الروض الأنف ت السلامي

غزوة بدر الكبرى
عير أبي سفيان
<48> قال ابن إسحاق. ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع بأبي سفيان بن حرب مقبلا من الشام في عير لقريش عظيمة فيها أموال لقريش وتجارة من تجاراتهم وفيها ثلاثون رجلا من قريش أو أربعون منهم مخرمة بن نوفل بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة وعمرو بن العاص بن وائل بن هشام.
ندب المسلمين للعير وحذر أبي سفيان:
قال ابن هشام ويقال عمرو بن العاص بن وائل بن هاشم.
قال ابن إسحاق فحدثني محمد بن مسلم الزهري، وعاصم بن عمر بن قتادة وعبد الله بن أبي بكر ويزيد بن رومان عن عروة بن الزبير وغيرهم من علمائنا عن ابن عباس كل قد حدثني بعض هذا الحديث فاجتمع حديثهم فيما سقت من حديث بدر قالوا: لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلا من الشام ندب المسلمين
ـــــــ
غزوة بدر
<48> وبدر اسم بئر حفرها رجل من غفار ثم من بني النار منهم اسمه بدر وقد ذكرنا في هذا الكتاب قول من قال هو بدر بن قريش بن يخلد الذي سميت

(5/59)


إليهم وقال <49> هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعل الله ينفلكموها. فانتدب الناس فخف بعضهم وثقل بعضهم وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حربا، وكان أبو سفيان حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار ويسأل من لقي من الركبان تخوفا على أمر الناس. حتى أصاب خبرا من بعض الركبان أن محمدا قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى مكة وأمره أن يأتي قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه. فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة.
ذكر رؤيا عاتكة بنت عبد المطلب
قال ابن إسحاق فأخبرني من لا أتهم عن عكرمة عن ابن عباس ويزيد بن
ـــــــ
قريش به. وروى يونس عن ابن أبي زكريا عن الشعبي قال بدر اسم رجل كانت له بدر
تحسس الأخبار
فصل
<49> وذكر أبا سفيان وأنه حين دنا من الحجاز كان يتحسس الأخبار. التحسس بالحاء أن تتسمع الأخبار بنفسك، والتجسس بالجيم هو أن تفحص عنها بغيرك، وفي الحديث "لا تجسسوا، ولا تحسسوا" .
رؤيا عاتكة
وذكر رؤيا عاتكة والصارخ الذي رأته يصرخ بأعلى صوته يا لغدر هكذا هو بضم الغين والدال جمع غدور ولا تصح رواية من رواه يا لغدر بفتح الدال

(5/60)


رومان عن عروة بن الزبير قالا: وقد رأت عاتكة بنت عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكة بثلاث ليال رؤيا أفزعتها. فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له يا أخي، والله لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني، وتخوفت أن يدخل على قومك منها شر ومصيبة فاكتم عني ما أحدثك به
فقال لها: وما رأيت؟ قالت رأيت <50> راكبا أقبل على بعير له حتى وقف بالأبطح ثم صرخ بأعلى صوته ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث فأرى الناس اجتمعوا إليه ثم دخل المسجد والناس يتبعونه فبينما هم حوله مثل به بعيره على ظهر الكعبة ثم صرخ بمثلها: ألا انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ثم مثل به بعيره على رأس أبي قبيس فصرخ بمثلها. ثم أخذ صخرة فأرسلها فأقبلت تهوي، حتى إذا كانت بأسفل الجبل ارفضت فما بقي بيت من بيوت مكة ولا دار إلا دخلتها منها فلقة قال العباس والله إن هذه لرؤيا، وأنت فاكتميها، ولا تذكريها لأحد.
الرؤيا تذيع في قريش:
ثم خرج العباس فلقي الوليد بن عتبة بن ربيعة وكان له صديقا، فذكرها له واستكتمه إياها. فذكرها الوليد لأبيه عتبة ففشا الحديث بمكة حتى تحدثت به قريش في أنديتها.
ما جرى بين أبي جهل والعباس بسبب الرؤيا:
قال العباس فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل بن هشام في رهط من قريش قعود يتحدثون برؤيا عاتكة فلما رآني أبو جهل قال يا أبا الفضل إذا فرغت من طوافك فأقبل إلينا، فلما فرغت أقبلت حتى جلست معهم فقال لي أبو جهل يا بني
ـــــــ
مع كسر الراء ولا فتحها، لأنه لا ينادي واحدا، ولأن لام الاستغاثة لا تدخل على مثل هذا البناء في النداء وإنما يقول يا لغدر انفروا وتحريضا لهم أي إن تخلفتم فأنتم غدر لقومكم وفتحت لام الاستغاثة لأن المنادي قد وقع موقع الاسم المضمر ولذلك بنى، فلما دخلت عليه لام الاستغاثة وهي لام جر فتحت كما تفتح لام الجر إذا دخلت على المضمرات هذا قول ابن السراج ولأبي سعيد

(5/61)


عبد المطلب متى حدثت فيكم هذه النبية؟ قال قلت: وما ذاك؟ قال تلك الرؤيا التي رأت عاتكة قال فقلت: وما رأت؟ قال يا بني عبد المطلب أما رضيتم أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال انفروا في ثلاث فسنتربص بكم هذه الثلاث فإن يك حقا ما تقول فسيكون وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء نكتب عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت من العرب. قال العباس فوالله ما كان مني إليه كبير إلا أني جحدت ذلك وأنكرت أن تكون رأت شيئا: قال. ثم تفرقنا.
نساء عبد المطلب يلمن العباس للينه مع أبي جهل:
<51> فلما أمسيت، لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني، فقالت أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ثم قد تناول النساء وأنت تسمع ثم لم يكن عندك غير لشيء مما سمعت، قال قلت: قد والله فعلت، ما كان مني إليه من كبير. وايم الله لأتعرضن له فإن عاد لأكفينكنه
ـــــــ
السيرافي فيها تعليل غير هذا كرهنا الإطالة بذكره وهذا القول <50> مبني في شرح يا لغدر إنما هو على رواية الشيخ وما وقع في أصله وأما أبو عبيدة فقال في المصنف تقول يا غدر أي يا غادر فإذا جمعت قلت: يا آل غدر وهكذا والله أعلم. كان الأصل في هذا الخبر والذي تقدم تغيير.
وقوله ثم مثل به بعيره على أبي قبيس سمي هذا الجبل أبا قبيس برجل هلك فيه من جرهم اسمه قبيس بن شالخ وقع ذكره في حديث عمرو بن مضاض كما سمي حنين الذي كانت فيه حنين بحنين بن قالية بن مهلايل أظنه كان من العماليق وقد ذكره البكري في كتاب معجم ما استعجم.

(5/62)


العباس يقصد أبا جهل لينال منه، فيصرفه عنه تحقق الرؤيا:
قالت فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب أرى أني قد فاتني منه أمر أحب أن أدركه منه. قال فدخلت المسجد فرأيته، فوالله أني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به وكان رجلا خفيفا، حديد الوجه حديد اللسان حديد النظر. قال إذ خرج نحو باب المسجد يشتد. قال فقلت في نفسي: ما له لعنه الله أكل هذا فرق من أن أشاتمه قال وإذا هو قد سمع ما لم أسمع صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره وحول رحله وشق قميصه وهو يقول يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه لا. أرى أن تدركوها، الغوث الغوث. قال فشغلني عنه وشغله عني ما جاء من الأمر.
تجهز قريش للخروج:
فتجهز الناس سراعا، وقالوا: أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي كلا والله ليعلمن غير ذلك. فكانوا بين رجلين إما خارج وإما باعث مكانه رجلا. وأوعبت قريش فلم يتخلف من أشرافها أحد.
إلا أن أبا لهب بن عبد المطلب تخلف وبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة وكان قد لاط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه أفلس بها، فاستأجره بها على أن يجزئ عنه بعثه فخرج عنه وتخلف أبو لهب.
ـــــــ
معنى اللياط
<51> وذكر حديث أبي لهب وبعثه العاصي بن هشام وكان لاط له بأربعة آلاف درهم. لاط له أي أربى له وكذلك جاء اللياط مفسرا في غريب الحديث للخطابي وهو قوله عليه السلام في الكتاب الذي كتبه لثقيف "وما كان لهم من دين لا رهن فيه فهو لياط مبرأ من الله". وقال أبو عبيد وسمي الربا لياطا، لأنه ملصق بالبيع وليس ببيع وقيل للربا لياطا لأنه لاصق بصاحبه لا يقضيه ولا

(5/63)


عقبة يتهكم بأمية لقعوده فيخرج:
<52> قال ابن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي نجيح أن أمية بن خلف كان أجمع القعود وكان شيخا جليلا جسيما ثقيلا، فأتاه عقبة بن أبي معيط وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه بمجمرة يحملها، فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال يا أبا علي استجمر فإنما أنت من النساء؟ قال قبحك الله وقبح ما جئت به قال ثم تجهز فخرج مع الناس.
الحرب بين كنانة و قريش وتحاجزهم يوم بدر
قال ابن إسحاق ولما فرغوا من جهازهم وأجمعوا المسير ذكروا ما كان بينهم وبين بني بكر بن عبد مناة بن كنانة من الحرب فقالوا: إنا نخشى أن يأتونا من خلفنا، وكانت الحرب التي كانت بين قريش وبين بني بكر - كما حدثني بعض بني عامر بن لؤي عن محمد بن سعيد بن المسيب - في ابن لحفص بن الأخيف أحد بني معيص بن عامر بن لؤي خرج يبتغي ضالة له بضجنان وهو غلام حدث في رأسه ذؤابة وعليه حلة له وكان غلاما وضيئا نظيفا، فمر بعامر بن يزيد بن عامر بن الملوح أحد بني يعمر بن عوف بن كعب بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة وهو بضجنان وهو سيد بني بكر يومئذ فرآه فأعجبه فقال من أنت يا غلام؟ قال أنا ابن لحفص بن الأخيف القرشي. فلما ولى الغلام قال عامر بن زيد يا بني بكر ما لكم في قريش من دم؟ قالوا: بلى والله إن لنا فيهم لدماء؟ قال ما كان رجل ليقتل هذا الغلام برجله إلا كان قد استوفى دمه. قال فتبعه رجل من بني
ـــــــ
يوضع عنه وأصل هذا اللفظ من اللصوق.
المجمرة والألوة:
<52> وعزم أمية بن خلف على القعود وأن عقبة بن أبي معيط جاءه بمجمرة فيها نار ومجمر وقال استجمر فإنما أنت من النساء. المجمرة هي الأداة التي يجعل فيها البخور والمجمر هو البخور نفسه وفي الحديث في صفة أهل الجنة

(5/64)


بكر فقتله بدم كان له في قريش فتكلمت فيه قريش فقال عامر بن يزيد يا معشر قريش قد كانت لنا فيكم دماء فما شئتم. إن شئتم فأدوا علينا مالنا قبلكم ونؤدي مالكم قبلنا، وإن شئتم فإنما هي الدماء رجل برجل فتجافوا عما لكم قبلنا، ونتجافى عما لنا قبلكم فهان ذلك الغلام على هذا الحي من قريش وقالوا: صدق رجل برجل. فلهوا عنه فلم يطلبوا به.
<53> قال فبينما أخوه مكرز بن حفص بن الأخيف يسير بمر الظهران إذ نظر إلى عامر بن يزيد بن عامر الملوح على جمل له فلما رآه أقبل إليه حتى أناخ به وعامر متوشح سيفه فعلاه مكرز بسيفه حتى قتله ثم خاض بطنه بسيفه ثم أتى به مكة فعلقه من الليل بأستار الكعبة. فلما أصبحت قريش رأوا سيف عامر بن يزيد بن عامر معلقا بأستار الكعبة فعرفوه فقالوا: إن هذا لسيف عامر بن يزيد عدا عليه مكرز بن حفص فقتله فكان ذلك من أمرهم. فبينما هم في ذلك من حربهم حجز الإسلام بين الناس؟ فتشاغلوا به حتى أجمعت قريش المسير إلى بدر فذكروا الذي بينهم وبين بني بكر فخافوهم.
وقال مكرز بن حفص في قتله عامرا:
لما رأيت أنه هو عامر ... تذكرت أشلاء الحبيب الملحب
وقلت لنفسي: إنه هو عامر ... فلا ترهبيه وانظري أي مركب
ـــــــ
مجامرهم الألوة فهذا جمع مجمر لا مجمرة والألوة هي العود الرطب وفيها أربع لغات ألوة وألوة ولوة بغير ألف ولية قاله أبو حنيفة.
وذكر في شعر مكرز: <53>
تذكرت أشلاء الحبيب الملحب

(5/65)


وأيقنت أني إن أجلله ضربة ... متى ما أصبه بالفرافر يعطب
خفضت له جأشي وألقيت كلكلي ... على بطل شاكي السلاح مجرب
ولم أك لما التف روعي وروعه ... عصارة هجن من نساء ولا أب
حللت به وتري ولم أنس ذحله ... إذا ما تناسى ذحله كل عيهب
<54> قال ابن هشام الفرافر في غير هذا الموضع الرجل الأضبط وفي هذا الموضع السيف. والعيهب الذي لا عقل له ويقال تيس الظباء وفحل النعام قال الخليل العيهب الرجل الضعيف عن إدراك وتره.
إبليس يغري القريش بالخروج
وقال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير، قال لما أجمعت قريش المسير ذكرت الذي كان بينها وبين بني بكر فكاد ذلك يثنيهم فتبدى
ـــــــ
شرح شعر مكرز
الأشلاء أعضاء مقطعة والملحب من قولهم لحبت اللحم إذا قطعته طولا ذكره صاحب العين.
وذكر في شعر مكرز
متى ما أجلله الفرافر يعطب
<54> وقد فسر ابن هشام الفرافر وقال هو اسم سيف وهو عندي من فرفر اللحم إذا قطعه أنشد أبو عبيد
ككلب طسم وقد ترببه ... يعله بالحليب في الغلس
أنحى عليه يوما يفرفره ... إن يلغ في الدماء ينتهس

(5/66)


لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي، وكان من أشراف بني كنانة فقال لهم أنا لكم جار من أن تأتيكم كنانة من خلفكم بشيء تكرهونه فخرجوا سراعا.
خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليال مضت من شهر رمضان في أصحابه - قال ابن هشام: خرج يوم الاثنين لثمان ليال خلون من شهر رمضان - واستعمل عمرو ابن أم مكتوم - ويقال اسمه عبد الله ابن أم مكتوم أخا بني عامر بن لؤي، على الصلاة بالناس ثم رد أبا لبابة من الروحاء، واستعمله على المدينة.
صاحب اللواء:
قال ابن إسحاق: ودفع اللواء إلى مصعب بن عمير بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار. قال ابن هشام: وكان أبيض.
رايتا الرسول صلى الله عليه وسلم:
قال ابن إسحاق: وكان أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم رايتان سوداوان إحداهما مع علي بن أبي طالب، يقال لها: العقاب والأخرى مع بعض الأنصار.
عدد إبل المسلمين
قال ابن إسحاق: وكانت إبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ سبعين بعيرا، <55> فاعتقبوها، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يعتقبون بعيرا، وكان حمزة بن عبد المطلب، وزيد بن حارثة، وأبو كبشة، وأنسة موليا رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعتقبون بعيرا، وكان أبو بكر وعمر وعبد الرحمن بن عوف يعتقبون بعيرا.
ـــــــ
ويروي: يشرشره. والعيهب الذي لا عقل له ويقال لذكر النعم عيهب.

(5/67)


قال ابن إسحاق: وجعل على الناقة قيس بن أبي صعصعة أخا بني مازن بن النجار. وكانت راية الأنصار مع سعد بن معاذ، فيما قال ابن هشام.
طريق المسلمين إلى بدر:
قال ابن إسحاق: فسلك طريقه من المدينة إلى مكة، على نقب المدينة، ثم على العقيق، ثم على ذي الحليفة ثم على أولات الجيش.
قال ابن هشام: ذات الجيش.
الرجل الذي اعترض الرسول وجواب سلمة له:
قال ابن إسحاق: ثم مر على تربان ثم على ملل، ثم على غميس الحمام من مريين، ثم على صخيرات اليمام، ثم على السيالة، ثم على فج الروحاء، ثم على شنوكة، وهي الطريق المعتدلة حتى إذا كان بعرق الظبية - قال ابن هشام: الظبية: عن غير ابن إسحاق - لقوا رجلا من الأعراب، فسألوه عن الناس فلم يجدوا عنده خبرا، فقال له الناس سلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أفيكم رسول الله؟ قالوا: نعم فسلم عليه ثم قال إن كنت رسول الله فأخبرني عما في بطن ناقتي، هذه قال له سلمة بن سلامة بن وقش لا تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل علي فأنا أخبرك عن ذلك. نزوت عليها، ففي بطنها منك سخلة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "مه أفحشت على الرجل،" ثم أعرض عن سلمة.
ـــــــ
مواضع نزل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم
<55> وذكر عرق الظبية، والظبية: شجرة شبه القتادة يستظل بها، وجمعها: ظبيان وكذلك ذكر السيالة في طريق بدر والسيال شجر ويقال هو عظام السلم قاله أبو حنيفة.

(5/68)


بقية الطريق إلى بدر:
<56> ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم سجسج، وهي بئر الروحاء، ثم ارتحل منها، حتى إذا كان بالمنصرف ترك طريق مكة بيسار وسلك ذات اليمين على النازية يريد بدرا، فسلك في ناحية معها، حتى جزع واديا، يقال له رحقان، بين النازية وبين مضيق الصفراء، ثم على المضيق ثم انصب منه حتى إذا كان قريبا من الصفراء، بعث بسبس بن عمرو <57> الجهني، حليف بني ساعدة وعدي بن أبي الزغباء الجهني
ـــــــ
<56> وذكر النازية وهي رحبة واسعة فيها عضاة ومروج.
وذكر سجسجا، وهي ب الروحاء، وسميت سجسجا، لأنها بين جبلين وكل شيء بين شيئين فهو سجسج. وفي الحديث إن هواء الجنة سجسج، أي لا حر ولا برد وهو عندي من لفظ السجاج وهو لبن غير خالص وذلك إذا أكثر مزجه بالماء قال الشاعر:
ويشربها مزجا ويسقي عياله
سجاجا كأقراب الثعالب أورقا
وهذا القول جار على قياس من يقول إن الثرثارة من لفظ الثرة ورقرقت من لفظ رققت إلى آخر الباب. وذكر الصفراء، وهي واد كبير.
أنساب
وذكر بسبس بن عمرو الجهني، وعدي بن أبي الزغياء حين بعثهما رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحسسان الأخبار عن عير قريش، وفي مصنف أبي داود بسبسة مكان بسبس وبعض رواة أبي داود يقول بسبسة بضم الباء وكذلك وقع في كتاب

(5/69)


حليف بني النجار إلى بدر يتحسسان له الأخبار عن أبي سفيان بن حرب وغيره. ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد قدمها. فلما استقبل الصفراء ، وهي قرية بين جبلين سأل عن جبليهما ما اسماهما؟ فقالوا: يقال لأحدهما، هذا مسلح ، وللآخر هذا مخرئ وسأل عن أهلهما، فقيل بنو النار وبنو حراق، بطنان من بني غفار فكرههما رسول الله صلى الله عليه وسلم والمرور بينهما، وتفاءل بأسمائهما وأسماء أهلهما. فتركهما رسول الله صلى الله عليه وسلم والصفراء بيسار وسلك ذات اليمين على واد يقال له ذفران ، فجزع فيه ثم نزل:
ـــــــ
مسلم ونسبه ابن إسحاق إلى جهينة، ونسبه غيره إلى ذبيان وقال هو بسبس بن عمرو بن ثعلبة بن خرشة بن عمرو بن سعد بن ذبيان وأما عدي بن أبي الزغباء، واسم أبي الزغباء سنان بن سبيع بين ثعلبة بن ربيعة بن بذيل وليس في العرب بذيل بالذال المنقوطة غير هذا، قاله الدارقطني، وهو بذيل بن سعد بن عدي بن كاهل بن نصر بن ملك بن غطفان بن قيس بن جهينة، وجهينة: وهو ابن سود بن أسلم بضم اللام ابن الحاف بن قضاعة، قال موسى بن عقبة: عدي بن أبي الزغباء حليف بني مالك بن النجار مات في خلافة عمر وكان قد شهد بدرا وأحدا والخندق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
التطير وكراهية الاسم القبيح:
<57> وذكر أنه عليه السلام مر بجبلين فسأل على اسميهما، فقيل له أحدهما مسلح والآخر مخرئ فعدل عن طريقهما، وليس هذا من باب الطيرة التي نهى عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن من باب كراهية الاسم القبيح فقد كان عليه السلام يكتب إلى أمرائه " إذا أبردتم إلي بريدا فاجعلوه حسن الوجه حسن الاسم " ، ذكره البزار من طريق بريدة وقد قال في لقحة من يحلب هذه؟ فقام رجل فقال

(5/70)


أبو بكر وعمر والمقداد وكلماتهم في الجهاد:
<58> وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم فاستشار الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر الصديق، فقال وأحسن. ثم قام عمر بن الخطاب، فقال وأحسن ثم قام المقداد بن عمرو، فقال يا رسول الله امض لما أراك الله فنحن
ـــــــ
أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " ما اسمك؟ فقال مرة فقال " اقعد " ، حتى قال آخرهم اسمي: يعيش قال "احلب". اختصرت الحديث وفيه زيادة رواها ابن وهب، قال فقام عمر فقال لا أدري أقول أم أسكت فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "قل" ، فقال له قد كنت نهيتنا عن التطير فقال عليه السلام "ما تطيرت، ولكني آثرت الاسم الحسن" أو كما قال عليه السلام. وقد أمليت في شرح حديث الموطإ في الشؤم وأنه إن كان ففي المرأة والفرس والدار تحقيقا وبيانا شافيا لمعناه وكشفا عن فقهه لم أر أحدا - والحمد لله - سبقني إلى مثله.
جبلا مسلح ومخرئ
وهذا الجبلان لتسميتهما بهذين الاسمين سبب، وهو أن عبدا لبني غفار كان يرعى بهما غنما لسيده فرجع ذات يوم عن المرعى، فقال له سيده لم رجعت؟ فقال إن هذا الجبل مسلح للغنم وإن هذا الآخر مخرئ ، فسميا بذلك. وجدت ذلك بخط الشيخ الحافظ فيما نقل عن الوقشي.
برك الغماد
<58> وذكر قول المقداد: ولو بلغت بنا برك الغماد، وجدت في بعض كتب التفسير أنها مدينة الحبشة

(5/71)


معك، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون. ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم " خيرا " ، ودعا له
استيثاق الرسول صلى الله عليه وسلم من أمر الأنصار
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أشيروا علي أيها الناس . وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس وأنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا: يا رسول الله إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا، فأنت في ذمتنا نمنعك مما نمنع معه أبناءنا ونساءنا. فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف ألا تكون الأنصار ترى عليها نصره إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو من بلادهم . فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له سعد بن معاذ: والله لكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال "أجل" قال لقد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا، على السمع والطاعة فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك، فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد وما نكره أن تلقى بنا عدونا غدا، إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء. لعل الله يريك منا ما تقر به عينك، فسر بنا على بركة الله . فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك ثم قال "سيروا وأبشروا، فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم".
الرسول صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يتعرفان أخبار قريش:
<59> ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذافران فسلك على ثنايا يقال لها الأصافر ثم انحط منها إلى بلد يقال له الدبة وترك الحنان بيمين وهو كثيب عظيم كالجبل العظيم ثم نزل قريبا من بدر فركب هو ورجل من أصحابه
قال ابن هشام: الرجل هو أبو بكر الصديق.
ـــــــ

(5/72)


قال ابن إسحاق: كما حدثني محمد بن يحيى بن حبان: حتى وقف على شيخ من العرب، فسأله عن قريش، وعن محمد وأصحابه وما بلغه عنهم فقال الشيخ لا أخبركما حتى تخبراني ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا أخبرتنا أخبرناك" ، قال أذاك بذاك؟ قال نعم قال الشيخ فإنه بلغني أن محمدا وأصحابه خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان صدق الذي أخبرني، فهم اليوم بمكان كذا وكذا، للمكان الذي به رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغني أن قريشا خرجوا يوم كذا وكذا، فإن كان الذي أخبرني صدقني فهم اليوم بمكان كذا وكذا للمكان الذي فيه قريش. فلما فرغ من خبره قال ممن أنتما؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " نحن من ماء" ثم انصرف عنه. قال يقول الشيخ ما من ماء أمن ماء العراق؟
قال ابن هشام: يقال ذلك الشيخ سفيان الضمري.
قال ابن إسحاق: ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه فلما أمسى بعث علي بن أبي طالب، والزبير بن العوام، وسعد بن أبي وقاص، في نفر من أصحابه إلى ماء بدر يلتمسون الخبر له عليه - كما حدثني يزيد بن رومان، عن عروة بن الزبير - فأصابوا راوية لقريش فيها أسلم غلام بني الحجاج وعريض أبو يسار، غلام بني العاص بن سعيد فأتوا بهما فسألوهما، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي، فقالا: نحن سقاة قريش، بعثونا نسقيهم من الماء فكره القوم خبرهما، ورجوا أن يكونا لأبي سفيان فضربوهما. فلما أذلقوهما قالا: نحن لأبي سفيان فتركوهما. وركع رسول الله صلى الله عليه وسلم وسجد سجدتيه ثم <60> سلم وقال "إذا صدقاكم ضربتموهما، وإذا كذباكم
ـــــــ
تعوير قلب المشركين
<59> وذكر القلب التي احتفرها المشركون ليشربوا منها، قال فأمر بتلك القلب فعورت وهي كلمة نبيلة وذلك أن القلب لما كان عينا جعلها كعين الإنسان ويقال في عين الإنسان عرتها فعارت ولا يقال عورتها، وكذلك قال في القلب

(5/73)


تركتموهما" ، صدقا والله إنهما لقريش أخبراني عن قريش؟ قالا: هم والله وراء هذا الكثيب الذي ترى بالعدوة القصوى والكثيب العقنقل - فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم "كم القوم" ؟ قالا: كثير قال "ما عدتهم" ؟ قالا: لا ندري، قال "كم ينحرون كل يوم" ؟ قالا: يوما تسعا، ويوما عشرا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "القوم فيما بين التسعمائة والألف" . ثم قال لهما: "فمن فيهم من أشراف قريش" ؟ قالا: عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو البختري بن هشام وحكيم بن حزام، ونوفل بن خويلد، والحارث بن عامر بن نوفل، وطعيمة بن عدي بن نوفل، والنضر بن الحارث وزمعة بن الأسود، وأبو جهل بن هشام وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وسهيل بن عمرو، وعمرو بن عبد ود. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" .
بسبس وعدي يتجسسان الأخبار:
قال ابن إسحاق: وكان بسبس بن عمرو، وعدي بن أبي الزغباء قد مضيا حتى نزلا بدرا، فأناخا إلى تل قريب من الماء ثم أخذا شنا لهما يستقيان فيه ومجدي بن عمرو الجهني على الماء فسمع عدي وبسبس جاريتين من جواري الحاضر وهما يتلازمان على الماء والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد، فأعمل لهم ثم أفضيك الذي لك قال مجدي: صدقت ثم خلص بينهما. وسمع ذلك عدي وبسبس فجلسا على بعيريهما، ثم انطلقا حتى أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبراه بما سمعا.
حذر أبي سفيان وهربه بالعير
وأقبل أبو سفيان بن حرب حتى تقدم العير حذرا، حتى ورد الماء فقال
ـــــــ
عورت بسكون الواو <60> ولكن لما رد الفعل لما لم يسم فاعله ضمت العين فجاء على لغة من يقول قول القول وبوع المتاع وهي لغة هذيل وبني دبير من بني أسد وبني فقعس وبنو دبير هو تصغير أدبر على الترخيم وإن كانت لغة رديئة فقد حسنت هنا للمحافظة على لفظ الواو إذ لو قالوا: عيرت فأميتت الواو، لم

(5/74)


لمجدي بن عمرو: هل أحسست أحدا، فقال ما رأيت أحدا أنكره إلا أني قد رأيت راكبين قد أناخا إلى هذا التل ثم استقيا في شن لهما، ثم انطلقا. فأتى أبو سفيان مناخها، فأخذ من أبعار بعيريهما، ففته فإذا فيه النوى، فقال هذه والله علائف يثرب. فرجع إلى أصحابه سريعا، فضرب وجه عيره عن الطريق فساحل بها، وترك بدرا بيسار وانطلق حتى أسرع.
رؤيا جهيم بن الصلت في مصارع قريش:
"قال": <61> أقبلت قريش، فلما نزلوا الجحفة ، رأى جهيم بن الصلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف رؤيا، فقال إني رأيت فيما يرى النائم وإني لبين النائم واليقظان. إذ نظرت إلى رجل قد أقبل على فرس حتى وقف ومعه بعير له ثم قال قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام وأمية بن خلف، وفلان وفلان فعدد رجالا ممن قتل يوم بدر من أشراف قريش، ثم رأيته ضرب في لبة بعيره ثم أرسله في العسكر فما بقي خباء من أخبية العسكر إلا أصابه نضح من دمه.
قال فبلغت أبا جهل فقال وهذا أيضا نبي آخر من بني المطلب سيعلم غدا من المقتول إن نحن التقينا.
رسالة أبي سفيان إلى قريش:
قال ابن إسحاق: ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش: إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورجالكم وأموالكم فقد نجاها الله فارجعوا، فقال أبو جهل بن هشام والله لا نرجع حتى نرد بدرا - وكان بدر موسما من مواسم العرب،
ـــــــ
يعرف أنه من العور إلا بعد نظر كما حافظوا في جمع عيد على لفظ الياء في عيد فقالوا: أعياد وتركوا القياس الذي في ريح وأرواح على أن أرياحا لغة بني <61> أسد كي لا تذهب من اللفظ الدلالة على معنى العين وإن كان من العودة وقس على هذا القول وصحة الواو فيه وكما حافظوا على الضمة في سبوح وقدوس

(5/75)


يجتمع لهم به شوق كل عام - فنقيم عليه ثلاثا، فننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقي الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا، فلا يزالون يهابوننا أبدا بعدها، فامضوا.
رجوع الأخنس ببني زهرة
وقال الأخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي، وكان حليفا لبني زهرة وهم بالجحفة يا بني زهرة قد نجى الله لكم أموالكم وخلص لكم صاحبكم مخرمة بن نوفل وإنما نفزتم لتمنعوه وماله فاجعلوا لي جبنها وارجعوا، فإنه لا حاجة لكم بأن تخرجوا في غير ضيعة لا ما يقول هذا، يعني أبا جهل فرجعوا، فلم يشهدها زهري واحد أطاعوه وكان فيهم مطاعا. ولم يكن بقي من قريش بطن إلا وقد نفر منهم ناس <62> إلا بني عدي بن كعب، لم يخرج منهم رجل واحد فرجعت بنو زهرة مع الأخنس بن شريق، فلم يشهد بدرا من هاتين القبيلتين أحد، ومشى القوم. وكان بين طالب بن أبي طالب - وكان في القوم - وبين بعض قريش محاورة فقالوا: والله لقد عرفنا يا بني هاشم وإن خرجتم معنا، أن هواكم لمع محمد فرجع طالب إلى مكة مع من رجع. وقال طالب بن أبي طالب:
لاهم إما يغزون طالب ... في عصبة محالف محارب
في مقنب من هذه المقانب ... فليكن المسلوب غير السالب
وليكن المغلوب غير الغالب
ـــــــ
وقياسه أن يكون على فعول بفتح الفاء كتنوم وشبوط وبابه ولكن حافظوا على الضمتين ليسلم لفظ القدس والسبحات وسبحان الله يستشعر المتكلم بهذين الاسمين معنى القدس، ومعنى سبحان من أول وهلة ولما ذكرناه كثيرة نظائر يخرجنا إيرادها عن الغرض.

(5/76)


قال ابن هشام: قوله فليكن المسلوب وقوله ولكن المغلوب عن غير واحد من الرواة للشعر.
نزول قريش بالعدوة والمسلمين ببدر:
قال ابن إسحاق: ومضت قريش حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادي، خلف العقنقل وبطن الوادي، وهو يليل، بين بدر وبين العقنقل، الكثيب الذي خلفه قريش، والقلب ببدر في العدوة الدنيا من بطن يليل إلى المدينة . وبعث الله السماء وكان الودي دهسا، فأصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه منها ما لبد لهم الأرض ولم يمنعهم عن السير وأصاب قريشا منها ما لم يقدروا على أن يرتحلوا معه. فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يبادرهم إلى الماء حتى إذا جاء أدنى ماء من بدر نزل به.
مشورة الحباب على رسول الله صلى الله عليه وسلم:
<63> قال ابن إسحاق: فحدثت عن رجال من بني سلمة أنهم ذكروا: أن الحباب بن المنذر بن الجموح قال يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلا أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه ولا نتأخر عنه أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ قال "بل هو الرأي والحرب والمكيدة" فقال يا رسول الله فإن هذا ليس بمنزل فانهض بالناس حتى نأتي أدنى ماء من القوم، فننزله ثم نعور ما وراءه من القلب ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " لقد أشرت بالرأي" . فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من الناس فسار حتى إذا أتى أدنى ماء
ـــــــ
تفسير كلمات
<62> وذكر قول أبي جهل قم فانشد خفرتك أي اطلب من قريش الوفاء بخفرتهم لك، لأنه كان حليفا لهم وجارا، يقال: خفرت الرجل خفرة إذا أجرته، والخفير. المجير.
قال [عدي بن زيد] العبادي.
من رأيت الأيام خلدن أم من ... ذا عليه من أن يضام خفير

(5/77)


من القوم نزل عليه ثم أمر بالقلب فعورت وبنى حوضا على القليب الذي نزل عليه فملئ ماء ثم قذفوا فيه الآنية.
بناء العريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم
قال ابن إسحاق: فحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث أن سعد بن معاذ قال يا نبي الله ألا نبني لك عريشا تكون فيه نعد عندك ركائبك، ثم نلقى عدونا، فإن أعزنا الله وأظهرنا على عدونا، كان ذلك ما أحببنا، وإن كانت الأخرى، جلست على ركائبك، فلحقت بمن وراءنا، فقد تخلف عنك أقوام يا نبي الله ما نحن بأشد لك حبا منهم ولو ظنوا أنك تلقى حربا ما تخلفوا عنك، يمنعك الله بهم يناصحونك ويجاهدون معك: فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا، ودعا له بخير. ثم بني لرسول الله صلى الله عليه وسلم عريش فكان فيه.
ارتحال قريش:
قال ابن إسحاق: وقد ارتحلت قريش حين أصبحت فأقبلت فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم تصوب من العقنقل ، - وهو الكثيب الذي جاءوا منه إلى الوادي - قال اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها، تحادك وتكذب رسولك، اللهم فنصرك الذي وعدتني، اللهم أحنهم الغداة .
وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "وقد" رأى عتبة بن ربيعة في القوم على جمل له أحمر – "إن يكن في أحد من القوم خير فعند صاحب الجمل الأحمر إن يطيعوه يرشدوا".
<64> وقد كان خفاف بن أيماء بن رحضة الغفاري، أو أبوه أيماء بن رحضة الغفاري، بعث إلى قريش، حين مروا به ابنا له بجزائره أهداها لهم وقال إن أحببتم أن
ـــــــ
<63> وقوله حقبت الحرب يقال حقب الأمر إذا اشتد وضاقت فيه المسالك وهو مستعار من حقب البعير إذا اشتد عليه الحقب وهو الحزام الأسفل وراغ حتى يبلغ ثيله فضاق عليه مسلك البول

(5/78)


نمدكم بسلاح ورجال فعلنا . قال فأرسلوا إليه مع ابنه أن وصلتك رحم قد قضيت الذي عليك، فلعمري لئن كنا إنما نقاتل الناس فما بنا من ضعف عنهم ولئن كنا إنما نقاتل الله كما يزعم محمد فما لأحد بالله من طاقة.
إسلام ابن حزام:
فلما نزل الناس أقبل نفر من قريش حتى وردوا حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم حكيم بن حزام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعوهم" . فما شرب منه رجل يومئذ إلا قتل إلا ما كان من حكيم بن حزام، فإنه لم يقتل ثم أسلم بعد ذلك فحسن إسلامه. فكان إذا اجتهد في يمينه قال لا والذي نجاني من يوم بدر.
شاور قريش في الرجوع عن القتال:
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار وغيره من أهل العلم عن أشياخ من الأنصار، قالوا: لما اطمأن القوم بعثوا عمير بن وهب الجمحي فقالوا: احزر لنا أصحاب محمد قال فاستجال بفرسه حول العسكر ثم رجع إليهم فقال ثلاث مائة رجل يزيدون قليلا أو ينقصون ولكن أمهلوني حتى أنظر أللقوم كمين أو مدد؟ قال فضرب في الوادي حتى أبعد فلم ير شيئا، فرجع إليهم فقال ما وجدت شيئا، ولكني قد رأيت، يا معشر قريش، البلايا تحمل المنايا، نواضح يثرب تحمل الموت الناقع قوم ليس معهم منعة ولا ملجأ إلا سيوفهم والله ما أرى أن يقتل رجل منهم حتى يقتل رجلا منكم فإذا أصابوا منكم أعدادهم فما خير العيش بعد ذلك؟ فروا رأيكم.
ـــــــ
<64> وقول عتبة في أبي جهل سيعلم مصفر استه من انتفخ سحره. السحر والسحر الرئة والسحر أيضا بفتح الحاء وهو قياس من كل اسم على فعل إذا كان عين الفعل حرف حلق أن يجوز فيه الفتح فيقال في الدهر الدهر وفي

(5/79)


فلما سمع حكيم بن حزام ذلك مشى في الناس فأتى عتبة بن ربيعة، فقال يا أبا الوليد إنك كبير قريش وسيدها، والمطاع فيها، هل لك إلى أن لا تزال تذكر فيها بخير إلى آخر الدهر؟ قال وما ذاك يا حكيم؟ قال ترجع بالناس وتحمل أمر حليفك عمرو بن الحضرمي، قال قد فعلت، أنت علي بذلك إنما هو حليفي، فعلي عقله وما أصيب من ماله فأت ابن الحنظلية.
<65> قال ابن هشام: والحنظلية أم أبي جهل هي أسماء بنت مخربة أحد بني نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم - فإني لا أخشى أن يشجر أمر الناس غيره يعني أبا جهل بن هشام. ثم قام عتبة بن ربيعة خطيبا، فقال يا معشر قريش، إنكم والله ما تصنعون بأن تلقوا محمدا وأصحابه شيئا، والله لئن أصبتموه لا يزال الرجل ينظر في وجه رجل يكره النظر إليه قتل ابن عمه أو ابن خاله أو رجلا من عشيرته فارجعوا وخلوا بين محمد وبين سائر العرب، فإن أصابوا فذاك الذي أردتم وإن كان غير ألفاكم ولم تعرضوا منه ما تريدون.
قال حكيم فانطلقت حتى جئت أبا جهل وجدته قد نثل درعا له من جرابها، فهو يهنئها قال ابن هشام: يهيئها - فقلت له يا أبا الحكم إن عتبة أرسلني إليك بكذا وكذا، للذي قال فقال انتفخ والله سحره حين رأى محمدا وأصحابه كلا والله لا نرجع حتى يحكم الله بيننا وبين محمد وما بعتبة ما قال ولكنه قد رأى أن محمدا وأصحابه أكلة جزور وفيهم ابنه فقد تخوفكم عليه. ثم بعث إلى عامر بن الحضرمي، فقال هذا حليفك يريد أن يرجع بالناس وقد رأيت ثأرك بعينك، فقم فأنشد خفرتك ومقتل أخيك.
فقام عامر بن الحضرمي فاكتشف ثم صرخ وا عمراه وا عمراه. فحميت
ـــــــ
اللحم اللحم حتى قالوا في النحو النحو ذكرها ابن جني، ولم يعتمدوا على هذا التحريك الذي من أجل حرف الحلق لما كان لعلة فلم يقلبوا الواو من أجله ألفا حين قالوا: النحو والزهد ولو اعتدوا بالفتحة لقلبوا الواو <65> ألفا، كما لم

(5/80)


الحرب وحقب الناس واستوسقوا على ما هم عليه من الشر وأفسد على الناس الرأي الذي دعاهم إليه عتبة.
فلما بلغ عتبة قول أبي جهل " انتفخ والله سحره "، قال سيعلم مصفر استه من انتقخ سحره أنا أم هو؟.
قال ابن هشام: السحر الرئة وما حولها مما يعلق بالحلقوم من فوق السرة. وما كان تحت السرة فهو القصب ومنه قوله رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار قال ابن هشام: حدثني بذلك أبو عبيدة.
<66> ثم التمس عتبة بيضة ليدخلها في رأسه فما وجد في الجيش بيضة تسعه من عظم هامته فلما رأى ذلك اعتجر على رأسه ببرد له.
مقتل الأسود المخزومي
قال ابن إسحاق: وقد خرج الأسود بن عبد الأسد المخزومي، وكان رجلا شرسا سيئ الخلق فقال أعاهد الله لأشربن من حوضهم أو لأهدمنه أو لأموتن دونه فلما خرج خرج إليه حمزة بن عبد المطلب، فلما التقيا ضربه حمزة فأطن قدمه بنصف ساقه وهو دون الحوض فوقع على ظهره تشخب رجله دما نحو أصحابه ثم حبا إلى الحوض حتى اقتحم فيه يريد "زعم" - أن يبر يمينه وأتبعه حمزة فضربه حتى قتله في الحوض.
دعاء عتبة إلى المبارزة
قال ثم خرج بعد عتبة بن ربيعة، بين أخيه شيبة بن ربيعة وابنه الوليد بن عتبة،
ـــــــ
يعتدوا بها في: يهب ويضع إذ كان الفتح فيه من أجل حرف الحلق ولو اعتدوا به لردوا الواو فقالوا: يوضع ويوهب كما قالوا: يوجل.
من قائل أبي عذرها وما داء أبي جهل
<66> وقوله مصفر استه كلمة لم يخترعها عتبة ولا هو بأبي عذرها، قد قيلت

(5/81)


حتى إذا فصل من الصف دعا إلى المبارزة فخرج إليه فتية من الأنصار ثلاثة وهم عوف ومعوذ ابنا الحارث - وأمهما عفراء - ورجل آخر يقال هو عبد الله بن رواحة، فقالوا: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار، قالوا: ما لنا بكم من حاجة ثم نادى مناديهم يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة وقم يا علي" فلما قاموا دنوا منهم قالوا: من أنتم؟ قال عبيدة عبيدة وقال حمزة حمزة وقال علي: علي، قالوا: نعم أكفاء كرام. فبارز عبيدة <67> وكان أسن القوم عتبة "بن" ربيعة، وبارز حمزة شيبة بن ربيعة، وبارز علي الوليد بن عتبة. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله؟ وأما علي فلم يمهل الوليد أن قتله واختلف عبيدة وعتبة بينهما ضربتين كلاهما أثبت صاحبه وكر حمزة وعلي بأسيافهما على عتبة فذففا عليه واحتملا صاحبهما فحازاه إلى أصحابه.
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عتبة بن ربيعة قال للفتية من الأنصار، حين انتسبوا: أكفاء كرام إنما نريد قومنا.
ـــــــ
قبله لقابوس بن النعمان أو لقابوس بن المنذر لأنه كان مرفها لا يغزو في الحروب فقيل له مصفر استه يريدون صفرة الخلوق والطيب وقد قال هذه الكلمة قيس بن زهير في حذيفة يوم الهباءة، ولم يقل أحد إن حذيفة كان مستوها، فإذا لا يصح قول من قال في أبي جهل من قول عتبة فيه هذه الكلمة إنه كان مستوها والله أعلم.
وسادة العرب لا تستعمل الخلوق والطيب إلا في الدعة والخفض وتعيبه في الحرب أشد العيب وأحسب أن أبا جهل لما سلمت العير وأراد أن ينحر الجزور ويشرب الخمر ببدر وتعزف عليه القيان بها استعمل الطيب أو هم به فلذلك قال له عتبة هذه المقالة ألا ترى إلى قول الشاعر في بني مخزوم
ومن جهل أبو جهل أخوكم
غزا بدرا بمجمرة وتور

(5/82)


التقاء الفريقين
قال ابن إسحاق: ثم تزاحف الناس ودنا بعضهم من بعض وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن لا يحملوا حتى يأمرهم وقال إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنبل ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش معه أبو بكر الصديق.
فكانت وقعة بدر يوم الجمعة صبيحة سبع عشرة من شهر رمضان.
قال ابن إسحاق: كما حدثني أبو جعفر محمد بن علي بن الحسين.
ابن غزية وضرب الرسول له في بطنه بالقدح
قال ابن إسحاق: وحدثني حبان بن واسع بن حبان عن أشياخ من قومه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عدل صفوف أصحابه يوم بدر وفي يده قدح يعدل به القوم فمر بسواد بن غزية حليف بني عدي بن النجار - قال ابن هشام: يقال سواد مثقلة وسواد في الأنصار غير هذا، مخفف - وهو مستنتل من الصف - قال ابن هشام: ويقال مستنصل <68> من الصف - فطعن في بطنه بالقدح وقال استو يا سواد، فقال يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل قال "فأقدني" فكشف رسول
ـــــــ
<67> يريد أنه تبخر وتطيب في الحرب.
وقوله مصفر استه إنما أراد مصفر بدنه ولكنه قصد المبالغة في الذم فخص منه بالذكر ما يسوءه أن يذكر.
حول سواد بني غزية
فصل
وذكر قصة سواد بن غزية حين مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مستنتل أمام الصف قال ابن هشام: ويقال مستنصل. قوله مستنتل أمام الصف يقال استنتلت واستنصلت وابرنذعت وابرنتيت بالراء المهملة وبالزاي هكذا تقيد في

(5/83)


الله صلى الله عليه وسلم عن بطنه وقال استقد قال فاعتنقه فقبل بطنه فقال "ما حملك على هذا يا سواد "؟ قال يا رسول الله حضر ما ترى، فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقاله له
مناشدة الرسول ربه النصر
قال ابن إسحاق: ثم عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم الصفوف ورجع إلى العريش فدخله ومعه فيه أبو بكر الصديق، ليس معه فيه غيره ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناشد ربه ما وعده من النصر ويقول فيما يقول "اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد" وأبو بكر يقول يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك. <69> <70> وقد
ـــــــ
الغريب المصنف كل هذا إذا تقدمت. سواد هذا بتخفيف الواو وكل سواد في العرب، فكذلك بتخفيف الواو <68> وفتح السين إلا عمرو بن سواد أحد بني عامر بن لؤي من شيوخ الحديث وسواد بضم السين وتخفيف الواو هو ابن مري بن إراشة بن قضاعة ثم من بلي حلفاء الأنصار، ووقع في الأصل من كلام ابن هشام سواد مثقلة ابن غزية إنما الصواب ما تقدم وسواد هذا هو عامل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على خيبر الذي جاءه بتمر جنيب ذكره مالك في الموطأ ولم يسمه.
وقول ابن هشام: مستنصل معناه خارج من الصف من قولك: نصيت الرمح إذا أخرجت ثعلبة من السنان.
تفسير بعض مناشدتك
وذكر قول أبي بكر كفاك مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك، رواه

(5/84)


ـــــــ
غير ابن إسحاق كذلك مناشدتك، وفسره قاسم في الدلائل فقال كذلك قد يراد بها معنى الإغراء والأمر بالكف عن الفعل وأنشد لجرير
[تقول وقد ترامحت المطايا] ... كذاك القول إن عليك عينا
<69> أي حسبك من القول فدعه وفي البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأنجشة " يا أنجشة رويدك سوقك بالقوارير وأورده مرة أخرى فقال فيه شوفك وإنما دخله معنى النصب كما دخل عليك زيدا معنى النصب وفي دونك، لأنك إذا قلت دونك زيدا وهو يطلبه فقد أعلمته بمكانه فكأنك قلت: خذه ومسألة كذاك من هذا الباب لأنك إذا قلت: كذاك القول أو السير فكأنك قلت: كذاك أمرت فاكفف ودع فاصل البابين واحد وهو ظرف بعده ابتداء وهو خبر يتضمن معنى الأمر أو الإغراء بالشيء أو تركه فنصبوا بما في ضمن الكلام وحسن ذلك حيث لم يعدلوا عن عامل لفظي إلى معنوي وإنما عدلوا عن معنوي إلى معنوي ولو أنهم حين قالوا: دونك زيدا يلفظون بالفعل فيقولون استقر دونك زيد وهم يريدون الإغراء به والأمر بأخذه لما جاز النصب بوجه لأن الفعل ظاهر لفظي، فهو أقوى من المعنوي.
معنى مناشدة أبي بكر
فصل وفي هذا الحديث من المعاني أن يقال كيف جعل أبو بكر يأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالكف عن الاجتهاد في الدعاء ويقوي رجاءه ويثبته ومقام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - هو المقام الأحمد ويقينه فوق يقين كل أحد، فسمعت شيخنا

(5/85)


خفق رسول الله صلى الله عليه وسلم خفقة وهو في العريش ثم انتبه فقال " أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله هذا جبريل آخذ بعنان فرس يقوده على ثناياه النقع
ـــــــ
الحافظ - رحمه الله - يقول في هذا: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في مقام الخوف وكان صاحبه في مقام الرجاء وكلا، المقامين سواء في الفضل لا يريد أن النبي والصديق سواء ولكن الرجاء والخوف مقامان لا بد للإيمان منهما، فأبو بكر كان في تلك الساعة في مقام الرجاء لله والنبي عليه السلام كان في مقام الخوف من الله لأن لله أن يفعل ما شاء فخاف أن لا يعبد الله في الأرض بعدها، فخوفه ذلك عبادة. وأما قاسم بن ثابت فذهب في معنى الحديث إلى غير هذا، وقال إنما قال ذلك الصديق مأوية للنبي عليه السلام ورقة عليه لما رأى من نصبه في الدعاء والتضرع حتى سقط الرداء عن منكبيه فقال له بعض هذا يا رسول الله أي لم تتعب نفسك هذا التعب والله قد وعدك بالنصر وكان رقيق القلب شديد الإشفاق على النبي صلى الله عليه وسلم. <70>
جهاد النبي في المعركة
قال المؤلف وأما شدة اجتهاد النبي صلى الله عليه وسلم ونصبه في الدعاء فإنه رأى الملائكة تنصب في القتال وجبريل على ثناياه الغبار وأنصار الله يخوضون غمار الموت. والجهاد على ضربين جهاد بالسيف وجهاد بالدعاء ومن سنة الإمام أن يكون من وراء الجند لا يقاتل معهم فكان الكل في اجتهاد وجد ولم يكن ليريح نفسه من أحد الجدين والجهادين وأنصار الله وملائكته يجتهدون ولا ليؤثر الدعة وحزب الله مع أعدائه يجتلدون.

(5/86)


ـــــــ
المفاعلة
وقوله كفاك مناشدتك ربك، والمفاعلة لا تكون إلا من اثنين والرب لا ينشد عبده فإنما ذلك لأنها مناجاة للرب ومحاولة لأمر يريده فلذلك جاءت على بناء المفاعلة ولا بد في هذا الباب من فعلين لفاعلين إما متفقين في اللفظ وإما متفقين في المعنى، وظن أكثر أهل اللغة أنها قد تكون من واحد نحو عاقبت العبد وطارقت النعل وسافرت، وعافاه الله فنقول أما عاقبت العبد فهي معاملة بينك وبينه عاملك بالذنب وعاملته بالعقوبة فأخذ لفظها من العقوبة ووزنها من المعاونة وأما طارقت النعل فمن الطرق وهو الفوه فقد قويتها وقوتك على المشي فلفظها من الطرق وبناؤها على وزن المعاونة والمقاواة فهذا اتفاق في المعنى، وإن لم يكن في اللفظ وأما سافر الرجل فمن سفرت: إذا كشفت عن وجهك، فقد سفر لقوم وسفروا له فهذه موافقة في اللفظ والمعنى، وأما المعافاة فإن السيد يعفي عبده من بلاء فيعفي العبد سيده من الشكوى والإلحاح فهذه موافقة في اللفظ ثم تضاف إلى الله سبحانه اتساعا في الكلام ومجازا حسنا.
عصب وعصم
فصل وذكر قول النبي - صلى الله عليه وسلم - هذا جبريل على ثناياه النقع وهو الغبار وفي حديث آخر أنه قال رأيته على فرس له شقراء، وعليه عمامة حمراء، وقد عصم بثنيته الغبار قال ابن قتيبة: عصم وعصب بمعنى واحد يقال عصب الريق بفيه إذا يبس وأنشد:

(5/87)


مقتل مهجع وابن سراقة:
<71> قال ابن إسحاق: وقد رمي مهجع مولى عمر بن الخطاب بسهم فقتل فكان أول قتيل من المسلمين ثم رمي حارثة بن سراقة أحد بني عدي بن النجار، وهو يشرب من الحوض بسهم فأصاب نحره فقتل.
تحريض المسلمين على القتال
قال ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الناس فحرضهم وقال والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا، مقبلا غير مدبر إلا أدخله الله الجنة . فقال عمير بن الحمام، أخو بني سلمة، وفي يده تمرات يأكلهن بخ بخ أفما بيني وبين أن أدخل الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء؟ ثم قذف التمرات من يده وأخذ سيفه فقاتل القوم حتى قتل .
ـــــــ
يعصب فاه الريق أي عصب ... عصب الجباب بشفاه الوطب
وخالفه قاسم بن ثابت وقال هو عصم من العصيم والعصم وهي كالبقية تبقى في اليد وغيرها من لطخ حناء أو عرق أو شيء يلصق بالعضد كما قالت <71> امرأة من العرب لأخرى: أعطني عصم حنائك، أي ما سلتت من حنائها، وقشرته من يدها.
حديث عمير بن الحمام
فصل: وذكر حديث عمير بن الحمام بن الجموح بن زيد بن حرام حين ألقى التمرات من يده وقال بخ بخ وهي كلمة معناها التعجب وفيها لغات بخ بسكون الخاء وبكسرها مع التنوين وبتشديدها منونة وغير منونة وفي حديث مسلم والبخاري: أن هذه القصة كانت أيضا يوم أحد لكنه لم يسم فيها عميرا، ولا غيره فالله أعلم.

(5/88)


قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن عوف بن الحارث، وهو ابن عفراء قال يا رسول الله ما يضحك الرب من عبده قال غمسه يده في العدو حاسرا. فنزع درعا كانت عليه فقذفها، ثم أخذ سيفه فقاتل حتى قتل
استفتاح أبي جهل بالدعاء:
<72> قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن عبد الله بن ثعلبة بن صعير العذري، حليف بني زهرة، أنه حدثه أنه لما التقى الناس ودنا
ـــــــ
حديث عوف بن عفراء
وقول عوف ابن عفراء: ما يضحك الرب من عبده يا رسول الله؟ قد قيل في عوف عوذ بالذال المنقوطة ويقوي هذا القول أن أخويه معاذ ومعوذ. <72>
ضحك الرب
ويضحك الرب أي يرضيه غاية الرضى، وحقيقته أنه رضى معه تبشير وإظهار كرامة وذلك أن الضحك مضاد للغضب وقد يغضب السيد ولكنه يعفو ويبقي العتب فإذا رضي فذلك أكثر من العفو فإذا ضحك فذلك غاية الرضى، إذ قد يرضى ولا يظهر ما في نفسه من الرضى، فعبر عن الرضى وإظهاره بالضحك في حق الرب سبحانه مجازا وبلاغة وتضمينا لهذه المعاني في لفظ وجيز ولذلك قال عليه السلام في طلحة بن البراء "اللهم الق طلحة يضحك إليك، وتضحك إليه" فمعنى هذا: القه لقاء متحابين مظهرين لما في أنفسهما من رضى، ومحبة فإذا قيل ضحك الرب لفلان فهي كلمة وجيزة تتضمن رضى مع محبة وإظهار بشر وكرامة لا مزيد عليهما، فهي من جوامع الكلم التي أوتيها عليه السلام.

(5/89)


بعضهم من بعض قال أبو جهل بن هشام: اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا يعرف فأحنه الغداة فكان هو المستفتح.
<73> رمي الرسول للمشركين بالحصباء
<73> قال ابن إسحاق: ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل قريشا بها، ثم قال "شاهت الوجوه" ، ثم نفحهم بها، وأمر أصحابه فقال "شدوا" ، فكانت الهزيمة فقتل الله تعالى من قتل من صناديد قريش، وأسر من أسر من أشرافهم. فلما وضع القوم أيديهم يأسرون ورسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش وسعد بن معاذ قائم على باب العريش الذي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم متوشحا السيف في نفر من الأنصار يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم يخافون عليه كرة العدو ورأى رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما ذكر لي - في وجه سعد بن معاذ الكراهية لما يصنع الناس فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم "والله لكأنك يا سعد تكره ما يصنع القوم" ، قال أجل والله يا رسول الله كانت أول وقعة أوقعها الله بأهل الشرك. فكان الإثخان في القتل بأهل الشرك أحب إلي من استبقاء الرجال
نهي النبي أصحابه عن قتل ناس من المشركين:
قال ابن إسحاق: وحدثني العباس بن عبد الله بن معبد، عن بعض أهله عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يومئذ "إني قد عرفت أن رجالا من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرها، لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحدا من بني هاشم فلا يقتله ومن لقي أبا البختري بن هشام بن الحارث بن أسد فلا يقتله ومن لقي العباس بن عبد المطلب، عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يقتله فإنه إنما أخرج مستكرها" قال فقال أبو حذيفة أنقتل أباءنا وأبناءنا وإخوتنا وعشيرتنا. ونترك العباس والله لئن لقيته لألجمنه السيف - قال ابن هشام: ويقال لألجمنه "السيف" - قال فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لعمر بن الخطاب: " يا أبا حفص " - قال عمر والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي حفص – "أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف" ؟ فقال عمر يا رسول الله دعني فلأضرب عنقه بالسيف فوالله لقد

(5/90)


نافق. فكان أبو حذيفة يقول ما أنا بآمن من تلك الكلمة التي قلت يومئذ ولا أزال منها خائفا، إلا أن تكفرها عني الشهادة. فقتل يوم اليمامة شهيدا.
قال ابن إسحاق: وإنما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل أبي البختري لأنه كان أكف القوم عن رسول الله جميعا وهو بمكة وكان لا يؤذيه ولا يبلغه عنه شيء يكرهه وكان ممن قام في نقض الصحيفة التي كتبت قريش على بني هاشم وبني المطلب. فلقيه المجذر بن ذياد البلوي، حليف الأنصار، ثم من بني سالم بن عوف، فقال المجذر لأبي البختري <74> إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد نهانا عن قتلك - ومع أبي البختري زميل له قد خرج معه من مكة ، وهو جنادة بن مليحة بنت زهير بن الحارث بن أسد: وجنادة رجل من بني ليث. واسم أبي البختري العاص - قال وزميلي؟ فقال له المجذر لا والله ما نحن بتاركي زميلك، ما أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بك وحدك؟ فقال لا والله إذن لأموتن أنا وهو جميعا، لا تتحدث عني نساء مكة أني تركت زميلي حرصا على الحياة. فقال أبو البختري حين نازله المجذر وأبى إلا القتال يرتجز
لن يسلم ابن حرة زميله ... حتى يموت أو يرى سبيله
فاقتتلا، فقتله المجذر بن ذياد. وقال المجذر بن ذياد في قتله أبا البختري
إما جهلت أو نسيت نسبي ... فأثبت النسبة أني من بلي
الطاعنين برماح اليزني ... والضاربين الكبش حتى ينحني
ـــــــ
شرح كلام أبي البختري والمجذر
فصل <74> وقول أبي البختري أنا وزميل. الزميل الرديف ومنه ازدمل الرجل بحمله إذا ألقاه على ظهره وفي مسند الحارث عن ابن مسعود قال كنا نتعاقب يوم بدر ثلاثة على بعير فكان علي وأبو لبابة زميلي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كانت عقبته - عليه السلام - قالا له اركب ولنمش عنك يا رسول الله فيقول ما أنتما بأقوى على المشي مني، ولا أنا بأغنى عن الأجر منكما

(5/91)


بشر بيتم من أبوه البختري ... أو بشرن بمثلها مني بني
أنا الذي يقال أصلي من بلي ... أطعن بالصعدة حتى تنثني
وأغبط القرن بعضب مشرفي ... أرزم للموت كإرزام المري
فلا ترى مجذرا يفري فري
قال ابن هشام: " المري " عن غير ابن إسحاق. والمري: الناقة التي يستنزل لبنها على عسر.
<75> قال ابن إسحاق: ثم إن المجذر أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال والذي بعثك بالحق لقد جهدت عليك أن يستأسر فآتيك به "فأبى" إلا أن يقاتلني، فقاتلته فقتلته.
قال ابن هشام: أبو البختري العاص بن هشام بن الحارث بن أسد
مقتل أمية بن خلف
قال ابن إسحاق: حدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه قال ابن إسحاق: وحدثنيه أيضا عبد الله بن أبي بكر وغيرهما، عن عبد الرحمن بن عوف قال كان أمية بن خلف لي صديقا بمكة وكان اسمي عبد عمرو، فتسميت، حين أسلمت، عبد الرحمن ونحن بمكة فكان يلقاني إذ نحن بمكة فيقول يا عبد عمرو، أرغبت عن اسم سماكه أبواك؟ فأقول نعم فيقول فإني لا أعرف الرحمن فاجعل بيني وبينك شيئا أدعوك به أما أنت فلا تجيبني باسمك الأول وأما أنا فلا أدعوك بما لا أعرف قال فكان إذا دعاني: يا عبد عمرو، لم أجبه. قال فقلت له يا أبا علي اجعل ما شئت، قال فأنت عبد الإله قال فقلت: نعم قال فكنت إذا مررت به قال يا عبد الإله فأجيبه فأتحدث معه. حتى إذا كان يوم بدر مررت به وهو واقف
ـــــــ
وقول المجذر كإرزام المري. المري: الناقة تمرى للحلب أي تمسح أخلافها. وإرزامها: صوتها وهدرها، وقد تقدم الفرق بين أرزمت ورزمت. <75>

(5/92)


مع ابنه علي بن أمية أخذ بيده ومعي أدراع قد استلبتها، فأنا أحملها. فلما رآني قال لي: يا عبد عمرو، فلم أجبه فقال يا عبد الإله؟ فقلت: نعم قال هل لك في، فأنا خير لك من هذه الأدراع التي معك؟ قال قلت: نعم ها الله ذا، قال فطرحت الأدراع من يدي، وأخذت بيده ويد ابنه وهو يقول ما رأيت كاليوم قط، أما لكم حاجة في اللبن؟ "قال": ثم خرجت أمشي بهما
قال ابن هشام: يريد باللبن أن من أسرني افتديت منه بإبل كثيرة اللبن.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الواحد بن أبي عون عن سعد بن إبراهيم عن أبيه عبد الرحمن بن عوف، قال قال لي أمية بن خلف، وأنا بينه وبين ابنه آخذ بأيديهما: يا عبد الإله من الرجل منكم المعلم بريشة نعامة في صدره؟ قال قلت: ذاك حمزة بن عبد المطلب قال ذاك الذي فعل بنا الأفاعيل قال عبد الرحمن فوالله إني لأقودهما إذ رآه بلال معي - وكان هو الذي يعذب بلالا بمكة على ترك الإسلام فيخرجه إلى رمضاء مكة إذا حميت فيضجعه على ظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره ثم يقول لا تزال هكذا أو تفارق دين محمد فيقول <76> بلال أحد أحد. قال فلما رآه قال رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال قلت: أي بلال أبأسيري قال لا نجوت إن نجا. قال قلت: أتسمع يا ابن السوداء قال لا نجوت إن نجا. قال ثم صرخ بأعلى صوته يا أنصار الله رأس الكفر أمية بن خلف، لا نجوت إن نجا. قال فأحاطوا بنا حتى جعلونا في مثل المسكة وأنا أذب عنه. قال فأخلف رجل السيف فضرب رجل ابنه فوقع وصاح أمية صيحة ما سمعت مثلها قط قال فقلت: انج بنفسك، ولا نجاء بك فوالله ما أغني عنك شيئا. قال فهبروهما بأسيافهم حتى فرغوا منهما. قال فكان عبد الرحمن يقول يرحم الله بلالا، ذهبت أدراعي وفجعني بأسيري.
ـــــــ
تفسير ها الله وهبروه
<76> وقول عبد الرحمن بن عوف لأمية ها الله ذا. ها: تنبيه وذا إشارة إلى نفسه وقال بعضهم إلى القسم أي هذا قسمي، وأراها إشارة إلى المقسم

(5/93)


شهود الملائكة وقعة بدر:
<77> قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أنه حدث عن ابن عباس قال حدثني رجل من بني غفار، قال أقبلت أنا وابن عم لي حتى أصعدنا في جبل يشرف بنا على بدر ونحن مشركان ننتظر الوقعة على من تكون الدبرة. فننتهب مع من ينتهب. قال فبينا نحن في الجبل إذ دنت منا سحابة فسمعنا فيها حمحمة الخيل فسمعت قائلا يقول اقدم حيزوم فأما ابن عمي فانكشف قناع قلبه فمات مكانه وأما أنا فكدت أهلك ثم تماسكت
ـــــــ
وخفض اسم الله بحرف القسم أضمره وقام التنبيه مقامه كما يقوم الاستفهام مقامه فكأنه قال ها أنا ذا مقسم، وفصل بالاسم المقسم به بين ها وذا، فعلم أنه هو المقسم فاستغني عن أنا، وكذلك قول أبي بكر لاها الله ذا، وقول زهيرة
تعلمن ها لعمر الله ذا قسما
أكد بالمصدر قسمه الذي دل عليه لفظه المتقدم.
وقوله هبروه بأسيافهم من الهبرة وهي القطعة العظيمة من اللحم أي قطعوه.
<77> وذكر قول الغفاري حين سمع حمحمة الخيل في السحابة وسمع قائلا يقول اقدم حيزوم. اقدم بضم الدال أي اقدم الخيل وهو اسم فرس جبريل وهو فيعول من الحزم والحيزوم أيضا أعلى الصدر فيجوز أن يكون أيضا سمي به لأنه صدر لخيل الملائكة ومتقدم عليها، والحياة أيضا فرس أخرى لجبريل لا تمس شيئا إلا حيي وهي التي قبض من أثرها السامري، فألقاها في العجل الذي صاغه من ذهب فكان له خوار ذكره الزجاج.

(5/94)


قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، عن بعض بني ساعدة عن أبي أسيد مالك بن ربيعة، وكان شهد بدرا، قال بعد أن ذهب بصره لو كنت اليوم ببدر ومعي بصري لأريتكم الشعب الذي خرجت منه الملائكة لا أشك فيه ولا أتمارى
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يسار، عن رجال من بني مازن بن النجار، عن أبي داود المازني، وكان شهد بدرا، قال إني لأتبع رجلا من المشركين يوم بدر لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي، فعرفت أنه قد قتله غيري
<78> قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم، مولى عبد الله بن الحارث، عن عبد الله بن عباس، قال كانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرسلوها على ظهورهم ويوم حنين عمائم حمرا
قال ابن هشام: وحدثني بعض أهل العلم أن علي بن أبي طالب قال العمائم تيجان العرب، وكانت سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيضا قد أرخوها على ظهورهم إلا جبريل فإنه كانت عليه عمامة صفراء
قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن مقسم، عن ابن عباس، قال ولم تقاتل الملائكة في يوم سوى بدر من الأيام وكانوا يكونون فيما سواه من الأيام عددا ومددا لا يضربون
ـــــــ
نسب أبي داود المازني
فصل وذكر أبا داود المازني وقوله لقد أتبعت رجلا من المشركين فسقط رأسه قبل أن أصل إليه. اسم أبي داود هذا عمرو، وقيل عمير بن عامر وهذا هو الذي قتل أبا البختري بن هشام وأخذ سيفه في قول طائفة عن أهل السير غير

(5/95)


مقتل أبي جهل
قال ابن إسحاق: وأقبل أبو جهل يومئذ يرتجز وهو يقاتل ويقول
ما تنقم الحرب العوان مني
... بازل عامين حديث سني
لمثل هذا ولدتني أمي
شعار المسلمين ببدر
قال ابن هشام: وكان شعار أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر أحد أحد. <79>
ـــــــ
ابن إسحاق وقال ابن إسحاق قتله المجذر كما تقدم.
لغويات
<78> وقول معاذ بن عمرو في مقتل أبي جهل ما شبهت رجله حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت المرضخة. طاحت ذهبت ولا يكون إلا ذهاب هلاك والمرضخة. كالإرزبة يدق بها النوى للعلف والرضخ بالحاء مهملة كسر اليابس والرضخ كسر الرطب ووقع في أصل الشيخ المرضخة بالحاء والخاء معا، ويدل على أنه كسر لما صلب وأنشد قول الطائي
أترضحني رضح النوى وهي مصمت ... ويأكلني أكل الدبا وهو جائع
<79> وإنما نحتج بقول الطائي وهو حبيب بن أوس لعلمه لا لأنه عربي يحتج بلغته.

(5/96)


عود إلى مقتل أبي جهل
قال ابن إسحاق: فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه أمر بأبي جهل أن يلتمس في القتلى.
وكان أول من لقي أبا جهل كما حدثني ثور بن يزيد عن عكرمة، عن ابن عباس، وعبد الله بن أبي بكر أيضا قد حدثني ذلك قالا: قال معاذ بن عمرو بن الجموح، أخو بني سلمة: سمعت القوم وأبو جهل في مثل الحرجة - قال ابن هشام: الحرجة الشجر الملتف.
وفي الحديث عن عمر بن الخطاب: أنه سأل أعرابيا عن الحرجة فقال هي شجرة من الأشجار لا يوصل إليها - وهم يقولون أبو الحكم لا يخلص إليه . قال فلما سمعتها جعلته من شأني، فصمدت نحوه فلما أمكنني حملت عليه فضربته ضربة أطنت قدمه بنصف ساقه فوالله ما شبهتها حين طاحت إلا بالنواة تطيح من تحت مرضخة النوى حين يضرب بها. قال وضربني ابنه عكرمة على عاتقي، فطرح يدي فتعلقت بجلدة من جنبي، وأجهضني القتال عنه فلقد قاتلت عامة يومي، وإني لأسحبها خلفي، فلما آذتني وضعت عليها قدمي، ثم تمطيت بها عليها حتى طرحتها.
قال ابن إسحاق: ثم عاش بعد ذلك حتى كان زمان عثمان.
ثم مر بأبي جهل وهو عقير معوذ ابن عفراء، فضربه حتى أثبته فتركه وبه
ـــــــ
الغلامان اللذان قتلا أبا جهل
وذكر الغلامين اللذين قتلا أبا جهل وأنهما معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء، وفي صحيح مسلم أنهما معاذ بن عفراء ومعاذ بن عمرو بن الجموح، وعفراء هي بنت عبيد بن ثعلبة بن عبيد بن ثعلبة بن غنم بن مالك بن النجار عرف بها بنو عفراء وأبوهم الحارث بن رفاعة بن سواد على اختلاف في

(5/97)


رمق. وقاتل معوذ حتى قتل فمر عبد الله بن مسعود بأبي جهل حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلتمس في القتلى، وقد قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني "<80> انظروا، إن خفي عليكم في القتلى، إلى أثر جرح في ركبته فإني ازدحمت يوما أنا وهو على مأدبة لعبد الله بن جدعان ونحن غلامان وكنت أشف منه بيسير فدفعته فوقع على ركبتيه فجحش في إحداهما جحشا لم يزل أثره به". قال عبد الله بن مسعود: فوجدته بآخر رمق فعرفته، فوضعت رجلي على عنقه - قال وقد كان ضبث بي مرة بمكة فآذاني ولكزني، ثم قلت له هل أخزاك الله يا عدو الله؟ قال وبماذا أخزاني، اعمد من رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة اليوم؟ قال قلت: لله ولرسوله
قال ابن هشام: ضبث قبض عليه ولزمه. قال ضابئ بن الحارث البرجمي:
فأصبحت مما كان بيني وبينكم ... من الود مثل الضابث الماء باليد
قال ابن هشام: ويقال أعار على رجل قتلتموه أخبرني لمن الدائرة اليوم؟
ـــــــ
ذلك ورواية ابن إدريس عن ابن إسحاق، كما في كتاب مسلم، قال أبو عمر وأصح من هذا كله حديث أنس حين قال النبي صلى الله عليه وسلم "من يأتيني بخبر أبي جهل" الحديث وفيه أن ابني عفراء قتلاه.
<80> وقول أبي جهل اعمد من رجل قتلتموه ويروى قتله قومه أي هل فوق رجل قتله قومه وهو معنى تفسير ابن هشام، حيث قال أي ليس عليه عار والأول تفسير أبي عبيد في غريب الحديث وقد [أنشد] شاهدا عليه
[تقدم قيس كل يوم كريهة ... ويثنى عليها في الرخاء ذنوبها]
وأعمد من قوم كفاهم أخوهم ... صدام الأعادي حين فلت نيوبها

(5/98)


قال ابن إسحاق: وزعم رجال من بني مخزوم، أن ابن مسعود كان يقول قال لي: لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم قال ثم احترزت رأسه ثم جئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله هذا رأس عدو الله أبي جهل قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "الله الذي لا إله غيره" قال وكانت يمين رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قلت: نعم والله الذي لا إله غيره ثم ألقيت رأسه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله.
<81> قال ابن هشام: وحدثني أبو عبيدة وغيره من أهل العلم بالمغازي: أن عمر بن الخطاب قال لسعيد بن العاص، ومر به إني أراك كأن في نفسك شيئا، أراك تظن أني
ـــــــ
قال المؤلف رضي الله عنه وهو عندي من قولهم عمد البعير يعمد إذا انفسخ سنامه فهلك أي أهلك من رجل قتله قومه وما ذكره ابن إسحاق من قول أبي جهل هذا، وما ذكروه أيضا من قوله لابن مسعود لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم. مرتقى صعبا يعارض ما وقع في سير ابن شهاب وفي مغازي ابن عقبة أن ابن مسعود وجده جالسا لا يتحرك ولا يتكلم فسلبه درعه فإذا في بدنه نكت سود فحل تسبغة البيضة وهو لا يتكلم واخترط سيفه يعني سيف أبي جهل فضرب به عنقه ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتمل رأسه إليه عن تلك النكت السود التي رآها في بدنه فأخبره عليه السلام "أن الملائكة قتلته وأن تلك آثار ضربات الملائكة" وروى يونس عن أبي العميس قال أراني القاسم بن عبد الرحمن سيف عبد الله بن مسعود، قال هذا سيف أبي جهل حين قتله <81> فأخذه فإذا سيف قصير عريض فيه قبائع فضة وحلق فضة قال أبو عميس فضرب به القاسم عنق ثور فقطعه وثلم فيه ثلما، فرأيت القاسم جزع من ثلمه جزعا شديدا.

(5/99)


قتلت أباك، إني لو قتلته لم أعتذر إليك من قتله ولكني قتلت خالي العاص بن هشام بن المغيرة، فأما أبوك فإني مررت وهو يبحث بحث الثور بروقه فحدت عنه وقصد له ابن عمه علي فقتله .
قصة سيف عكاشة
قال ابن إسحاق: <82> وقاتل عكاشة بن محصن بن حرثان الأسدي، حليف بني عبد شمس بن عبد مناف، يوم بدر بسيفه حتى انقطع في يده فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه
ـــــــ
إضمار حرف الجر
وقول النبي عليه السلام الله الذي لا إله إلا هو بالخفض عند سيبويه وغيره لأن الاستفهام عوض من الخافض عنده وإذا كنت مخيرا قلت: الله بالنصب لا يجيز المبرد غيره وأجاز سيبويه الخفض أيضا لأنه قسم وقد عرف أن المقسم به مخفوض بالباء أو بالواو ولا يجوز إضمار حروف الجر إلا في مثل هذا الموضع أو ما كثر استعماله جدا كما روي أن رؤبة كان يقول إذا قيل له كيف أصبحت؟ خير عافاك الله.
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في أبي جهل حين ذكر مزاحمته له في مأدبة عبد الله بن جدعان، وقد تقدم في المولد التعريف بعبد الله بن جدعان وذكرنا خبر جفنته وسبب غناه بعد أن كان صعلوكا بأتم بيان.
خبر عكاشة بن محصن
يقال فيه عكاشة بالتشديد والتخفيف وهو من عكش على القوم إذا حمل عليهم قاله صاحب العين وقال غيره لعكاشة [والعكاش] العنكبوت وأما

(5/100)


جدلا من حطب فقال قاتل بهذا يا عكاشة، فلما أخذه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هزه فعاد سيفا في يده طويل القامة شديد المتن أبيض الحديدة فقاتل به حتى فتح الله تعالى على المسلمين وكان ذلك السيف يسمى: العون. ثم لم يزل عنده يشهد به المشاهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل في الردة وهو عنده قتله طليحة بن خويلد الأسدي، فقال طليحة في ذلك
فما ظنكم بالقوم إذ تقتلونهم ... أليسوا وإن لم يسلموا برجال
فإن تك أذاود أصبن ونسوة ... فلن تذهبوا قرعا بقتل حبال
نصبت لهم صدر الحمالة إنها ... معاودة قيل الكماة نزال
فيوما تراها في الجلال مصونة ... ويوما تراها غير ذات جلال
ـــــــ
سيفه الذي كان جزلا <82> من حطب فقد قيل إنه لم يزل متوارثا عند آل عكاشة وقد روي مثل قول عكاشة في السيف عن عبد الله بن جحش، وسيأتي، ذكرها عند غزوة أحد، وأما قوله
فلن يذهبوا قرعا بقتل حبال
فالقرع أن يطل الدم ولا يطلب بثأره وحبال هو ابن أخي طليحة لا ابنه وهو حبال بن مسلمة بن خويلد، ومسلمة أبوه هو الذي قتل عكاشة اعتنقه مسلمة وضربه طليحة على فرس يقال لها: اللزام وكان ثابت على فرس يقال لها: المخبر وقصته مشهورة في أخبار الردة. وذكر الواقدي في الردة بعد قوله
فيوما تراها في الجلال مصونة ... ويوما تراها في ظلال عوال
إلى آخر الشعر.
وذكر في الخبر أن عكاشة وثابت بن أقرم البلوي حليفي الأنصار كانا في جيش خالد حين نهد إلى طليحة ، فاستقدما أمام جيش خالد للمسلمين فوقعا في

(5/101)


عشية غادرت ابن أقرم ثاويا ... وعكاشة الغنمي عند حجال
قال ابن هشام: حبال ابن طليحة بن خويلد. وابن أقرم ثابت بن أقرم الأنصاري.
<83> قال ابن إسحاق وعكاشة بن محصن الذي قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "يدخل الجنة سبعون ألفا من أمتي على صورة القمر ليلة البدر" قال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم قال "إنك منهم أو اللهم اجعله منهم "، فقام رجل من الأنصار. فقال يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم فقال " سبقك بها عكاشة وبردت الدعوة .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا عن أهله منا خير فارس في العرب ; قالوا: ومن هو يا رسول الله؟ قال "عكاشة بن محصن" فقال ضرار بن الأزور الأسدي: ذاك رجل منا يا رسول الله قال " ليس منكم ولكنه منا للحلف
ـــــــ
خيل لطليحة وهو فيهم فاستشهدا معا، وذلك في يوم بزاخة كذلك قال كل من ألف من السير إلا سليمان التيمي، فإنه ذكر أن عكاشة قتل في سرية بعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني أسد، والأول هو المعروف. <83>
سبقك بها عكاشة
وذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم لعكاشة حين قال ادع الله يا رسول الله أن يجعلني منهم فدعا له ثم قام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال "سبقك بها عكاشة" هكذا الحديث في الصحاح، وزاد ابن إسحاق: وبردت الدعوة
وذكر أبو عمر النمري عن بعض أهل العلم ولم يسمهم أن الرجل الذي قيل

(5/102)


حديث بين أبي بكر وابنه عبد الرحمن يوم بدر
<84> قال ابن هشام: ونادى أبو بكر الصديق ابنه عبد الرحمن وهو يومئذ مع المشركين فقال أين مالي يا خبيث؟ فقال عبد الرحمن:
لم يبق غير شكة ويعبوب ... وصارم يقتل ضلال الشيب
فيما ذكر لي عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي.
ـــــــ
له سبقك بها عكاشة كان منافقا، ولذلك لم يدع له رسول الله صلى الله عليه وسلم قال المؤلف وهذا لا يصح; لأن في مسند البزار من طريق أبي صالح عن أبي هريرة في هذا الحديث قال فقام رجل من خيار المهاجرين، فقال ادع الله أن يجعلني معهم قال ابن بطال معنى قوله سبقك بها عكاشة أي سبقك بهذه الصفة التي هي صفة السبعين ألفا، ترك التطير ونحوه ولم يقل لست منهم ولا على أخلاقهم بحسن أدبه عليه السلام وتلطفه في الكلام [و] لا سيما مع أصحابه الكرام.
قال المؤلف رضي الله عنه - والذي عندي في هذا أنها كانت ساعة إجابة علمها عليه السلام فلما انقضت قال للرجل ما قال يبين هذا حديث أبي سعيد الخدري، فإنه قال فيه بعد ذكر عكاشة، فقام رجل آخر فقال ادع الله أن يجعلني منهم فقال "اللهم اجعله <84> منهم" ثم سكتوا ساعة يتحدثون ثم قام الثالث فقال ادع الله أن يجعلني معهم فقال "سبقك بها عكاشة وصاحبه ولو قلت لقلت، ولو قلت لوجبت" وهي في مسند ابن أبي شيبة، وفي مسند البزار أيضا. ويقوي هذا المعنى رواية ابن إسحاق، فإنه زاد فقال فيها: "سبقك به عكاشة وبردت الدعوة" فقف على ما ذكرته في تفسير حديث عكاشة فإنه من فوائد هذا الكتاب. وممن لم يشهد بدرا لعذر وهو من النقباء سعد بن عبادة سيد الخزرج، لأنه نهشته حية فلم يستطع الخروج هذا قول القتبي ولذلك لم يذكره ابن إسحاق، ولا ابن عقبة في البدريين وقد ذكره طائفة فيهم منهم ابن الكلبي وجماعة.

(5/103)


طرح المشركين في القليب
قال ابن إسحاق: وحدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير عن عائشة قالت لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقتلى أن يطرحوا في القليب طرحوا فيه إلا ما كان أمية بن خلف، فإنه انتفخ في درعه فملأها، فذهبوا ليحركوه فتزايل لحمه فأقروه وألقوا عليه ما غيبه من التراب والحجارة. فلما ألقاهم في القليب ، وقف عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم <85> فقال "يا أهل القليب ، هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقا" ؟ قالت فقال له أصحابه يا رسول الله أتكلم قوما موتى؟ فقال لهم لقد علموا أن ما وعدهم ربهم حقا
قالت عائشة والناس يقولون لقد سمعوا ما قلت لهم وإنما قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم "لقد علموا"
ـــــــ
نداء أصحاب القليب
مسألة نحوية
وقوله عليه السلام يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة الحديث يجوز يا شيبة بن ربيعة، بضم التاء ونصب النون وبنصبهما جميعا، أما من يقول جاءني زيد ابن فلان بالتنوين فهو الذي يقول يا زيد ابن بضم الدال ويكتب ابن بالألف على هذا، ومن يقول جاءني زيد ابن بلا تنوين فهو الذي يقول في النداء يا زيد ابن بنصب الدال <85> ويكتب ابنا بغير ألف لأنه جعل الابن مع ما قبله اسما واحدا، فعلى هذا تقول يا حارث ابن عمرو فتكتبه بألف لأنك أردت يا حارث بالضم لأنك لو أردت يا حارث ابن بالنصب لم ترخمه لأنه قد صار وسط الاسم وقد جعله سيبويه بمنزلة قولك: امرئ وكذلك قوله ويا أبا جهل بن هشام إن نونت اللام من أبي جهل كتبت الابن بألف وإن لم تنونه كتبته بغير ألف.

(5/104)


قال ابن إسحاق: وحدثني حميد الطويل، عن أنس بن مالك، قال سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من جوف الليل وهو يقول "يا أهل القليب ، يا عتبة بن ربيعة ويا شيبة بن ربيعة، ويا أمية بن خلف، ويا أبا جهل بن هشام، فعدد من كان منهم في القليب : "هل وجدتم ما وعد ربكم حقا فإني قد وجدت ما وعدني ربي حقا" ؟ فقال المسلمون يا رسول الله أتنادي قوما قد جيفوا؟ قال "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون أن يجيبوني"
<86> قال ابن إسحاق: وحدثني بعض أهل العلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم
ـــــــ
وذكر إنكار عائشة أن يكون عليه السلام قال لقد سمعوا ما قلت، قالت وإنما قال "لقد علموا أن الذي كنت أقول حق" قال المؤلف وعائشة لم تحضر وغيرها ممن حضر أحفظ للفظه عليه السلام وقد قالوا له يا رسول الله أتخاطب قوما قد جيفوا أو أجيفوا، فقال "ما أنتم بأسمع لما أقول منهم" وإذا جاز أن يكونوا في تلك الحال عالمين جاز أن يكونوا سامعين إما بآذان رءوسهم إذا قلنا: إن الروح يعاد إلى الجسد أو إلى بعض الجسد عند المساءلة وهو قول أكثرين من أهل السنة وإما بإذن القلب أو الروح على مذهب من يقول بتوجه السؤال إلى الروح من غير رجوع معه إلى الجسد أو إلى بعضه وقد روي أن عائشة احتجت بقول الله سبحانه {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [فاطر:22] وهذه الآية كقوله تعالى: {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ } [الزخرف:40] أي إن الله هو الذي يهدي ويوفق ويوصل الموعظة إلى آذان القلوب لا أنت وجعل الكفار أمواتا وصما على جهة التشبيه بالأموات <86> وبالصم فالله هو الذي يسمعهم على الحقيقة إذا شاء لا نبيه ولا أحد، فإذا لا تعلق بالآية من وجهين أحدهما: أنها إنما نزلت في دعاء الكفار إلى الإيمان.

(5/105)


هذه المقالة يا أهل القليب بئس عشيرة النبي كنتم لنبيكم، كذبتموني وصدقني الناس وأخرجتموني وآواني الناس وقاتلتموني نصرني الناس ثم قال هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا ؟ للمقالة التي قال.
شعر حسان فيمن ألقوا في القليب
قال ابن إسحاق: وقال حسان بن ثابت: <87> <88> <89>
عرفت ديار زينب بالكثيب ... كخط الوحي في الورق القشيب
ـــــــ
الثاني: أنه إنما نفى عن نبيه أن يكون هو المسمع لهم وصدق الله فإنه لا يسمعهم إذا شاء إلا هو ويفعل ما شاء وهو على كل شيء قدير.
من معاني شعر حسان
فصل وذكر شعر حسان وقال فيه:
كخط الوحي في الورق القشيب
القشيب في اللغة الجديد ولا معنى له في هذا البيت لأنهم إذا وصفوا الرسوم وشبهوها بالكتب في الورق فإنما يصفون الخط حينئذ بالدروس والامحاء فإن ذلك أدل على عفاء الديار وطموس الآثار وكثرة ذلك في الشعر تغني عن الاستشهاد عليه ولكن منه قول النابغة
وقفت فيها أصيلانا أسائلها ... عيت جوابا وما بالربع من أحد
إلا الأواري لأياما أبينها ... والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

(5/106)


تداولها الرياح وكل جون ... من الوسمي منهمر سكوب
فأمسى رسمها خلقا وأمست ... يبابا بعد ساكنها الحبيب
فدع عنك التذكر كل يوم ... ورد حرارة الصدر الكئيب
وخبر بالذي لا عيب فيه ... بصدق غير إخبار الكذوب
بما صنع المليك غداة بدر ... لنا في المشركين من النصيب
غداة كأن جمعهم حراء ... بدت أركانه جنح الغروب
فلاقيناهم منا بجمع ... كأسد الغاب مردان وشيب
أمام محمد قد وازروه ... على الأعداء في لفح الحروب
ـــــــ
<87> وقول زهير:
[وقفت بها من بعد عشرين حجة] ... فلأيا عرفت الدار بعد توهم
وقال آخر
وإلا رسوم الدار قفرا كأنها ... سطور محاها الباهلي بن أصمعا
ولكن أراد حسان بالقشيب هاهنا الذي خالطه ما يفسده إما من دنس وإما من قدم يقال طعام مقشب إذا كان فيه السم. وقال الشاعر [خويلد بن مرة أبو خراش الهذلي] :
[به تدع الكمي على يديه] ... نحر تخاله نسرا قشيبا
معناه مسموم لأن القشب هو السم قاله ابن قتيبة في تفسير حديث آخر من يخرج من النار وفيه قشبني ريحها، وأحرقني ذكاها. وقال أبو حنيفة في

(5/107)


بأيديهم صوارم مرهفات ... وكل مجرب خاطي الكعوب
بنو الأوس الغطارف وازرتها ... بنو النجار في الدين الصليب
فغادرنا أبا جهل صريعا ... وعتبة قد تركنا بالجبوب
ـــــــ
القشب هو نبات رطب مسموم ينصب لسباع الطير في لحم فإذا أكلته ماتت قال والعرب يجنبونه ماشيتهم في المرعى، كي لا تحطمه فيفوح من ريحه ما يقتلها، فقوله في البيت الذي استشهد به القتبي: تخاله نسرا قشيبا، أي نسرا أكل ذلك القشب في اللحم والله أعلم قال والألب أيضا، ضرب من القشب إن وجدت ريحه سباع الطير عميت وصمت وإن أكلته ماتت قال والضجاج أيضا: كل نبات مسموم.
معنى إلقائهم في القليب
فصل: فإن قيل ما معنى إلقائهم في القليب ، وما فيه من الفقه قلنا: كان من سنته عليه السلام في مغازيه إذا مر بجيفة إنسان أمر بدفنه لا يسأل عنه مؤمنا، كان أو كافرا هكذا وقع في السنن للدارقطني، فلقاؤهم في القليب من هذا الباب غير أنه كره أن يشق على أصحابه لكثرة جيف الكفار أن يأمرهم بدفنهم فكان جرهم إلى القليب أيسر عليهم ووافق أن القليب حفره رجل من بني النار اسمه بدر فكان. فألا مقدما لهم وهذا على أحد القولين في بدر والله أعلم. <88>
عود إلى شعر حسان
وفي شعر حسان أيضا:
بنو الأوس الغطارف وازرتها
ولو قال آزرتها بالهمز لجاز وكان من الأزر وفي التنزيل {فَآزَرَهُ} [الفتح: من الآية29] أي شد أزره وقواه ولكن أراد حسان معنى الوزير فإنه سمي وزيرا من الوزر وهو الثقل لأنه يحمل عن صاحبه ثقلا ويعينه وقيل هو من

(5/108)


ـــــــ
الوزر وهو الملجأ لأن الوزير يلجأ إلى رأيه وقد ألفيته في نسخة الشيخ أبي بحر آزرتها مصلحا بغير واو إلا أن وازرتها وزنه فاعلت، وآزرت وزنه أفعلت.
وقوله:
وعتبة قد تركنا بالجبوب
معنى الجبوب:
الجبوب اسم للأرض لأنها تجب أي تحفر وتجب من دفن فيها، أي تقطعه وهذا القول أولى، لأنهم قالوا: جبوب مثل صبور وشكور في المؤنث ولم يقولوا: جبوبة فيكون من باب حلوبة وركوبة ، ويدخلون فيها الألف واللام تارة فيقولون الجبوب كما في هذا البيت وتارة يجعلونه اسما علما، فيقولون جبوب مثل شعوب قال الشاعر:
بنى على قلبي وعيني مكانه ... ثوى بين أحجار رهين جبوب
ومنه قيل جبان وجبانة للأرض التي يدفن فيها الموتى، فهو فعلان من الجب والجبوب وهو قول الخليل في معنى الجبان وغيره يجعله فعالا من الجبن.
مرة أخرى شعر حسان
وقوله:
خاطي الكعوب
أي مكتنز الكعوب قويها [والكعوب عقد القناة] ، وقول حسان: الغطارف أراد الغطاريف كما تقدم في شعر الجرهمي
تطل بها أمنا وفيها العصافر

(5/109)


وشيبة قد تركنا في رجال ... ذوي حسب إذا نسبوا حسيب
يناديهم رسول الله لما ... قذفناهم كباكب في القليب
ألم تجدوا كلامي كان حقا ... وأمر الله يأخذ بالقلوب؟
فما نطقوا، ولو نطقوا لقالوا: ... صدقت وكنت ذا رأي مصيب
قال ابن إسحاق: ولما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلقوا في القليب ، أخذ عتبة بن ربيعة، فسحب إلى القليب ، فنظر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني في وجه أبي حذيفة بن عتبة، فإذا هو كئيب قد تغير لونه فقال "يا أبا حذيفة لعلك قد دخلك من شأن أبيك شيء" ؟ أو كما قال صلى الله عليه وسلم فقال لا، والله يا رسول الله ما شككت في أبي ولا في مصرعه ولكنني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا، فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما مات عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني ذلك فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خيرا
ذكر الفتية الذين نزل فيهم {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ}
وكان الفتية الذين قتلوا ببدر فنزل فيهم من القرآن فيما ذكر لنا: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا
ـــــــ
أراد العصافير وحذف الياء ضرورة.
تفسير قول ابن أبي بكر
فصل وذكر قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لابنه يوم بدر أين مالي يا خبيث فقال
لم يبق إلا شكة ويعبوب
الشكة السلاح واليعبوب من الخيل الشديد الجري، ويقال الطويل والأول أصح، لأنه مأخوذ من عباب الماء وهو شدة جريه ويقال للجدول الكثير

(5/110)


أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً} [النساء:97] فتية مسمين. من بني أسد بن عبد العزى بن قصي: الحارث بن زمعة بن الأسود بن عبد المطلب بن أسد.
<90> ومن بني مخزوم: أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأبو قيس بن الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم.
ومن بني جمح: علي بن أمية بن خلف بن وهب بن حذافة بن جمح.
ومن بني سهم: العاص بن منبه بن الحجاج بن عامر بن حذيفة بن سعد بن سهم.
وذلك أنهم كانوا أسلموا، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فلما هاجر رسول الله - صلى الله عليه وسلم إلى
ـــــــ
الماء يعبوب وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم فرس اسمه السكب وهو من سكبت الماء فهذا يقوي معنى اليعبوب وذكر غير ابن إسحاق أن عبد الرحمن بن أبي بكر قال لأبيه بعدما أسلم: يا أبت لقد <90> أهدفت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك، فقال والله لو كنت أهدفت لي أنت ما صدفت عنك. <89>
العرش والعريش
فصل: وذكر تنازعهم في النفل وما احتجت به الطائفة الذين كانوا يحمون رسول الله صلى الله عليه وسلم في العريش والعريش كل ما أظلك وعلاك من فوقك، فإن علوته أنت فهو عرش لك، لا عريش والعريش أيضا فيما فكر أبو حنيفة أربع نخلات أو خمس في أصل واحد.

(5/111)


المدينة حبسهم آباؤهم وعشائرهم بمكة وفتنوهم فافتتنوا، ثم ساروا مع قومهم إلى بدر فأصيبوا به جميعا.
ذكر الفيء ببدر والأسارى:
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بما في العسكر مما جمع الناس فجمع فاختلف المسلمون فيه فقال من جمعه هو لنا، وقال الذين كانوا يقاتلون العدو ويطلبونه والله لولا نحن ما أصبتموه لنحن شغلنا عنكم القوم حتى أصبتم ما أصبتم وقال الذين كانوا يحرسون رسول الله صلى الله عليه وسلم مخافة أن يخالف إليه العدو والله ما أنتم بأحق به منا، والله لقد رأينا أن نقتل العدو إذ منحنا الله تعالى أكتافه ولقد رأينا أن نأخذ المتاع حين لم يكن دونه من يمنعه ولكنا خفنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كرة العدو فقمنا دونه فما أنتم بأحق به منا.
<91> قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الرحمن بن الحارث وغيره من أصحابنا عن سليمان بن موسى، عن مكحول، عن أبي أمامة الباهلي - واسمه صدقي بن عجلان فيما قال ابن هشام قال سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال فينا أصحاب
ـــــــ
بنو عابد وبنو عائذ
وذكر قول أبي أسيد وجدت يوم بدر سيف بني عابد الذي يقال له المرزبان. بنو عابد في بني مخزوم، وهم بنو عابد بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، وأما بنو عائذ بالياء والذال <91> المعجمة فهم بنو عائذ بن عمران بن مخزوم رهط آل المسيب، والأولون رهط آل بني السائب.
حول القسم
وأما قوله فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بواء يقول على سواء فقد رواه أبو عبيد في الأموال، فقال فيه فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن فواق وفسره فقال جعل بعضهم فوق بعض أي فضل في القسم من رأى تفضيله وفي غريب الحديث قولا آخر وهو أن معنى عن فواق السرعة في القسم كفواق الناقة

(5/112)


بدر نزلت حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا، فجعله إلى رسوله فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء يقول على السواء.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال حدثني بعض بني ساعدة عن أبي أسيد الساعدي مالك بن ربيعة، قال أصبت سيف بني عائذ المخزوميين الذي يسمى المرزبان يوم بدر فلما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس أن يردوا ما في أيديهم من النفل أقبلت حتى ألقيته في النفل. قال وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يمنع شيئا سئله فعرفه الأرقم بن أبي الأرقم، فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعطاه إياه.
بعث ابن رواحة وزيد بشيرين
قال ابن إسحاق <92> ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الفتح عبد الله بن رواحة بشيرا إلى
ـــــــ
ورواية ابن إسحاق أشهر وأثبت عند أهل الحديث.
سبب نزول أول الأنفال
وفي الحديث الذي ذكره أبو عبيد أن سعد بن أبي وقاص، قال قتلت يوم بدر العاصي بن سعيد بن العاصي، وأخذت سيفه وكان يقال له ذو الكتيفة. فأتيت به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت: يا رسول الله نفلنيه فأمرني أن أجعله في القبض فأخذني ما لا يعلمه إلا الله فقلت: قتل أخي عمير وأخذ سلبي فأنزل الله {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ} [لأنفال: من الآية1] الآية فأعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم السيف قال أبو عبيد وأهل السير يقولون قتل العاصي بن سعيد علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

(5/113)


<92> أهل العالية، بما فتح الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين وبعث زيد بن حارثة إلى أهل السافلة. قال أسامة بن زيد: فأتانا الخبر - حين سوينا التراب على رقية ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي كانت عند عثمان بن عفان.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم خلفني عليها مع عثمان - أن زيد بن حارث قد قدم. قال فجئته وهو واقف بالمصلى قد غشيه الناس وهو يقول " قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو جهل بن هشام، وزمعة بن الأسود، وأبو البختري والعاص بن هشام وأمية بن خلف، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج. قال قلت: يا أبت أحق هذا. قال نعم والله يا بني
قفول رسول الله من بدر
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قافلا إلى المدينة، ومعه الأسارى من المشركين وفيهم عقبة بن أبي معيط، والنضر بن الحارث واحتمل رسول الله صلى الله عليه وسلم معه النفل الذي أصيب من المشركين وجعل على النفل عبد الله بن كعب بن عمرو بن عوف بن مبذول بن عمرو بن غنم بن مازن بن النجار، فقال راجز من المسلمين - قال ابن هشام: يقال إنه عدي بن أبي الزغباء:
أقم لها صدورها يا بسبس ... أليس بذي الطلح لها معرس
ولا بصحراء غمير محبس ... إن مطايا القوم لا تخيس
فحملها على الطريق أكيس
... قد نصر الله وفر الأخنس
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم - حتى إذا خرج من مضيق الصفراء نزل على كثيب بين المضيق وبين النازية - يقال له سير - إلى سرحة به. فقسم هنالك النفل الذي أفاء الله على المسلمين من المشركين على السواء ثم ارتحل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالروحاء لقيه المسلمون يهنئونه بما فتح الله عليه ومن معه من المسلمين فقال لهم سلمة بن سلامة - كما حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، ويزيد بن رومان: ما الذي <93> تهنئوننا به؟ فوالله إن لقينا إلا عجائز صلعا كالبدن المعقلة فنحرناها، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال أي ابن أخي، أولئك الملأ

(5/114)


قال ابن هشام: الملأ الأشراف والرؤساء.
مقتل النضر وعقبة
قال ابن إسحاق: حتى إذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصفراء قتل النضر بن الحارث قتله علي بن أبي طالب، كما أخبرني بعض أهل العلم من أهل مكة.
قال ابن إسحاق: ثم خرج حتى إذا كان بعرق الظبية قتل عقبة بن أبي معيط.
قال ابن هشام: عرق الظبية من غير ابن إسحاق.
قال ابن إسحاق: والذي أسر عقبة: عبد الله بن سلمة أحد بني العجلان.
قال ابن إسحاق: فقال عقبة حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله فمن للصبية يا محمد؟ قال النار فقتله عاصم بن ثابت بن أبي الأقلح الأنصاري أخو بني عمرو بن عوف، كما حدثني أبو عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر.
قال ابن هشام: ويقال قتله علي بن أبي طالب فيما ذكر لي ابن شهاب الزهري وغيره من أهل العلم.
ـــــــ
عقبة بن أبي معيط
فصل <93> وذكر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قتل عقبة بن أبي معيط قال وكان الذي أسره عبد الله بن سلمة، وسلمة هذا بكسر اللام وهو سلمة بن مالك أحد بني العجلان بلوي بالنسب أنصاري بالحلف قتل يوم أحد شهيدا وأما عقبة بن أبي معيط، فاسم أبي معيط أبان بن أبي عمرو، واسمه ذكوان بن أمية يقال كان أمية قد ساعى أمة أو بغت أمة له فحملت بأبي عمرو، فاستلحقه بحكم الجاهلية ولذلك قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - لعقبة حين قال أأقتل

(5/115)


قال ابن إسحاق: ولقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك الموضع أبو هند، مولى فروة بن عمرو البياضي بحميت مملوء حيسا.
ـــــــ
من بين قريش صبرا، فقال عمر حن قدح ليس معها يعرض بنسبه وذلك أن القداح في الميسر ربما جعل معها قدح <94> مستعار قد جرب معه الفلح واليمن فيستعار لذلك ويسمى: المنيح فإذا حرك في الربابة مع القداح تميز صوته لمخالفة جوهره جوهر القداح فيقال حينئذ حن قدح ليس منها، فتمثل عمر بهذا المثل يريد أن عقبة ليس من قريش، وكذلك روي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال حينئذ إنما أنت يهودي من أهل صفورية لأن الأمة التي ولدت أباه كانت ليهودي من أهل صفورية، واسمها: ترني، قاله القتبي، وكذلك قال دغفل بن حنظلة النسابة لمعاوية حين سأله هل أدركت عبد المطلب؟ فقال نعم أدركته شيخا وسيما قسيما جسيما يحف به عشرة من بنيه كأنهم النجوم قال فهل رأيت أمية بن عبد شمس؟ قال نعم رأيته أخيفش أزيرق دميما، يقوده عبده ذكوان، فقال ويحك ذاك ابنه أبو عمرو، فقال دغفل أنتم تقولون ذلك.
الطعن في نسب بني أمية
قال المؤلف:
وهذا الطعن خاص بنسب عقبة من بني أمية، وفي نسب أمية نفسه مقالة أخرى تعم جميع الفصيلة وهي ما روي عن سفينة مولى أم سلمة حين قيل له إن بني أمية يزعمون أن الخلافة فيهم فقال كذبت استاه بني الزرقاء، بل هم ملوك،

(5/116)


<95> وقال ابن هشام: الحميت: الزق، وكان قد تخلف عن بدر، ثم شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو كان حجام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إنما هو أبو هند امرئ من الأنصار فأنكحوه وأنكحوا إليه ففعلوا" <95>
قال ابن إسحاق: ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قدم المدينة قبل الأسارى بيوم.
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر أن يحيى بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة قال قدم بالأسارى حين قدم بهم وسودة بنت زمعة زوج النبي صلى الله عليه وسلم عند آل عفراء، في مناحتهم على عوف ومعوذ ابني عفراء، وذلك قبل أن يضرب عليهن الحجاب. قال تقول سودة والله إني لعندهم إذ أتينا، فقيل هؤلاء الأسارى، قد أتي بهم قالت فرجعت إلى بيتي، ورسول الله صلى الله عليه وسلم فيه وإذا أبو يزيد سهيل بن عمرو في ناحية الحجرة مجموعة يداه إلى عنقه بحبل قالت فلا والله ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد كذلك أن قلت: أي أبا يزيد أعطيتم بأيديكم ألا متم كراما، فوالله ما
ـــــــ
ومن شر الملوك فيقال أن الزرقاء هذه هي [أم] أمية بن عبد شمس، واسمها أرنب قال الأصبهاني في كتاب الأمثال قال وكانت في الجاهلية من صواحب الرايات.
قال المؤلف رضي الله عنه وقد عفا الله عن أمر الجاهلية ونهى عن الطعن في الأنساب ولو لم يجب الكف عن نسب بني أمية إلا لموضع عثمان بن عفان رضي الله عنه لكان حرى بذلك.
أبو هند الحجام
فصل وذكر أبا هند الحجام وأنه لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم منصرفه من بدر. أبو هند اسمه عبد الله وهو مولى فروة بن عمرو البياسي وأما طيبة الحجام فهو مولى بني حارثة واسمه نافع وقيل دنير وقيل ميسرة ولم يشهد بدرا.

(5/117)


أنبهني إلا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم من البيت يا سودة أعلى الله ورسوله تحرضين؟ قالت قلت: يا رسول الله والذي بعثك بالحق ما ملكت نفسي حين رأيت أبا يزيد مجموعة يداه إلى عنقه أن قلت ما قلت:
قال ابن إسحاق: وحدثني نبيه بن وهب أخو بني عبد الدار. أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل بالأسارى فرقهم بين أصحابه وقال استوصوا بالأسارى خيرا قال وكان أبو عزيز بن عمير بن هاشم، أخو مصعب بن عمير لأبيه وأمه في الأسارى.
<96> قال فقال أبو عزيز مر بي أخي مصعب بن عمير ورجل من الأنصار يأسرني، فقال شد يدك به فإن أمه ذات متاع لعلها تفديه منك، قال وكنت في رهط من الأنصار حين أقبلوا بي من بدر، فكانوا إذا قدموا غداءهم وعشاءهم خصوني بالخبز وأكلوا التمر لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم بنا، ما تقع في يد رجل منهم كسرة خبز إلا نفحني بها. قال فأستحيي فأردها على أحدهم فيردها على ما يمسها.
بلوغ مصاب قريش إلى مكة
قال ابن هشام: وكان أبو عزيز صاحب لواء المشركين ببدر بعد النضر بن الحارث فلما قال أخوه مصعب بن عمير لأبي اليسر وهو الذي أسره ما قال قال له أبو
ـــــــ
أسارى بدر
ذكر فيهم أبا عزيز بن عمير حين مر به وهو أسير على أخيه مصعب فقال مصعب للذي أسره اشدد يديك به وذكر الحديث.
قال المؤلف رحمه الله وقد تقدم في باب الهجرة خبر إسلام مصعب وما كانت أمه تصنع به وأرجأت التعريف به وبإخوته إلى هذا الموضع فأما أبو عزيز فاسمه زرارة وأمه التي أرسلت في فدائه أم الخناس بنت مالك العامرية

(5/118)


عزيز يا أخي، هذه وصاتك بي، فقال له مصعب إنه أخي دونك. فسألت أمه عن أغلى ما فدي به قرشي، فقيل لها: أربعة آلاف درهم فبعت بأربعة آلاف درهم ففدته بها
قال ابن إسحاق: وكان أول من قدم مكة بمصاب قريش الحيسمان بن عبد الله الخزاعي، فقالوا: ما وراءك؟ قال قتل عتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأبو الحكم بن هشام، وأمية بن خلف، وزمعة بن الأسود، ونبيه ومنبه ابنا الحجاج، وأبو البختري بن هشام فلما جعل يعدد أشراف قريش. قال صفوان بن أمية، وهو قاعد في الحجر : والله إن يعقل هذا فاسألوه عني ; فقالوا: ما فعل صفوان بن أمية؟ قال ها هو ذاك جالسا في الحجر ، وقد والله رأيت أباه وأخاه حين قتلا <97>
قال ابن إسحاق: وحدثني حسين بن عبد الله بن عبيد الله بن عباس، عن عكرمة مولى ابن عباس، قال قال أبو رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت غلاما للعباس بن
ـــــــ
وهي أم أخيه مصعب وأخته هند بن عمير وهند هي أم شيبة بن عثمان حاجب الكعبة، جد بني شيبة أسلم أبو عزيز وروى الحديث وأسلم أخوه أبو الروم، وأبو يزيد ولا خفاء بإسلام مصعب أخيه وغلط الزبير بن بكار، فقال قتل أبو عزيز يوم أحد كافرا، ولم يصح هذا عند أحد من أهل الأخبار وقد روي عنه نبيه بن وهب وغيره ولعل المقتول بأحد كافرا أخ لهم غيره.
خبر أبي رافع حين قدم فل قريش
اسم أبي رافع أسلم، وقال ابن معين: اسمه إبراهيم وقيل اسمه هرمز وكان عبدا قبطيا للعباس فوهبه للنبي صلى الله عليه وسلم فلما أسلم العباس وبشر أبو رافع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بإسلامه فأعتقه فكان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل كان

(5/119)


عبد المطلب، وكان الإسلام قد دخلنا أهل البيت، فأسلم العباس وأسلمت أم الفضل وأسلمت وكان العباس يهاب قومه ويكره خلافهم وكان يكتم إسلامه وكان ذا مال كثير متفرق في قومه وكان أبو لهب قد تخلف عن بدر فبعث مكانه العاصي بن هشام بن المغيرة وكذلك كانوا صنعوا، لم يتخلف رجل إلا بعث مكانه رجلا، فلما جاءه الخبر عن مصاب أصحاب بدر من قريش، كبته الله وأخزاه ووجدنا في أنفسنا قوة وعزا. قال وكنت رجلا ضعيفا، وكنت أعمل الأقداح. أنحتها في حجرة زمزم. فوالله إني لجالس فيها أنحت أقداحي، وعندي أم الفضل جالسة وقد سرنا ما جاءنا من الخبر، إذ أقبل أبو لهب يجر رجليه بشر حتى جلس على طنب الحجرة فكان ظهره إلى ظهري، فبينما هو جالس إذ قال الناس هذا أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب - قال ابن هشام: واسم أبي سفيان المغيرة - قد قدم قال فقال أبو لهب هلم إلي فعندك لعمري الخبر، قال فجلس إليه والناس قيام عليه فقال يا ابن أخي، أخبرني كيف كان أمر الناس؟ قال والله ما هو إلا أن لقينا القوم فمنحناهم أكتافنا يقودوننا كيف شاءوا ويأسروننا كيف شاءوا، وايم الله مع ذلك ما لمت الناس لقينا رجالا بيضا، على خيل بلق بين السماء والأرض والله ما تليق شيئا، ولا يقوم لها شيء. قال أبو رافع فرفعت طنب الحجرة بيدي، ثم قلت: تلك والله الملائكة. قال فرفع أبو لهب يده فضرب بها وجهي ضربة <98> شديدة. قال وثاورته
ـــــــ
عبدا لبني سعيد بن العاصي، وهم عشرة فأعتقوه إلا خالد بن سعيد، فإنه وهب حصته فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - فأعتقه النبي - صلى الله عليه وسلم - والأول أصح توفي في قول الواقدي قبل مقتل عثمان بيسير.
أم الفضل وضربها لأبي لهب
وذكر أبا لهب وضربه لأبي رافع حين ذكر الملائكة وانتصار أم الفضل له وضربها لأبي لهب وأم الفضل هي لبابة الكبرى بنت الحارث [بن حزن بن بجير بن الهزم بن رويبة بن <98> عبد الله بن هلال بن عامر بن صعصعة] الهلالية أخت

(5/120)


فاحتملني فضرب بي الأرض ثم برك علي يضربني، وكنت رجلا ضعيفا، فقامت أم الفضل إلى عمود من عمد الحجرة فأخذته فضربته به ضربة فلعت في رأسه شجة منكرة وقالت استضعفته أن غاب عنه سيده فقام موليا ذليلا، فوالله ما عاش إلا سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة فقتلته.
ـــــــ
ميمونة وأختها لبابة الصغرى أم خالد بن الوليد، ولدت أم الفضل من العباس سبعة نجباء قال الشاعر
ما ولدت نحيبة من فحل ... كسبعة من بطن أم الفضل
وهم عبد الله وعبيد الله وعبد الرحمن والفضل ومعبد وقثم، ويقال في السابع كثير بن العباس والأصح في كثير أن أمه رومية ولم تلد أم الفضل من العباس إلا من سمينا وأختا لهم وهي أم حبيب وقد ذكرها ابن إسحاق في رواية يونس [بن بكير] ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - رآها وهي طفلة تدب بين يديه فقال إن بلغت هذه وأنا حي تزوجتها فقبض عليه السلام قبل أن تبلغ فتزوجها سفيان بن الأسود بن عبد الأسد [بن هلال بن عبد الله بن عمرو] المخزومي فولدت له رزقا ولبابة.
وذكر ابن إسحاق أن أبا لهب حين ضربته أم الفضل بالعمود على رأسه قام منكسرا، ولم يلبث إلا يسيرا، حتى رماه الله بالعدسة فقتله.
وذكر الطبري في كتابه أن العدسة قرحة كانت العرب تتشاءم بها، ويرون أنها تعدي أشد العدوى، فلما رمي بها أبو لهب تباعد عنه بنوه فبقي ثلاثا لا تقرب جنازته ولا يدفن فلما خافوا السبة دفعوه بعود في حفرته ثم قذفوه

(5/121)


نواح قريش على قتلاهم
<99> قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد قال ناحت قريش على قتلاهم، ثم قالوا: لا تفعلوا فيبلغ محمدا وأصحابه فيشمتوا بكم ولا تبعثوا في أسراكم حتى تستأنوا بهم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه في الفداء
قال وكان الأسود بن المطلب قد أصيب له ثلاثة من ولده زمعة بن الأسود، وعقيل بن الأسود والحارث بن زمعة وكان يحب أن يبكي على بنيه فبينما هو كذلك إذ سمع نائحة من الليل فقال لغلام له وقد ذهب بصره انظر هل أحل النحب هل بكت قريش على قتلاها؟ لعلي أبكي على أبي حكيمة يعني زمعة فإن جوفي قد احترق قال فلما رجع إليه الغلام قال إنما هي امرأة تبكي على بعير لها أضلته. قال فذاك حين يقول الأسود
أتبكي أن يضل لها بعير ... ويمنعها من النوم السهود
ـــــــ
بالحجارة من بعيد حتى واروه وقال ابن إسحاق في رواية يونس لم يحفروا له ولكن أسند إلى حائط وقذفت عليه الحجارة من خلف الحائط ووري وذكر أن عائشة كانت إذا مرت بموضعه ذلك غطت وجهها، وفي صحيح البخاري أن بعض أهله رآه في المنام في شر رحيبة وهي الحالة فقال ما لقيت بعدكم يعني: راحة غير أني سقيت في مثل هذه بعتقي ثويبة، هكذا في رواية الأصيلي عن أبي زيد وفي رواية غيره قال ما لقيت بعدكم راحة غير أني سقيت في مثل هذه وأشار إلى النقرة بين السبابة والإبهام بعتقي ثويبة، وفي غير البخاري أن الذي رآه من أهله هو أخوه العباس قال مكثت حولا بعد موت أبي لهب لا <99> أراه في نوم ثم رأيته في شر حال فقال ما لقيت بعدكم راحة إلا أن

(5/122)


فلا تبكي على بكر ولكن ... على بدر تقاصرت الجدود
على بدر سراة بني هصيص ... ومخزوم ورهط أبي الوليد
وبكي إن بكيت على عقيل ... وبكي حارثا أسد الأسود
وبكيهم ولا تسمي جميعا ... وما لأبي حكيمة من نديد
ألا قد ساد بعدهم رجال ... ولولا يوم بدر لم يسودوا
<100> قال ابن هشام: هذا إقواء وهي مشهور من أشعارهم وهي عندنا إكفاء وقد أسقطنا من رواية ابن إسحاق ما هو أشهر من هذا.
قال ابن إسحاق: وكان في الأسارى أبو وداعة بن ضبيرة السهمي، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم " إن له بمكة كيسا تاجرا ذا مال وكأنكم به قد جاءكم في طلب فداء أبيه" فلما قالت قريش لا تعجلوا بفداء أسرائكم لا يأرب عليكم محمد وأصحابه قال
ـــــــ
العذاب يخفف عني كل يوم اثنين وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين وكانت ثويبة قد بشرته بمولده فقالت له أشعرت أن آمنة ولدت غلاما لأخيك عبد الله؟ فقل لها: اذهبي، فأنت حرة فنفعه ذلك وفي النار كما نفع أخاه أبا طالب ذبه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو أهون أهل النار عذابا، وقد تقدم في باب أبي طالب أن هذا النفع إنما هو نقصان من العذاب وإلا فعمل الكافر كله محبط بلا خلاف أي لا يجده في ميزانه ولا يدخل به جنة وقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصل ثويبة من المدينة ويتحفها ; لأنها كانت أرضعته <100> وأرضعت عمه حمزة ولما افتتح مكة سأل عنها، وعن ابن لها اسمه مسروح، فأخبر أنهما قد ماتا.
ضبيرة
وذكر المطلب بن أبي وداعة بن ضبيرة وقد ذكر الخطابي عن العنبري أنه يقال فيه ضبيرة بالضاد المعجمة واسم أبي ضبيرة عوف.

(5/123)


المطلب بن أبي وداعة - وهو الذي كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عني صدقتم لا تعجلوا وانسل من الليل فقدم المدينة فأخذ أباه بأربعة آلاف درهم فانطلق به.
أمر سهيل بن عمرو وفداؤه
( قال ): ثم بعثت قريش في فداء الأسارى، فقدم مكرز بن حفص بن الأخيف في فداء سهيل بن عمرو، وكان الذي أسره مالك بن الدخشم، أخو بني سالم بن عوف فقال
أسرت سهيلا فلا أبتغي ... أسيرا به من جميع الأمم
وخندف تعلم أن الفتى ... فتاها سهيل إذا يظلم
ضربت بذي الشفر حتى انثنى ... وأكرهت نفسي على ذي العلم
وكان سهيل رجلا أعلم من شفته السفلى.
قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكر هذا الشعر لمالك بن الدخشم. <101>
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن عمرو بن عطاء أخو بني عامر بن لؤي: أن عمر بن الخطاب قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله دعني أنزع ثنيتي سهيل بن عمرو، ويدلع لسانه فلا يقوم عليك خطيبا في موطن أبدا، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا أمثل به فيمثل الله بي وإن كنت نبيا"
ـــــــ
ابن الدخشم
وذكر مالك بن الدخشم [بن مرضخة] ويقال فيه الدخيش ويقال فيه ابن الدخيش ويقال إنه الذي سار رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من الأنصار، فلم يدر ما ساره به حتى جهر النبي صلى الله عليه وسلم فإذا هو يستأذنه في قتله وهو في حديث الموطأ، والذي ساره هو عتبان بن <101> مالك، وقد برأ النبي صلى الله عليه وسلم مالك بن الدخشم من النفاق حيث قال "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" ؟ قالوا: بلى، قال "أليس يصلي" ؟ قالوا:

(5/124)


قال ابن إسحاق: وقد بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر في هذا الحديث "إنه عسى أن يقوم مقاما لا تذمه"
قال ابن هشام: وسأذكر حديث ذلك المقام في موضعه إن شاء الله تعالى.
قال ابن إسحاق: فلما قاولهم فيه مكرز وانتهى إلى رضاهم قالوا: هات الذي لنا، قال اجعلوا رجلي مكان رجله وخلوا سبيله حتى يبعث إليكم بفدائه فخلوا سبيل سهيل وحبسوا مكرزا مكانه عندهم فقال مكرز <102>
فديت بأذواد ثمان سبأ فتى ... ينال الصميم غرمها لا المواليا
رهنت يدي والمال أيسر من يدي ... علي ولكني خشيت المخازيا
وقلت: سهيل خيرنا فاذهبوا به ... لأبنائنا حتى ندير الأمانيا
قال ابن هشام: وبعض أهل العلم بالشعر ينكر هذا لمكرز.
ـــــــ
بلى فقال في حديث الموطأ: "أولئك الذين نهاني الله عنهم" ، وقال في حديث مسلم "فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بها وجه الله"
حول شعر مكرز:
وذكر مكرز وقد تقدم في اسم مكرز أنه يقال بكسر الميم وفتحها، ولكن لا يروى في السيرة إلا بالكسر. وقول مكرز
فديت بأذواد ثمان سبا فتى
بكسر الثاء من ثمان لأنه جمع ثمين مثل سمين وسمان.

(5/125)


<102> أسر عمرو بن أبي سفيان وإطلاقه
قال ابن إسحاق: وحدثني عبد الله بن أبي بكر، قال كان عمرو بن أبي سفيان بن حرب، وكان لبنت عقبة بن أبي معيط قال ابن هشام: أم عمرو بن أبي سفيان بنت أبي عمرو، وأخت أبي معيط بن أبي عمرو - أسيرا في يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم من أسرى بدر.
قال ابن هشام: أسره علي بن أبي طالب.
قال ابن إسحاق: حدثني عبد الله بن أبي بكر، قال فقيل لأبي سفيان افد عمرا ابنك، قال أيجمع علي دمي ومالي قتلوا حنظلة وأفدي عمرا دعوه في أيديهم يمسكوه ما بدا لهم.
قال فبينما هو كذلك محبوس بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ خرج سعد بن النعمان بن أكال، أخو بني عمرو بن عوف ثم أحد بني معاوية معتمرا ومعه مرية له وكان شيخا مسلما، في غنم له النقيع : فخرج من هنالك معتمرا، ولا يخشى الذي صنع به لم يظن أنه يحبس بمكة إنما جاء معتمرا: وقد كان عهد قريشا لا يعرضون لأحد جاء حاجا، أو معتمرا إلا بخير فعدا عليه أبو سفيان بن حرب بمكة فحبسه بابنه عمرو، ثم قال أبو سفيان
أرهط ابن أكال أجيبوا دعاءه ... تعاقدتم لا تسلموا السيد الكهلا
فإن بني عمرو لئام أذلة ... لئن لم يفكوا عن أسيرهم الكبلا
فأجابه حسان بن ثابت فقال
لو كان سعد يوم مكة مطلقا ... لأكثر فيكم قبل أن يؤسر القتلا
بعضب حسام أو بصفراء نبعة ... تحن إذا ما أنبضت تحفز النبلا
ومشى بنو عمرو بن عوف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه خبره؟ وسألوه أن يعطيهم

(5/126)


<103> عمرو بن أبي سفيان فيفكوا به صاحبهم ففعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فبعثوا به إلى أبي سفيان فخلى سبيل سعد.
أسر أبي العاص بن الربيع
قال ابن إسحاق: وقد كان في الأسارى أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس، ختن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته زينب.
قال ابن هشام: أسره خراش بن الصمة، أحد بني حرام.
سبب زواج أبي العاص من زينب
قال ابن إسحاق: وكان أبو العاص من رجال مكة المعدودين مالا، وأمانة وتجارة وكان لهالة بنت خويلد وكانت خديجة خالته. فسألت خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يزوجه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يخالفها، وذلك قبل أن ينزل عليه الوحي فزوجه وكانت تعده بمنزلة ولدها. فلما أكرم الله رسوله صلى الله عليه وسلم بنبوته آمنت به خديجة
ـــــــ
أبو العاص بن الربيع
<103> وذكر أبا العاص بن الربيع بن عبد العزى، واسم أبي العاص لقيط وقيل فيه هاشم وقيل مهشم وقيل هشيم، وهو الذي يقول في أهله زينب بنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان بالشام تاجرا حين قالها:
ذكرت زينب لما يممت إضما ... فقلت: سقيا لشخص يسكن الحرما
بنت الأمين جزاها الله صالحة ... وكل بعل سيثني بالذي علما
ولدت له زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمامة وعليا، مات علي وهو صغير وتزوج أمامة علي بن أبي طالب، وتزوجها بعده المغيرة بن نوفل وهي التي

(5/127)


وبناته فصدقنه وشهدن أن ما جاء به الحق، ودن بدينه وثبت أبو العاص على شركه. <104>
سعي قريش في تطليق بنات الرسول من أزواجهن
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوج عتبة بن أبي لهب رقية أو أم كلثوم. فلما بادى قريشا بأمر الله تعالى وبالعداوة قالوا: إنكم قد فرغتم محمدا من همه فردوا عليه بناته فاشغلوه بهن. فمشوا إلى أبي العاص فقالوا له فارق صاحبتك ونحن نزوجك أي امرأة من قريش شئت، قال لا والله إني لا أفارق صاحبتي، وما أحب أن لي بامرأتي امرأة من قريش وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يثني عليه في صهره خيرا، فيما بلغني ثم مشوا إلى عتبة بن أبي لهب، فقالوا له طلق بنت محمد ونحن ننكحك أي امرأة من قريش شئت، فقال إن زوجتموني بنت أبان بن سعيد بن العاص، أو بنت سعيد بن العاص فارقتها.فزوجوه بنت سعيد بن العاص وفارقها، ولم يكن دخل بها، فأخرجها الله من يده كرامة لها، وهوانا له وخلف عليها عثمان بن عفان بعده.
ـــــــ
جاء فيها الحديث رواه عمرو بن سليم الزرقي عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وهو حامل أمامة بنت زينب الحديث قال عمرو بن سليم كانت تلك الصلاة صلاة الصبح هكذا رواه <104> [عبد الملك بن عبد العزيز] بن جريج عن ابن عتاب عن عمرو بن سليم ورواه ابن إسحاق في غير السيرة عن المقبري عن عمرو بن سليم فقال فيه في إحدى صلاتي الظهر أو العصر وكان الذي أسر أبا العاص من الأنصار عبد الله بن جبير، ذكره غير ابن إسحاق، وكانت رقية بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت عتبة بن أبي لهب، وأم كلثوم تحت عتيبة، فطلقاهما بعزم أبيهما عليهما وأمهما حين نزلت تبت يدا أبي لهب فأما عتيبة، فدعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يسلط الله عليه كلبا من كلابه فافترسه الأسد من بين أصحابه وهم نيام حوله وأما عتبة ومعتب ابنا أبي لهب فأسلما ولهما عقب.

(5/128)


أبو العاص عند الرسول وبعث زينب في فدائه
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يحل بمكة ولا يحرم مغلوبا على أمره وكان الإسلام قد فرق بين زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسلمت وبين أبي العاص بن الربيع، إلا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يقدر أن يفرق بينهما، فأقامت معه على إسلامها وهو على شركه حتى هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صارت قريش إلى بدر صار فيهم أبو العاص بن الربيع فأصيب في الأسارى يوم بدر فكان بالمدينة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. <105>
قال ابن إسحاق: وحدثني يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه عباد عن عائشة قالت لما بعث أهل مكة في فداء أسرائهم بعثت زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أبي العاص بن الربيع بمال وبعثت فيه بقلادة لها كانت خديجة أدخلتها بها على أبي العاص حين بنى عليها، قالت فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رق لها رقة شديدة وقال إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها، وتردوا عليها مالها، فافعلوا، فقالوا: نعم يا رسول الله. فأطلقوه وردوا عليها الذي لها
ـــــــ
وقوله في خبر هند: فلا تضطني مني. تضطني، أي لا تنقبضي عني وشاهده [قول الطرماح بن حكيم] :
إذا ذكرت مسعاة والده اضطنى
ولا يضطني من شتم أهل الفضائل
<105> هكذا وجدته في حاشية الشيخ وقد روي هذا البيت في الحماسة يضني بالضاد المعجمة وكأنه يفتعل من الضنى وهو الضعف.

(5/129)