الروض الأنف ت الوكيل

 [صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم من الإنجيل]
مَبْعَثُ النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وسلم تسليما قال: حدثنا أبو محمد عبد الملك بن هِشَامٍ، قَالَ: حَدّثَنَا زِيَادُ بْنُ عَبْدِ اللهِ الْبَكّائِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ: فَلَمّا بَلَغَ مُحَمّدٌ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أَرْبَعِينَ سَنَةً بَعَثَهُ اللهُ تَعَالَى رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ، وَكَافّةً لِلنّاسِ بَشِيرًا، وَكَانَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَخَذَ الْمِيثَاقَ عَلَى كُلّ نَبِيّ بَعَثَهُ قَبْلَهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَالتّصْدِيقِ لَهُ، وَالنّصْر لَهُ عَلَى مَنْ خَالَفَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤَدّوا ذَلِكَ إلَى كُلّ مَنْ آمَنْ بِهِمْ وَصَدّقَهُمْ، فَأَدّوْا مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْحَقّ فِيهِ. يَقُولُ اللهُ تَعَالَى لِمُحَمّدٍ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ:
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ، لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ، قالَ: أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي: أَيْ ثِقَلَ مَا حَمّلْتُكُمْ مِنْ عَهْدِي: قالُوا أَقْرَرْنا، قالَ: فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ آل عمران: 81، فأخذ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلّا وَجِبْرِيلُ مَعَهُمْ، يَتَحَنّنُ اللهَ عَلَيْهِمْ كَتَحَنّنِ النّسْرِ عَلَى فِرَاخِهِ، ثُمّ قَالَ لِي:
إذَا سَمِعْت بِهِ فَاخْرُجْ إلَيْهِ، وَآمِنْ بِهِ، وَصَدّقْ بِهِ، فَكَانَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُحِبّ أَنْ يَسْمَعَ أَصْحَابُهُ حَدِيثَهُ، فَأَتَاهُ يَوْمًا، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا نُعْمَانُ حَدّثْنَا، فَابْتَدَأَ النّعْمَانُ الْحَدِيثَ مِنْ أوله، فرؤى رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَئِذٍ يَتَبَسّمُ، ثُمّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنّي رَسُولُ اللهِ، وَهُوَ الّذِي قَتَلَهُ الْأَسْوَدُ الْعَنْسِيّ، وَقَطّعَهُ عُضْوًا عُضْوًا، وَهُوَ يَقُولُ: إنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، وَإِنّك كَذّابٌ مُفْتَرٍ عَلَى اللهِ، ثُمّ حَرّقَهُ بالنار.

(2/378)


اللهُ مِيثَاقَ النّبِيّينَ جَمِيعًا بِالتّصْدِيقِ لَهُ، وَالنّصْرِ لَهُ مِمّنْ خَالَفَهُ، وَأَدّوْا ذَلِكَ إلَى مَنْ آمَنْ بِهِمْ، وَصَدّقَهُمْ مِنْ أَهْلِ هَذَيْنِ الْكِتَابَيْنِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذَكَرَ الزّهْرِيّ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أنها حدّثته: أن أوّل ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ النّبُوّةِ، حِين أَرَادَ اللهُ كَرَامَتَهُ وَرَحْمَةَ العبادبه: الرّؤْيَا الصّادِقَةُ، لَا يَرَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رُؤْيَا فِي نُوُمِهِ إلّا جَاءَتْ كَفَلَقِ الصّبْحِ. قَالَتْ: وَحَبّبَ اللهُ تَعَالَى إلَيْهِ الْخَلْوَةَ، فَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ أَحَبّ إلَيْهِ من أن يخلو وحده.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عبيد الله بن أبى سفيان ابن العلاء ابن جارية الثّقفىّ، وكان واعية، عن بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ:
أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حِينَ أَرَادَهُ اللهُ بِكَرَامَتِهِ، وَابْتَدَأَهُ بِالنّبُوّةِ، كَانَ إذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ أَبْعَدَ حَتّى تَحَسّرَ عَنْهُ الْبُيُوتُ، وَيُفْضِي إلَى شِعَابِ مَكّةَ وَبُطُونِ أَوْدِيَتِهَا، فَلَا يَمُرّ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِحَجَرِ وَلَا شَجَرٍ، إلّا قَالَ: السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: فَيَلْتَفِتُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم حوله، وعن يمينه وشماله وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجارة.
فَمَكَثَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَذَلِكَ يَرَى وَيَسْمَعُ، مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَمْكُثَ، ثُمّ جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِمَا جَاءَهُ مِنْ كَرَامَةِ اللهِ، وَهُوَ بِحِرَاءٍ فِي شهر رمضان.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي وَهْبُ بْنُ كَيْسَانَ، مَوْلَى آلِ الزّبَيْرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/379)


قَالَ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزّبَيْرِ وَهُوَ يَقُولُ لِعُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرِ بْنِ قَتَادَةَ اللّيْثَيّ:
حَدّثْنَا يَا عُبَيْدُ، كَيْفَ كَانَ بَدْءُ مَا ابتدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم مِنْ النّبُوّةِ، حِين جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ؟ قَالَ: فَقَالَ عُبَيْدٌ- وَأَنَا حَاضِرٌ يُحَدّثُ عَبْدَ اللهِ بْنَ الزّبَيْرِ، وَمَنْ عِنْدَهُ مِنْ النّاسِ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ مِنْ كُلّ سَنَةٍ شَهْرًا، وَكَانَ ذَلِكَ مِمّا تَحَنّثَ بِهِ قُرَيْشٌ فِي الجاهلية. والتّحنّث: التّبرّرّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ أَبُو طَالِبٍ:
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حراء ونازل
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَقُولُ الْعَرَبُ: التّحَنّثُ وَالتّحَنّفُ، يريدون الحنيفية فيبدلون الفاء من الثاء، كما قالوا: جدف وجدث، يريدون. القبر. قال رؤية ابن العجّاج:
لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ
يُرِيدُ: الْأَجْدَاثَ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ. وَبَيْتُ أَبِي طَالِبٍ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ، سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللهُ فِي مَوْضِعِهَا:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْعَرَبَ تَقُولُ: فَم، فِي مَوْضِعِ: ثُمّ، يُبْدِلُونَ الْفَاءَ مِنْ الثّاءِ.
قَالَ ابن إسحاق: حدثنى وهب بن كيسان قال: قال عبيد [بن عمير] :
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/380)


فَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُجَاوِرُ ذَلِكَ الشّهْرَ مِنْ كُلّ سَنَةٍ، يُطْعِمُ مَنْ جَاءَهُ مِنْ الْمَسَاكِينِ، فَإِذَا قَضَى رَسُولُ الله صلى عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِوَارَهُ، مِنْ شَهْرِهِ ذَلِكَ، كَانَ أَوّلُ مَا يَبْدَأُ بِهِ- إذَا انْصَرَفَ مِنْ جِوَارِهِ- الْكَعْبَةَ، قَبْل أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، فَيَطُوفُ بِهَا سَبْعًا، أَوْ مَا شَاءَ اللهُ مِنْ ذَلِكَ، ثُمّ يَرْجِعُ إلَى بَيْتِهِ، حَتّى إذَا كَانَ الشّهْرُ الّذِي أَرَادَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِيهِ مَا أَرَادَ مِنْ كَرَامَتِهِ، مِنْ السّنَةِ التى بعثه اللهُ تَعَالَى فِيهَا، وَذَلِكَ، الشّهْرُ: شَهْرُ رَمَضَانَ، خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى حِرَاءٍ، كَمَا كَانَ يَخْرُجُ لِجِوَارِهِ وَمَعَهُ أَهْلُهُ، حَتّى إذَا كَانَتْ اللّيْلَةُ الّتِي أَكْرَمَهُ اللهُ فِيهَا بِرِسَالَتِهِ وَرَحِمَ الْعِبَادَ بِهَا، جَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى. قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ، وَأَنَا نَائِمٌ، بِنَمَطِ مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: قُلْت: مَا أَقْرَأُ؟ قال فغتني به، حتى ظننت أنه الموت، ثُمّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: قُلْت: مَاذَا أقرأ؟ قال: فغتني به، حتى ظننت أنه الموت، ثم أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: فَقُلْت: مَاذَا أَقْرَأُ؟ مَا أَقُولُ ذَلِكَ إلّا افْتِدَاءً مِنْهُ أَنْ يَعُودَ لِي بِمِثْلِ مَا صَنَعَ بِي، فَقَالَ: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ.
اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ» : قَالَ:
فَقَرَأْتهَا، ثُمّ انْتَهَى، فَانْصَرَفَ عَنّي، وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي، فَكَأَنّمَا كَتَبْت فِي قَلْبِي كِتَابًا. قَالَ: فَخَرَجْتُ حَتّى إذَا كُنْتُ فِي وَسَطٍ مِنْ الْجَبَلِ سَمِعْت صَوْتًا مِنْ السّمَاءِ يَقُولُ يَا مُحَمّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ قَالَ: فَرَفَعْت رَأْسِي إلَى السّمَاءِ أَنْظُرُ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافّ قَدَمَيْهِ فِي أُفُقِ السماء يقول:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/381)


يَا مُحَمّدُ، أَنْتَ رَسُولُ اللهِ وَأَنَا جِبْرِيلُ. قَالَ: فَوَقَفْت أَنْظُرُ إلَيْهِ فَمَا أَتَقَدّمُ وَمَا أَتَأَخّرُ، وَجَعَلْت أَصْرِفُ وَجْهِي عَنْهُ فِي آفَاقِ السّمَاءِ، قَالَ: فَلَا أَنْظُرُ فِي نَاحِيَةٍ مِنْهَا إلا رأيته كذلك، فمازلت وَاقِفًا مَا أَتَقَدّمُ أَمَامِي، وَمَا أَرْجِعُ وَرَائِي، حَتّى بَعَثَتْ خَدِيجَةُ رُسُلَهَا فِي طَلَبِي، فَبَلَغُوا أَعْلَى مَكّةَ، وَرَجَعُوا إلَيْهَا، وَأَنَا وَاقِفٌ فِي مكانى ذلك، ثم انصرف عنى.
وَانْصَرَفْتُ رَاجِعًا إلَى أَهْلِي، حَتّى أَتَيْتُ خَدِيجَةَ، فَجَلَسْت إلَى فَخِذِهَا مُضِيفًا إلَيْهَا، فَقَالَتْ: يَا أبا القاسم، أين كنت؟ فو الله لَقَدْ بَعَثَتْ رُسُلِي فِي طَلَبك، حَتّى بَلَغُوا مكة ورجعوا لى، ثم حدثتها بالذى رأيت، فقالت: أبشر يابن عمّ واثبت فو الذى نَفْسُ خَدِيجَةَ بِيَدِهِ إنّي لَأَرْجُو أَنْ تَكُونَ نبىّ هذه الأمّة.
ثُمّ قَامَتْ فَجَمَعْت عَلَيْهَا ثِيَابَهَا، ثُمّ انْطَلَقْت إلَى وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْن قُصَيّ، وَهُوَ ابْنُ عَمّهَا، وَكَانَ وَرَقَةُ قَدْ تَنَصّرَ، وَقَرَأَ الْكُتُبَ، وَسَمِعَ مِنْ أَهْلِ التّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، فَأَخْبَرْته بِمَا أَخْبَرَهَا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، أَنّهُ رَأَى وَسَمِعَ، فَقَالَ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ: قُدّوسٌ قُدّوسٌ، وَاَلّذِي نَفْسُ وَرَقَةَ بِيَدِهِ، لَئِنْ كُنْتِ صَدّقْتِينِي يَا خَدِيجَةُ لَقَدْ جَاءَهُ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى، وَإِنّهُ لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ، فَقُولِي لَهُ: فَلْيَثْبُتْ. فَرَجَعَتْ خَدِيجَةُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَخْبَرْته بِقَوْلِ وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ، فَلَمّا قَضَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جِوَارَهُ وَانْصَرَفَ، صَنَعَ كَمَا كَانَ يَصْنَعُ بَدَأَ بِالْكَعْبَةِ، فَطَافَ بِهَا، فَلَقِيَهُ وَرَقَةُ بْنُ نَوْفَلٍ، وَهُوَ يطوف بالكعبة، فقال:
يابن أَخِي أَخْبِرْنِي بِمَا رَأَيْتَ وَسَمِعْتَ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم، فقال له وَرَقَةُ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إنّك لَنَبِيّ هَذِهِ الْأُمّةِ، وَلَقَدْ جَاءَك النّامُوسُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/382)


الْأَكْبَرُ الّذِي جَاءَ مُوسَى، وَلَتُكَذّبَنّهُ وَلَتُؤْذَيَنّهُ، وَلَتُخْرَجَنّهُ، ولتقاتله، وَلَئِنْ أَنَا أَدْرَكْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ لَأَنْصُرَنّ اللهَ نَصْرًا يَعْلَمُهُ، ثُمّ أَدْنَى رَأْسَهُ مِنْهُ، فَقَبّلَ يَافُوخَهُ، ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم إلى منزله.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي إسْمَاعِيلُ بْنُ أَبِي حكيم مولى آل الزبير: أنه حدّث عَنْ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنّهَا قَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَيْ ابْنَ عَمّ، أَتَسْتَطِيعُ أَنّ تُخْبِرَنِي بِصَاحِبِك هَذَا الّذِي يَأْتِيك إذَا جَاءَك؟ قَالَ: نَعَمْ قَالَتْ: فَإِذَا جَاءَك فَأَخْبِرْنِي بِهِ. فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ، كَمَا كَانَ يَصْنَعُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِخَدِيجَةَ: يَا خَدِيجَةُ، هَذَا جِبْرِيلُ قَدْ جَاءَنِي، قَالَتْ:
قُمْ يَا بن عَمّ فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُسْرَى، قَالَ: فَقَامَ رَسُولُ- اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجلس عَلَيْهَا، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَتُحَوّلْ، فَاجْلِسْ عَلَى فَخِذِي الْيُمْنَى، قَالَتْ: فَتَحَوّلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجلس عَلَى فَخِذِهَا الْيُمْنَى، فَقَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: فَتَحَوّلْ فَاجْلِسْ فِي حِجْرِي، قَالَتْ: فَتَحَوّلَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَجَلَسَ فِي حِجْرِهَا، قَالَتْ: هَلْ تَرَاهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَتَحَسّرَتْ وَأَلْقَتْ خِمَارَهَا- وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ جَالِسٌ فِي حِجْرِهَا-، ثُمّ قَالَتْ لَهُ: هَلْ تَرَاهُ؟
قَالَ: لَا، قالت يابن عمّ، اثبت وأبشر، فو الله إنّهُ لَمَلَكٌ وَمَا هَذَا بِشَيْطَانٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدّثْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ حَسَنٍ هَذَا الْحَدِيثَ، فَقَالَ: قَدْ سَمِعْتُ أُمّي فَاطِمَةَ بِنْتَ حُسَيْنٍ تُحَدّثُ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَنْ خَدِيجَةَ، إلّا أَنّي سَمِعْتُهَا تَقُولُ: أَدْخَلَتْ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ دِرْعِهَا، فذهب عند
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(2/383)


ذَلِكَ جِبْرِيلُ، فَقَالَتْ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنّ هَذَا لَمَلَكٌ، وَمَا هُوَ بشيطان.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كِتَابُ الْمَبْعَثِ مَتَى بُعِثَ رَسُولُ اللهِ؟:
ذَكَرَ ابن إسحاق أن رسول الله- صلى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بُعِثَ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ مِنْ مَوْلِدِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ «1» ، وَهَذَا مَرْوِيّ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، وَجُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ وَقَبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ، وَعَطَاءٍ وَسَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ وَهُوَ صَحِيحٌ عِنْدَ أَهْلِ السّيَرِ وَالْعِلْمِ بِالْأَثَرِ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّهُ نُبّئَ لِأَرْبَعِينَ وَشَهْرَيْنِ مِنْ مَوْلِدِهِ، وَقِيلَ لِقَبَاثِ بْنِ أَشْيَمَ: مَنْ أَكْبَرُ، أَنْتَ أَمْ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: رَسُولُ اللهِ أَكْبَرُ مِنّي، وَأَنَا أسنّ منه، وولد رسول
__________
(1) اضطربت الأقوال حول سنه صلى الله عليه وسلم حين بعث. فبعض يقول: إنه بعث بعد اثنتين وأربعين سنة، وهو مروى عن مكحول. وآخرون يقولون: وهو ابن ثلاث وأربعين، وهو رأى الواقدى وابن عاصم والدولابى. ومما ذكره ابن حجر فى الفتح: حديث ابن عباس: فمكث بمكة ثلاث عشرة أصح مما عند أحمد من وجه آخر عنه: أنزل عَلَى النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وأربعين، فمكث بمكة عشرا، وأصح مما أخرجه مسلم من وجه آخر عنه: أقام بمكة خمس عشرة سنة. وبعثه فى رمضان هو المشهور عند الجمهور. وفى الفتح أيضا: فعلى الصحيح المشهور أن مولده فى ربيع الأول يكون حين أنزل عليه ابن أربعين سنة وستة أشهر، وفى حديث رواه الشيخان والترمذى أنه بعث لأربعين سنة، ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه.

(2/384)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَامَ الْفِيلِ، وَوَقَفَتْ بِي أُمّي عَلَى رَوْثِ الْفِيلِ وَيُرْوَى: خَزْقِ الطّيْرِ، فَرَأَيْته أَخْضَرَ مُحِيلًا، أَيْ: قَدْ أَتَى عَلَيْهِ حَوْلٌ، وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ لِبِلَالِ: لَا يَفُتْك صِيَامُ يَوْمِ الِاثْنَيْنِ؛ فَإِنّي قَدْ وُلِدْت فِيهِ، وَبُعِثْت فِيهِ، وَأَمُوتُ فِيهِ «1» .
إعْرَابُ لَمَا آتَيْتُكُمْ:
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ اللهِ سُبْحَانَهُ: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» «2» الْآيَةُ. وَمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ: اسْمٌ مُبْتَدَأٌ «3» بِمَعْنَى: الّذِي، وَالتّقْدِيرُ: لَلّذِي آتَيْنَاكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ، وَلَا يَصِحّ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى إضْمَارِ فِعْلٍ، كَمَا يَنْتَصِبُ مَا يشتغل عنه الفعل
__________
(1) فى مسلم عن أبى قتادة أن النبى صلى الله عليه وسلم، سئل عن صوم يوم الاثنين، فقال: «ذلك يوم ولدت فيه، وأنزل على فيه» أحمد ومسلم وأبو داود. وزيادة: «وأموت فيه» لا تتفق وهدى القرآن، فالبشر لا يعرفون: متى يموتون حتى النبيون.
(2) يقول طاووس والحسن البصرى وقتادة فى تفسير الاية: «أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضا» وهذا التفسير حق. وتنكير كلمة رسول فى الاية يؤيده.
(3) يقول العكبرى فى إعرابها: «فيها وجهان. أحدهما أن ما بمعنى الذى وموضعها رفع بالابتداء، واللام: لام الابتداء دخلت لتوكيد معنى القسم، وفى الخبر وجهان. أحدهما: من كتاب وحكمة. أى الذى أو تيتموه من الكتاب. والنكرة هنا كالمعرفة، والثانى: الخبر: لتؤمنن به والهاء عائدة على المبتدأ. واللام (م 25- الروض الأنف ج 2)

(2/385)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِضَمِيرِهِ، لِأَنّ مَا بَعْدَ اللّامِ الثّانِيَةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيمَا قَبْلَهَا، وَمَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِيهِ مَا قَبْلَهُ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَفْسِيرًا لِمَا يَعْمَلُ فِيهِ، وَقَدْ قِيلَ: إنّ مَا هَذِهِ شَرْطٌ. وَالتّقْدِيرُ: لهما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ لَتُؤْمِنُنّ بِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ سِيبَوَيْهِ، لِأَنّهُ جَعَلَهَا بِمَنْزِلَةِ: إنّ، وَقَوْلُ الْخَلِيلِ: إنّهَا بِمَنْزِلَةِ الّذِي، أَيْ:
إنّهَا اسْمٌ لَا حَرْفٌ، وَيُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ قَوْلَيْهِمَا عَلَى هَذَا، فَتَكُونُ اسْمًا، وَتَكُونُ شَرْطًا، وَيُحْتَمَلُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ عَلَى قَوْلِ الْخَلِيلِ: خَبَرِيّةً فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ، وَيَكُونَ الْخَبَرُ: لَتُؤْمِنُنّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنّهُ، وَإِنْ كَانَ الضّمِيرَانِ عَائِدَيْنِ عَلَى الرّسُولِ، لَا عَلَى الّذِي، وَلَكِنْ لَمّا قَالَ: رسول مصدّق لما معكم، ارْتَبَطَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ بِبَعْضِ، وَاسْتَغْنَى بِالضّمِيرِ الْعَائِدِ على الرسول عن ضمير يعود
__________
- جواب القسم، لأن أخذ الميثاق قسم فى المعنى، فأما قوله: ثم جاءكم» ، فهو معطوف على: ما آتيتكم، والعائد على «ما» من هذا المعطوف فيه وجهان. أحدهما: تقديره: ثم جاءكم به، واستغنى عن إظهاره بقوله: به فيما بعد. والثانى: أن قوله: لما معكم فى موضع الضمير، تقديره: مصدق له؛ لأن الذى معهم هو الذى آتاهم ويجوز أن يكون العائد ضمير الاستقرار العامل فى مع، ويجوز أن تكون الهاء فى: به، تعود على الرسول، والعائد على المبتدأ: محذوف، وسوغ ذلك طول الكلام، وأن تصديق الرسول تصديق للذى أوتيه، والقول الثانى: أن ما: شرط واللام قبله، لتلقى القسم كالتى فى قوله: لتن لم ينته المنافقون، وليست لازمة بدليل قوله: وإن لم ينتهوا عما يقولون، فعلى هذا تكون «ما» فى موضع نصب باتيت والمفعول الثانى: ضمير المخاطب، و «من كتاب» مثل «من آية» فى قوله: ما ننسخ من آية، وباقى الكلام على هذا الوجه ظاهر» ثم ذكر وجه إعرابها إذا قرئت بفتح اللام وتشديد الميم، كما ذكر قبل وجه إعرابها إذا قرئت بكسر اللام وتخفيف الميم ص 83 ج 1 إملاء ما من به الرحمن لأبى البقاء عبد الله بن الحسين بن عبد الله العكبرى

(2/386)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَى الْمُبْتَدَأِ، وَلَهُ نَظِيرٌ فِي التّنْزِيلِ مِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ) الْبَقَرَةُ: 234 خَبَرُهُ: يتربّصن بأنفسهن، وَلَمْ يَعُدْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ شَيْءٌ، لِتَشَبّثِ الْكَلَامِ بَعْضُهُ بِبَعْضِ، وَقَدْ لَاحَ لِي بَعْدَ نَظَرِي الْكِتَابَ أَنّ الّذِي قَالَهُ الْخَلِيلُ وَقَوْلَ سِيبَوَيْهِ قَوْلٌ وَاحِدٌ، غَيْرَ أَنّهُ قَالَ: وَدُخُولُ اللّامِ عَلَى مَا، كَدُخُولِهَا عَلَى إنّ، يَعْنِي: فِي الْجَزَاءِ، وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يُعْمِلَ مَا جَزَاءً، وَإِنّمَا تَكَلّمَ عَلَى اللّامِ خَاصّةً وَاَللهُ أَعْلَمُ.
النبوءة وأولو العزم:
وذكر قول ابن إسحق: وَالنّبُوءَةُ أَثْقَالٌ وَمُؤْنَةٌ لَا يَحْمِلُهَا وَلَا يَسْتَطِيعُهَا إلّا أَهْلُ الْقُوّةِ وَالْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ، وَوَقَعَ فى رواية يونس عن ابن إسحق فى هذا الموضع عن ربيعة ابن أَبِي عَبْدِ الرّحْمَنِ قَالَ: سَمِعْت وَهْبَ بْنَ مُنَبّهٍ وَهُوَ فِي مَسْجِدِ مِنًى- وَذَكَرَ لَهُ يُونُسَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: كَانَ عَبْدًا صَالِحًا، وَكَانَ فِي خُلُقِهِ ضِيقٌ، فَلَمّا حُمّلَتْ عَلَيْهِ أَثْقَالُ النّبُوءَةِ، وَلَهَا أَثْقَالٌ تَفَسّخَ تَحْتَهَا تَفَسّخَ الرّبُعِ تَحْتَ الْحِمْلِ الثّقِيلِ «1» ، فَأَلْقَاهَا عَنْهُ وَخَرَجَ هَارِبًا، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ ابن إسحق: إنّ أُولِي الْعَزْمِ مِنْ الرّسُلِ مِنْهُمْ: نُوحٌ وَهُودٌ وَإِبْرَاهِيمُ أَمّا نُوحٌ فَلِقَوْلِهِ: (يَا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ) يُونُسُ: 71 وَأَمّا هُودٌ فَلِقَوْلِهِ: (إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ) هُودٌ: 54 وَأَمّا إبْرَاهِيمُ، فَلِقَوْلِهِ هُوَ وَاَلّذِينَ مَعَهُ: (إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ
__________
(1) الرّبع بضم الراء وفتح الباء: الفصيل، ينتج فى الربيع، وهو أول النتاج والمقصود: ضعف وعجز.

(2/387)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللَّهِ) وَأَمَرَ اللهُ نَبِيّنَا أَنْ يَصْبِرَ كَمَا صَبَرَ هَؤُلَاءِ» .
أَوّلُ مَا بُدِئَ بِهِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ النّبُوءَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابن إسحق: ما بدىء بِهِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ النّبُوءَةِ، إذْ كَانَ لَا يَمُرّ بِحَجَرِ، وَلَا شَجَرٍ إلّا قَالَ: السّلَامُ عَلَيْك يَا رَسُولَ الله «2» ، وَفِي مُصَنّفِ التّرْمِذِيّ وَمُسْلِمٍ أَيْضًا أَنّ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: إنّي لَأَعْرِفُ حَجَرًا بِمَكّةَ كَانَ يُسَلّمُ عَلَيّ قَبْلَ أَنْ يُنَزّلَ عَلَي، وَفِي بَعْضِ الْمُسْنَدَاتِ زِيَادَةُ أَنّ هَذَا الْحَجَرَ الّذِي كَانَ يُسَلّمُ عَلَيْهِ هُوَ الْحَجَرُ الْأَسْوَدُ، وَهَذَا التّسْلِيمُ: الْأَظْهَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً، وَأَنْ يَكُونَ اللهُ أَنْطَقَهُ إنْطَاقًا كَمَا خَلَقَ الْحَنِينَ فِي الْجِذْعِ «3» ، وَلَكِنْ لَيْسَ مِنْ شَرْطِ الْكَلَامِ الّذِي هُوَ صَوْتٌ وَحَرْفٌ: الْحَيَاةُ وَالْعِلْمُ وَالْإِرَادَةُ، لِأَنّهُ صَوْتٌ كسائر الأصوات، والصوت: عرض فى قول
__________
(1) من أشهر الأقوال عن أولى العزم أنهم: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، ودليلهم أن الله نص على أسمائهم فى الأحزاب فقال: وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ، وَمِنْكَ، وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) الأحزاب: 7 كما نص عليهم فى سورة الشورى: «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ» الشورى: 13. وقيل إنهم جميع الرسل، وتكون من لبيان الجنس.
(2) فى الترمذى والدارمى «قال على: كنت مع النبى «ص» بمكة فخرجنا فى بعض نواحيها، فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول: السلام عليك يا رسول الله، وروى مثله الطبرانى فى الأوسط، وفيه مجهول.
(3) ورد حنين الجذع فى حديث رواه البخارى والنسائى والترمذى.

(2/388)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَكْثَرِينَ، وَلَمْ يُخَالِفْ فِيهِ إلّا النّظّامُ، فَإِنّهُ زعم أنه جسم، وجعله الأشعرىّ اصطكا كافى الْجَوَاهِرِ بَعْضُهَا لِبَعْضِ، وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ الطّيّبِ: لَيْسَ الصّوْتُ نَفْسَ الِاصْطِكَاكِ، وَلَكِنّهُ مَعْنًى زَائِدٌ عَلَيْهِ، وَلِلِاحْتِجَاجِ عَلَى الْقَوْلَيْنِ وَلَهُمَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا، وَلَوْ قَدّرْت الْكَلَامَ صِفَةً قَائِمَةً بنفس الحجر والشّجر، والصوت عيارة عَنْهُ، لَمْ يَكُنْ بُدّ مِنْ اشْتِرَاطِ الْحَيَاةِ وَالْعِلْمِ مَعَ الْكَلَامِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ: أَيّ ذَلِكَ كَانَ، أَكَانَ كَلَامًا مَقْرُونًا بِحَيَاةِ وَعِلْمٍ، فَيَكُونُ الْحَجَرُ بِهِ مُؤْمِنًا، أَوْ كَانَ صَوْتًا مُجَرّدًا غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِحَيَاةِ؟ وَفِي كِلَا الْوَجْهَيْنِ هُوَ عَلَمٌ مِنْ أَعْلَامِ النّبُوءَةِ «1» ، وَأَمّا حَنِينُ الْجِذْعِ فَقَدْ سُمّيَ حَنِينًا، وَحَقِيقَةُ الْحَنِينِ يَقْتَضِي شَرْطَ الْحَيَاةِ، وَقَدْ يَحْتَمِلُ تَسْلِيمَ الْحِجَارَةِ أَنْ يَكُونَ مُضَافًا فِي الْحَقِيقَةِ إلَى مَلَائِكَةٍ يَسْكُنُونَ تِلْكَ الْأَمَاكِنَ، يُعَمّرُونَهَا، فَيَكُونُ مَجَازًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ) «2» وَالْأَوّلُ أَظْهَرُ، وَإِنْ كَانَتْ كُلّ صُورَةٍ مِنْ هَذِهِ الصّوَرِ الّتِي ذَكَرْنَاهَا فِيهَا عَلَمٌ عَلَى نُبُوّتِهِ- عَلَيْهِ السّلَامُ- غَيْرَ أَنّهُ لَا يُسَمّى مُعْجِزَةً «3» فِي اصْطِلَاحِ الْمُتَكَلّمِينَ إلّا مَا تَحَدّى به الخلق، فعجزوا عن معارضته.
__________
(1) ليس لأحد أن يتكلم عن حقيقة مثل هذا، فالله وحده هو أعلم بالحقيقة.
(2) القرية- كما يقول الراغب فى مفرداته- اسم للموضع الذى يجتمع فيه الناس، وللناس جميعا. وبهذا لا يكون فى الاية مجاز كما هو المشهور.
(3) يجب أن نسميها بما سمى الله، وهى: آية، وبهذا تتجاوب الكلمة مع سكينة القلب والفكر وتقديسهما، ونخلصها مما دار حول المعجزة من جدال، واضطرم من شحناء وموازنات بينها وبين السحر والكرامة. والله سبحانه يسمى ما أعطاه للرسل آيات، لا معجزات فلنقف عند هذا.

(2/389)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَدْلُولُ تَفَعّلَ:
وَذَكَرَ حَدِيثَ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كَانَ يُجَاوِرُ بِغَارِ حِرَاءٍ «1» وَيَتَحَنّثُ فِيهِ، قَالَ: والتّحنّث: التّبرّر. تَفَعّلٌ مِنْ الْبِرّ، وَتَفَعّلَ: يَقْتَضِي الدّخُولَ فِي الْفِعْلِ، وَهُوَ الْأَكْثَرُ فِيهَا مِثْلُ: تَفَقّهَ وَتَعَبّدَ وَتَنَسّكَ وَقَدْ جَاءَتْ فِي أَلْفَاظٍ يَسِيرَةٍ تُعْطِي الْخُرُوجَ عَنْ الشّيْءِ وَاطّرَاحِهِ، كَالتّأَثّمِ وَالتّحَرّجِ.
وَالتّحَنّثُ بِالثّاءِ الْمُثَلّثَةِ «2» ، لِأَنّهُ مِنْ الْحِنْثِ، وَهُوَ الْحِمْلُ الثّقيل، وكذلك
__________
(1) جبل بينه وبين مكة ثلاثة أميال على يسار الذاهب إلى منى، ويقصر ويمد
(2) فى كتاب الأضداد للصغانى: تحنث إذا أتى الحنث، وإذا تجنبه، ومثله فى كتاب الأضداد لأبى بكر الأنبارى، وفيه: تحوب الرجل إذا تجنب الحوب، وهو الإثم العظيم، ولا يستعمل تحوب فى المعنى الاخر. وقال بعض أهل اللغة. تصدق الرجل إذا أعطى، وتصدق إذا سأل «ص 145، 154 الأضداد ط 1325 هـ لمحمد ابن القاسم بن بشار الأنبارى أبى بكر. ويقول الخشنى عن رأى ابن هشام فى التحنث وأنه التحنف: «فالجيد فيه أن يكون فيه التحنث هو الخروج من الحنث أى: الإثم، كما يكون الإثم الخروج عن التأثم، لأن تفعّل قد تستعمل فى الخروج عن الشىء، وفى الانسلاخ عنه، ولا يحتاج فيه إلى الإبدال الذى ذكره ابن هشام» ص 75: هذا ولصيغة تفعّل معان مذكورة فى مصادرها فانظرها مثل ج 1 ص 140 الشافية للرضى. وفى الصحيحين أنه جاور بحراء شهرا. وذكر ابن إسحاق أنه شهر رمضان. وليس هنالك نص صريح أو صحيح يبين لنا كيف كان يتحنث. وأذكر هنا بقول الله سبحانه عما كان عليه محمد قبل البعثة: «ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ» وقوله: «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» فهى إذا كانت عزلة عن مجتمع جاهلى عربدت فيه الخطيئة. والمفهوم من كلام ابن هشام أن هذا التحنث أمر كانت تأتيه قريش فى جاهليتها.

(2/390)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التّقَذّرُ، إنّمَا هُوَ تَبَاعُدٌ عَنْ الْقَذَرِ، وَأَمّا التّحَنّفُ بِالْفَاءِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التّبَرّرِ؛ لِأَنّهُ مِنْ الْحَنِيفِيّةِ دِينِ إبْرَاهِيمَ، وَإِنْ كَانَ الْفَاءُ مُبْدَلَةً مِنْ الثّاءِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ التّقَذّرِ وَالتّأَثّمِ، وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ هِشَامٍ، وَاحْتَجّ بِجَدَفٍ وَجَدَثٍ، وَأَنْشَدَ قَوْلَ رُؤْبَةَ: لَوْ كَانَ أَحْجَارِي مَعَ الْأَجْدَافِ، وَفِي بَيْتِ رُؤْبَةَ هَذَا شَاهِدٌ وَرَدّ عَلَى ابْنِ جِنّي حَيْثُ زَعَمَ فِي سِرّ الصّنَاعَةِ أَنّ جَدَفَ بِالْفَاءِ لَا يُجْمَعُ عَلَى أَجْدَافٍ، وَاحْتَجّ بِهَذَا لِمَذْهَبِهِ فِي أَنّ الثّاءَ هِيَ الْأَصْلُ، وَقَوْلُ رُؤْبَةَ «1» رَدّ عَلَيْهِ، وَاَلّذِي نَذْهَبُ إلَيْهِ أَنّ الْفَاءَ هِيَ الْأَصْلُ فِي هَذَا الْحَرْفِ، لِأَنّهُ مِنْ الْجَدْفِ وَهُوَ الْقَطْعُ، وَمِنْهُ مِجْدَافُ السّفِينَةِ، وَفِي حَدِيثِ عُمَرَ فِي وَصْفِ الْجِنّ: شَرَابُهُمْ الْجَدَفُ وَهِيَ الرّغْوَةُ، لأنها تجدف من الْمَاءِ، وَقِيلَ: هِيَ نَبَاتٌ يُقْطَعُ وَيُؤْكَلُ.
وَقِيلَ: كُلّ إنَاءٍ كُشِفَ عَنْهُ غِطَاؤُهُ: جَدَفٌ، وَالْجَدَفُ: الْقَبْرُ مِنْ هَذَا، فَلَهُ مَادّةٌ وَأَصْلٌ فِي الِاشْتِقَاقِ، فَأَجْدَرُ بِأَنْ تَكُونَ الْفَاءُ هِيَ الْأَصْلَ وَالِثَاءُ دَاخِلَةً عَلَيْهَا. «2»
حَوْلَ مُجَاوَرَتِهِ فِي حِرَاءٍ:
وَقَوْلُهُ: يُجَاوِرُ فِي حِرَاءٍ إلَى آخِرِ الْكَلَامِ. الجوار بالكسر فى معنى المجاورة
__________
(1) هو جزء من بيت من أرجوزة يعاتب بها رؤبة أباه العجاج. وقبله.
لا تعجلنّ الحتف ذا الإتلاف ... والدّهر إن الدهر ذو ازدلاف
بالمرء ذو عصف وذو انصراف ... لو كان أحجارى مع الأجداف
تعفو على جرثومة العوافى ... تضربها الأمطار والسوافى
انظر ص 100 من ديوان رؤبة ط ليبسي؟؟؟ ببرلين
(2) الجدف بالذال والدال: القبر، وكذلك الجدث. وفى القاموس عن الجدف أنه نبات باليمن يغنى آكله عن شرب الماء عليه، وهو أيضا ما رمى به التراب من زيد أوقذى. وكل ما هو بالدال من هذا يقال بالذال أيضا.

(2/391)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَهِيَ الِاعْتِكَافُ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْجِوَارِ وَالِاعْتِكَافِ إلّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ أَنّ الِاعْتِكَافَ لَا يَكُونُ إلّا دَاخِلَ الْمَسْجِدِ، وَالْجِوَارَ قَدْ يَكُونُ خَارِجَ الْمَسْجِدِ كَذَلِكَ قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُسَمّ جِوَارُهُ بِحِرَاءِ اعْتِكَافًا، لِأَنّ حِرَاءَ لَيْسَ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَلَكِنّهُ مِنْ جِبَالِ الْحَرَمِ، وَهُوَ الْجَبَلُ الّذِي نَادَى رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ قَالَ لَهُ ثَبِيرٌ وَهُوَ عَلَى ظَهْرِهِ: اهْبِطْ عَنّي؛ فَإِنّي.
أَخَافُ أَنْ تُقْتَلَ عَلَى ظَهْرِي فَأُعَذّبُ، فَنَادَاهُ حِرَاءٌ: إلَيّ إلَيّ يَا رَسُولَ اللهِ «1» .
كَيْفِيّةُ الْوَحْيِ:
فَصْل: وَذَكَرَ نُزُولَ جِبْرِيلَ عَلَى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال:
فِي الْحَدِيثِ: فَأَتَانِي وَأَنَا نَائِمٌ، وَقَالَ فِي آخِرِهِ: فَهَبَبْت مِنْ نَوْمِي، فَكَأَنّمَا كَتَبْت فِي قَلْبِي كِتَابًا، وَلَيْسَ ذِكْرُ النّوْمِ فِي حَدِيثِ عَائِشَةَ وَلَا غَيْرِهَا، بَلْ فِي حَدِيثِ عُرْوَةَ.
عَنْ عَائِشَةَ مَا يَدُلّ ظَاهِرُهُ عَلَى أَنّ نُزُولَ جِبْرِيلَ حِينَ نَزَلَ بِسُورَةِ اقْرَأْ، كَانَ فِي الْيَقِظَةِ؛ لِأَنّهَا قَالَتْ فِي أَوّلِ الْحَدِيثِ: أول ما بدىء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم: الرّؤْيَا الصّادِقَةُ، كَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إلّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصّبْحِ، ثُمّ حَبّبَ اللهُ إلَيْهِ الْخَلَاءَ- إلَى قَوْلِهَا- حَتّى جَاءَهُ الْحَقّ، وَهُوَ بِغَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ. فَذَكَرَتْ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنّ الرّؤْيَا كَانَتْ قَبْلَ نُزُولِ جِبْرِيلَ عَلَى النّبِيّ- عَلَيْهِ السّلَامُ- بِالْقُرْآنِ، وَقَدْ يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ بِأَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ- عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَاءَهُ جِبْرِيلُ فِي الْمَنَامِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَهُ فِي الْيَقِظَةِ تَوْطِئَةً وَتَيْسِيرًا عليه.
__________
(1) حديث يروى فى السير، وذكره عياض فى الشفاء بلاسند فهى أسطورة.

(2/392)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَرِفْقًا بَهْ، لِأَنّ أَمْرَ النّبُوءَةِ عَظِيمٌ، وَعِبْؤُهَا ثَقِيلٌ، وَالْبَشَرُ ضَعِيفٌ، وَسَيَأْتِي فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ مَقَالَةِ الْعُلَمَاءِ مَا يُؤَكّدُ هَذَا وَيُصَحّحُهُ، قد ثَبَتَ بِالطّرُقِ الصّحَاحِ عَنْ عَامِرٍ الشّعْبِيّ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وُكّلَ بَهْ إسْرَافِيلُ، فَكَانَ يَتَرَاءَى لَهُ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَيَأْتِيهِ بِالْكَلِمَةِ مِنْ الْوَحْيِ وَالشّيْءِ «1» ثُمّ وُكّلَ بَهْ جِبْرِيلُ فَجَاءَهُ بِالْقُرْآنِ وَالْوَحْيِ، فَعَلَى هَذَا كَانَ نُزُولُ الْوَحْيِ عَلَيْهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي أَحْوَالٍ مُخْتَلِفَةٍ، فَمِنْهَا: النّوْمُ كَمَا فِي حَدِيثِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَكَمَا قَالَتْ عَائِشَةُ أيضا: أول ما بدىء به رسول الله- صلى الله عليه وسلم: الرّؤْيَا الصّادِقَةُ «2» وَقَدْ قَالَ إبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السّلَامُ: إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى فَقَالَ لَهُ ابْنُهُ: افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ الصّافّاتُ: 102، فَدَلّ عَلَى أَنّ الْوَحْيَ كَانَ يَأْتِيهِمْ فِي الْمَنَامِ، كَمَا يَأْتِيهِمْ فِي الْيَقَظَةِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ الْكَلَامَ نَفْثًا، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّ رُوحَ الْقُدُسِ نَفَثَ فِي رَوْعِي أَنّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ، حَتّى تَسْتَكْمِلَ أجلها ورزقها،
__________
(1) هذا مخالف لما ثبت فى الأحاديث الصحيحة.
(2) ورد هذا فى حديث- رواه الشيخان والترمذى. وقد روى البخارى حديث الوحى فى كتاب التعبير من صحيحه وفى التفسير، وفى بده الوحى، واختار ما فى التعبير، لأن سياقه فيه أتم. وفى زاد المعاد أنه قيل: إن مدة الرؤية كانت ستة أشهر ويقول النووى عن حديث الرؤيا الذى روته عائشة: إنه من مراسيل الصحابة؛ لأن عائشة لم تدرك هذه القصة، فتكون سمعتها من النبى «ص» أو من صحابى، ص 581 ج 8 فتح البارى.

(2/393)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَاتّقُوا اللهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطّلَبِ «1» . وَقَالَ مُجَاهِدٌ، وَأَكْثَرُ الْمُفَسّرِينَ فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً الشّورَى: 51. قَالَ هُوَ أَنْ يَنْفُثَ فِي رَوْعِهِ بِالْوَحْيِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَأْتِيَهُ الْوَحْيُ فِي مِثْلِ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ «2» ، وَهُوَ أَشَدّهُ عَلَيْهِ، وَقِيلَ: إنّ ذَلِكَ لَيَسْتَجْمِعُ قَلْبُهُ عِنْدَ تِلْكَ الصّلْصَلَةَ، فَيَكُونُ أَوْعَى لِمَا يَسْمَعُ، وَأَلْقَنِ لِمَا يَلْقَى.
وَمِنْهَا: أَنْ يَتَمَثّلَ لَهُ الْمَلَكُ رَجُلًا، فَقَدْ كَانَ يَأْتِيهِ فى صورة دحية «3» بن
__________
(1) أبو نعيم فى الحلية عن أبى أمامة، وعلم عليه السيوطى بأنه ضعيف، ورواه بتمامه ابن أبى الدنيا فى كتاب القناعة والحاكم من حديث ابن مسعود، وابن ماجة عن جابر، والطبرانى من حديث أبى أمامة. والروع بضم الراء: النفس والقلب والذهن والعقل.
(2) ورد هذا فى حديث متفق عليه.
(3) دحية بكسر الدال وقد تفتح- بن خَلِيفَةَ بْنِ فَرْوَةَ بْنِ فَضَالَةَ بْنِ زَيْدِ ابن امرىء القيس بن الخزرج، أول مشاهده الخندق. نزل دمشق وسكن المزة، وعاش إلى خلافة معاوية. وذكر مقاتل أن التجارة التى سيأتى ذكرها كانت لدحية قبل إسلامه. وكان معها طبل، كما ورد فى كتاب المراسيل فى حديث رواه أبو داود. هذا وقد نزل جبريل على الرسول «ص» بصورة رجل غير دحية، كما جاء فى حديث أبى هريرة فى الصحيحين، وذلك حين جاءه جبريل يسأله عن الإيمان والإسلام والإحسان. وفى آخر الحديث. هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم. وقد وصف جبريل فى صورته هذه- كما جاء فى مسلم- بأنه رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، فلو أنه كان فى صورة دحية لعرفوه

(2/394)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
خَلِيفَةَ، وَيُرْوَى أَنّ دِحْيَةَ إذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ لَمْ تَبْقَ مُعْصِرٌ «1» إلّا خَرَجَتْ تَنْظُرُ إلَيْهِ لِفَرْطِ جَمَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ سَلّامٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً الْجُمُعَةُ: 11. قَالَ: كَانَ اللهْوُ نَظَرَهُمْ إلَى وَجْهِ دِحْيَةَ لِجَمَالِهِ.
وَمِنْهَا: أَنْ يَتَرَاءَى لَهُ جِبْرِيلُ فِي صُورَتِهِ الّتِي خَلَقَهُ اللهُ فِيهَا، لَهُ سِتّمِائَةِ جَنَاحٍ، يَنْتَشِرُ مِنْهَا اللّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتُ.
وَمِنْهَا: أَنْ يُكَلّمَهُ اللهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ: إمّا فِي الْيَقَظَةِ كَمَا كَلّمَهُ فِي لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَإِمّا فِي النّوْمِ، كَمَا قَالَ فِي حَدِيثِ مُعَاذٍ الّذِي رَوَاهُ التّرْمِذِيّ، قَالَ:
أَتَانِي رَبّي فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ، فَقَالَ: فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، فَقُلْت:
لَا أَدْرِي. فَوَضَعَ كَفّهُ بَيْنَ كَتِفَيْ، فَوَجَدَتْ بَرْدَهَا بَيْنَ ثُنْدُوَتَيّ «2» وَتَجَلّى لِي عَلَمُ كُلّ شَيْءٍ، وَقَالَ: يَا مُحَمّدُ، فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى، فَقُلْت:
فِي الْكَفّارَاتِ، فَقَالَ: وَمَا هُنّ!؟ فَقُلْت: الْوُضُوءُ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ، وَنَقْلُ الْأَقْدَامِ إلَى الْحَسَنَاتِ، وَانْتِظَارُ الصّلَوَاتِ بَعْدَ الصّلَوَاتِ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ عَاشَ حَمِيدًا، وَمَاتَ حَمِيدًا، وَكَانَ مِنْ ذَنْبِهِ كَمَنْ وَلَدَتْهُ أُمّهُ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ «3» . فَهَذِهِ سِتّةُ أَحْوَالٍ، وَحَالَةُ سَابِعَةٌ قَدْ قَدّمْنَا ذكرها، وهى
__________
(1) المرأة بلغت شبابها وأدركت.
(2) ثندوة بضم فسكون، فضم فواو مفتوحة فتاء، وقد تفتح الثاء: لحمة الثدى أو أصله.
(3) أحمد وعبد الرازق والترمذى والطبرانى عن ابن عباس مرفوعا، وابن مردويه والطبرانى من حديث معاذ، وقال البيهقى فى الأسماء والصفات: «هذا حديث مختلف فى إسناده. ثم ذكر طرقه، وقال: وكلها ضعيف، وأحسن طريق فيه رواية جهضم بن عبد الله- وهى منقطعة- ثم رواية موسى بن خلف-

(2/395)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نزول إسرافيل عليه بكلمات من الوحى قبل جِبْرِيلُ «1» فَهَذِهِ سَبْعُ صُوَرٍ فِي كَيْفِيّةِ نُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ أَرَ أَحَدًا جَمَعَهَا كَهَذَا الْجَمْعِ، وَقَدْ اسْتَشْهَدْنَا عَلَى صِحّتهَا بِمَا فِيهِ غنية، وَقَدْ أَمْلَيْنَا أَيْضًا فِي حَقِيقَةِ رُؤْيَتِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ رَبّهُ فِي الْمَنَامِ عَلَى أَحْسَنِ صُورَةٍ، وَيُرْوَى: على صورة شاب مسئلة بَدِيعَةٌ كَاشِفَةٌ لِقِنَاعِ اللّبْسِ، فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ.
مِنْ تَفْسِيرِ حَدِيثِ الْوَحْيِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ فِي الْحَدِيثِ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَاهُ بِنَمَطِ «2» مِنْ دِيبَاجٍ فِيهِ كِتَابٌ، فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ بَعْضُ الْمُفَسّرِينَ فِي قوله: (الم ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ) إنّهَا إشَارَةٌ إلَى الْكِتَابِ الّذِي جَاءَهُ بِهِ جِبْرِيلُ حِينَ قَالَ: اقْرَأْ، وَفِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ، مِنْهَا: أَنّهَا إشَارَةٌ إلَى مَا تَضَمّنَهُ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: الم؛ لِأَنّ هَذِهِ الْحُرُوفُ.
الْمُقَطّعَةُ تَضَمّنَتْ مَعَانِيَ الْكِتَابِ كُلّهِ، فَهِيَ كَالتّرْجَمَةِ له.
__________
- وفيه ما يثبت أنه كان فى النوم، وذكر ابن الجوزى أن طرق هذا الحديث مضطربة.
(1) ورد فى أثر عن الشعبى فى تاريخ الإمام أحمد ويعقوب بن سفيان وابن سعد والبيهقى. وهو مرسل أو معضل. وكلاهما من أقسام الضعيف، وقد أنكره الواقدى، وقال: لم يكن به من الملائكة إلا جبريل. قال الشامى: وهو المعتمد. وهو معارض للأحاديث الصحيحة.
(2) وعاء كالسفط. وهذا من مرسلات عبيد بن عمير.

(2/396)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَعْنَى اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ:
وَقَوْلِهِ: مَا أَنَا بقارىء، أَيْ: إنّي أُمّيّ، فَلَا أَقْرَأُ الْكُتُبَ، قَالَهَا «1» ثَلَاثًا فَقِيلَ لَهُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ، أَيْ: إنّك لَا تَقْرَؤُهُ بِحَوْلِك، وَلَا بِصِفّةِ نَفْسِك، وَلَا بِمَعْرِفَتِك، وَلَكِنْ اقْرَأْ مُفْتَتِحًا بِاسْمِ «2» رَبّك مُسْتَعِينًا بِهِ، فَهُوَ يُعَلّمُك كَمَا خَلَقَك وَكَمَا نزع عنك علق الدم، ومعمز الشيطان بعد ما خَلَقه فِيك، كَمَا خَلَقَهُ فِي كُلّ إنْسَانٍ. وَالْآيَتَانِ المتقدمتان لِمُحَمّدِ، وَالْآخِرَتَانِ: لِأُمّتِهِ، وَهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْإِنْسانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) لِأَنّهَا كَانَتْ أُمّةٌ أُمّيّةٌ لَا تَكْتُبُ، فَصَارُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَأَصْحَابَ قَلَمٍ، فَتَعَلّمُوا الْقُرْآنَ بِالْقَلَمِ، وَتَعَلّمَهُ نَبِيّهُمْ تَلْقِينًا مِنْ جِبْرِيلَ نَزّلَهُ عَلَى قَلْبِهِ بِإِذْنِ اللهِ، لِيَكُونَ مِنْ الْمُرْسَلِينَ.
حَوْلَ بِسْمِ اللهِ:
فَصْلٌ: وَفِي قَوْلِهِ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ مِنْ الْفِقْهِ: وُجُوبُ اسْتِفْتَاحِ الْقِرَاءَةِ بِبَسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ «3» ، غَيْرَ أَنّهُ أَمْرٌ مُبْهَمٌ لَمْ يُبَيّنْ لَهُ بِأَيّ اسْمٍ مِنْ أَسَمَاء ربه يفتتح،
__________
(1) قيل إن ما استفهامية، لما ورد فى رواية أبى الأسود عن عروة: كيف أقرأ؟ وابن إسحاق عن عبيد بن عمير، ماذا أقرأ؟ وقد جوز الأخفش دخول الباء على الخبر المثبت، وجزم به ابن مالك فى: بحسبك زيد، فجعل الخبر بحسبك وجعل الباء زائدة وسيأتى فى الشرح وفى الروض.
(2) أى ناويا بقراءته وجه الله سبحانه، ويجب فى قراءة القرآن الاستفتاح أولا بالاستعاذة، فقد جاء الأمر بها صريحا فى القرآن.
(3) يقول ابن كثير: افتتح بها الصحابة كتاب الله، واتفق العلماء على أنها بعض آية من سورة النمل. ثم اختلفوا: هل هى آية مستقله فى أول كل سورة،

(2/397)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَتّى جَاءَ الْبَيَانُ بَعْدُ فِي قَوْلِهِ: (بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها) هُود: 41 ثُمّ قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) النّمْلُ: 30. ثُمّ كَانَ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْزِلُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ بِبَسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ مَعَ كُلّ سُورَةٍ، وَقَدْ ثَبَتَتْ فِي سَوَادِ الْمُصْحَفِ بِإِجْمَاعِ مِنْ الصّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَمَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيّ مِنْ مُصْحَفِ الْحَسَنِ الْبَصَرِيّ، فَشُذُوذٌ، فَهِيَ عَلَى هَذَا مِنْ الْقُرْآنِ، إذْ لَا يُكْتَبُ فِي الْمُصْحَفِ مَا لَيْسَ بِقُرْآنِ، وَلَا يَلْتَزِمُ قَوْلُ الشّافِعِيّ أَنّهَا آيَةٌ مِنْ كُلّ سُورَةٍ، وَلَا أَنّهَا آيَةٌ مِنْ الْفَاتِحَةِ، بَلْ نَقُولُ: إنّهَا آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، مُقْتَرِنَةٌ مَعَ السّورَةِ، وَهُوَ قَوْلُ دَاوُد وَأَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلٌ بَيْنَ الْقُوّةِ لِمَنْ أَنْصَفَ، وَحِينَ نَزَلَتْ بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ سَبّحَتْ الْجِبَالُ، فَقَالَتْ قُرَيْشٌ: سَحَرَ مُحَمّدٌ الْجِبَالَ «1» ذَكَرَهُ النّقّاشُ، وَإِنْ صَحّ مَا ذَكَرَهُ، فَلِمَعْنَى مَا سَبّحَتْ عِنْدَ نُزُولِهَا خَاصّةً، وَذَلِكَ أَنّهَا آيَةٌ أُنْزِلَتْ عَلَى آلِ دَاوُد، وَقَدْ كَانَتْ الْجِبَالُ تُسَبّحُ مَعَ دَاوُد، كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى: (إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ) ص: 18 وَقَالَ: (إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ، وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) النّمْلُ: 30.
وَفِي الْحَدِيثِ ذَكَرَ نَمَطَ الدّيبَاجِ مِنْ الْكِتَابِ، وَفِيهِ دليل وإشارة إلى
__________
- كتبت فى أولها، أو أنها بعض آية من كل سورة، أو أنها كذلك فى الفاتحة دون غيرها: أو أنها إنما كتبت للفصل بين السور لا أنها آية. على أقوال. العلماء سلفا وخلفا؟ هذا وفى صحيح البخارى عن أنس أنه سئل عن قراءة النبى صلى الله عليه وسلم فقال: «كانت قراءته مدا مدا، ثم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم يمد باسم الله، ويمد الرحمن، ويمد الرحيم» .
(1) كيف عرفت قريش أنه تسبيح للجبال؟ والله يقول: «وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ» فكيف يفقهه عتاة الشرك؟

(2/398)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنّ هَذَا الْكِتَابَ يُفْتَحُ عَلَى أُمّتِهِ مُلْكَ الْأَعَاجِمِ، وَيَسْلُبُونَهُمْ الدّيبَاجَ وَالْحَرِيرَ الّذِي كَانَ زَيّهُمْ وَزِينَتَهُمْ، وَبَهْ أَيْضًا يُنَالُ مُلْكُ الْآخِرَةِ وَلِبَاسُ الْجَنّةِ وَهُوَ الْحَرِيرُ وَالدّيبَاجُ «1» ، وَفِي سِيَرِ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ، وَسِيَرِ سُلَيْمَانَ بْنِ الْمُعْتَمِرِ زِيَادَةٌ، وهو أن جبريل أتاه بدر نوك «2» مِنْ دِيبَاجٍ مَنْسُوجٍ بِالدّرّ وَالْيَاقُوتِ، فَأَجْلَسَهُ عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنّ مُوسَى بْنَ عُقْبَةَ قَالَ: بِبِسَاطِ، ولم يقل: درنوك، وقال فى سير ابْنُ الْمُعْتَمِرِ:
أَنّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) الْآيَاتِ، كَأَنّهُ يُشِيرُ بِهِ، فَمَسَحَ جِبْرِيلُ صَدْرَهُ، وَقَالَ: اللهُمّ اشْرَحْ صَدْرَهُ، وَارْفَعْ ذِكْرَهُ، وَضَعْ عنه وزره، ويصحح مارواه ابْنُ الْمُعْتَمِرِ أَنّ اللهَ تَعَالَى أَنْزَلَ عَلَيْهِ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) الْآيَاتِ، كَأَنّهُ يُشِيرُ إلَى ذَلِكَ الدّعَاءِ الّذِي كَانَ مِنْ جِبْرِيلَ، وَاَللهُ أَعْلَمُ «3» .
الْغَطّ:
وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: فَغَطّنِي «4» ، وَيُرْوَى: فَسَأَبَنِي، وَيُرْوَى: سأتني، وَأَحْسَبُهُ أَيْضًا يُرْوَى: فَذَعَتَنِي «5» وَكُلّهَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ الْخَنْقُ وَالْغَمّ، وَمِنْ الذّعْتِ حَدِيثُهُ الْآخَرُ: أَنّ الشّيْطَانَ عَرَضَ لَهُ، وَهُوَ يُصَلّي قَالَ: فَذَعْتهُ، حَتّى وَجَدْت بَرْدَ لِسَانِهِ عَلَى يَدَيْ، ثُمّ ذَكَرْت قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانُ: (وَهَبْ لِي مُلْكاً)
__________
(1) هكذا يا بنى على روايات واهية أمورا هى حقائق لا تبنى على مثل هذا الباطل.
(2) فى النهاية لابن الأثير: ستر له خمل وجمعه: درانك، ويقال: درموك أيضا، وفى القاموس. ضرب من الثياب أو البسط كالدرنيك بكسر الدال والطنفسة كالدّرنك كزبرج.
(3) رواية ضعيفة لا يعتد بها فلماذا يعتد بها السهيلى؟
(4) غطنى: ضمنى وعصرنى، والغت: حبس النفس.
(5) ذعته- أيضا-: ذأته ومعكه فى التراب، ودفعه دفعا عنيفا وتقال بالدال أيضا والسّاب: العصر فى الحلق، والسأت: الخنق.

(2/399)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي) الْحَدِيثُ «1» ، وَكَانَ فِي ذَلِكَ إظْهَارٌ لِلشّدّةِ وَالْجَدّ فِي الْأَمْرِ، وَأَنْ يَأْخُذَ الْكِتَابَ بِقُوّةِ؛ وَيَتْرُكُ الْأَنَاةَ فَإِنّهُ أَمْرٌ لَيْسَ بِالْهُوَيْنَى، وَقَدْ انْتَزَعَ بَعْضُ التّابِعِينَ وَهُوَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي مِنْ هَذَا: ألا يضرب الصبى على القرآن
__________
(1) فى البخارى فى باب التفسير: «إن عفريتا من الجن تفلت على البارحة- أو كلمة نحوها- ليقطع على الصلاة، فأمكننى الله تبارك وتعالى منه، وأردت أن أربطه إلى سارية من سوارى المسجد، حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم، فذكرت قول أخى سليمان- عليه الصلاة والسلام: رب اغفر لى، وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدِ مِنْ بعدى، قال روح- يعنى ابن عبادة راوى الحديث: فرده خاسئا. وهكذا رواه مسلم والنسائى من حديث شعبة به، وروى مسلم فى صحيحه عن أبى الدرداء قال: قام رسول الله صلى عليه وسلم يصلى، فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك، ثم قال ألعنك بلعنة الله ثلاثا- وبسط يده كأنه يتناول شيئا، فلما فرغ من الصلاة قلنا: يا رسول الله سمعناك تقول فى الصلاة شيئا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك، قال صلى الله عليه وسلم: إن عدو الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله فى وجهى، فقلت: أعوذ بالله منك ثلاث مرات، ثم قلت: ألعنك بلعنة الله التامة، فلم يتأخر ثلاث مرات، ثم أردت أن آخذه. والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقا يلعب به صبيان أهل المدينة. وفى حديث أحمد عن أبى سعيد الخدرى أنه كان فى صلاة الصبح فالتبست عليه القراءة، وأنه قال بعد انتهاء الصلاة: (لو رأيتمونى وإبليس فأهويت بيدى، فمازلت أخنقه حتى وجدت يرد لعابه بين أصبعى هاتين- الإبهام والتى تليها- ولولا دعوة أخى سليمان لأصبح مربوطا بسارية من سوارى المسجد يتلاعب به صبيان المدينة) ولقد قيل هنا: كيف يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم- ذكر دعوة سليمان، ولم يذكر إنتظار الله لإبليس حتى يوم الدين؟ وربنا أعلم بما كان.

(2/400)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلّا ثَلَاثًا كَمَا غَطّ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ مُحَمّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلَاثًا، وَعَلَى رواية ابن إسحق أَنّ ذَلِكَ فِي نَوْمِهِ كَانَ «1» ، يَكُونُ فِي تِلْكَ الْغَطّاتِ الثّلَاثِ مِنْ التّأْوِيلِ ثَلَاثُ شَدَائِدَ، يُبْتَلَى بِهَا أَوّلًا، ثُمّ يَأْتِي الْفَرَجُ وَالرّوحُ، وَكَذَلِك كَانَ لَقِيَ هُوَ وَأَصْحَابُهُ، شِدّةً مِنْ الْجُوعِ فِي شِعْبِ الْخَيْفِ، حِينَ تَعَاقَدَتْ قُرَيْشٌ ألّا يبيعوا منهم، ولا يتركوا مبرة تصل إليهم، وشدة أخرى من الخوف والإبعاد بِالْقَتْلِ، وَشِدّةٌ أُخْرَى مِنْ الْإِجْلَاءِ عَنْ أَحَبّ الْأَوْطَانِ إلَيْهِ، ثُمّ كَانَتْ الْعَاقِبَةُ لِلْمُتّقِينَ، وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ.
مَا أَنَا بِقَارِئِ:
وَقَوْلُهُ فى حديث ابن إسحق: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَقْرَأُ، يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ مَا اسْتِفْهَامًا، يُرِيدُ: أَيّ شَيْءٍ أَقْرَأُ؟ وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ نَفْيًا، وَرِوَايَةُ الْبُخَارِيّ وَمُسْلِمٍ تَدُلّ عَلَى أَنّهُ أَرَادَ النّفْيَ، أَيْ: مَا أُحْسِنُ أَنْ أَقْرَأَ، كَمَا تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِهِ:
مَا أنا بقارىء «2»
__________
(1) رواية المنام من مراسيل عبيد بن عمير، وهى مخالفة لرواية الصحيحين المسندة المرفوعة، والجمع بين الروايتين بأن هذا كان مرتين: الأولى فى المنام والأخرى فى اليقظة تأويل فاسد، فلو أن هذا حدث، ما حدث له كل ذلك الذى أصابه من شدة الوحى فى المرة الأخرى.
(2) فإن قيل: لم كرر ثلاثا؟ أجاب أبو شامة: بأن يحمل قوله أولا: ما أنا بقارىء على الامتناع، وثانيا: على الإخبار بالنفى المحض، وثالثا: على الاستفهام، ويؤيده أن فى رواية أبى الأسود فى مغازيه عن عروة أنه قال: كيف أقرأ؟ وفى رواية ابن عمير عن ابن إسحاق: ماذا أقرأ؟، وفى مرسل الزهرى فى دلائل البيهقى: كيف أقرأ. وكل ذلك يؤيد أنها استفهامية.

(2/401)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رُؤْيَةُ جِبْرِيلَ وَمَعْنَى اسْمِهِ:
وَذَكَرَ رُؤْيَتَهُ لِجِبْرِيلَ، وَهُوَ صَافّ قَدَمَيْهِ، وَفِي حَدِيثِ جَابِرٍ أَنّهُ رَآهُ عَلَى رَفْرَفٍ «1» بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَيُرْوَى: عَلَى عَرْشٍ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ الّذِي ذَكَرَهُ فِي آخِرِ الْجَامِعِ أَنّهُ حين فترعنه الْوَحْيُ، كَانَ يَأْتِي شَوَاهِقَ الْجِبَالِ يُهِمّ بِأَنْ يُلْقِي نَفْسَهُ مِنْهَا، فَكَانَ جِبْرِيلُ يَتَرَاءَى لَهُ بَيْنَ السّمَاءِ وَالْأَرْضِ، يَقُولُ لَهُ: أَنْتَ رَسُولُ اللهِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ. وَاسْمُ جِبْرِيلَ سُرْيَانِيّ، وَمَعْنَاهُ: عَبْدُ الرّحْمَنِ، أَوْ عَبْدُ الْعَزِيزِ. هَكَذَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مَوْقُوفًا وَمَرْفُوعًا أَيْضًا، وَالْوَقْفُ أَصْلُهُ. وَأَكْثَرُ النّاسِ عَلَى أَنّ آخِرَ الِاسْمِ مِنْهُ هُوَ اسْمُ اللهِ، وَهُوَ: إيّلُ، وَكَانَ شَيْخُنَا رَحِمَهُ اللهُ يَذْهَبُ مَذْهَبِ طَائِفَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي أَنّ هَذِهِ الْأَسْمَاءَ إضَافَتُهَا مَقْلُوبَةٌ، وَكَذَلِكَ الْإِضَافَةُ فِي كَلَامِ الْعَجَمِ، يَقُولُونَ فِي غُلَامِ زَيْدٍ: زَيْدٌ غُلَامٌ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ إيل عَبّارَةً عَنْ الْعَبْدِ، وَيَكُونُ أَوّلَ الِاسْمِ عَبّارَةً عَنْ اسْمٍ مِنْ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى، أَلَا تَرَى كَيْفَ قَالَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ: جِبْرِيلُ وَمِيكَائِيلُ، كَمَا تَقُولُ: عَبْدُ اللهِ وَعَبْدُ الرّحْمَنِ، أَلَا تَرَى أَنّ لَفْظَ عَبْدٍ يَتَكَرّرُ بِلَفْظِ وَاحِدٍ، وَالْأَسْمَاءُ أَلْفَاظُهَا مُخْتَلِفَةٌ.
حَوْلَ مَعْنَى إلْ وَخَرَافَةُ الرّهْبَانِ:
وَأَمّا إلْ بِالتّشْدِيدِ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (إِلّا وَلَا ذِمّةً) التوبة: 10 فحذار
__________
(1) البساط أو الستر، وأصله ما كان من الديباج، وغيره رقيقا حسن الصنعة، ثم توسع فيه.

(2/402)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَذَارِ مِنْ أَنْ تَقُولَ فِيهِ: هُوَ اسْمُ «1» اللهِ، فَتُسَمّي اللهَ بِاسْمِ لَمْ يُسَمّ بِهِ نَفْسَهُ أَلَا تَرَى أَنّ جَمِيعَ أَسْمَاءِ اللهِ تَعَالَى مُعَرّفَةٌ، و «إلّ» نَكِرَةٌ، وَحَاشَا لِلّهِ أَنْ يَكُونَ اسْمُهُ نَكِرَةً، وَإِنّمَا الْأَلّ كُلّ ماله حُرْمَةٌ وَحَقّ، فَمِمّا لَهُ حَقّ وَيَجِبُ تَعْظِيمُهُ: الْقَرَابَةُ وَالرّحِمُ وَالْجِوَارُ وَالْعَهْدُ، وَهُوَ مِنْ أَلَلْت: إذَا اجْتَهَدْت فِي الشّيْءِ وَحَافَظْت عَلَيْهِ، وَلَمْ تُضَيّعْهُ، وَمِنْهُ: الْأَلّ فِي السّيْرِ وَهُوَ الْجَدّ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْكُمَيْتِ [يَصِفُ رَجُلًا] .
وَأَنْتَ مَا أنت فى غبراء مجدبة ... إذادعت أَلَلَيْهَا الْكَاعِبُ الْفُضُلُ «2»
يُرِيدُ: اجْتَهَدْت فِي الدّعَاءِ، وَإِذَا كَانَ الْأَلّ بِالْفَتْحِ الْمَصْدَرَ، فَالْإِلّ بِالْكَسْرِ: الاسم كالذّبح من الذّبْحِ، فَهُوَ إذًا الشّيْءُ الْمُحَافَظُ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ الصّدّيقِ:
[عَنْ كَلَامِ مُسَيْلِمَةَ] : هَذَا كَلَامٌ لَمْ يَخْرُجْ مِنْ إلّ وَلَا بِرّ، أَيْ: لَمْ يَصْدُرْ عَنْ رُبُوبِيّةٍ، لِأَنّ الرّبُوبِيّةَ حَقّهَا وَاجِبٌ مُعَظّمٌ، وَكَذَلِكَ فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ، وَاتّفِقَ فِي اسْمِ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنّهُ مُوَافِقٌ مِنْ جِهَةِ الْعَرَبِيّةِ لِمَعْنَاهُ، وَإِنْ كَانَ أَعْجَمِيّا، فَإِنّ الْجَبْرَ هُوَ إصْلَاحُ مَا وَهَى، وَجِبْرِيلُ مُوَكّلٌ بِالْوَحْيِ، وَفِي الْوَحْيِ إصْلَاحُ مَا فَسَدَ، وَجَبْرُ مَا وَهَى مِنْ الدّينِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعْرُوفًا بِمَكّةَ وَلَا بِأَرْضِ الْعَرَبِ فَلَمّا أَخْبَرَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَدِيجَةَ بِهِ انْطَلَقَتْ تسئل مَنْ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ الْكِتَابِ كَعَدّاسِ وَنَسْطُور الرّاهِبِ «3» ، فَقَالَ لَهَا: قُدّوسٌ قُدّوسٌ! أَنّى لِهَذَا الاسم أن
__________
(1) له الحق فى أن يحذر من هذا، فهو ليس من الأسماء الحسنى، وإن كان موجودا فى بعض معاجم اللغة.
(2) فى الأصل: إليهما، والبيت فى اللسان هكذا:
وأنت ما أنت فى غبراء مظلمة ... إذا دعت ألليها الكاعب الفضل
(3) تكلمت عن هذا من قبل، وعداس- كما قيل- نصرانى من نينوى وانظر قصته فى السيرة الحلبية ص 278 ج 1.

(2/403)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُذْكَرَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، وَقَدْ قَدّمْنَا هَذَا الْخَبَرَ عَنْهَا، وَهُوَ فِي سِيَرِ التيمي لَمّا ذَكَرْنَاهُ قَبْلَ، وَفِي كِتَابِ الْمُعَيّطِي عَنْ أَشْهَبَ قَالَ: سُئِلَ مَالِكٌ عَنْ التّسَمّي بِجِبْرِيلَ أَوْ مَنْ يُسَمّي بِهِ وَلَدَهُ، فَكَرِهَ ذَلِكَ، وَلَمْ يُعْجِبْهُ.
مَعْنَى النّامُوسِ:
وَقَوْلُ وَرَقَةَ: لَقَدْ جَاءَهُ النّامُوسُ الْأَكْبَرُ الّذِي كَانَ يَأْتِي مُوسَى.
النّامُوسُ: صَاحِبُ سِرّ الْمَلَكِ، قَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ صَاحِبُ سِرّ الْخَيْرِ، وَالْجَاسُوسُ:
هُوَ صَاحِبُ سِرّ الشّرّ «1» ، وَقَدْ فَسّرَهُ أَبُو عُبَيْدٍ وَأَنْشَدَ:
فَأَبْلِغْ يَزِيدَ إنْ عَرَضْت وَمُنْذِرًا ... عَمّهُمَا وَالْمُسْتَشِزّ الْمُنَامِسَا «2»
لِمَ ذُكِرَ مُوسَى وَلَمْ يُذْكَرْ عِيسَى:
وَإِنّمَا ذَكَرَ وَرَقَةُ مُوسَى وَلَمْ يَذْكُرْ عِيسَى، وَهُوَ أَقْرَبُ، لِأَنّ وَرَقَةَ كَانَ قَدْ تَنَصّرَ، وَالنّصَارَى لَا يَقُولُونَ فِي عِيسَى: إنّهُ نَبِيّ يَأْتِيهِ جِبْرِيلُ، إنّمَا يَقُولُونَ فِيهِ:
إنّ أُقْنُومًا «3» مِنْ الْأَقَانِيمِ الثّلَاثَةِ اللّاهُوتِيّةِ حَلّ بِنَاسُوتِ الْمَسِيحِ، وَاتّحَدَ بِهِ عَلَى اخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُلُولِ، وَهُوَ أُقْنُومُ الْكَلِمَةِ، وَالْكَلِمَةُ عِنْدَهُمْ:
عِبَارَةٌ عَنْ الْعِلْمِ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْمَسِيحُ عِنْدَهُمْ، يَعْلَمُ الْغَيْبَ، وَيُخْبِرُ بِمَا فِي غَدٍ، فَلَمّا كَانَ هَذَا مِنْ مَذْهَبِ النّصَارَى الْكَذَبَةِ عَلَى اللهِ، الْمُدّعِينَ الْمُحَالِ، عدل عن ذكر
__________
(1) جزم البخارى فى أحاديث الأنبياء أنه صاحب السر، وقال ابن دريد: صاحب الوحى، وأهل الكتاب يسمون جبريل: الناموس الأكبر. والخشنى يقول: أصل الناموس هو: صاحب سر الرجل فى خيره وشره.
(2) البيت للكميت كما ذكر اللسان وفيه: «وعميهما، والمستسر» بدلا من «عمهما والمستشز» ومعنى المنامس: الداخل فى الناموس.
(3) الأفنوم: كلمة رومية معناها: الأصل.

(2/404)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عِيسَى إلَى ذِكْرِ مُوسَى لِعِلْمِهِ، أَوْ لِاعْتِقَادِهِ أَنّ جِبْرِيلَ كَانَ يَنْزِلُ عَلَى مُوسَى، لَكِنْ وَرَقَةُ قَدْ ثَبَتَ إيمَانُهُ بِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ «1» وَقَدْ قَدّمْنَا حَدِيثَ التّرْمِذِيّ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَآهُ فِي الْمَنَامِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ بِيضٌ إلَى آخِرِ الْحَدِيثِ.
حَوْلَ هَاءِ السّكْتِ وَالْفِعْلِ تُدْرِكُ:
وَقَوْلُ وَرَقَةَ: لَتُكَذّبَنّهْ، وَلَتُؤْذَيَنّهْ، وَلَا يُنْطَقُ بِهَذِهِ الْهَاءِ إلّا سَاكِنَةً لِأَنّهَا هَاءُ السّكْتِ، وَلَيْسَتْ بِهَاءِ إضْمَارٍ. وَقَوْلُهُ: إنْ أُدْرِكْ ذَلِكَ الْيَوْمَ أَنْصُرْك نَصْرًا مُؤَزّرًا، وَقَالَ فِي الْحَدِيثِ: إنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُك وَهُوَ الْقِيَاسُ، لِأَنّ وَرَقَةَ سَابِقٌ بِالْوُجُودِ، وَالسّابِقُ هُوَ الّذِي يُدْرِكُهُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَهُ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: أَشْقَى النّاسِ مَنْ أَدْرَكَتْهُ السّاعَةُ وَهُوَ حَيّ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَيْضًا لَهَا وجه، لأن المعنى: أنرى ذَلِكَ الْيَوْمَ، فَسَمّى رُؤْيَتَهُ إدْرَاكًا، وَفِي التّنْزِيلِ:
__________
(1) غير صواب قوله هذا، فإن الجن الذين سمعوا القرآن قالوا: (سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى) ، وخير أن نقول: إنه قال ذلك- كما ذكر الشيخ رشيد رضا رحمه الله فى الوحى المحمدى- لأن الشبه بين الوحى إلى موسى ومحمد عليهما السلام أتم؛ لأن كلامنهما أوتى شريعة تامة مستقلة فى عباداتها ومعاملاتها وسياستها وقوتها العسكرية، وعيسى عليه السلام كان تابعا لشريعة التوراة، وناسخا لبعض الأحكام التى يقتضيها الإصلاح، ومبشرا بالنبى الذى يأتى بعده بالشرع الكامل العام الدائم. ولهذا يرد ابن حجر فى فتح البارى بقوله: «أما ما تمحل له السهيلى من أن ورقة كان على اعتقاد النصارى فى عدم نبوة عيسى ودعواهم أنه أحد الأقانيم، فهو محال لا يعرج عليه فى حق ورقة وأشباهه ممن لم يدخل فى التبديل ولم يأخذ عمن بدل» ص 29 ج 1 ط الحلبى وص 214 ج 1 شرح المواهب.

(2/405)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ أَيْ: لَا تَرَاهُ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ. وَقَوْلُهُ: مُؤَزّرًا مِنْ الْأَزْرِ وَهُوَ الْقُوّةُ وَالْعَوْنُ.
شَرْحُ: أو مخرجى؟:
فَصْلٌ: وَفِي حَدِيثِ الْبُخَارِيّ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صلى الله عليه وسلم- قال لورقة: أو مخرجىّ هم. لابدّ مِنْ تَشْدِيدِ الْيَاءِ فِي مُخْرِجِيّ، لِأَنّهُ جَمْعٌ، وَالْأَصْلُ مُخْرِجُوِيَ فَأُدْغِمَتْ الْوَاوُ فِي الْيَاءِ «1» وَهُوَ خَبَرُ ابْتِدَاءٍ مُقَدّمٌ، وَلَوْ كَانَ الْمُبْتَدَأُ اسْمًا ظاهر الجاز تَخْفِيفُ الْيَاءِ، وَيَكُونُ الِاسْمُ الظّاهِرُ فَاعِلًا لَا مُبْتَدَأً، كَمَا تَقُولُ:
أَضَارِبٌ قَوْمُك، أَخَارِجٌ إخْوَتُك فَتَفَرّدَ، لِأَنّك رَفَعْت بِهِ فَاعِلًا، وَهُوَ حَسَنٌ فِي مَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ وَالْأَخْفَشِ، وَلَوْلَا الِاسْتِفْهَامُ مَا جَازَ الْإِفْرَادُ إلّا عَلَى مَذْهَبِ الْأَخْفَشِ، فَإِنّهُ يَقُولُ: قَائِمٌ الزّيْدُون دُونَ اسْتِفْهَامٍ، فَإِنْ كَانَ الِاسْمُ الْمُبْتَدَأُ مِنْ الْمُضَمّرَاتِ نَحْوُ: أَخَارِجٌ أَنْتَ، وَأَقَائِمٌ هُوَ؟ لَمْ يَصِحّ فِيهِ إلّا الِابْتِدَاءُ، لِأَنّ الْفَاعِلَ إذَا كَانَ مُضْمَرًا لَمْ يَكُنْ مُنْفَصِلًا لَا تَقُولُ: قَامَ أَنَا، وَلَا ذَهَبَ أنت
__________
(1) فى المواهب: وأصله مخرجون لى حذفت اللام تخفيفا ونون الجمع للاضافة إلى ياء المتكلم، فصار: أو مخرجوى اجتمعت الواو والياء وسبقت الواو- بالسكون، فقلبت ياء، ثم أدغمت فى ياء المتكلم، وقلبت الضمة: كسرة لمناسبة الياء، والهمزة للاستفام. ولم يقل: وأمخرجى مع أن الأصل أن يجاء بالهمزة بعد العاطف نحو: فأين تذهبون؛ لاختصاص الهمزة بتقديمها على العاطف تنبيها على أصالتها نحو: أولم يسيروا؟ هذا مذهب سيبويه والجمهور» والاستفهام: إنكارى؛ لأنه استبعد إخراجه من وطنه وهو حرم الله من دون سبب يقتضيه وكذلك ورد فى ص 43 بدائع الفوائد ج 3 للامام ابن القيم.

(2/406)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَذَلِكَ لَا تَقُولُ: أَذَاهِبٌ أَنْتَ عَلَى حَدّ الْفَاعِلِ وَلَكِنْ عَلَى الْمُبْتَدَإِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى حد المبتدأ، فلابد مِنْ جَمْعِ الْخَبَرِ، فَعَلَى هَذَا تَقُولُ: أَمُخْرِجِيّ هم، تريد:
مخرجون، ثم أضفت إلَى الْيَاءِ، وَحُذِفَتْ النّونُ، وَأُدْغِمَتْ الْوَاوُ كَمَا يَقْتَضِي الْقِيَاسُ.
حَوْلَ الْيَافُوخِ وَالذّهَابِ إلَى وَرَقَةَ:
فَصْلٌ: وَذُكِرَ أَنّ وَرَقَةَ بْنَ نَوْفَلٍ لَقِيَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ، فَقَبّلَ يَافُوخَهُ قَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ الْيَافُوخِ، وَأَنّهُ يَفْعُولُ مَهْمُوزٌ، وَأَنّهُ لَا يُقَالُ فِي رَأْسِ الطّفْلِ يَافُوخٌ حَتّى يَشْتَدّ وَإِنّمَا يُقَالُ لَهُ: الْغَاذِيَةُ، وَذَكَرْنَا قَوْلَ الْعَجّاجِ:
ضَرْبٌ إذَا أَصَابَ الْيَآفِيخَ حَفَرٌ. وَلَوْ كَانَ يَافُوخٌ فَاعُولًا، كَمَا ظَنّ بَعْضُهُمْ لَمْ يَجُزْ هَمْزُهُ فِي الْوَاحِدِ. وَلَا فِي الْجَمْعِ «1» وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ بِسَنَدِهِ إلَى أَبِي مَيْسَرَةَ عَمْرِو بْنِ شُرَحْبِيلَ «2» أَنّ رَسُولَ الله صلى الله عليه
__________
(1) هو فى اللسان فى مادة أفخ، وقال: هو حيث التقى عطم مقدم الرأس وعظم مؤخره، وهو الموضع الذى يتحرك من رأس الطفل. وفيه أيضا: قال الليث: من همز اليأفوخ؛ فهو على تقدير يفعول. ومن لم يهمز، فهو على تقدير فاعول من اليفخ، والهمز أصوب. وفى القاموس: أفخه: ضرب يافوخه والجمع: يوافيخ، وهذا يدل على أن أصله يفخ، ووهم الجوهرى فى ذكره هنا، وفى المعجم الوسيط جمعه: يوافيخ، ولكنه قال: اليافوخ: هو اليأفوخ وهو فجوة مغطاة بغشاء تكون عند تلاقى عظام الجمجمة، وهما يأفوخان، يأفوخ أمامى، ويأفوخ خلقى.
(2) ذكره البخارى وغيره فى التابعين، ووثقه ابن معين وآخرون، وقد-

(2/407)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَسَلَّمَ. قَالَ لِخَدِيجَةَ: إنّي إذَا خَلَوْت وَحْدِي سَمِعْت نِدَاءً، وَقَدْ خَشِيت وَاَللهِ أَنْ يَكُونَ لِهَذَا أَمْرٌ. قَالَتْ: مَعَاذَ اللهِ مَا كَانَ الله ليفعل ذلك بك. فو الله إنّك لَتُؤَدّي الْأَمَانَةَ وَتَصِلُ الرّحِمَ. وَتُصَدّقُ الْحَدِيثَ، فلما دخل أبوبكر، وَلَيْسَ [عِنْدَهَا] رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ ذَكَرَتْ خَدِيجَةُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَتْ:
يَا عَتِيقُ اذْهَبْ مَعَ مُحَمّدٍ إلَى وَرَقَةَ، فَلَمّا دَخَلَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- أخذ أبوبكر بِيَدِهِ. فَقَالَ: انْطَلِقْ بِنَا إلَى وَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ. فَقَالَ: وَمَنْ أَخْبَرَك؟
قَالَ: خَدِيجَةُ، فَانْطَلَقَا إلَيْهِ، فَقَصّا عَلَيْهِ، فَقَالَ: إنّي إذَا خَلَوْت وَحْدِي سَمِعْت نِدَاءً خَلْفِي: يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ، فَأَنْطَلِقُ هَارِبًا فِي الْأَرْضِ. فَقَالَ لَهُ: لا تفعل، إذا أتاك فائبت، حَتّى تَسْمَعَ مَا يَقُولُ لَك. ثُمّ ائْتِنِي، فَأَخْبَرَنِي، فَلَمّا خَلَا نَادَاهُ: يَا مُحَمّدُ قُلْ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ. الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ الْعَالَمِينَ. حَتّى بَلَغَ: وَلَا الضّالّينَ. قُلْ:
لَا إلَهَ إلّا اللهُ. فَأَتَى وَرَقَةَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ له، فقال له ورقة: أَبْشِرْ فَأَنَا أَشْهَدُ أَنّك الّذِي بَشّرَ بِهِ ابْنُ مَرْيَمَ، وَأَنّك عَلَى مِثْلِ نَامُوسِ مُوسَى، وَأَنّك نَبِيّ مُرْسَلٌ، وَأَنّك سَتُؤْمَرُ بِالْجِهَادِ بَعْدَ يَوْمِك هَذَا. وَلَئِنْ أَدْرَكَنِي ذَلِكَ لَأُجَاهِدَنّ مَعَك. فَلَمّا تُوُفّيَ وَرَقَةُ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَقَدْ رَأَيْت الْقَسّ فِي الْجَنّةِ، وَعَلَيْهِ ثِيَابُ الْحَرِيرِ، لِأَنّهُ آمَنْ بِي وصدقنى، يعنى: ورقة، وفى رواية
__________
- أخرج هذا الحديث البيهقى، وذكر أنه منقطع، وغرضه من سياقه بيان له معارض بحديث الصحيح فى أن أول ما نزل: اقرأ. والعجيب أن يحاول العينى التوفيق بين هذه المتضادات بأن خديجة أرسلته مرة مع الصديق، وذهبت هى به أخرى وسألت عداسا بمكة، وسافرت إلى بحيرى- كما روى التيمى- وهو توفيق يعتد به.

(2/408)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُونُسُ أَيْضًا أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ لِرَجُلِ سَبّ وَرَقَةَ: أَمَا عَلِمَتْ أَنّي رَأَيْت لِوَرَقَةِ جنّة أو جنتين، وهذا الحديث الأخبر قد أسنده البزار «1» .
لقد خيشت عَلَى نَفْسِي:
فَصْلٌ: وَفِي الصّحِيحِ أَنّهُ قَالَ لِخَدِيجَةَ: لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي، وَتَكَلّمَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْخَشْيَةِ بِأَقْوَالِ كَثِيرَةٍ، فَذَهَبَ أبوبكر الْإِسْمَاعِيلِيّ «2» إلَى أَنّ هَذِهِ الْخَشْيَةَ كَانَتْ مِنْهُ قَبْلَ أَنْ يَحْصُلَ لَهُ الْعِلْمُ بِأَنّ الّذِي جَاءَهُ مَلَكٌ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَكَانَ أَشَقّ شَيْءٍ عَلَيْهِ أَنْ يُقَالَ عَنْهُ: مَجْنُونٌ، وَلَمْ يَرَ الْإِسْمَاعِيلِيّ أَنّ هَذَا مُحَالٌ فِي مَبْدَإِ الْأَمْرِ؛ لِأَنّ الْعِلْمَ الضّرُورِيّ قَدْ لَا يَحْصُلُ دَفْعَةً وَاحِدَةً، وَضَرَبَ مَثَلًا بِالْبَيْتِ مِنْ الشّعْرِ تَسْمَعُ أَوّلَهُ، فَلَا تَدْرِي أَنَظْمٌ هُوَ أَمْ نَثْرٌ، فَإِذَا اسْتَمَرّ الْإِنْشَادُ، عَلِمْت قَطْعًا أَنّهُ قَصَدَ بِهِ قَصْدَ الشّعْرِ، كَذَلِكَ لَمّا اسْتَمَرّ الْوَحْيُ وَاقْتَرَنَتْ بِهِ الْقَرَائِنُ الْمُقْتَضِيَةُ لِلْعِلْمِ الْقَطْعِيّ، حَصَلَ الْعِلْمُ الْقَطْعِيّ، وَقَدْ أَثْنَى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ بِهَذَا الْعِلْمِ فَقَالَ: (آمَنَ الرّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ) إلَى قَوْلِهِ: (وملائكته وكتبه ورسله) فإبمانه بِاَللهِ وَبِمَلَائِكَتِهِ إيمَانٌ كَسْبِيّ مَوْعُودٌ عَلَيْهِ بِالثّوَابِ الْجَزِيلِ، كَمَا وَعَدَ عَلَى سَائِرِ أَفْعَالِهِ الْمُكْتَسِبَةِ كَانَتْ مِنْ أَفْعَالِ الْقَلْبِ أَوْ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ: لَقَدْ خَشِيت عَلَى نَفْسِي، أَيْ: خَشِيت أَلّا أَنْهَضَ بِأَعْبَاءِ النّبُوّةِ، وَأَنْ أَضْعُفَ عَنْهَا، ثُمّ أَزَالَ اللهُ خَشْيَتَهُ، وَرَزَقَهُ الْأَيْدَ وَالْقُوّةَ وَالثّبَاتَ وَالْعِصْمَةَ، وَقَدْ قِيلَ:
إنّ خَشْيَتَهُ كَانَتْ مِنْ قَوْمِهِ أَنْ يَقْتُلُوهُ، وَلَا غَرْوَ، فَإِنّهُ بَشَرٌ يَخْشَى مِنْ الْقَتْلِ
__________
(1) ورواه الحاكم فى مستدركه. وهذه رويات ساقطة لا يعتد بها.
(2) أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل بن العباس الإسماعيلى الجرجانى، قال الحاكم: كان واحد عصره، وشيخ المحدثين والفقهاء مات 371.

(2/409)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْإِذَايَةِ الشّدِيدَةِ مَا يَخْشَاهُ الْبَشَرُ، ثُمّ يُهَوّنُ عَلَيْهِ الصّبْرُ فِي ذَاتِ اللهِ كُلّ خَشْيَةٍ، وَيَجْلِبُ إلَى قَلْبِهِ كُلّ شَجَاعَةٍ وَقُوّةٍ، وَقَدْ قِيلَ فِي مَعْنَى الْخَشْيَةِ أَقْوَالٌ غَيْرُ هَذِهِ رغبت عن التطويل بذكرها «1» .
__________
(1) فى فتح البارى: «اختلف العلماء فى المراد بها على اثنى عشر قولا. أولها: الجنون، وأن يكون ما رآه من جنس الكهانة. جاء مصرحا به فى عدة طرق، وأبطله أبوبكر بن العربى، وحق له أن يبطل، لكن حمله الإسماعيلى على أن ذلك حصل له قبل حصول العلم الضرورى له: أن الذى جاءه ملك، وأنه من عند الله تعالى. ثانيها: الهاجس وهو باطل أيضا، لأنه لا يستقر، وهذا استقر، وحصلت بينهما المراجعة، ثالثها: الموت من شدة الرعب، رابعها: المرض، وقد جزم به ابن أبى جمرة. خامسها: دوام المرض، سادسها: العجز عن حمل أعباء النبوة، سابعها: العجز عن النظر إلى الملك من الرعب، ثامنها: عدم الصبر على أذى قومه، تاسعها: أن يقتلوه، عاشرها: مفارقة الوطن، حادى عشرها: تكذيبهم إياه، ثانى عشرها: تعييرهم إياه، وأولى هذه الأقوال بالصواب وأسلمها من الارتياب: الثالث واللذان بعده، وما عداها معترض والله الموفق» ص 27 ج 1 ط الحلبى. هذا، ويحسن أن ننقل هنا بعض ما ورد فى الصحيحين حول هذا عن مشكاة المصابيح عن ابن عباس، قال: بعث رسول «ص» لأربعين سنة، فمكث بمكة ثلاث عشرة سنة يوحى إليه، ثم أمر بالهجرة، فهاجر عشر سنين، ومات، وهو ابن ثلاث وستين سنة. «متفق عليه» وعنه: قال: أقام رسول الله «ص» بمكة خمس عشرة سنة يسمع الصوت، ويرى الضوء سبع سنين، ولا يرى شيئا. وثمانى سنين يوحى إليه، وأقام بالمدينة عشرا، وتوفى وهو ابن خمس وستين «متفق عليه» والأولى أضبط. «بدء الوحى» وعن عائشة رضى الله عنها: قالت: أول ما بدى به رسول الله «ص» من

(2/410)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- الوحى: الرؤيا الصادقة فى النوم، فكان لَا يَرَى رُؤْيَا إلّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حراء، فيتحنث فيه- وهو التعبد- الليالى ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى جاء الحق، وهو فى غار حراء، فجاءه الملك فقال: اقرأ. فقال:
ما أنا بقارىء. قال: فأخذنى فغطنى، حتى بلغ منى الجهد. ثم أرسلنى فقال:
اقرأ، فقلت: ما أنا بقارىء، فأخذنى، فغطنى الثالثة حتى بلغ منى الجهد، ثم أرسلنى، فَقَالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبّكَ الّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ، اقْرَأْ وَرَبّكَ الْأَكْرَمُ الّذِي عَلّمَ بِالْقَلَمِ، عَلّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) فرجع بها رسول الله- ص- يرجف فؤاده، فدخل على خديجة، فقال: زملونى زملونى، فزملوه حتى ذهب عنه الروع، فقال لخديجة- وأخبرها الخبر: لقد خشيت على نفسى، فقالت خديجة:
كلا، والله لا يخزيك الله أبدا، إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقرى الضيف، وتعين على نوائب الحق، ثم انطلقت به خديجة إلى ورقة بن نوفل ابن عم خديجة، فقالت: يابن عم. اسمع من ابن أخيك، فقال له ورقة: يا بن أخى ماذا ترى؟ فأخبره رسول الله- ص- خبر مارأى فقال ورقة: هذا هو الناموس الذى أنزل الله على موسى. ياليتنى فيها جذعا.
يا ليتنى أكون حيا، إذ يخرجك قومك، فقال رسول الله «ص» : أو مخرجى هم؟
قال: نعم. لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودى، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزّرا. ثم لم ينشب ورقة أن توفى، وفتر الوحى «متفق عليه» وزاد البخارى فى حديث منقطع: «حتى حزن النبى- فيما بلغنا- وهو الزهرى راوى الحديث السابق عن عائشة، وأما هذا فرواه بلاغا، فهو لهذا منقطع- حزنا غدا منه مرارا كى يتردى من رؤس شواهق الجبال، فكلما أوفى بذروة جبل لكى يلقى نفسه منه، تبدى له جبريل، فقال: يا محمد: إنك رسول الله حقا، فيسكن لذلك جأشه، وتقر نفسه» البخارى.
وعن جابر: أنه سمع رسول الله يحدث عن فترة الوحى قال: فبينا أنا أمشى-

(2/411)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
سمعت صوتا من السماء، فرفعت بصرى، فإذا الملك الذى جاءنى بحراء قاعد على كرسى بين السماء والأرض، فجئثت منه رعبا، حتى هويت إلى الأرض، فجئت أهلى، فقلت: زملونى زملونى، فزملونى فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: (يَا أَيّهَا الْمُدّثّرُ قُمْ فأنذر، وربك فكبر، وثيابك فطهر، والرجز فاهجر) ثم حمى الوحى وتتابع «متفق عليه» .
كيفية الوحى: وعن عائشة أن الحارث بن هشام سأل رسول الله، فقال:
يا رسول الله كيف يأتيك الوحى؟ فقال رسول الله- ص- أحيانا يأتينى مثل صلصلة الجرس- وهو أشده على- فيفصم عنى، وقد وعيت عنه ما قال، وأحيانا يتمثل لى الملك رجلا، فيكلمنى، فأعى ما يقول، قالت عائشة: ولقد رأيته ينزل عليه الوحى فى اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه، وإن جبينه ليتفصّد عرقا.
مدة المجاورة: عن يحيى بن أبى كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن، قال: يا أيها المدثر، قلت: يقولون: اقرأ بسم ربك قال أبو سلمة: سألت جابرا عن ذلك، وقلت له مثل الذى قلت لى: فقال لى جابر: لا أحدثك إلا بما حدثنا به رسول الله- ص- قال: جاورت بحراء شهرا، فلما قضيت جوارى هبطت، فنوديت، فنظرت عن يمينى، فلم أر شيئا ونظرت عن شمالى فلم أر شيئا، ونظرت عن خلفى، فلم أر شيئا، فرفعت رأسى فرأيت شيئا، فأتيت خديجة، فقلت: دثرونى، قد ثرونى، وصبوا على ماء باردا.
فنزلت: (يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنْذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ، وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ) وذلك قبل أن تفرض الصلاة: «متفق عليه ورواه الترمذى والنسائى»
ونلحظ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يتحنث بعد البعثة فى غار ما، فهى إذا ليست سنة شرعية، كان يعتكف فى المسجد العشر الأواخر من رمضان فحسب، ولو كان يريد عبادة، لتعبد فى البيت الحرام. إنما أراد البعد عن المجتمع الابق الشريد. ولكنه فى النبوة عاش فى هذا المجتمع يدعوه إلى الحق-

(2/412)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ويقاومه بالحق، لأن الفرار من المعركة إلى خلوة أو كهف ليس من شيمة الرسل ولا المسلمين.
وإليك تفسير بعض ماورد فى الحديث: فلق الصبح: ضوءه وإنارته والصبح نفسه: شبه ما جاء فى اليقظة، ووجد فى الخارج مطابقا لما رآه فى النوم: بالصبح فى إنارته ووضوحه.
«ما أنا بقارىء» ما: نافية، وقيل: إنها استفهامية، وضعف القاضى عياض هذا بدخول الباء فى خبرها، وهذه لا تدخل على ما الاستفهامية ولكن الأخفش يجوز دخول الباء على الخبر المثبت، وجزم به ابن مالك فى: بحسبك زيد، فجعل الخبر حسبك، والباء زائدة، وقد يقوى هذا ما ذكرته من قبل من روايات حول هذا. «غطنى» ثبت لفظ الغط ثلاثا. فى رواية البخارى للحديث فى يابى التعبير والتفسير، وسقطت الثانية فى بدء الوحى.
«بلغ منى الجهد» تروى بفتح الجيم والنصب أى بلغ الغط منى غاية وسعى، وروى بضم الجيم والرفع، أى: بلغ منى الجهد مبلغه. «زملونى» غطونى بالثياب ولفونى بها «الروع» الفزع «كلا» نفى وإبعاد أى: لا تقل هذا ولا خوف عليك.
«لا يخزيك» لا يهينك ولا يفضحك وللكشميهنى. يحزنك بالنون «تصل الرحم» تصل القرابة بإحسانك إليهم و «تحمل الكل» : أى تحمل الثقل من كل ما يتكلف، ويدخل فيه الإتفاق على الضعيف واليتيم والعيال وغير ذلك.
«تكسب المعدوم» بفتح التاء، وروى بضمها أى: تعطى الناس ما لا يجدونه وتقرى الضيف: تهيء له طعامه وتنزله «وتعين على نوائب الحق» حوادث الحق، وهذه جامعة لكل ما سبق لغيره. وهى صفة جامعة لكل أعمال المروءة والبر والنجدة «ورقة ابن نوفل» وصفه الراوى فى رواية أخرى «وكان امرآ تنصر فى الجاهلية؛ وكان يكتب الكتاب العبرانى، فيكتب من الإنجيل بالعبرانية ما شاء الله أن يكتب، وفى رواية يونس ومعمر: ويكتب من الإنجيل بالعربية»

(2/413)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ولمسلم: فكان يكتب الكتاب العربى، وجمع بين الروايات بانه كان يجيد الكتابة بتلك وبهذه. وإنما وصف بالكتابة- كما قيل- لأن حفظ التوراة والإنجيل لم يكن متيسرا. وقد وصف ورقة فى بعض الروايات: «وكان شيخا كبيرا قد عمى» .
فقالت: «يابن عم» وقع فى مسلم: أى عم، وهو وهم، وقيل إنها قالت:
ابن عم على حذف حرف النداء، فتصحفت بن بأى «من ابن أخيك» وقيل: قالت هذا، لأن عبد العزى الأب الثالث لورقة هو أخ لعبد مناف، وهو الأب الرابع للنبى فكأنها قالت: من ابن أخى جدك. وقيل: لأن والده عبد الله فى عدد النسب إلى قصى الذى يجتمعان فيه سواء، فكان من هذه الحيثية فى درجة إخوته، أو قالته على سبيل التوقير لسنه «جذعا» شابا، وأصل الجذع من أسنان الدواب وهو ما كان منها شابا فتيا «لم ينشب» لم يلبت. وهذا أصح مما روى من أن ورقة كان يمر على بلال وهو يعذب، وقد قيل: إن ورقة توفى فى السنة الثالثة من النبوة، وقيل: فى الرابعة، وزعم الواقدى أنه قتل ببلاد لخم وجذام، وقرر البلاذرى وغيره أنه دفن بمكة.
«فتر الوحى» احتبس «يتردى» يسقط «شواهق الجبال» أى: طوالها، وهو العالى الممتنع «الرّجز» الأوثان.
«صلصلة، صوت وأصلها وقوع الحديد بعضه على بعض، والصلصلة أشد من الصليل «يفصم عنى» ينفك وينجلى «يتفصد» يسيل تشبيها فى كثرته بالفصاد هذا وأول سورة نزلت: اقرأ، وقد ورد هذا عند الشيخين والترمذى والحاكم والبيهقى والطبرانى وسعيد بن منصور فى سننه. ولكن ورد فى الصحيحين أيضا فى حديث جابر أن يا أيها المدثر، هى أول ما نزل. قبل الفاتحة كما روى البيهقى، ويقول ابن حجر: الذى ذهب إليه أكثر الأئمة هو الأول.

(2/414)