الروض
الأنف ت السلامي
غزوة تبوك في رجب سنة تسع
أمر الرسول الناس بالتهيؤ لتبوك
قال حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هشام قال زياد بن عبد الله البكائي،
عن محمد بن إسحاق المطلبي قال ثم أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم
بالمدينة ما بين ذي الحجة إلى رجب ثم أمر الناس بالتهيؤ لغزو الروم وقد
ذكر لنا الزهري ويزد بن رومان وعبد الله بن أبي بكر وعاصم بن عمر
ـــــــ
غزوة تبوك
سميت بعين تبوك ، وهي العين التي أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الناس ألا يمسوا من مائها شيئا، فسبق إليها رجلان وهي تبض بشيء من ماء
فجعلا يدخلان فيها سهمين ليكثر ماؤها، فسبهما رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال لهما: ما زلتما تبوكانها منذ اليوم فيما ذكر القتبي قال
وبذلك سميت العين تبوك ، والبوك كالنقش والحفر في الشيء ويقال منه باك
الحمار الأتان يبوكها إذا نزا عليها.
ووقع في السيرة فقال من سبقنا إلى هذا؟ فقيل له يا رسول الله فلان
(7/383)
ابن قتادة،
وغيرهم من علمائنا، كل حدث في غزوة تبوك ما بلغه عنها، وبعض القوم يحدث
ما لا يحدث بعض
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالتهيؤ لغزو الروم، وذلك
في زمان من عسرة الناس وشدة من الحر وجدب من البلاد وحين طابت الثمار
والناس يحبون المقام في ثمارهم وظلالهم ويكرهون الشخوص على الحال من
الزمان الذي هم عليه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يخرج في
غزوة إلا كنى عنها، وأخبر أنه يريد غير الوجه الذي يصمد له إلا ما كان
من غزوة تبوك، فإنه بينها للناس لبعد الشقة وشدة الزمان وكثرة العدو
الذي يصمد له ليتأهب الناس لذلك أهبته فأمر الناس بالجهاز وأخبرهم أنه
يريد الروم.
تخلف الجد وما نزل فيه
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ذلك للجد بن
قيس أحد بني سلمة: يا جد، هل لك العام في جلاد بني الأصفر ؟ فقال يا
رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني؟ فوالله لقد عرف قومي أنه ما من رجل
بأشد عجبا بالنساء مني، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر
فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال قد أذنت لك ففي الجد بن
قيس نزلت هذه الآية {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا
تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ
لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ} [التوبة 49]. أي إن كان إنما خشي الفتنة
من نساء بني الأصفر وليس ذلك به فما سقط فيه من الفتنة أكبر بتخلفه عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه ويقول وإن جهنم
لمن ورائه.
ـــــــ
وفلان وفلان وقال الواقدي: فيما ذكر لي، سبقه إليها أربعة من المنافقين
معتب بن قشير، والحارث بن يزيد الطائي، ووديعة بن ثابت، وزيد بن لصيت.
وذكر الجد بن قيس، وقول النبي صلى الله عليه وسلم له يا جد هل لك العام
في جلاد بني الأصفر يقال إن الروم قيل لهم بنو الأصفر، لأن عيصو بن
إسحاق كان به صفرة وهو جدهم وقيل إن الروم بن عيصو هو الأصفر وهو أبوهم
وأمه
(7/384)
ما نزل في
القوم المثبطين
وقال قوم من المنافقين بعضهم لبعض لا تنفروا في الحر زهادة في الجهاد
وشكا في الحق وإرجافا برسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تبارك
وتعالى فيهم {وَقَالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ
جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ فَلْيَضْحَكُوا
قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}
[التوبة 81، 82].
تحريق بيت سويلم وشعر الضحاك في ذلك
قال ابن هشام: وحدثني الثقة عمن حدثه عن محمد بن طلحة بن عبد الرحمن عن
إسحاق بن إبراهيم بن عبد الله بن حارثة عن أبيه عن جده قال:
بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ناسا من المنافقين يجتمعون في بيت
سويلم اليهودي، وكان بيته عند جاسوم ، يثبطون الناس عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فبعث إليهم النبي صلى الله عليه وسلم
طلحة بن عبيد الله في نفر من أصحابه وأمره أن يحرق عليهم بيت سويلم
ففعل طلحة. فاقتحم الضحاك بن خليفة من ظهر البيت فانكسرت رجله واقتحم
أصحابه فأفلتوا.
فقال الضحاك في ذلك.
كادت وبيت الله نار محمد
...
يشيط بها الضحاك وابن أبيرق
وظلت وقد طبقت كبس سويلم
...
أنوء على رجلي كسيرا ومرفقي
سلام عليكم لا أعود لمثلها
...
أخاف ومن تشمل به النار يحرق
حث الرسول على النفقة وشأن عثمان في ذلك
قال ابن إسحاق:
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم جد في سفره وأمر الناس بالجهاز
والانكماش وحض أهل الغنى على النفقة والحملان في سبيل الله فحمل رجال
من أهل الغنى
ـــــــ
نسمة بنت إسماعيل وقد ذكرنا في أول الكتاب من ولدت من الأمم وليس كل
الروم من ولد بني الأصفر فإن الروم الأول هم فيما زعموا من ولد يونان
بن يافث بن نوح والله أعلم بحقائق هذه الأشياء وصحتها.
(7/385)
واحتسبوا،
وأنفق عثمان بن عفان في ذلك نفقة عظيمة لم ينفق أحد مثلها.
قال ابن هشام: حدثني من أثق به
أن عثمان بن عفان أنفق في جيش العسرة في غزوة تبوك ألف دينار، فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم اللهم ارض عن عثمان، فإني عنه راض.
شأن البكائين
قال ابن إسحاق:
ثم إن رجالا من المسلمين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم
البكاءون، وهم سبعة نفر من الأنصار وغيرهم من بني عمرو بن عوف سالم بن
عمير، وعلبة بن زيد، أخو بني حارثة وأبو ليلى عبد الرحمن بن كعب أخو
بني مازن بن النجار وعمرو بن حمام بن الجموح أخو بني سلمة وعبد الله بن
المغفل المزني - وبعض الناس يقول بل هو عبد الله الفزاري. فاستحملوا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة فقال لا أجد ما أحملكم
عليه، فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون
قال ابن إسحاق:
فبلغني أن ابن يامين بن عمير بن كعب النضري لقي أبا ليلى عبد الرحمن بن
كعب وعبد الله بن مغفل وهما يبكيان فقال ما يبكيكما؟
قالا: جئنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ليحملنا، فلم نجد عنده ما
يحملنا عليه وليس عندنا ما نتقوى به على الخروج معه فأعطاهما ناضحا له
فارتحلاه وزودهما شيئا من تمر فخرجا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.
شأن المعذرين
قال ابن إسحاق:
ـــــــ
وذكر يونس بإثر حديث الجد بن قيس عن عبد الحميد بن بهرام عن شهر بن
حوشب عن عبد الرحمن بن غنم أن اليهود أتوا النبي صلى الله عليه وسلم
يوما، فقالوا: يا أبا
(7/386)
وجاءه المعذرون
من الأعراب، فاعتذروا إليه فلم يعذرهم الله تعالى. وقد ذكر لي أنهم نفر
من بني غفار.
تخلف نفر عن غير شك
ثم استتب برسول الله صلى الله عليه وسلم سفره وأجمع السير وقد كان نفر
من المسلمين أبطأت بهم النية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى
تخلفوا عنه عن غير شك ولا ارتياب منهم كعب بن مالك بن أبي كعب، أخو بني
سلمة ومرارة بن الربيع أخو بني عمرو بن عوف، وهلال بن أمية، أخو بني
واقف وأبو خيثمة أخو بني سالم بن عوف. وكانوا نفر صدق لا يتهمون في
إسلامهم.
خروج الرسول واستعماله على المدينة
فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب عسكره على ثنية الوداع
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة محمد بن مسلمة الأنصاري.
وذكر عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن أبيه
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل على المدينة ، مخرجه إلى تبوك
: سباع بن عرفطة.
تخلف المنافقين
قال ابن إسحاق:
وضرب عبد الله بن أبي معه على حدة عسكره أسفل منه نحو ذباب ، وكان فيما
يزعمون ليس بأقل العسكرين. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم تخلف
عنه عبد الله بن أبي، فيمن تخلف من المنافقين وأهل الريب.
ـــــــ
القاسم إن كنت صادقا أنك نبي فالحق بالشام فإن الشام أرض المحشر وأرض
الأنبياء فصدق النبي - صلى الله عليه وسلم - ما قالوا فغزا غزوة تبوك
لا يريد إلا الشام ، فلما بلغ أنزل الله تعالى عليه آيات من سورة بني
إسرائيل بعدما ختمت السورة {وَإِنْ كَادُوا
(7/387)
شأن علي بن أبي
طالب
وخلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، رضوان الله عليه
على أهله وأمره بالإقامة فيهم فأرجف به المنافقون وقالوا: ما خلفه إلا
استثقالا له وتخلفا منه. فلما قال ذلك المنافقون أخذ علي بن أبي طالب،
رضوان الله عليه سلاحه ثم خرج حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم
وهو نازل بالجرف فقال يا نبي الله زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك
استثقلتني وتخففت مني. فقال كذبوا، ولكنني خلفتك لما تركت ورائي، فارجع
فاخلفني في أهلي وأهلك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من
موسى؟ إلا أنه لا نبي بعدي، فرجع علي إلى المدينة ، ومضى رسول الله صلى
الله عليه وسلم على سفره
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن طلحة بن يزيد بن ركانة، عن إبراهيم بن
سعد بن أبي وقاص، عن أبيه سعد
أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لعلي هذه المقالة.
شأن أبي خيثمة
قال ابن إسحاق: ثم رجع علي إلى المدينة ، ومضى رسول الله صلى الله عليه
وسلم على سفره. ثم إن أبا خيثمة رجع بعد أن سار رسول الله صلى الله
عليه وسلم أياما إلى أهله في يوم حار فوجد امرأتين له في عريشين لهما
في حائطه قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له فيه ماء وهيأت له فيه
طعاما. فلما دخل قام على باب العريش فنظر إلى امرأتيه وما صنعتا له
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في
ظل بارد وطعام مهيأ وامرأة حسناء في ماله مقيم ما هذا بالنصف ثم قال
والله لا أدخل عريش واحدة منكما حتى ألحق برسول الله صلى الله عليه
وسلم فهيئا لي زادا، ففعلتا. ثم قدم
ـــــــ
لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذاً لا
يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلاً - إلى قوله – تَحْوِيلاً}
[الإسراء 76، 77]. فأمره بالرجوع إلى المدينة ، وقال فيها محياك،
(7/388)
ناضحه فارتحله
ثم خرج في طلب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أدركه حين نزل تبوك.
وقد كان أدرك أبا خيثمة عمير بن وهب الجمحي في الطريق يطلب رسول الله
صلى الله عليه وسلم فترافقا، حتى إذا دنوا من تبوك ، قال أبو خيثمة
لعمير بن وهب إن لي ذنبا، فلا عليك أن تخلف عني حتى آتي رسول الله صلى
الله عليه وسلم ففعل حتى إذا دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو
نازل بتبوك قال الناس هذا راكب على الطريق مقبل فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم كن أبا خيثمة ; فقالوا: يا رسول الله هو والله أبو
خيثمة. فلما أناخ أقبل فسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له
رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى لك يا أبا خيثمة . ثم أخبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم الخبر ; فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم
خيرا، ودعا له بخير.
قال ابن هشام: وقال أبو خيثمة في ذلك شعرا، واسمه مالك بن قيس:
لما رأيت الناس في الدين نافقوا
...
أتيت التي كانت أعف وأكرما
وبايعت باليمنى يدي لمحمد
...
فلم أكتسب إثما ولم أغش محرما
تركت خضيبا في العريش وصرمة
...
صفايا كراما بسرها قد تحمما
وكنت إذا شك المنافق أسمحت
...
إلى الدين نفسي شطره حيث يمما
النبي والمسلمون بالحجر
قال ابن إسحاق:
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر نزلها، واستقى
الناس من بئرها، فلما
ـــــــ
وفيها مماتك، ومنها تبعث ثم قال {أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ
الشَّمْسِ} إلى قوله {مَحْمُوداً} [الإسراء 78، 79] فرجع النبي صلى
الله عليه وسلم فأمره جبريل فقال سل ربك،
(7/389)
راحوا قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم لا تشربوا من مائها شيئا، ولا تتوضئوا منه
للصلاة وما كان من عجين عجنتموه فاعلفوه الإبل ولا تأكلوا منه شيئا،
ولا يخرجن أحد منكم الليلة إلا ومعه صاحب له، ففعل الناس ما أمرهم به
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن رجلين من بني ساعدة خرج أحدهما
لحاجته وخرج الآخر في طلب بعير له فأما الذي ذهب لحاجته فإنه خنق على
مذهبه وأما الذي ذهب في طلب بعيره فاحتملته الريح حتى طرحته بجبلي طيئ.
فأخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ألم أنهكم أن يخرج منكم
أحد إلا ومعه صاحبه. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم للذي أصيب
على مذهبه فشفي وأما الآخر الذي وقع بجبلي طيئ فإن طيئا أهدته لرسول
الله صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة
والحديث عن الرجلين عن عبد الله بن أبي بكر، عن عباس بن سهل بن سعد
الساعدي، وقد حدثنا عبد الله بن أبي بكر أن قد سمى له العباس الرجلين
ولكنه استودعه إياهما، فأبى عبد الله أن يسميهما لي.
قال ابن هشام: بلغني عن الزهري أنه قال
لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجر سجى ثوبه على وجهه واستحث
راحلته ثم قال لا تدخلوا بيوت الذين ظلموا إلا وأنتم باكون خوفا أن
يصيبكم مثل ما أصابهم.
قال ابن إسحاق:
فلما أصبح الناس ولا ماء معهم شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل الله سبحانه سحابة فأمطرت حتى
ارتوى الناس واحتملوا حاجتهم من الماء.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن
رجال من بني عبد الأشهل، قال قلت لمحمود
ـــــــ
فإن لكل نبي مسألة وكان جبريل عليه السلام له ناصحا، وكان محمد صلى
الله عليه وسلم له مطيعا، فقال ما تأمرني أن أسأل؟ قال {وَقُلْ رَبِّ
أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ}
(7/390)
هل كان الناس
يعرفون النفاق فيهم؟ قال نعم والله إن كان الرجل ليعرفه من أخيه ومن
أبيه ومن عمه وفي عشيرته ثم يلبس بعضهم بعضا على ذلك. ثم قال محمود لقد
أخبرني رجال من قومي عن رجل من المنافقين معروف نفاقه كان يسير مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم حيث سار فلما كان من أمر الناس بالحجر ما كان
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دعا، فأرسل الله السحابة فأمطرت
حتى ارتوى الناس قالوا: أقبلنا عليه نقول ويحك، هل بعد هذا شيء قال
سحابة مارة
ناقة للرسول ضلت وحديث ابن اللصيت
قال ابن إسحاق:
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم سار حتى إذا كان ببعض الطريق ضلت
ناقته فخرج أصحابه في طلبها، وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من
أصحابه يقال له عمارة بن حزم، وكان عقبيا بدريا، وهو عم بني عمرو بن
حزم، وكان في رحله زيد بن اللصيت القينقاعي وكان منافقا.
قال ابن هشام: ويقال ابن لصيب بالباء.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن محمود بن لبيد، عن
رجال من بني عبد الأشهل قالوا:
فقال زيد بن اللصيت وهو في رحل عمارة وعمارة عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم أليس محمد يزعم أنه نبي، ويخبركم عن خبر السماء وهو لا يدري
أين ناقته؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعمارة عنده إن رجلا قال
هذا محمد يخبركم أنه نبي، ويزعم أنه يخبركم
ـــــــ
وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَاناً
نَصِيراً} وهؤلاء نزلن عليه في رجعته من تبوك
(7/391)
بأمر السماء
وهو لا يدري أين ناقته وإني والله ما أعلم إلا ما علمني الله وقد دلني
الله عليها، وهي في هذا الوادي، في شعب كذا وكذا، قد حبستها شجرة
بزمامها، فانطلقوا حتى تأتوني بها، فذهبوا، فجاءوا بها. فرجع عمارة بن
حزم إلى رحله فقال والله لعجب من شيء حدثناه رسول الله صلى الله عليه
وسلم آنفا، عن مقالة قائل أخبره الله عنه بكذا وكذا، للذي قال زيد بن
لصيت فقال رجل ممن كان في رحل عمارة ولم يحضر رسول الله صلى الله عليه
وسلم زيد والله قال هذه المقالة قبل أن تأتي.
فأقبل عمارة على زيد يجافي عنقه ويقول إلي عباد الله إن في رحلي لداهية
وما أشعر اخرج أي عدو الله من رحلي، فلا تصحبني.
قال ابن إسحاق:
فزعم بعض الناس أن زيدا تاب بعد ذلك وقال بعض الناس لم يزل متهما بشر
حتى هلك.
ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرا، فجعل يتخلف عنه الرجل
فيقولون يا رسول الله تخلف فلان فيقول دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه
الله تعالى بكم وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه حتى قيل يا رسول
الله قد تخلف أبو ذر وأبطأ به بعيره فقال دعوه فإن يك فيه خير فسيلحقه
الله بكم، وإن يك غير ذلك فقد أراحكم الله منه وتلوم أبو ذر على بعيره
فلما أبطأ عليه أخذ متاعه فحمله على
ـــــــ
إبطاء أبي ذر
فصل وذكر أبا ذر الغفاري، وإبطاءه. واسمه جندب بن جنادة هذا أصح ما قيل
فيه وقد قيل فيه برير بن عشرقة وجندب بن عبد الله وابن السكن أيضا.
(7/392)
ظهره ثم خرج
يتبع أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشيا. ونزل رسول الله في بعض
منازله فنظر ناظر من المسلمين فقال يا رسول الله إن هذا الرجل يمشي على
الطريق وحده فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كن أبا ذر. فلما تأمله
القوم قالوا: يا رسول الله هو والله أبو ذر فقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده ويبعث وحده.
وقال ابن إسحاق: فحدثني بريدة بن سفيان الأسلمي، عن محمد بن كعب
القرظي، عن عبد الله بن مسعود، قال
لما نفى عثمان أبا ذر إلى الربذة، وأصابه بها قدره لم يكن معه أحد إلا
امرأته وغلامه فأوصاهما أن اغسلاني وكفناني، ثم ضعاني على قارعة الطريق
فأول ركب يمر بكم فقولوا: هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه
وسلم فأعينونا على دفنه. فلما مات فعلا ذلك به. ثم وضعاه على قارعة
الطريق وأقبل عبد الله بن مسعود في رهط من أهل العراق عمار فلم يرعهم
إلا بالجنازة على ظهر الطريق قد كادت الإبل تطؤها، وقام إليهم الغلام.
فقال هذا أبو ذر صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعينونا على دفنه.
قال فاستهل عبد الله بن مسعود يبكي ويقول صدق رسول الله صلى الله عليه
وسلم تمشي وحدك، وتموت وحدك، وتبعث وحدك. ثم نزل هو وأصحابه فواروه ثم
حدثهم عبد الله بن مسعود حديثه وما قال له رسول الله صلى الله عليه
وسلم في مسيره إلى تبوك.
ـــــــ
وقول النبي صلى الله عليه وسلم كن أبا ذر، وفي أبي خيثمة كن أبا خيثمة،
لفظه لفظ الأمر ومعناه الدعاء كما تقول أسلم سلمك الله .
إعراب كلمة وحده
وقوله في أبي ذر رحم الله أبا ذر يمشي وحده ويموت وحده أي
(7/393)
تخذيل
المنافقين المسلمين وما نزل فيهم
قال ابن إسحاق:
وقد كان رهط من المنافقين منهم وديعة بن ثابت، أخو بني عمرو بن عوف
ومعهم رجل من أشجع حلف لبني سلمة يقال له مخشن بن حمير قال ابن هشام:
ويقال: مخشي - يشيرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو منطلق إلى
تبوك ، فقال بعضهم لبعض أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم
بعضا والله لكأنا بكم غدا مقرنين في الحبال إرجافا وترهيبا للمؤمنين
فقال مخشن بن حمير: والله لوددت أني أقاضي على أن يضرب كل رجل منا مائة
جلدة وأن ننفلت أن ينزل فينا قرآن لمقالتكم هذه.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - لعمار بن ياسر أدرك
القوم فإنهم قد احترقوا، فسلهم عما قالوا، فإن أنكروا فقل بلى، قلتم
كذا وكذا. فانطلق إليهم عمار فقال ذلك لهم فأتوا رسول الله صلى الله
عليه وسلم يعتذرون إليه فقال وديعة بن ثابت، ورسول الله صلى الله عليه
وسلم واقف على ناقته فجعل يقول وهو آخذ بحقبها: يا رسول الله إنما كنا
نخوض ونلعب فأنزل الله عز وجل { وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ
إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ }[التوبة 65]. وقال مخشن بن حمير:
يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي، وكأن الذي عفي عنه في هذه الآية
مخشن بن حمير، فتسمى عبد الرحمن وسأل الله تعالى أن يقتله شهيدا لا
يعلم بمكانه فقتل يوم اليمامة، فلم يوجد له أثر.
الصلح بين الرسول ويحنة
ولما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، أتاه يحنة بن
رؤبة، صاحب أيلة، فصالح
ـــــــ
يموت منفردا، وأكثر ما تستعمل هذه الحال لنفي الاشتراك في الفعل نحو
كلمني زيد وحده أي منفردا بهذا الفعل وإن كان حاضرا معه غيره أي كلمني
خصوصا، وكذلك لو قلت: كلمته من بينهم وحده كان معناه خصوصا كما قرره
(7/394)
رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأعطاه الجزية وأتاه أهل جرباء وأذرح ، فأعطوه الجزية
فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم كتابا، فهو عندهم.
كتاب الرسول ليحنة
فكتب ليحنة بن رؤبة
بسم الله الرحمن الرحيم هذه أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله صلى
الله عليه وسلم ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسيارتهم في البر
والبحر لهم ذمة الله وذمة محمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام، وأهل
اليمن، وأهل البحر فمن أحدث منهم حدثا، فإنه لا يحول ماله دون نفسه
وإنه طيب لمن أخذه من الناس وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه ولا
طريقا يريدونه من بر أو بحر.
ـــــــ
سيبويه، وأما الذي في الحديث فلا يتقدر هذا التقدير لأنه من المحال أن
يموت خصوصا، وإنما معناه منفردا بذاته أي على حدته كما قال يونس فقول
يونس صالح في هذا الموطن وتقدير سيبويه له بالخصوص يصلح أن يحمل عليه
في أكثر المواطن وإنما لم يتعرف وحده بالإضافة لأن معناه كمعنى لا غير
ولأنها كلمة تنبئ عن نفي وعدم والعدم ليس بشيء فضلا عن أن يكون متعرفا
متعينا بالإضافة وإنما لم يشتق منه فعل وإن كان مصدرا في الظاهر لما
قدمناه من أنه لفظ ينبئ عن عدم ونفي والفعل يدل على حدث وزمان فكيف
يشتق من شيء لشيء بحدث إنما هو عبارة عن انتفاء الحدث عن كل أحد إلا عن
زيد مثلا إذا قلت: جاءني زيد وحده أي لم يجئ غيره وإنما يقال انعدم
وانتفى بعد الوجود لا قبله لأنه أمر متجدد كالحدث وقد أطنبنا في هذا
الغرض وزدناه بيانا في مسألة سبحان الله وبحمده وشرحها.
أجأ وسلمى
فصل وذكر الرجل الذي طرحته الريح بجبلي طيئ، وهما أجأوسلمى وعرف أجأ
بأجأ بن عبد الحي كان صلب في ذلك الجبل وسلمى صلبت في
(7/395)
حديث أسر أكيدر
ثم مصالحته
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا خالد بن الوليد، فبعثه إلى
أكيدر دومة، وهو أكيدر بن عبد الملك رجل من كندة كان ملكا عليها، وكان
نصرانيا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد إنك ستجده يصيد
البقر . فخرج خالد حتى إذا كان من حصنه بمنظر العين وفي ليلة مقمرة
صائفة وهو على سطح له ومع امرأته فباتت البقر تحك بقرونها باب القصر
فقالت له امرأته هل رأيت مثل هذا قط؟ قال لا والله قالت فمن يترك هذه؟
قال لا أحد. فنزل فأمر بفرسه فأسرج له وركب معه نفر من أهل بيته فيهم
أخ يقال له حسان. فركب وخرجوا معه بمطاردهم. فلما خرجوا تلقتهم خيل
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذته وقتلوا أخاه وقد كان عليه قباء من
ديباج مخوص بالذهب فاستلبه خالد فبعث به إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم قبل قدومه به عليه.
قال ابن إسحاق: فحدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن أنس بن مالك، قال
ـــــــ
الجبل الآخر فعرف بها، وهي سلمى بنت حام فيما ذكر والله أعلم.
أكيدر والكتاب الذي أرسل إليه
فصل: وذكر كتابه لأكيدر دومة ودومة بضم الدال هي هذه وعرفت بدومي بن
إسماعيل فيما ذكروا، وهي دومة الجندل، ودومة بالضم أخرى، وهي عند
الحيرة، ويقال لما حولها: النجف، وأما دومة بالفتح فأخرى مذكورة في
أخبار الردة.
وذكر أنه كتب لأكيدر دومة كتابا فيه عهد وأمان قال أبو عبيد: أنا قرأته
(7/396)
رأيت قباء
أكيدر حين قدم به على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل المسلمون
يلمسونه بأيديهم ويتعجبون منه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم
أتعجبون من هذا؟ فوالذي نفسي بيده لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن
من هذا .
قال ابن إسحاق:
ثم إن خالدا قدم أكيدرا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فحقن له دمه
وصالحه على الجزية ثم خلى سبيله فرجع إلى قريته فقال رجل من طيئ يقال
له بجير بن بجرة يذكر قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لخالد إنك
ستجده يصيد البقر، وما صنعت البقر تلك الليلة حتى استخرجته لتصديق قول
رسول الله صلى الله عليه وسلم
ـــــــ
أتاني به شيخ هنالك في قضيم والقضيم الصحيفة وإذا فيه بسم الله الرحمن
الرحيم من محمد رسول الله لأكيدر حين أجاب إلى الإسلام وخلع الأنداد
والأصنام مع خالد بن الوليد سيف الله في دومة الجندل وأكنافها، إن لنا
الضاحية من الضحل والبور والمعامي وأغفال الأرض والحلقة والسلاح
والحافر والحصن ولكم الضامنة من النخل والمعين من المعمور لا تعدل
سارحتكم ولا تعد فاردتكم ولا يحظر عليكم النبات تقيمون الصلاة لوقتها،
وتؤتون الزكاة بحقها، عليكم بذلك عهد الله والميثاق ولكم بذلك الصدق
والوفاء. شهد الله ومن حضر من المسلمين الضاحية أطراف الأرض والمعامي:
مجهولها، وأغفال الأرض ما لا أثر لهم فيه من عمارة أو نحوها، والضامنة
من النخل ما داخل بلدهم ولا يحظر عليكم النبات أي لا تمنعون من الرعي
حيث شئتم ولا تعدل سارحتكم أي لا تحشر إلى المصدق وإنما أخذ منهم بعض
هذه الأرضين مع الحلقة وهي السلاح ولم يفعل ذلك مع أهل الطائف حين
جاءوا تائبين لأن هؤلاء ظهر عليهم وأخذ ملكهم أسيرا، ولكنه أبقى لهم من
أموالهم ما تضمنه
(7/397)
تبارك سائق
البقرات إني
...
رأيت الله يهدي كل هاد
فمن يك حائدا عن ذي تبوك
...
فإنا قد أمرنا بالجهاد
الرجوع إلى المدينة
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتبوك بضع عشرة ليلة لم يجاوزها ثم
انصرف قافلا إلى المدينة.
حديث وادي المشقق ومائه
وكان في الطريق ماء يخرج من وشل، ما يروي الراكب والراكبين والثلاثة
بواد يقال له وادي المشقق ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم من
سبقنا إلى ذلك الوادي فلا يستقين منه شيئا حتى نأتيه . قال فسبقه إليه
نفر من المنافقين فاستقوا ما فيه فلما أتاه رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقف عليه فلم ير فيه شيئا. فقال من سبقنا إلى هذا الماء؟ فقيل له
يا رسول الله فلان وفلان فقال أولم أنههم أن يستقوا منه شيئا حتى آتيه
ثم لعنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا عليهم. ثم نزل فوضع يده
تحت الوشل فجعل يصب في
ـــــــ
الكتاب لأنه لم يقاتلهم حتى يأخذهم عنوة كما أخذ خيبر، فلو كان الأمر
كذلك لكانت أموالهم كلها للمسلمين وكان له الخيار في رقابهم كما تقدم
ولو جاءوا إليه تائبين أيضا قبل الخروج إليهم كما فعلت ثقيف ما أخذ من
أموالهم شيئا.
الكتاب إلى هرقل
ولم يذكر ابن إسحاق في غزوة تبوك ما كان من أمر هرقل، فإن النبي - صلى
الله عليه وسلم - كتب إليه من تبوك مع دحية بن خليفة ونصه مذكور في
الصحاح مشهور فأمر هرقل مناديا ينادي: ألا إن هرقل قد آمن بمحمد واتبعه
فدخلت الأجناد في سلاحها، وأطافت بقصره تريد قتله فأرسل إليهم إني أردت
أن أختبر صلابتكم في دينكم فقد رضيت عنكم فرضوا عنه ثم كتب كتابا،
وأرسله مع دحية يقول فيه للنبي - صلى الله عليه وسلم - إني مسلم ولكني
مغلوب على أمري، وأرسل إليه بهدية فلما قرأ النبي صلى الله عليه وسلم
كتابه قال كذب عدو الله ليس بمسلم، بل هو على نصرانيته
(7/398)
يده ما شاء
الله أن يصب ثم نضحه به ومسحه بيده ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما شاء الله أن يدعو له فانخرق من الماء - كما يقول من سمعه - ما إن
له حسا كحس الصواعق فشرب الناس واستقوا حاجتهم منه. فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم لئن بقيتم أو من بقي منكم لتسمعن بهذا الوادي، وهو أخصب
ما بين يديه وما خلفه .
وفاة ذي البجادين وقيام الرسول على دفنه
قال وحدثني محمد بن إبراهيم بن الحارث التيمي، أن عبد الله بن مسعود
كان يحدث قال
قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك،
قال فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر قال فاتبعتها أنظر إليها، فإذا
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
ـــــــ
موقفه صلى الله عليه وسلم من بعض الهدايا
وقبل هديته وقسمها بين المسلمين وكان لا يقبل هدية مشرك محارب وإنما
قبل هذه لأنها فيء للمسلمين ولذلك قسمها عليهم ولو أتته في بيته كانت
له خالصة كما كانت هدية المقوقس خالصة له وقبلها من المقوقس، لأنه لم
يكن محاربا للإسلام بل كان قد أظهر الميل إلى الدخول في الدين وقد رد
هدية أبي براء ملاعب الأسنة وكان أهدى إليه فرسا، وأرسل إليه إني قد
أصابني وجع أحسبه قال يقال له الدبيلة فابعث إلي بشيء أتداوى به فأرسل
إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بعكة عسل وأمره أن يستشفي به ورد
عليه هديته وقال إني نهيت عن زبد المشركين، وبعض أهل الحديث ينسب هذا
الخبر لعامر بن الطفيل عدو الله وإنما هو عمه عامر بن مالك. وقوله عليه
السلام عن زبد المشركين ولم يقل
(7/399)
سبب تسمية ذا
البجادين
قال ابن هشام:
وإنما سمي ذو البجادين لأنه كان ينازع إلى الإسلام فيمنعه قومه من ذلك
ويضيقون عليه حتى تركوه في بجاد ليس عليه غيره والبجاد الكساء الغليظ
الجافي، فهرب منهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان قريبا
منه شق بجاده باثنين فاتزر بواحد واشتمل بالآخر ثم أتى رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقيل له ذو البجادين لذلك والبجاد أيضا: المسح قال ابن
هشام: قال امرؤ القيس:
كأن أبانا في عرانين ودقه
...
كبير أناس في بجاد مزمل
سؤال الرسول لأبي رهم عمن تخلف
قال ابن إسحاق: وذكر ابن شهاب الزهري، عن ابن أكيمة الليثي عن ابن أخي
أبي رهم الغفاري أنه سمع أبا رهم كلثوم بن الحصين وكان من أصحاب رسول
الله صلى الله عليه وسلم الذين بايعوا تحت الشجرة، يقول:
ـــــــ
رسولك ما يحملني عليه وإني أتصدق على كل مسلم بكل مظلمة أصابني بها في
مال أو جسد أو عرض ثم أصبح مع الناس وقال النبي صلى الله عليه وسلم:
أين المتصدق في هذه الليلة؟ لم يقم أحد، ثم قال: أين المتصدق في هذه
الليلة فليقم ولا يتزاهد ما صنع هذه الليلة؟ فقام إليه فأخبره فقال
النبي صلى الله عليه وسلم: أبشر فوالذي نفس محمد بيده لقد كتب في
الزكاة المتقبلة. وأما سالم بن عمير وعبد الله بن المغفل فرآهما يامين
بن كعب يبكيان فزودهما، وحملهما، فلحقا بالنبي صلى الله عليه وسلم.
معنى كلمة حس
فصل وقوله خبرا عن أبي رهم أصابت رجلي رجل رسول الله صلى الله عليه
وسلم ورجله في الغرز فما استيقظت إلا بقوله حس. الغرز للرحل كالركاب
للسرج،
(7/401)
غزوت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، فسرت ذات ليلة معه ونحن بالأخضر
قريبا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وألقى الله علينا النعاس فطفقت
أستيقظ وقد دنت راحلتي من راحلة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيفزعني
دنوها منه مخافة أن أصيب رجله في الغرز فطفقت أحوز راحلتي عنه حتى
غلبتني عيني في بعض الطريق ونحن في بعض الليل فزاحمت راحلتي راحلة رسول
الله صلى الله عليه وسلم ورجله في الغرز فما استيقظت إلا بقوله حس،
فقلت: يا رسول الله استغفر لي. فقال سر، فجعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم يسألني عمن تخلف عن بني غفار، فأخبره به فقال وهو يسألني: ما فعل
النفر الحمر الطوال الثطاط . فحدثته بتخلفهم. قال فما فعل النفر السود
الجعاد
ـــــــ
وحس كلمة تقولها العرب عند وجود الألم وفي الحديث أن طلحة لما أصيبت
يده يوم أحد، قال حس فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - لو أنه قال بسم
الله يعني مكان حس لدخل الجنة والناس ينظرون أو كلاما هذا معناه وليست
حس باسم ولا بفعل إنها لا موضع لها من الإعراب وليست بمنزلة صه ومه
ورويد لأن تلك أسماء سمي الفعل بها وإنما حس صوت كالأنين الذي يخرجه
المتألم نحو آه ونحو قول الغراب غلق وقد ذكرنا قبل في أف وجهين أحدهما:
أن تكون من باب الأصوات مبنية كأنه يحكى بها صوت النفخ والثاني أن تكون
معربة مثل تبا يراد به الوسخ.
وقوله السود الثطاط جمع: ثط وهو الذي لا لحية له. قال الشاعر
كهامة الشيخ اليماني الثط
(7/402)
القصا ر؟ قال
قلت: والله ما أعرف هؤلاء منا. قال: بلى الذين لهم نعم بشبكة شدخ
فتذكرتهم في بني غفار، ولم أذكرهم حتى ذكرت أنهم رهط من أسلم كانوا
حلفاء فينا فقلت: يا رسول الله أولئك رهط من أسلم، حلفاء فينا ; فقال
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما منع أحد أولئك حين تخلف أن يحمل على
بعير من إبله امرأ نشيطا في سبيل الله؟ إن أعز أهلي علي أن يتخلف عني
المهاجرون من قريش والأنصار وغفار وأسلم
أمر مسجد الضرار عند القفول من غزوة تبوك
دعوتهم الرسول للصلاة فيه
قال ابن إسحاق:
ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزل بذي أوان، بلد بينه وبين
المدينة ساعة من نهار وكان أصحاب مسجد الضرار قد كانوا أتوه وهو يتجهز
إلى تبوك، فقالوا: يا رسول الله إنا قد بنينا مسجدا لذي العلة والحاجة
والليلة المطيرة والليلة الشاتية وإنا نحب أن تأتينا، فتصلي لنا فيه
فقال إني على جناح سفر وحال شغل أو كما قال صلى الله عليه وسلم ولو قد
قدمنا إن شاء الله لأتيناكم فصلينا لكم فيه
ـــــــ
ونحو منه السناط ومن المحدثين من يرويه الشطاط وأحسبه تصحيفا. وقوله
شبكة شدخ موضع من بلاد غفار.
أصحاب مسجد الضرار
فصل وذكر المنافقين الذين اتخذوا مسجدا ضرارا.
وذكر فيهم جارية بن عامر وكان يعرف بحمار الدار وهو جارية بن عامر بن
مجمع بن العطاف.
(7/403)
أمر الرسول
اثنين بهدمه
فلما نزل بذي أوان، أتاه خبر المسجد فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم
مالك بن الدخشم أخا بني سالم بن عوف، ومعن بن عدي أو أخاه عاصم بن عدي،
أخا بني العجلان فقال انطلقا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدماه
وحرقاه فخرجا سريعين حتى أتيا بني سالم بن عوف، وهم رهط مالك بن
الدخشم، فقال: مالك لمعن أنظرني حتى أخرج إليك بنار من أهلي. فدخل إلى
أهله فأخذ سعفا من النخل فأشعل فيه نارا، ثم خرجا يشتدان حتى دخلاه
وفيه أهله فحرقاه وهدماه وتفرقوا معه عنه ونزل فيهم من القرآن ما نزل
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً
بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} [التوبة: من الآية 107] إلى آخر القصة.
ـــــــ
وذكر فيهم ابنه مجمعا، وكان إذ ذاك غلاما حدثا قد جمع القرآن فقدموه
إماما لهم وهو لا يعلم بشيء من شأنهم وقد ذكر أن عمر بن الخطاب في
أيامه أراد عزله عن الإمامة وقال أليس بإمام مسجد الضرار، فأقسم له
مجمع أنه ما علم شيئا من أمرهم وما ظن إلا الخير فصدقه عمر وأقره وكانت
مساجد المدينة تسعة سوى مسجد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلهم
يصلون بأذان بلال كذلك قال بكير بن عبد الله الأشج فيما روى عنه أبو
داود في مراسيله، والدارقطني في سننه، فمنها مسجد راتج، ومسجد بني عبد
الأشهل ومسجد بني عمرو بن مبذول، ومسجد جهينة وأسلم، وأحسبه قال ومسجد
بني سلمة، وسائرها مذكور في السنن وذكر ابن إسحاق في المساجد التي في
الطريق مسجدا بذي الخيفة كذا وقع في كتاب أبي بحر بالخاء معجمة ووقع
الجيفة بالجيم في كتاب قرئ على ابن أبي سراج وابن الإقليلي وأحمد بن
خالد.
(7/404)
أسماء بناته
وكان الذين بنوه اثني عشر رجلا: خذام بن خالد من بني عبيد بن زيد، أحد
بني عمرو بن عوف ومن داره أخرج مسجد الشقاق، وثعلبة بن حاطب من بني
أمية بن زيد، ومعتب بن قشير، من بني ضبيعة بن زيد، وأبو حبيبة بن
الأزعر من بني ضبيعة بن زيد، وعباد بن حنيف أخو سهل بن حنيف، من بني
عمرو بن عوف وجارية بن عامر وابناه مجمع بن جارية، وزيد بن جارية ونبتل
بن الحارث من ضبيعة، وبحزج من بني ضبيعة وبجاد بن عثمان من بني ضبيعة،
ووديعة بن ثابت، وهو من بني أمية بن زيد رهط أبي لبابة بن المنذر.
مساجد الرسول فيما بين المدينة إلى تبوك
وكانت مساجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بين المدينة إلى تبوك
معلومة مسماة مسجد بتبوك، ومسجد بثنية مدران، ومسجد بذات الزراب ومسجد
بالأخضر ومسجد بذات الخطمي ومسجد بألاء ومسجد بطرف البتراء، من ذنب
كواكب ومسجد بالشق، شق تارا، ومسجد بذي الجيفة، ومسجد بصدر حوضى، ومسجد
بالحجر ومسجد بالصعيد، ومسجد بالوادي، اليوم وادي القرى. ومسجد بالرقعة
من الشقة شقة بني عذرة، ومسجد بذي المروة، ومسجد بالفيفاء، ومسجد بذي
خشب.
أمر الثلاثة الذين خلفوا وأمر المعذرين في غزوة تبوك
نهي الرسول عن كلام الثلاثة المخلفين
وقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وقد كان تخلف عنه رهط من
المنافقين وتخلف
ـــــــ
عن الثلاثة الذين خلفوا:
فصل وذكر الثلاثة الذين خلفوا، ونهي الناس عن كلامهم وإنما اشتد غضبه
على من تخلف عنه ونزل فيهم من الوعيد ما نزل حتى تاب الله على الثلاثة
منهم وإن كان الجهاد من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان لكنه في حق
(7/405)
أولئك الرهط
الثلاثة من المسلمين من غير شك ولا نفاق كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع
وهلال بن أمية ; فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه لا تكلمن
أحدا من هؤلاء الثلاثة وأتاه من تخلف عنه من المنافقين فجعلوا يحلفون
له ويعتذرون فصفح عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعذرهم الله
ولا رسوله. واعتزل المسلمون كلام أولئك النفر الثلاثة.
حديث كعب عن تخلفه
قال ابن إسحاق: فذكر الزهري محمد بن مسلم بن شهاب، عن عبد الرحمن بن
عبد الله بن كعب بن مالك: أن أباه عبد الله وكان قائد أبيه حين أصيب
بصره قال سمعت أبي كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وحديث صاحبيه قال:
ما تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة غزاها قط، غير أني
كنت قد تخلفت عنه في غزوة بدر وكانت غزوة لم يعاتب الله ولا رسوله أحدا
تخلف عنها، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج يريد عير
قريش، حتى جمع الله بينه وبين عدوه على غير ميعاد ولقد شهدت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم العقبة، وحين تواثقنا على الإسلام وما أحب أن
لي بها مشهد بدر وإن كانت غزوة بدر هي أذكر في الناس منها. قال كان من
خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم
أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزوة و والله ما
اجتمعت لي راحلتان قط حتى اجتمعتا في تلك الغزوة وكان رسول الله صلى
الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورى بغيرها، حتى كانت تلك
الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد واستقبل سفرا
بعيدا،
ـــــــ
الأنصار كان فرض عين وعليه بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم ألا تراهم
يقولون يوم الخندق، وهم يرتجزون
نحن الذين بايعوا محمدا
...
على الجهاد ما بقينا أبدا
من تخلف منهم يوم بدر إنما تخلف لأنهم خرجوا لأخذ عير ولم يظنوا
(7/406)
واستقبل غزو
عدو كثير فجلى للناس أمرهم ليتأهبوا لذلك أهبته وأخبرهم خبره بوجهه
الذي يريد والمسلمون من تبع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا
يجمعهم كتاب حافظ يعني بذلك الديوان يقول لا يجمعهم ديوان مكتوب.
قال كعب فقل رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أنه سيخفى له ذلك ما لم ينزل فيه
وحي من الله وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين طابت
الثمار وأحبت الظلال فالناس إليها صعر فتجهز رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتجهز المسلمون معه وجعلت أغدو لأتجهز معهم فأرجع ولم أقض حاجة
فأقول في نفسي، أنا قادر على ذلك إذا أردت، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى
شمر الناس بالجد فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غاديا، والمسلمون
معه ولم أقض من جهازي شيئا، فقلت: أتجهز بعده بيوم أو يومين ثم ألحق
بهم فغدوت بعد أن فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض شيئا، ثم غدوت فرجعت ولم
أقض شيئا، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا، وتفرط الغزو فهممت أن
أرتحل فأدركهم وليتني فعلت، فلم أفعل وجعلت إذا خرجت في الناس بعد خروج
رسول الله صلى الله عليه وسلم، فطفت فيهم يحزنني أني لا أرى إلا رجلا
مغموصا عليه في النفاق أو رجلا ممن عذر الله من الضعفاء ولم يذكرني
رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال وهو جالس في القوم
بتبوك ما فعل كعب بن مالك؟ فقال رجل من بني سلمة يا رسول الله حبسه
برداه والنظر في عطفيه فقال له معاذ بن جبل: بئس ما قلت والله يا رسول
الله ما علمنا منه إلا خيرا ; فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلا من تبوك ،
حضرني بثي، فجعلت أتذكر الكذب وأقول بماذا أخرج من سخطة رسول الله صلى
الله عليه وسلم غدا وأستعين على ذلك كل ذي رأي من أهلي ; فلما قيل إن
رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عني
ـــــــ
أن سيكون قتال فكذلك كان تخلفهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في
هذه الغزاة كبيرة لأنها كالنكث لبيعتهم كذلك قال ابن بطال رحمه الله في
هذه المسألة ولا أعرف لها وجها غير الذي قال وأما الثلاثة فهم كعب بن
مالك بن أبي كعب، واسم أبي
(7/407)
الباطل وعرفت
أني لا أنجو منه إلا بالصدق فأجمعت أن أصدقه وصبح رسول الله صلى الله
عليه وسلم المدينة ، وكان إذا قدم من سفر بدأ بالمسجد، فركع فيه ركعتين
ثم جلس للناس فلما فعل ذلك جاءه المخلفون فجعلوا يحلفون له ويعتذرون
وكانوا بضعة وثمانين رجلا، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم
علانيتهم وأيمانهم ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى، حتى جئت
فسلمت عليه فتبسم تبسم المغضب ثم قال لي: تعاله، فجئت أمشي، حتى جلست
بين يديه فقال لي: ما خلفك؟ ألم تكن ابتعت ظهرك؟ قال قلت: إني يا رسول
الله والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا، لرأيت أني سأخرج من سخطه
بعذر ولقد أعطيت جدلا، لكن والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديثا كذبا
لترضين عني، وليوشكن الله أن يسخطك علي ولئن حدثتك حديثا صدقا تجد علي
فيه إني لأرجو عقباي من الله فيه ولا والله ما كان لي عذر والله ما كنت
قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنك. فقال رسول الله صلى الله عليه
وسلم أما هذا فقد صدقت فيه، فقم حتى يقضي الله فيك فقمت، وثار معي رجال
من بني سلمة، فاتبعوني فقالوا لي: والله ما علمناك كنت أذنبت ذنبا قبل
هذا، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
بما اعتذر به إليه المخلفون قد كان كافيك ذنبك استغفار رسول الله صلى
الله عليه وسلم لك، فوالله ما زالوا بي حتى أردت أن أرجع إلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأكذب نفسي، ثم قلت لهم هل لقي هذا أحد غيري؟
قالوا: نعم رجلان قالا مثل مقالتك، وقيل لهما مثل ما قيل لك ; قلت: من
هما؟ قالوا: مرارة بن الربيع العمري، من بني عمرو بن عوف، وهلال بن
(أبي) أمية الواقفي ; فذكروا لي رجلين صالحين فيهما أسوة فصمت حين
ذكروهما لي، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا
ـــــــ
كعب عمرو بن القين بن كعب بن سواد بن غنم بن كعب بن سلمة بن سعد بن علي
بن أسد بن ساردة بن يزيد بن جشم بن الخزرج الأنصاري السلمي، يكنى: أبا
عبد الله وقيل أبا عبد الرحمن [وقيل أبا بشير] أمه ليلى بنت زيد بن
ثعلبة من بني سلمة أيضا، وهلال بن أمية، وهو من بني واقف ومرارة بن
ربيعة، ويقال ابن الربيع العمري الأنصاري من بني عمرو بن عوف
(7/408)
أيها الثلاثة
من بين من تخلف عنه فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا، حتى تنكرت لي نفسي
والأرض فما هي بالأرض التي كنت أعرف فلبثنا على ذلك خمسين ليلة فأما
صاحباي فاستكانا، وقعدا في بيوتهما، وأما أنا فكنت أشب القوم وأجلدهم
فكنت أخرج وأشهد الصلوات مع المسلمين وأطوف بالأسواق ولا يكلمني أحد،
وآتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة
فأقول في نفسي، هل حرك شفتيه برد السلام علي أم لا؟ ثم أصلي قريبا منه
فأسارقه النظر فإذا أقبلت على صلاتي نظر إلي وإذا التفت نحوه أعرض عني،
حتى إذا طال ذلك علي من جفوة المسلمين مشيت حتى كورت جدار حائط أبي
قتادة. وهو ابن عمي، وأحب الناس إلي فسلمت عليه فوالله ما رد علي
السلام فقلت: يا أبا قتادة، أنشدك بالله هل تعلم أني أحب الله ورسوله؟
فسكت. فعدت فناشدته، فسكت عني، فعدت فناشدته فسكت عني، فعدت فناشدته،
فقال الله ورسوله أعلم ففاضت عيناي ووثبت فتسورت الحائط، ثم غدوت إلى
السوق فبينا أنا أمشي بالسوق إذا نبطي يسأل عني من نبط الشام ، مما قدم
بالطعام يبيعه بالمدينة يقول من يدل على كعب بن مالك؟ قال فجعل الناس
يشيرون له إلي حتى جاءني، فدفع إلي كتابا من ملك غسان، وكتب كتابا في
سرقة من حرير فإذا فيه أما بعد فإنه قد بلغنا أن صاحبك قد جفاك، ولم
يجعلك الله بدار هوان ولا مضيعة فالحق بنا نواسك. قال قلت حين قرأتها:
وهذا من البلاء أيضا، قد بلغ بي ما وقعت فيه أن طمع في رجل من أهل
الشرك. قال فعمدت بها إلى تنور فسجرته بها. فأقمنا على ذلك حتى إذا مضت
أربعون ليلة من الخمسين إذا رسول رسول الله يأتيني، فقال إن رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأمرك أن تعتزل امرأتك، قال قلت: أطلقها أم ماذا؟
قال لا، بل اعتزلها ولا تقربها، وأرسل إلى صاحبي بمثل ذلك فقلت
لامرأتي: الحقي بأهلك،
ـــــــ
زاح عني الباطل:
فصل وذكر قول كعب زاح عني الباطل يقال: زاح وانزاح إذا ذهب والمصدر
زيوحا وزيحانا، إحداهما عن الأصمعي، والأخرى عن الكسائي.
(7/409)
فكوني عندهم
حتى يقضي الله في هذا الأمر ما هو قاض. قال وجاءت امرأة هلال بن أمية
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إن هلال بن أمية شيخ
كبير ضائع لا خادم له أفتكره أن أخدمه؟ قال: لا، ولكن لا يقربنك ;
قالت: والله يا رسول الله ما به من حركة إلي والله ما زال يبكي منذ كان
من أمره ما كان إلى يومه هذا، ولقد تخوفت على بصره. قال فقال لي بعض
أهلي: لو استأذنت رسول الله لامرأتك، فقد أذن لامرأة هلال بن أمية أن
تخدمه قال فقلت: والله لا أستأذنه فيها، ما أدري ما يقول رسول الله صلى
الله عليه وسلم لي في ذلك إذا استأذنته فيها، وأنا رجل شاب، قال فلبثنا
بعد ذلك عشر ليال فكمل لنا خمسون ليلة من حين نهى رسول الله صلى الله
عليه وسلم المسلمين عن كلامنا، ثم صليت الصبح صبح خمسين ليلة على ظهر
بيت من بيوتنا، على الحال الذي ذكر الله منا، قد ضاقت علينا الأرض بما
رحبت وضاقت علي نفسي، وقد كنت ابتنيت خيمة في ظهر مبلغ فكنت أكون فيها
إذ سمعت صوت صارخ أوفى علي فهو سلع يقول بأعلى صوته يا كعب بن مالك،
أبشر قال فخررت ساجدا، وعرفت أن قد جاء الفرج.
توبة الله عليهم:
قال وآذن رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس بتوبة الله علينا حين صلى
الفجر فذهب الناس يبشروننا، وذهب نحو صاحبي مبشرون وركض رجل إلي فرسا.
وسعى ساع من أسلم، حتى أوفى على الجبل فكان الصوت أسرع من الفرس، فلما
جاءني الذي سمعت صوته يبشرني، نزعت ثوبي، فكسوتهما إياه بشارة والله ما
أملك يومئذ
ـــــــ
وقوله: فقام إلي طلحة بن عبيد الله يهنئني، فكان كعب يراها له فيه جواز
السرور بالقيام إلى الرجل كما سر كعب بقيام طلحة إليه وقد قال عليه
السلام في خبر سعد بن معاذ: قوموا إلى سيدكم وقام هو صلى الله عليه
وسلم إلى قوم منهم صفوان بن أمية حين قدم عليه وإلى عدي بن حاتم، وإلى
زيد بن حارثة حين قدم عليه من مكة وغيرهم وليس هذا بمعارض لحديث معاوية
عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: " من سره
(7/410)
غيرهما،
واستعرت ثوبين فلبستهما، ثم انطلقت أتيمم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وتلقاني الناس يبشرونني بالتوبة يقولون ليهنك توبة الله عليك، حتى دخلت
المسجد ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس حوله الناس فقام إلي طلحة
بن عبيد الله، فحياني وهنأني، و والله ما قام إلي رجل من المهاجرين
غيره. قال فكان كعب بن مالك لا ينساها لطلحة.
قال كعب فلما سلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لي، ووجهه
يبرق من السرور أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ، قال قلت: أمن
عندك يا رسول الله أم من عند الله؟ قال: بل من عند الله . قال وكان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استبشر كان وجهه قطعة قمر. قال وكنا
نعرف ذلك منه. قال فلما جلست بين يديه قلت: يا رسول الله إن من توبتي
إلى الله عز وجل أن أنخلع من مالي، صدقة إلى الله وإلى رسوله قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك بعض مالك، فهو خير لك. قال قلت:
إني ممسك سهمي الذي بخيبر وقلت: يا رسول الله إن الله قد نجاني بالصدق
وإن من توبتي إلى الله أن لا أحدث إلا صدقا ما حييتوالله ما أعلم أحدا
من الناس أبلاه الله في صدق الحديث منذ ذكرت لرسول الله صلى الله عليه
وسلم ذلك أفضل مما أبلاني الله والله ما تعمدت من كذبة منذ ذكرت ذلك
لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومي هذا، وإني لأرجو أن يحفظني
الله فيما بقي.
وأنزل الله تعالى: {لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ
وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ
الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ
ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ
ـــــــ
أن يمثل له الرجال قياما فليتبوأ مقعده من النار" ويروى: يستجم له
الرجال لأن هذا الوعيد إنما توجه للمتكبرين وإلى من يغضب أو يسخط ألا
يقام له وقد قال بعض السلف يقام إلى الوالد برا به وإلى الولد سرورا به
وصدق هذا
(7/411)
رَحِيمٌ
وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} إلى قوله {وَكُونُوا مَعَ
الصَّادِقِينَ} [التوبة 117- 119].
قال كعب فوالله ما أنعم الله علي نعمة قط بعد أن هداني للإسلام كانت
أعظم في نفسي من صدقي رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ أن لا أكون
كذبته، فأهلك كما هلك الذين كذبوا، فإن الله تبارك وتعالى قال في الذين
كذبوه حين أنزل الوحي شر ما قال لأحد قال: {سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ
لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ
فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ
جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا
عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضَى عَنِ
الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ} [التوبة 95،96].
قال وكنا خلفنا أيها الثلاثة عن أمر هؤلاء الذين قبل منهم رسول الله
صلى الله عليه وسلم حين حلفوا له فعذرهم واستغفر لهم وأرجأ رسول الله
صلى الله عليه وسلم أمرنا، حتى قضى الله فيه ما قضى، فبذلك قال الله
تعالى: {وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا} [التوبة: من الآ
118]
وليس الذي ذكر الله من تخليفنا لتخلفنا عن الغزوة ولكن لتخليفه إيانا،
وإرجائه أمرنا عمن حلف له واعتذر إليه فقبل منه.
ـــــــ
القائل فإن فاطمة رضي الله عنها كانت تقوم إلى أبيها صلى الله عليه
وسلم برا به وكان هو صلى الله عليه وسلم يقوم إليها سرورا بها رضي الله
عنها، وكذلك كل قيام أثمره الحب في الله والسرور بأخيك بنعمة الله
والبر بمن يحب بره في الله تبارك وتعالى، فإنه خارج عن حديث النهي
والله أعلم.
(7/412)
|