقاء بن سرور فيما ذكروا وابنه الذي ذكر في القرآن هو ثأران فيما ذكر الزجاج وغيره وقد قيل في اسمه غير ذلك,

(4/40)


فعرضها عليه فقال له "إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا، قرآن أنزله الله تعالى علي هو هدى ونور" . فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ودعاه إلى الإسلام فلم يبعد منه وقال إن هذا لقول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتلته الخزرج، فإن كان رجال من قومه ليقولون إنا لنراه قد قتل وهو مسلم. وكان قتله قبل يوم بعاث.
إسلام إياس بن معاذ وقصة أبي الحيسر:
قال ابن إسحاق: وحدثني الحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ عن محمود بن لبيد، قال لما قدم أبو الحيسر أنس بن رافع، مكة ومعه فتية من بني عبد الأشهل فيهم إياس بن معاذ، يلتمسون الحلف من قريش على قومهم من الخزرج، سمع بهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتاهم فجلس إليهم فقال لهم "هل لكم في خير مما جئتم له" ؟ فقالوا له وما ذاك ؟ قال "أنا رسول الله بعثني إلى العباد أدعوهم إلى أن يعبدوا الله ولا يشركوا به شيئا، وأنزل علي الكتاب" . قال ثم ذكر لهم الإسلام وتلا عليهم القرآن. قال فقال إياس بن معاذ، وكان غلاما حدثا: أي قوم هذا والله خير مما جئتم له. قال فيأخذ أبو الحيسر أنس بن رافع، حفنة من تراب البطحاء،
__________
وليس بلقمان بن عاد الحميري.
ذكر قدوم أبي الحيسر:
فصل : وذكر قدوم أبي الحيسر أنس بن رافع يطلب الحلف وذلك بسبب الحرب التي كانت بين الأوس والخزرج، وهي حرب بعاث المذكورة ولهم فيها أيام مشهورة هلك فيها كثير من صناديدهم وأشرافهم وبعاث اسم أرض بها عرفت.

(4/41)


فضرب بها وجه إياس بن معاذ، وقال دعنا منك، فلعمري لقد جئنا لغير هذا. قال فصمت إياس وقام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم وانصرفوا إلى المدينة وكانت وقعة بعاث بين الأوس والخزرج.
قال ثم لم يلبث إياس بن معاذ أن هلك. قال محمود بن لبيد: فأخبرني من حضره من قومه عند موته أنهم لم يزالوا يسمعونه يهلل الله تعالى ويكبره ويحمده ويسبحه حتى مات فما كانوا يشكون أن قد مات مسلما، لقد كان استشعر الإسلام في ذلك المجلس حين سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما سمع.

(4/42)