الروض الأنف ت الوكيل

 [موقف الوليد بن المغيرة من القرآن]
ثم إن الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ اجْتَمَعَ إلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ قريش- وكان ذا سنّ فيهم، وَقَدْ حَضَرَ الْمَوْسِمَ، فَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّهُ قَدْ حَضَرَ هَذَا الْمَوْسِمُ، وَإِنّ وُفُودَ الْعَرَبِ سَتَقْدَمُ عَلَيْكُمْ فِيهِ، وَقَدْ سَمِعُوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيا واحد، وَلَا تَخْتَلِفُوا، فَيُكَذّبَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا، وَيَرُدّ قَوْلُكُمْ بَعْضُهُ بَعْضًا، قَالُوا: فَأَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ، فَقُلْ، وَأَقِمْ لَنَا رَأْيًا نَقُولُ بِهِ، قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ، فَقُولُوا أَسْمَعْ، قَالُوا: نَقُولُ: كَاهِنٌ، قَالَ: لَا وَاَللهِ مَا هُوَ بِكَاهِنِ، لقد رأينا الكهّان، فما هو مزمزمة الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ، قَالُوا: فَنَقُولُ:
مَجْنُونٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونِ، لَقَدْ رَأَيْنَا الْجُنُونَ وَعَرَفْنَاهُ، فَمَا هُوَ بِخَنْقِهِ، وَلَا تَخَالُجِهِ، وَلَا وَسْوَسَتِهِ، قَالُوا: فَنَقُولُ: شَاعِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِشَاعِرِ، لَقَدْ عَرَفْنَا الشّعْرَ كُلّهُ: رَجَزَهُ وَهَزَجَهُ، وَقَرِيضَهُ وَمَقْبُوضَهُ وَمَبْسُوطَهُ، فَمَا هُوَ بِالشّعْرِ، قَالُوا: فَنَقُولُ: سَاحِرٌ، قَالَ: مَا هُوَ بِسَاحِرِ، لَقَدْ رَأَيْنَا السّحّارَ وَسِحْرَهُمْ، فَمَا هُوَ بِنَفْثِهِمْ وَلَا عَقْدِهِمْ، قَالُوا: فَمَا نَقُولُ يَا أَبَا عَبْدِ شَمْسٍ؟ قَالَ: وَاَللهِ إنّ لِقَوْلِهِ لَحَلَاوَةً، وَإِنّ أَصْلَهُ لَعَذِقٌ، وَإِنّ فَرْعَهُ لَجُنَاةٌ- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَال: لَغَدِقٌ- وَمَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إلّا عُرِفَ أَنّهُ بَاطِلٌ، وَإِنّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ فِيهِ لَأَنْ تَقُولُوا: سَاحِرٌ، جَاءَ بِقَوْلٍ هُوَ سِحْرٌ يُفَرّقُ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَبِيهِ، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وَعَشِيرَتِهِ. فَتُفَرّقُوا عَنْهُ بِذَلِكَ، فَجَعَلُوا يَجْلِسُونَ بِسُبُلِ النّاس حين قدموا المؤسم، لَا يَمُرّ بِهِمْ أَحَدٌ إلّا حَذّرُوهُ إيّاهُ، وذكروا لهم أمره.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/61)


[ما نزل فى حق الوليد من القرآن:]

فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُوداً وَبَنِينَ شُهُوداً، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ، كَلَّا إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً» المدثر: 11- 16 أى خصيما.
قال ابن هشام: عنيدا: مُعَانِدٌ مُخَالِفٌ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ:
وَنَحْنُ ضَرّابُونَ رَأْسَ الْعُنّدِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ:
«سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ.
ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ» المدثر: 17: 22 قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَسَرَ: كَرّهَ وَجْهَهُ. قَالَ العجّاج:
مضبّر الّلحيين بسرا منها
يَصِفُ كَرَاهِيَةَ وَجْهِهِ. وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ لَهُ:
«ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ: إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ، إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ» . المدثر: 23- 25.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: فِي رسوله- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَفِيمَا جَاءَ بِهِ من الله تعالى، وفى النفر الذين كانوا معه يصنّفون القول فِي رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ اللهِ تَعَالَى: «كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ

(3/62)


الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ. فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ» الحجر: 90- 93
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاحِدَةُ الْعِضِينَ: عِضَةٌ، يَقُولُ: عَضّوْهُ: فَرّقُوهُ. قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ:
وَلَيْسَ دِينُ اللهِ بِالْمُعَضّى
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أُرْجُوزَةٍ له.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَجَعَلَ أُولَئِكَ النّفَرُ يَقُولُونَ ذَلِكَ فِي رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِمَنْ لَقُوا مِنْ النّاسِ، وَصَدَرَتْ الْعَرَبُ مِنْ ذَلِكَ الْمَوْسِمِ بِأَمْرِ رَسُولِ اللهِ- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَانْتَشَرَ ذِكْرُهُ فِي بِلَادِ العرب كلّها.
[أبو طالب يفخر بنسبه وابن أخيه]
فَلَمّا خَشِيَ أَبُو طَالِبٍ دَهْمَاءَ الْعَرَبِ أَنْ يَرْكَبُوهُ مَعَ قَوْمِهِ، قَالَ قَصِيدَتَهُ الّتِي تَعَوّذَ فِيهَا بِحَرَمِ مَكّةَ وَبِمَكَانِهِ مِنْهَا، وَتَوَدّدَ فِيهَا أَشْرَافُ قَوْمِهِ، وَهُوَ عَلَى ذَلِكَ يُخْبِرُهُمْ وَغَيْرَهُمْ فِي ذَلِكَ مِنْ شِعْرِهِ أَنّهُ غَيْرُ مُسْلِمٍ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَلَا تَارِكُهُ لِشَيْءِ أَبَدًا حَتّى يَهْلِكَ دُونَهُ، فَقَالَ:
وَلَمّا رَأَيْتُ الْقَوْمَ لَا وُدّ فِيهِمْ ... وَقَدْ قَطَعُوا كُلّ الْعُرَى وَالْوَسَائِلِ
وَقَدْ صَارَحُونَا بِالْعَدَاوَةِ وَالْأَذَى ... وَقَدْ طَاوَعُوا أَمْرَ الْعَدُوّ الْمُزَايِلِ
وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً ... يَعَضّونَ غَيْظًا خَلْفَنَا بالأنامل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/63)


صَبَرْتُ لَهُمْ نَفْسِي بِسَمْرَاءَ سَمْحَةٍ ... وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ
وَأَحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي وَإِخْوَتِي ... وَأَمْسَكْت مِنْ أَثْوَابهِ بِالْوَصَائِلِ
قِيَامًا مَعًا مُسْتَقْبِلِينَ رِتَاجَهُ ... لُدًى حَيْثُ يَقْضِي حَلْفَهُ كُلّ نَافِلِ
وَحَيْثُ يُنِيخُ الْأَشْعَرُونَ رِكَابَهُمْ ... بِمُفْضَى السّيُولِ مِنْ إسَافٍ وَنَائِلِ
مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ، أَوْ قَصَرَاتُهَا ... مُخَيّسَةٌ بَيْنَ السّدِيسِ وَبَازِلِ
تَرَى الْوَدْعَ فِيهَا، والرّخام وزبنة ... بِأَعْنَاقِهَا مَعْقُودَةٌ كَالْعَثَاكِلِ
أَعُوذُ بِرَبّ النّاسِ مِنْ كلّ طاعن ... علينا يسوء، أَوْ مُلِحّ بِبَاطِلِ
وَمِنْ كَاشِحٍ يَسْعَى لَنَا بِمَعِيبَةٍ ... وَمِنْ مُلْحِقٍ فِي الدّينِ مَا لَمْ نُحَاوِلْ
وَثَوْرٍ، وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءٍ وَنَازِلِ
وَبِالْبَيْتِ، حَقّ الْبَيْتِ، مِنْ بَطْنِ مَكّةَ ... وَبِاَللهِ إنّ اللهَ لَيْسَ بِغَافِلِ
وَبِالْحَجَرِ الْمُسْوَدّ إذْ يَمْسَحُونَهُ ... إذَا اكْتَنَفُوهُ بالضّحى والأصائل
وموطىء إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةٌ ... عَلَى قَدَمَيْهِ حَافِيًا غير فاعل
وَأَشْوَاطٍ بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ إلَى الصّفَا ... وَمَا فِيهِمَا مِنْ صُورَةٍ وَتَمَاثُلِ
وَمَنْ حَجّ بَيْتَ اللهِ مِنْ كُلّ رَاكِبٍ ... وَمِنْ كُلّ ذِي نَذْرٍ وَمِنْ كُلّ رَاجِلِ
وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إذَا عَمَدُوا لَهُ ... إلَالٌ إلَى مُفْضَى الشّرَاجِ الْقَوَابِلِ
وَتَوْقَافِهِمْ فَوْقَ الْجِبَالِ عَشِيّةً ... يُقِيمُونَ بِالْأَيْدِي صُدُورَ الرّوَاحِلِ
وليلة جمع والمنازل من معنى ... وَهَلْ فَوْقَهَا مِنْ حُرْمَةٍ وَمَنَازِلِ
وَجَمْعٍ إذَا ما المقربات أجزئه ... سِرَاعًا كَمَا يَخْرُجْنَ مِنْ وَقْعِ وَابِلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/64)


وَبِالْجَمْرَةِ الْكُبْرَى إذَا صَمَدُوا لَهَا ... يَؤُمّونَ قَذْفًا رأسها بالجنادل
وكندة إذ هُمْ بِالْحِصَابِ عَشِيّةً ... تُجِيزُ بِهِمْ حُجّاجُ بَكْرِ بن وائل
حليفان شدّا عقد ما اختلفا لَهُ ... وَرَدّا عَلَيْهِ عَاطِفَاتِ الْوَسَائِلِ
وَحَطْمِهِمْ سُمْرَ الرّماح وسرحه ... وشبرقه وخد النّعام الحوامل
فَهَلْ بَعْدَ هَذَا مِنْ مُعَاذٍ لِعَائِذٍ ... وَهَلْ مِنْ مُعِيذٍ يَتّقِي اللهَ عَاذِلِ
يُطَاعُ بِنَا أمر العدا ودّ انّنَا ... تُسَدّ بِنّا أَبْوَابُ تُرْكٍ وَكَابُلِ
كَذَبْتُمْ وَبَيْتِ اللهِ نَتْرُكُ مَكّةَ ... وَنَظْعَنُ إلّا أَمْرُكُمْ فِي بَلَابِلِ
كَذَبْتُمْ- وَبَيْتِ اللهِ- نُبْزَى مُحَمّدًا ... ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حَوْلَهُ ... وَنَذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا وَالْحَلَائِلِ
وَيَنْهَضُ قَوْمٌ فِي الْحَدِيدِ إلِيْكُمُ ... نُهُوضَ الرّوَايَا تَحْتَ ذَاتِ الصّلَاصِلِ
وَحَتّى تَرَى ذَا الضّغْنِ يَرْكَبُ رَدْعَهُ ... مِنْ الطّعْنِ فِعْلَ الْأَنْكَبِ الْمُتَحَامِلِ
وَإِنّا- لَعَمْرُ اللهِ- إنْ جَدّ مَا أَرَى ... لَتَلْتَبِسَنّ أَسْيَافُنَا بِالْأَمَاثِلِ
بِكَفّيْ فَتًى مِثْلَ الشّهَابِ سَمَيْدَعِ ... أَخِي ثِقَةٍ حَامِي الْحَقِيقَةِ بَاسِلِ
شُهُورًا وَأَيّامًا وَحَوْلًا مُجَرّمًا ... عَلَيْنَا وَتَأْتِي حَجّةٌ بَعْدَ قَابِلِ
وَمَا تَرْكُ قَوْمٍ- لَا أَبَا لَك- سَيّدًا ... يَحُوطُ الذّمَارَ غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الهلّاك مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وفواضل
لَعَمْرِي لَقَدْ أَجْرَى أُسَيْدٌ وَبِكْرُهُ ... إلَى بُغْضِنَا وجزّآنا لاكل
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/65)


وَعُثْمَانُ لَمْ يَرْبَعْ عَلَيْنَا وَقُنْفُذٌ ... وَلَكِنْ أَطَاعَا أَمْرَ تِلْكَ الْقَبَائِلِ
أَطَاعَا أُبَيّا، وَابْنَ عَبْدِ يغوثهم ... ولم يرقبا فينا مقالة قائل
كَمَا قَدْ لَقِينَا مِنْ سُبَيْعٍ وَنَوْفَلٍ ... وَكُلّ تولى معرضا لم يجامل
فإن يلفيا، أَوْ يُمْكِنْ اللهُ مِنْهُمَا ... نَكِلْ لَهُمَا صَاعًا بِصَاعِ الْمُكَايِلِ
وَذَاكَ أَبُو عَمْرٍو أَبَى غَيْرَ بُغْضِنَا ... لِيَظْعَنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ
يُنَاجِي بِنَا فِي كُلّ مُمْسًى وَمُصْبَحٍ ... فَنَاجِ أَبَا عمر بِنَا ثُمّ خَاتِلِ
وَيُؤْلَى لَنَا بِاَللهِ مَا إن يغشّنا ... بلى قد تراه جَهْرَةً غَيْرَ حَائِلِ
أَضَاقَ عَلَيْهِ بُغْضُنَا كُلّ تَلْعَةٍ ... مِنْ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ فَمُجَادِلِ
وَسَائِلْ أَبَا الْوَلِيدِ مَاذَا حَبَوْتَنَا ... بِسَعْيِكَ فِينَا مُعْرِضًا كَالْمُخَاتِلِ
وَكُنْتَ امْرَأً مِمّنْ يُعَاشُ بِرَأْيِهِ ... وَرَحْمَتُهُ فِينَا وَلَسْتَ بِجَاهِلِ
فَعُتْبَةُ لَا تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ ... حَسُودٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِي دَغَاوِلِ
وَمَرّ أَبُو سُفْيَانَ عَنّي مُعْرِضًا ... كَمَا مَرّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ الْمَقَاوِلِ
يَفِرّ إلَى نَجْدٍ وبرد مياهه ... ويزعم أفى لَسْتُ عَنْكُمْ بِغَافِلِ
وَيُخْبِرُنَا فِعْلَ الْمُنَاصِحِ أَنّهُ ... شَفِيقٌ، وَيُخْفِي عَارِمَاتِ الدّوَاخِلِ
أَمُطْعِمُ لَمْ أَخْذُلْك فِي يَوْمٍ نَجْدَةٍ ... وَلَا مُعْظِمٍ عِنْدَ الْأُمُورِ الجلائل
ولا يوم خصم إذ أَتَوْك أَلِدّةً ... أُولِي جَدَلٍ مِنْ الْخُصُومِ الْمَسَاجِلِ
أَمُطْعِمُ إنّ الْقَوْمَ سَامُوك خُطّةً ... وَإِنّي مَتَى أو كل فَلَسْتُ بِوَائِلِ
جَزَى اللهُ عَنّا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... عُقُوبَةَ شَرّ عَاجِلًا غَيْرَ آجِلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/66)


بِمِيزَانِ قِسْطٍ لَا يُخِسّ شَعِيرَةً ... لَهُ شَاهِدٌ مِنْ نَفْسِهِ غَيْرَ عَائِلٍ
لَقَدْ سَفُهَتْ أَحْلَامُ قَوْمٍ تَبَدّلُوا ... بَنِي خَلَفٍ قيضا بنا والغياطل
وَنَحْنُ الصّمِيمُ مِنْ ذُؤَابَةِ هَاشِمٍ ... وَآلِ قُصَيّ فِي الْخُطُوبِ الْأَوَائِلِ
وَسَهْمٌ وَمَخْزُومٌ تَمَالَوْا وَأَلّبُوا ... عَلَيْنَا الْعِدَا مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلٍ
فَعَبْدُ مَنَافٍ أَنْتُمْ خَيْرُ قَوْمِكُمْ ... فَلَا تُشْرِكُوا فِي أَمْرِكُمْ كُلّ وَاغِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ وَهَنْتُمْ وَعَجَزْتُمْ ... وجئتم بأمر مخطىء لِلْمَفَاصِلِ
وَكُنْتُمْ حَدِيثًا حَطْبَ قِدْرٍ وَأَنْتُمْ ... الْآنَ حطاب أقدر ومراجل
ليهنىء بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ عُقُوقُنَا ... وَخِذْلَانُنَا، وَتَرْكُنَا فِي الْمَعَاقِلِ
فَإِنْ نَكُ قَوْمًا نَتّئِرْ مَا صَنَعْتُمْ ... وَتَحْتَلِبُوهَا لِقْحَةً غَيْرَ بَاهِلِ
وَسَائِطُ كَانَتْ فِي لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... نَفَاهُمْ إلَيْنَا كُلّ صَقْرٍ حلاحل
ورهط نفيل شرّ من وطىء الْحَصَى ... وَأَلْأَمُ حَافٍ مِنْ مَعَدّ وَنَاعِلِ
فَأَبْلِغْ قُصَيّا أَنْ سَيُنْشَرُ أَمْرُنَا ... وَبَشّرْ قُصَيّا بَعْدَنَا بِالتّخَاذُلِ
وَلَوْ طَرَقَتْ لَيْلًا قُصَيّا عَظِيمَةٌ ... إذًا مَا لَجَأْنَا دُونَهُمْ فِي الْمَدَاخِلِ
وَلَوْ صَدَقُوا ضَرْبًا خِلَالَ بُيُوتِهِمْ ... لَكُنّا أُسًى عِنْدَ النّسَاءِ الْمَطَافِلِ
فَكُلّ صَدِيقٍ وَابْنِ أُخْتٍ نَعُدّهُ ... لَعَمْرِي- وجدنا غبّه غير طائل
سِوَى أَنّ رَهْطًا مِنْ كِلَابِ بْنِ مُرّةٍ ... بَرَاءٌ إلَيْنَا مِنْ مَعَقّةِ خَاذِلِ
وَهَنّا لَهُمْ حَتّى تَبَدّدَ جَمْعُهُمْ ... وَيَحْسُرَ عَنّا كُلّ بَاغٍ وَجَاهِلِ
وَكَانَ لَنَا حَوْضُ السّقَايَةِ فِيهِمْ ... وَنَحْنُ الْكُدَى مِنْ غَالِبٍ وَالْكَوَاهِلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/67)


شَبَابٌ مِنْ الْمُطَيّبِينَ وَهَاشِمٍ ... كَبِيضِ السّيُوفِ بَيْنَ أَيْدِي الصّيَاقِلِ
فَمَا أَدْرَكُوا ذَحْلًا وَلَا سَفَكُوا دَمًا ... وَلَا حَالَفُوا إلّا شِرَارَ الْقَبَائِلِ
بِضَرْبٍ تَرَى الْفِتْيَانَ فِيهِ، كَأَنّهُمْ ... ضَوَارِي أُسُودٍ فَوْقَ لَحْمٍ خَرَادِلِ
بَنِي أَمَةٍ مَحْبُوبَةٍ هِنْدِكِيّةٍ ... بَنِي جُمَحٍ عُبَيْدِ قَيْسِ بْنِ عَاقِلِ
وَلَكِنّنَا نَسْلٌ كِرَامٌ لِسَادَةٍ ... بِهِمْ نُعِيَ الْأَقْوَامُ عِنْدَ الْبَوَاطِلِ
وَنِعْمَ ابْنِ أُخْتِ الْقَوْمِ غَيْرَ مُكَذّبٍ ... زُهَيْرٌ حُسَامًا مُفْرَدًا مِنْ حَمَائِلِ
أَشَمّ مِنْ الشّمّ الْبَهَالِيلِ يَنْتَمِي ... إلَى حَسَبٍ فِي حَوْمَةِ الْمَجْدِ فَاضِلِ
لَعَمْرِي لَقَدْ كُلّفْتُ وَجْدًا بِأَحْمَدَ ... وَإِخْوَتِهِ دَأْبَ الْمُحِبّ الْمُوَاصِلِ
فَلَا زَالَ فِي الدّنْيَا جَمَالًا لِأَهْلِهَا ... وَزِيَنًا لِمَنْ وَالَاهُ رَبّ الْمَشَاكِلِ
فَمَنْ مِثْلُهُ فِي النّاس أَيّ مُؤَمّلٍ ... إذَا قَاسَهُ الْحُكّامُ عِنْدَ التّفَاضُلِ
حَلِيمٌ رَشِيدٌ عَادِلٌ غير طائش ... يوالى إلها ليس عنه بغافل
فو الله لولا أن أجىء بسبّة ... تَجُرّ عَلَى أَشْيَاخِنَا فِي الْمَحَافِلِ
لَكِنّا اتّبَعْنَاهُ عَلَى كُلّ حَالَةٍ ... مِنْ الدّهْرِ جِدّا غَيْرَ قَوْلِ التّهَازُلِ
لَقَدْ عَلِمُوا أَنّ ابْنَنَا لَا مُكَذّبٌ ... لَدَيْنَا، وَلَا يُعْنَى بِقَوْلِ الْأَبَاطِلِ
فَأَصْبَحَ فِينَا أَحَمْدٌ فِي أَرُومَةٍ ... تُقَصّرُ عَنْهُ سَوْرَةُ الْمُتَطَاوِلِ
حَدِبْتُ بِنَفْسِي دُونَهُ وَحَمَيْتُهُ ... وَدَافَعْتُ عَنْهُ بِالذّرَا وَالْكَلَاكِلِ
فَأَيّدَهُ رَبّ الْعِبَادِ بِنَصْرِهِ ... وَأَظْهَرَ دِينًا حَقّهُ غَيْرُ بَاطِلِ
رِجَالٌ كِرَامٌ غَيْرُ مِيلٍ نَمَاهُمْ ... إلَى الْخَيْرِ آبَاءٌ كِرَامُ الْمَحَاصِلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/68)


فإن تك كعب من لؤىّ صقيبة ... فلابدّ يَوْمًا مَرّةً مِنْ تَزَايُلِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هَذَا مَا صَحّ لِي مِنْ هَذِهِ الْقَصِيدَة، وبعض أهل العلم بالشعر ينكر أكثرها.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ، قال: أَقْحَطَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ، فَأَتَوْا رَسُولَ الله- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَشَكَوْا ذَلِكَ إلَيْهِ، فَصَعِدَ رَسُولُ الله صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ الْمِنْبَرَ فَاسْتَسْقَى، فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ مِنْ الْمَطَرِ مَا أَتَاهُ أَهْلُ الضّوَاحِي يَشْكُونَ مِنْهُ الْغَرَقَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهُمّ حَوَالَيْنَا وَلَا عَلَيْنَا، فَانْجَابَ السّحَابُ عَنْ الْمَدِينَةِ، فَصَارَ حَوَالَيْهَا كَالْإِكْلِيلِ؛ فَقَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلّمَ: لَوْ أَدْرَكَ أَبُو طَالِبٍ هَذَا الْيَوْمَ لَسَرّهُ، فَقَالَ لَهُ بَعْضُ أَصْحَابِهِ: كَأَنّك يَا رَسُولَ اللهِ أَرَدْت قَوْلَهُ:
وَأَبْيَضُ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلْأَرَامِلِ
قَالَ: أَجَلْ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَقَوْلُهُ «وَشَبْرِقَهٌ» عَنْ غَيْرِ ابن إسحاق.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْغَيَاطِلِ: مِنْ بَنِي سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنُ هُصَيْصٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبِ بْنِ أُمَيّةَ. وَمُطْعِمُ بْنِ عَدِيّ بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ.
وَزُهَيْرُ بْنُ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ، وَأُمّهُ: عاتكة بنت عبد المطلب. قال ابن إسحاق: وَأَسِيدٌ، وَبِكْرُهُ: عَتّابُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ أَبِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/69)


العيص بن أمية بن عبد شمس بن عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ. وَعُثْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ:
أَخُو طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ التّيْمِيّ. وقنفذ بن عمير بْنِ جُدْعَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمِ بْنِ مُرّةَ. وَأَبُو الْوَلِيدِ: عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ. وَأُبَيّ:
الْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقٍ الثّقَفِيّ، حَلِيفُ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَإِنّمَا سُمّيَ الْأَخْنَسُ؛ لِأَنّهُ خَنَسَ بِالْقَوْمِ يَوْمَ بَدْرٍ، وَإِنّمَا اسْمُهُ: أُبَيّ، وَهُوَ مِنْ بَنِي عِلَاجٍ، وَهُوَ عِلَاجُ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَوْفِ بْنِ عُقْبَةَ.
وَالْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بن زهرة بن كلاب. وسبيع ابن خَالِدٍ، أَخُو بَلْحَارِثِ بْنِ فِهْرٍ. وَنَوْفَلُ بْنِ خُوَيْلِدِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى ابن قُصَيّ، وَهُوَ ابْنُ الْعَدَوِيّةِ. وَكَانَ مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَهُوَ الّذِي قَرَنَ بَيْنَ أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَطَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللهِ رَضِيَ الله عَنْهُمَا فِي حَبْلٍ حِينَ أَسْلَمَا، فَبِذَلِكَ كَانَا يُسَمّيَانِ: الْقَرِينَيْنِ، قَتَلَهُ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام يَوْمَ بَدْرٍ.
وَأَبُو عَمْرٍو: قَرَظَةُ بْنُ عَبْدِ عَمْرِو بْنِ نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ. «وَقَوْمٌ عَلَيْنَا أَظِنّةٌ» :
بَنُو بَكْرِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ، فَهَؤُلَاءِ الّذِينَ عَدّدَ أَبُو طَالِبٍ فى شعره من العرب.

[ذكر الرسول «ص» ينتشر]
فَلَمّا انْتَشَرَ أَمْرُ رَسُولِ الله- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِي الْعَرَبِ، وَبَلَغَ الْبُلْدَانَ، ذُكِرَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَمْ يَكُنْ حَيّ مِنْ الْعَرَبِ أَعْلَمَ بأمر رسول الله- صلى الله عليه وسلم- حِينَ ذُكِرَ، وَقَبْلَ أَنْ يُذْكَرَ مِنْ هَذَا الْحَيّ مِنْ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/70)


وَذَلِك لِمَا كَانُوا يَسْمَعُونَ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وكانوا لهم خلفاء، وَمَعَهُمْ فِي بِلَادِهِمْ. فَلَمّا وَقَعَ ذِكْرُهُ بِالْمَدِينَةِ، وَتَحَدّثُوا بِمَا بَيْنَ قُرَيْشٍ فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ.
قَالَ أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ. أَخُو بَنِي واقف.

[أبو قيس بن الأسلت ونسبه وشعره فى الرسول «ص» ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: نَسَبُ ابْنِ إسْحَاقَ أَبَا قَيْسٍ هَذَا هَاهُنَا إلَى بَنِي وَاقِفٍ، وَنَسَبُهُ فى حديث الفيل إلى خَطْمَةَ؛ لِأَنّ الْعَرَب قَدْ تَنْسِبُ الرّجُلَ إلَى أَخِي جَدّهِ الّذِي هُوَ أَشْهَرُ مِنْهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ أَنّ الْحَكَمَ بْنَ عَمْرٍو الْغِفَارِيّ مِنْ وَلَدِ نُعَيْلَةَ أَخِي غِفَارٍ، وَهُوَ غِفَارُ بْنُ مُلَيْلٍ، وَنُعَيْلَةُ بْنُ مليل بن ضمرة بن بكر ابن عَبْدِ مَنَاةَ، وَقَدْ قَالُوا: عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ السّلمىّ، وهو من ولد مازن ابن منصور وسليم: ابن مَنْصُورٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَأَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ: مِنْ بَنِي وَائِلٍ، وَوَائِلٌ، وَوَاقِفٌ وَخَطْمَةُ إخوة من الأوس.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ أَبُو قَيْسِ بْنِ الْأَسْلَتِ- وَكَانَ يُحِبّ قُرَيْشًا، وَكَانَ لَهُمْ صِهْرًا، كَانَتْ عِنْدَهُ أَرْنَبُ بِنْتُ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ، وَكَانَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/71)


يُقِيمُ عِنْدَهُمْ السّنِينَ بِامْرَأَتِهِ- قَصِيدَةً يُعَظّمُ فِيهَا الْحُرْمَةَ، وَيَنْهَى قُرَيْشًا فِيهَا عَنْ الْحَرْبِ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ، وَيَذْكُرُ فَضْلَهُمْ وَأَحْلَامَهُمْ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْكَفّ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُذَكّرُهُمْ بَلَاءَ اللهِ عِنْدَهُمْ، وَدَفْعَهُ عنهم الفيل وكيده عنهم، فقال:
يَا رَاكِبًا إمّا عَرَضَتْ فَبَلّغْنَ ... مُغَلْغِلَةً عَنّي لؤىّ بن غالب
رسول امرىء قَدْ رَاعَهُ ذَاتُ بَيْنِكُمْ ... عَلَى النّأْيِ مَحْزُونٍ بِذَلِكَ نَاصِبِ
وَقَدْ كَانَ عِنْدِي لِلْهُمُومِ مَعَرّسٌ ... فَلَمْ أَقْضِ مِنْهَا حَاجَتِي وَمَآرِبِي
نُبَيّتُكُمْ شَرْجَيْنِ كُلّ قَبِيلَةٍ ... لَهَا أَزْمَلٌ مِنْ بَيْنِ مُذْكٍ وَحَاطِبِ
أُعِيذُكُمْ بِاَللهِ مِنْ شَرّ صُنْعِكُمْ ... وَشَرّ تَبَاغِيكُمْ وَدَسّ الْعَقَارِبِ
وَإِظْهَارِ أَخْلَاقٍ، وَنَجْوَى سَقِيمَةٍ ... كَوَخْزِ الْأَشَافِي وَقْعُهَا حَقّ صَائِبِ
فَذَكّرْهُمْ بِاَللهِ أَوّلَ وَهْلَةٍ ... وَإِحْلَالِ أَحْرَامِ الظّبَاءِ الشّوَازِبِ
وَقُلْ لَهُمْ وَاَللهُ يَحْكُمُ حُكْمَهُ ... ذَرُوا الْحَرْبَ تَذْهَبُ عَنْكُمْ فِي الْمَرَاحِبِ
مَتَى تَبْعَثُوهَا، تَبْعَثُوهَا ذَمِيمَةً ... هِيَ الْغُولُ لِلْأَقْصَيْنَ أَوْ لِلْأَقَارِبِ
تُقَطّعُ أَرْحَامًا، وَتُهْلِكُ أُمّةً ... وَتَبْرِي السّدِيفَ مِنْ سَنَامٍ وَغَارِبِ
وَتَسْتَبْدِلُوا بِالْأَتْحَمِيّةِ بَعْدَهَا ... شَلِيلًا وَأَصْدَاءً ثِيَابَ الْمُحَارِبِ
وَبِالْمِسْكِ وَالْكَافُورِ غُبْرًا سَوَابِغًا ... كَأَنّ قَتِيرَيْهَا عُيُونُ الْجَنَادِبِ
فَإِيّاكُمْ وَالْحَرْبَ لَا تَعْلَقَنّكُمْ ... وَحَوْضًا وَخِيمَ الْمَاءِ مُرّ الْمَشَارِبِ
تَزَيّنُ لِلْأَقْوَامِ، ثُمّ يَرَوْنَهَا ... بِعَاقِبَةٍ إذْ بَيّنَتْ، أُمّ صَاحِبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/72)


تُحَرّقُ، لَا تُشْوِي ضَعِيفًا، وَتَنْتَحِي ... ذَوِي الْعِزّ مِنْكُمْ بِالْحُتُوفِ الصّوَائِبِ
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ ... فَتَعْتَبِرُوا أَوْ كَانَ فِي حَرْبِ حَاطِبِ
وَكَمْ قَدْ أَصَابَتْ مِنْ شَرِيفٍ مسوّد ... طويل العماد، ضيفه غير خائب
عَظِيمِ رَمَادِ النّارِ يُحْمَدُ أَمْرُهُ ... وَذِي شِيمَةٍ مَحْضٍ كَرِيمٍ الْمَضَارِبِ
وَمَاءِ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ كَأَنّمَا ... أَذَاعَتْ بِهِ رِيحُ الصّبَا وَالْجَنَائِبِ
يُخَبّرُكُمْ عَنْهَا امْرُؤٌ حَقّ عَالِمٌ ... بِأَيّامِهَا وَالْعِلْمُ عِلْمُ التّجَارِبِ
فَبِيعُوا الْحِرَابَ مِلْمُحَارِبِ، وَاذْكُرُوا ... حِسَابَكُمْ، وَاَللهُ خير محاسب
ولىّ امرىء، فَاخْتَارَ دِينًا، فَلَا يَكُنْ ... عَلَيْكُمْ رَقِيبًا غَيْرَ رَبّ الثّوَاقِبِ
أَقِيمُوا لَنَا دِينًا حَنِيفًا، فَأَنْتُمْ ... لَنَا غَايَةٌ قَدْ يُهْتَدَى بِالذّوَائِبِ
وَأَنْتُمْ لِهَذَا النّاسِ نُورٌ وَعِصْمَةٌ ... تُؤَمّونَ، وَالْأَحْلَامُ غَيْرُ عَوَازِبِ
وَأَنْتُمْ- إذَا مَا حُصّلَ النّاسُ- جَوْهَرٌ ... لَكُمْ سُرّةُ الْبَطْحَاءِ شُمّ الْأَرَانِبِ
تَصُونُونَ أَجْسَادًا كِرَامًا عتيقة ... مهذّبة الأنساب غير أشائب
يرى طَالِبَ الْحَاجَاتِ نَحْوَ بُيُوتِكُمْ ... عَصَائِبَ هَلْكَى تَهْتَدِي بِعَصَائِبِ
لَقَدْ عَلِمَ الْأَقْوَامُ أَنّ سَرَاتَكُمْ ... عَلَى كُلّ حَالٍ خَيْرُ أَهْلِ الْجَبَاجِبِ
وَأَفْضَلُهُ رَأْيًا، وَأَعْلَاهُ سُنّةً ... وَأَقْوَلُهُ لِلْحَقّ وَسْطَ الْمَوَاكِبِ
فَقُومُوا، فَصَلّوا رَبّكُمْ، وَتَمَسّحُوا ... بِأَرْكَانِ هَذَا الْبَيْتِ بَيْنَ الأخاشب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/73)


فعندكم منه يلاء وَمَصْدَقٌ ... غَدَاةَ أَبِي يَكْسُومَ هَادِي الْكَتَائِبِ
كَتِيبَتُهُ بالسّهل تمسى، ورجله ... على القاذفات فى رؤس الْمَنَاقِبِ
فَلَمّا أَتَاكُمْ نَصْرُ ذِي الْعَرْشِ، رَدّهُمْ ... جُنُودُ الْمَلِيكِ بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ
فَوَلّوْا سِرَاعًا هاربين، ولم يؤب ... إلى أهله م الحبش غَيْرُ عَصَائِبِ
فَإِنْ تَهْلِكُوا، نَهْلِكْ وَتَهْلِكْ مَوَاسِمٌ ... يعاش بها، قول امرىء غَيْرِ كَاذِبِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَنْشَدَنِي بَيْتَهُ: «وَمَاءٌ هُرِيقَ» ، وَبَيْتَهُ: «فَبِيعُوا الْحِرَابَ» ، وَقَوْلَهُ: «وَلِيّ امرىء فاختار» ، وقوله:
على القاذفات فى رؤس الْمَنَاقِبِ
أَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ وَغَيْرُهُ.
حَرْبٌ دَاحِسً:
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمّا قَوْلُهُ:
أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ
فَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ النّحَوِيّ: أَنّ دَاحِسًا فَرَسٌ كَانَ لِقَيْسِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ بْنِ رَوَاحَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ مَازِنِ بْنِ قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْسِ بْنِ بغيض بن ريث ابن غَطَفَانَ، أَجْرَاهُ مَعَ فَرَسٍ لِحُذَيْفَةَ بْنِ بَدْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ زَيْدِ بْنِ جُؤَيّةَ بْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/74)


لَوْذَانِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ عَدِيّ بْنِ فَزَارَةَ بْنِ ذُبْيَانَ بْنِ بَغِيضِ بْنِ رَيْثِ بْنِ غَطَفَانَ، يُقَال لَهَا: الْغَبْرَاءُ. فَدَسّ حُذَيْفَةُ قَوْمًا وَأَمَرَهُمْ أَنْ يَضْرِبُوا وَجْهَ دَاحِسٍ، إنْ رَأَوْهُ قَدْ جَاءَ سَابِقًا، فَجَاءَ دَاحِسٌ سَابِقًا، فَضَرَبُوا وَجْهَهُ، وَجَاءَتْ الْغَبْرَاءُ. فَلَمّا جَاءَ فَارِسُ دَاحِسٍ أَخْبَرَ قَيْسًا الْخَبَرَ، فَوَثَبَ أَخُوهُ مَالِكُ بْنُ زُهَيْرٍ، فَلَطَمَ وَجْهَ الْغَبْرَاءِ، فَقَامَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ، فَلَطَمَ مَالِكًا. ثُمّ إنّ أَبَا الْجُنَيْدِبِ الْعَبْسِيّ لَقِيَ عَوْفَ بْنَ حُذَيْفَةَ فَقَتَلَهُ، ثُمّ لَقِيَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي فَزَارَةَ مَالِكًا فَقَتَلَهُ فَقَالَ حَمَلُ بْنُ بَدْرٍ أَخُو حُذَيْفَةَ بْنِ بدر:
قَتَلْنَا بِعَوْفٍ مَالِكًا وَهُوَ ثَأْرُنَا ... فَإِنْ تَطْلُبُوا مِنّا سِوَى الْحَقّ تَنْدَمُوا
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَقَالَ الرّبِيعُ بْنُ زِيَادٍ الْعَبْسِيّ:
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ عَبْسٍ وَفَزَارَةَ، فَقُتِلَ حُذَيْفَةُ بن بدر وأخوه حمل ابن بَدْرٍ، فَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ جَذِيمَةَ يَرْثِي حُذَيْفَةَ، وَجَزِعَ عَلَيْهِ:
كَمْ فَارِسٍ يُدْعَى وَلَيْسَ بِفَارِسٍ ... وَعَلَى الْهَبَاءَةِ فَارِسٌ ذُو مَصْدَقِ
فَابْكُوا حُذَيْفَةَ لَنْ تُرَثّوا مِثْلَهُ ... حَتّى تَبِيدَ قَبَائِلٌ لَمْ تُخْلَقْ
وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ. وَقَالَ قَيْسُ بْنُ زُهَيْرٍ:
عَلَى أَنّ الفتى حمل بن بدر ... بنى، وَالظّلْمُ مَرْتَعُهُ وَخِيمُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/75)


وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ: وَقَالَ الْحَارِثُ بْنُ زُهَيْرٍ أَخُو قَيْسِ بْنِ زُهَيْرٍ:
تَرَكْتُ عَلَى الْهَبَاءَةِ غَيْرَ فَخْرٍ ... حُذَيْفَةُ عِنْدَهُ قَصْدُ الْعَوَالِي
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَرْسَلَ قَيْسٌ دَاحِسًا وَالْغَبْرَاءَ، وَأَرْسَلَ حُذَيْفَةُ الْخَطّارَ وَالْحَنْفَاءَ، وَالْأَوّلُ أَصَحّ الْحَدِيثَيْنِ. وَهُوَ حَدِيثٌ طَوِيلٌ مَنَعَنِي مِنْ اسْتِقْصَائِهِ قَطْعُهُ حديث سِيرَةِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
[حرب حاطب]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمّا قَوْلُهُ: «حرب حاطب» . فيعنى حاطب بن الحارث ابن قَيْسِ بْنِ هَيْشَةَ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ عَوْفِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، كَانَ قَتَلَ يَهُودِيّا جَارًا لِلْخَزْرَجِ، فَخَرَجَ إلَيْهِ يَزِيدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَالِكِ بْنِ أَحْمَر بْنِ حَارِثَةَ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ- وَهُوَ الّذِي يُقَال لَهُ: ابْنُ فُسْحُمٍ، وَفُسْحُمٌ: أُمّهُ، وَهِيَ امْرَأَةٌ مِنْ الْقَيْنِ بْنِ جَسْرٍ- لَيْلًا فِي نَفَرٍ مِنْ بَنِي الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ فَقَتَلُوهُ، فَوَقَعَتْ الْحَرْبُ بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالًا شَدِيدًا، فَكَانَ الظّفَرُ لِلْخَزْرَجِ عَلَى الْأَوْسِ، وَقُتِلَ يَوْمئِذٍ سُوَيْدُ بْنُ صَامِتِ بْنِ خالد بن عطيّة ابن حَوْطِ بْنِ حَبِيبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَوْفِ بْنِ مَالِكِ بْنِ الْأَوْسِ، قَتَلَهُ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ الْبَلَوِيّ، وَاسْمُهُ عَبْدُ اللهِ، حَلِيفُ بَنِي عَوْفِ بْنِ الْخَزْرَجِ. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

(3/76)


خَرَجَ الْمُجَذّرُ بْنُ ذِيَادٍ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَخَرَجَ مَعَهُ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ، فَوَجَدَ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْدٍ غِرّةً مِنْ الْمُجَذّرِ فَقَتَلَهُ بِأَبِيهِ.
وَسَأَذْكُرُ حَدِيثَهُ فِي مَوْضِعِهِ- إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى- ثُمّ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ مَنَعَنِي مِنْ ذِكْرِهَا وَاسْتِقْصَاءِ هَذَا الْحَدِيثِ مَا ذَكَرْت فِي حَدِيثِ حرب داحس.
[حكيم بن أمية ينهى قومه عن عداوة الرسول]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ حَكِيمُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ حَارِثَةَ بْنِ الْأَوْقَصِ السّلَمِيّ، حَلِيفُ بَنِي أُمَيّةَ وَقَدْ أَسْلَمَ، يُوَرّعُ قَوْمَهُ عَمّا أَجَمَعُوا عَلَيْهِ مِنْ عَدَاوَةِ رَسُولِ اللهِ صَلّى الله عليه وسلم، وكان فيهم شريفا مطاعا:
هل قائل قولا من الْحَقّ قَاعِدٌ ... عَلَيْهِ، وَهَلْ غَضْبَانُ لِلرّشْدِ سَامِعُ
وَهَلْ سَيّدٌ تَرْجُو الْعَشِيرَةُ نَفْعَهُ ... لِأَقْصَى الْمَوَالِي وَالْأَقَارِبِ جَامِعُ
تَبَرّأْتُ إلّا وَجْهَ مَنْ يَمْلِكُ الصّبا ... وأهجركم مادام مُدْلٍ وَنَازِعُ
وَأُسْلِمُ وَجْهِي لِلْإِلَهِ وَمَنْطِقِي ... وَلَوْ راعنى من الصّديق روائع
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَوْقِفُ الْوَلِيدِ مِنْ الْقُرْآنِ:
وَذَكَرَ خَبَرَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ وَقَوْلَهُ: فِيمَا جَاءَ بِهِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْوَحْيِ وَالْقُرْآنِ: قَدْ سَمِعْنَا الشّعْرَ فَمَا هُوَ بِهَزَجِهِ، وَلَا رَجَزِهِ.
وَالْهَزَجُ مِنْ أَعَارِيضِ الشّعْرِ مَعْرُوفٌ عِنْدَ الْعَرُوضِيّينَ، وَلَا أَعْرِفُ لَهُ اشْتِقَاقًا

(3/77)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلّا أَنْ يَكُونَ مِنْ قَوْلِهِمْ فِي وَصْفِ الذّبَابِ: هَزِجٌ، أَيْ: مُتَرَنّمٌ «1» ، وَأَمّا الرّجَزُ فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَجَزْت الْحَمْلَ إذَا عَدَلْته بِالرّجَازَةِ، وَهُوَ شَيْءٌ يُعْدَلُ بِهِ الْحَمْلُ، وَكَذَلِكَ الرّجَزُ فِي الشّعْرِ أَشْطَارٌ مُعَدّلَةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مِنْ رَجَزَتْ النّاقَةُ إذَا أَصَابَتْهَا رِعْدَةٌ عِنْدَ قِيَامِهَا، كَمَا قَالَ الشّاعِرُ: حَتّى تَقُومَ تَكَلّفَ الرّجْزَاءِ «2» فَالْمُرْتَجِزُ كَأَنّهُ مُرْتَعِدٌ عِنْدَ إنْشَادِهِ لقصر الأبيات «3» .
__________
(1) فى المعجم الوسيط: هزج بفتح فكسر هزجا بفتح أوله وثانيه: تغنى والهزج كل صوت فيه ترنم خفيف مطرب وصوت فيه بحح، وصوت الرعد وصوت الذباب، ونوع من بحور الشعر العربى والفارسى، سمى بذلك لتقارب أجزائه، وهى: مفاعيلن ست مرات، ومجزوء وجوبا، أى بأربع تفعيلات، كل اثنتين فى شطرة
(2) الشطرة فى اللسان وفيه «الرجزاء» وفى الروض كانت الرجزاء بلا همزة. وفى أمالى القالى ج 2 ص 280 والرجز أن يرعد عجز البعير إذا أراد النهوض، وأنشد:
تجد القيام كأنما هو نجدة ... حتى تقوم تكلف الرجزاء
وفى سمط اللالى شرح أمالى القالى للبكرى: وهو لأبى النجم ارتجله عند عبد الملك حين قال له: إنك لا تحسن القصيد، فقال: إنى لأحسنه، فعال: فقل فى هذه الجارية، فقال لها: ما اسمك؟ قالت: شعثاء، وكانت أدماء، فقال:
علق الهوى بجبائل الشعثاء ... والموت بعض حبائل الأهواء
والنجدة الشجاعة والشدة ص 924.
(3) الرجز: بحر من بحور الشعر، وقد قال الحربى: لم يبلغنى أنه جرى على-

(3/78)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: قَدْ سَمِعْنَا الْكُهّانَ، فَمَا هُوَ بِزَمْزَمَةِ الْكَاهِنِ وَلَا سَجْعِهِ: الزّمْزَمَةُ صَوْتٌ ضَعِيفٌ كَنَحْوِ مَا كَانَتْ الْفُرْسُ تَفْعَلُهُ عِنْدَ شُرْبِهَا الْمَاءَ، وَيُقَالُ أَيْضًا:
زَمْزَمَ الرّعْدُ، وَهُوَ صَوْتٌ لَهُ قَبْلَ الْهَدْرِ، وَكَذَلِكَ الْكُهّانُ، كَانَتْ لَهُمْ زَمْزَمَةٌ اللهُ أَعْلَمُ بِكَيْفِيّتِهَا، وَأَمّا زَمْزَمَةُ الْفُرْسِ، فَكَانَتْ مِنْ أُنُوفِهِمْ.
وَقَوْلُ الْوَلِيدِ: إنّ أَصْلَهُ لَعَذْقٌ، وَإِنّ فَرْعَهُ لَجَنَاةٌ. اسْتِعَارَةٌ مِنْ النّخْلَةِ الّتِي ثبت أصلها، وقوى وطلب فَرْعُهَا إذَا جَنَى «1» ، وَالنّخْلَةُ هِيَ: الْعَذْقُ بِفَتْحِ
__________
- لسان النبى صلّى الله عليه وسلم من ضروب الرجز إلا ضربان: المنهوك والمشطور ولم يعدهما الخليل شعرا، فالمنهوك كقوله: «فى حديث رواه البخارى وأحمد ومسلم والنسائى» :
أَنَا النّبِيّ لَا كَذِبْ ... أَنَا ابْنُ عَبْدِ المطلب
والمشطور كقوله، فى رواية جندب «هو فى البخارى» .
هَلْ أَنْتَ إلّا إصْبَعٌ دَمِيَتْ ... وَفِي سَبِيلِ الله ما لقيت
وقوله: أنا ابن عبد المطلب ليس افتخارا، فقد كان يكره الانتساب إلى الاباه الكفار. ولكنه أشار إلى رؤيا رآها عبد المطلب كانت مشهوره عندهم، رأى تصديقها، فذكرهم إياها بهذا القول «انظر النهاية لابن الأثير» والرجز مركب من «مستفعلن» ست مرات. والمشطور منه ما كان على ثلاث تفعيلات، ويعتبر البيت فى الوقت. نفسه شطرة فلا يجزأ بعد ذلك مثل:
رب أخ لى لم تلده أمى ... والمنهوك ما بقى على تفعيلتين
مثل: إلهنا ما أعد لك ولم تكن العرب تعرف لهذه البحور هذه الأسماء.
(1) كل ما يجنى فهو جنى وجناة، وفى حواشى أبى ذر: أى: فيه تمريجنى، وفى-

(3/79)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْعَيْنِ، وَرِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ أَفْصَحُ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ هِشَامٍ؛ لِأَنّهَا اسْتِعَارَةٌ تَامّةٌ يُشْبِهُ آخِرُ الْكَلَامِ أَوّلَهُ، وَرِوَايَةُ ابْنِ هِشَامٍ: إنّ أَصْلَهُ لَغَدْقٌ، وَهُوَ الْمَاءُ الْكَثِيرُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: غَيْدَقَ الرّجُلُ إذَا كَثُرَ بُصَاقُهُ، وَأَحَدُ أَعْمَامِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَانَ يُسَمّى: الْغَيْدَاقُ لِكَثْرَةِ عَطَائِهِ، وَالْغَيْدَقُ أَيْضًا وَلَدُ الضّبّ، وَهُوَ أَكْبَرُ مِنْ الْحِسْلِ قَالَهُ قُطْرُبٌ فِي كِتَابِ الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ لَهُ «1» .
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً» الْآيَاتِ الّتِي نَزَلَتْ فِي الْوَلِيدِ، وَفِيهَا لَهُ تَهْدِيدٌ وَوَعِيدٌ شَدِيدٌ، لِأَنّ مَعْنَى: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ» أَيْ دَعْنِي وَإِيّاهُ، فَسَتَرَى مَا أَصْنَعُ بِهِ، كَمَا قَالَ: «فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ» القلم: 44 وهى كلمة بقولها الْمُغْتَاظُ إذَا اشْتَدّ غَيْظُهُ وَغَضَبُهُ، وَكَرِهَ أَنْ يَشْفَعَ لِمَنْ اغْتَاظَ عَلَيْهِ، فَمَعْنَى الْكَلَامِ: أَيْ: لَا شَفَاعَةَ تَنْفَعُ لِهَذَا الْكَافِرِ، وَلَا اسْتِغْفَارَ يَا مُحَمّدٌ مِنْك، وَلَا مِنْ غَيْرِك وَقَوْلُهُ: «وبنين شهودا» أَيْ: مُقِيمِينَ مَعَهُ غَيْرَ مُحْتَاجِينَ إلَى الْأَسْفَارِ والغيبة عنه، لأن ماله كان ممدودا وَالْمَالُ الْمَمْدُودُ عِنْدَهُمْ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ دِينَارٍ، فصاعدا «ومهّدت له تمهيدا»
__________
- رواية البيهقى: «وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو، وما يعلى، وإنه ليحطم ما تحته» وفى رواية الحاكم: «إنه لمنير أعلاه مشرق أسفله» وقد أخرج الحديث الحاكم وصححه عن ابن عباس، وقريب منه ما رواه ابن جرير وابن أبى حاتم من طرق أخرى.
(1) انظر ص 92 نوادر أبى زيد.

(3/80)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَيْ: هَيّأْت لَهُ، وَقَدّمْت لَهُ مُقَدّمَاتٍ اسْتِدْرَاجًا له، وقوله تعالى: «سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً» هِيَ عَقَبَةٌ فِي جَهَنّمَ، يُقَالُ لَهَا: الصّعُودُ مسيرها سبعين سَنَةً، يُكَلّفُ الْكَافِرُ أَنْ يَصْعَدَهَا، فَإِذَا صَعِدَهَا بَعْدَ عَذَابٍ طَوِيلٍ صُبّ مِنْ أَعْلَاهَا، وَلَا يَتَنَفّسُ، ثُمّ لَا يَزَالُ كَذَلِكَ أَبَدًا، كَذَلِكَ جَاءَ فِي التّفْسِيرِ «1» .
وَقَوْلُهُ سُبْحَانَهُ: «فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ» أَيْ: لُعِنَ كَيْفَمَا كَانَ تَقْدِيرُهُ فَكَيْفَ هَاهُنَا مِنْ حُرُوفِ الشّرْطِ، وَقِيلَ مَعْنَى قُتِلَ: أَيْ هُوَ: أَهْلٌ أَنْ يُدْعَى عَلَيْهِ بِالْقَتْلِ، وَقَدْ فَسّرَ ابْنُ هِشَامٍ: بَسَرَ وَالْبَسْرُ أَيْضًا: الْقَهْرُ، وَالْبَسْرُ حَمْلُ الْفَحْلِ عَلَى النّاقَةِ قَبْلَ وَقْتِ الضّرَابِ. وَفَسّرَ عِضِينَ، وَجَعَلَهُ مِنْ عَضّيْت أَيْ فَرّقْت، وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا تَعْضِيَةَ فِي مِيرَاثٍ إلّا مَا احْتَمَلَهُ الْقَسْمُ» وَمَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ مُوَافِقٌ لِمَذْهَبِ ابْنِ الْقَاسِمِ وَرَأْيِهِ فِي كُلّ مَا لَا يُنْتَفَعُ بِهِ إذَا قُسِمَ «2» أَوْ كَانَ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَى الشّرِيكَيْنِ أَلّا يُقْسَمَ، وَهُوَ خِلَافُ رَأْيِ مَالِكٍ، وَحُجّةُ مَالِكٍ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: «مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً» النّسَاءِ: 7.
وَقَدْ قِيلَ فِي عِضِينَ إنه جمع عضة، وهى السّحر وأنشدوا:
__________
(1) رواه أحمد والترمذى ثم قال: غريب لا نعرفه إلا من حديث ابن لهيعة عن دراج، وابن لهيعة ضعيف، وأحسن ما قيل: هو تفسير مجاهد، فقد قال فى تفسير: سأرهقه صعودا: أى: مشقة من العذاب، وقال قتادة: عذاب لا راحة فيه واختاره ابن جرير. أو قربناه من العذاب الشاق لبعده عن الإيمان.
(2) مثل لهذا الذى يضار به الورثة: قسم الجوهرة أو الطيلسان وما أشبه. ولهذا يباع ويقسم ثمنه بين الورثة، لأن التقسيم فيه ضرر كبير على كل الورثة.

(3/81)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أعوذ بربى من النافثا ... ت فى عقد الْعَاضِهِ الْمُعْضِهِ
وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ:
يَا لِلْعَضِيهَةِ «1» وَيَا لِلْأَفِيكَةِ [وَيَا لِلْبَهِيتَةِ]
شَرْحُ لَامِيّةِ أَبِي طَالِبٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَصِيدَةَ أَبِي طَالِبٍ إلَى آخِرِهَا، وَفِيهَا: وَأَبْيَضَ عَضْبٍ مِنْ تُرَاثِ الْمَقَاوِلِ. قَدْ شَرَحْنَا الْأَقْيَالَ وَالْمَقَاوِلَ، فِيمَا تَقَدّمَ، وَتُرَاثٌ أَصْلُهُ:
وُرَاثٌ مِنْ وَرِثْت، وَلَكِنْ لَا تُبْدَلُ هَذِهِ الْوَاوُ تَاءً إلّا فِي مَوَاضِعَ مَحْفُوظَةٍ، وَعِلّتُهَا كَثْرَةُ وُجُودِ التّاءِ فِي تَصَارِيفِ الْكَلِمَةِ، فَالتّرَاثُ مَالٌ قَدْ تُوُورِثَ، وَتَوَارَثَهُ قَوْمٌ عَنْ قَوْمٍ، فَالتّاءُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التّوْرِيثِ وَالتّوَارُثِ، وَكَذَلِكَ تُجَاهُ الْبَيْتِ، التّاءُ مُسْتَعْمَلَةٌ فِي التّوَجّهِ وَالتّوْجِيهِ وَنَحْوِهِ، فَلَمّا أَلْفَوْهَا فِي تَصَارِيفِ الْكَلِمَةِ لَمْ يُنْكِرُوا قَلْبَ الْوَاوِ إلَيْهَا، كَمَا فَعَلُوا فِي رَيْحَانٍ وهو من الرّوح لكثرة الياء
__________
(1) كسرت اللام فى ثلاث الكلمات على معنى: اعجبو لهذا العضيهة الخ، فإذا فتحت فمعناه الاستغاثة، ويقال ذلك عند التعجب من الإفك العظيم والزيادة من اللسان. وعضه بفتح الضاد وكسرها، وأعضه جاء بالعضيهة، وعضهه يعضهه بفتح الضاد. قال فيه ما لم يكن وفى البخارى عن ابن عباس فى هذه الاية أنه قال: هم أهل الكتاب جزأوه أجزاء، فامنوا ببعض، وكفروا ببعض ونسب إلى ابن عباس أيضا فى غير البخارى أنه قال عن عضين: السحر. قال عكرمة: العضه: السحر بلسان قريش. ورأى ابن عباس الذى ذكره البخارى هو الأوفق

(3/82)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي تَصَارِيفِ الْكَلِمَةِ، كَمَا قَدّمْنَا قَبْلُ، وَهِيَ فِي تُرَاثٍ وَبَابِهِ أَبْعَدُ؛ لِأَنّ الْيَاءَ الْمَأْلُوفَةَ فِي مَادّةِ الْكَلِمَةِ زَائِدَةٌ، وَيَاءُ رَيْحَانٍ لَيْسَتْ كَذَلِكَ، وَكَذَلِكَ التّكَأَةُ مِنْ تَوَكّأْت وَتَتْرَى مِنْ التّوَاتُرِ، وَالتّوَلّجُ مِنْ التّوَلّجِ وَالْمُتّلِجِ، لِأَنّهُمْ يَقُولُونَ: اتّلَجَ بِالتّشْدِيدِ، فَتَصِيرُ الْوَاوُ تَاءً لِلْإِدْغَامِ، حَتّى يقولوا: متّلج فيجعلونها تاء دون الإدغام، وهذا أَشْبَهُ بِقِيَاسِ رَيْحَانٍ وَبَابِهِ؛ فَإِنّ التّاءَ الْأُولَى مِنْ مُتّلِجٍ أَصْلِيّةٌ وَهِيَ فِي مُتّلِجٍ إذَا ضُعّفَتْ أَصْلِيّةٌ أَيْضًا، فَهِيَ هِيَ، فَقِفْ عَلَى هذا الأصل؛ فإنه سز الباب «1» . وأراد بالمقاول: آباءه، شبههم بالملوك، ولم يَكُونُوا مُلُوكًا، وَلَا كَانَ فِيهِمْ مِنْ مَلِكٍ بِدَلِيلِ حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ قَالَ لَهُ هِرَقْلُ:
هَلْ كَانَ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ؟ فَقَالَ: لَا. وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هَذَا السّيْفُ الّذِي ذَكَرَ أَبُو طَالِبٍ مِنْ هِبَاتِ الْمُلُوكِ لِأَبِيهِ، فَقَدْ وَهَبَ ابْنُ ذِي يَزَنَ لِعَبْدِ الْمُطّلِبِ هِبَاتٍ جَزْلَةً حِينَ وَفَدَ عَلَيْهِ مَعَ قُرَيْشٍ، يُهَنّئُونَهُ بِظَفْرِهِ بِالْحَبَشَةِ، وَذَلِكَ بَعْدَ مَوْلِدِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِعَامَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ أَوْ قَصِرَاتُهَا: يَعْنِي [مُعَلّمَةٌ] بسمة فى أعضادها «2» ،
__________
(1) جاء فى شرح الشافية للرضى: «اعلم أن التاء قريبة من الواو فى المخرج لكون التاء من أصول الثنايا، والواو من الشفتين، ويجمعهما الهمس، فتقع التاء بدلا منها كثيرا، لكنه مع ذلك غير مطرد إلا فى باب افتعل نحو تراث وتولج وتترى من المواترة والتلج بضم التاء وفتح اللام «فزخ العقاب» والتكأة وتقوى. وتوراة عند البصريين فوعلة من ورى الزند كتولج، فإن كتاب الله نور، وعند الكوفيين هما تفعله وتفعل، والأول أولى لكون فوعل أكثر من تفعل» ص 80 ح 3 ومنه تجاه، وتكلان وتلاد، وتيقور، وتهمة وتوأم، وتخمة وتلاد فأصلها: وجه، ووكل وولاد، ووقر ووهم ووأم ووخم وولاد وأصل توراة: ووراة.
(2) موسمة الأعضاد: معلمة، والسمة العلامة، القصرات: أصول الأعناق وزيادة معلمة التى وضعتها بين قوسين يقتضيها السياق.

(3/83)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَيُقَالُ لِذَلِكَ الْوَسْمِ السّطَاعُ وَالْخِبَاطُ فِي الْفَخِذِ وَالرّقْمَةُ أَيْضًا فِي الْعَضُدِ، وَيُقَالُ لِلْوَسْمِ فِي الْكَشْحِ: الْكِشَاحُ وَلِمَا فِي قَصَرَةِ الْعُنُقِ: الْعِلَاطُ، وَالْعَلْطَتَانِ وَالشّعْبُ أَيْضًا فِي الْعُنُقِ، وَهُوَ كَالْمِحْجَنِ، وَفِي الْعُنُقِ وَسْمٌ آخَرُ أَيْضًا يُقَالُ لَهُ:
قَيْدُ الْفَرَسِ. قَالَ الرّاجِزُ:
كُومٌ عَلَى أَعْنَاقِهَا قَيْدُ الْفَرَسْ ... تَنْجُو إذَا اللّيْلُ تَدَانَى، وَالْتَبَسْ
وَلِوُسُومِ الْإِبِلِ أَسْمَاءٌ كَثِيرَةٌ وَبَابٌ طَوِيلٌ، ذَكَرَ أَبُو عُبَيْدٍ أَكْثَرَهُ فِي كِتَابِ الْإِبِلِ، فَمِنْهَا الْمُشَيْطَنَةُ وَالْمُفَعّاةُ وَالْقُرْمَةُ وَهِيَ فِي الْأَنْفِ، وَكَذَلِكَ الْجُرْفُ وَالْخُطّافُ وَهِيَ فِي الْعُنُقِ، وَالدّلْوُ وَالْمُشْطُ وَالْفِرْتَاجُ وَالثّؤْثُورُ وَالدّمَاعُ فِي مَوْضِعِ الدّمْعِ، وَالصّدَاغُ فِي مَوْضِعِ الصّدْغِ وَاللّجَامُ مِنْ الْخَدّ إلَى الْعَيْنِ، يُقَالُ مِنْهُ: بَعِيرٌ مَلْجُومٌ، وَالْهِلَالُ وَالْخِرَاشُ وَهُوَ مِنْ الصّدْغِ إلَى الذّقَنِ.
وَقَوْلُهُ: أَوْ قَصَرَاتُهَا جَمْعُ قَصَرَةٍ، وَهِيَ أَصْلُ الْعُنُقِ، وَخَفْضُهَا بِالْعَطْفِ عَلَى الْأَعْضَادِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ كَمَا تَقُولُ: هُوَ ضَارِبُ الرّجُلِ وَزَيْدًا فِي بَابِ اسْمِ الْفَاعِلِ؛ لِأَنّ قَوْلَهُ: مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادِ مِنْ بَابِ الصّفَةِ الْمُشَبّهَةِ، وَهِيَ لَا تَعْمَلُ إلّا مُضْمَرَةً، وَاسْمُ الْفَاعِلِ يُضْمَرُ إذَا عُطِفَ عَلَى الْمَخْفُوضِ، وَذَلِكَ أَنّ الصّفَةَ لَا تَعْمَلُ بِالْمَعْنَى، وَإِنّمَا تَعْمَلُ بِشَبَهِ لَفْظِيّ بَيْنَهَا، وَبَيْنَ اسْمِ الْفَاعِلِ، فَإِذَا زَالَ اللّفْظُ، وَرَجَعَ إلَى الْإِضْمَارِ لَمْ تَعْمَلْ، وَتُخَالِفُ اسْمَ الْفَاعِلِ أَيْضًا؛ لِأَنّ مَعْمُولَهَا لَا يَتَقَدّمُ عَلَيْهَا، كَمَا يَتَقَدّمُ الْمَفْعُولُ عَلَى اسْمِ الْفَاعِلِ، وَذَلِكَ أَنّ مَنْصُوبَهَا فَاعِلٌ فِي الْمَعْنَى، وَالْفَاعِلُ لَا يَتَقَدّمُ، وَالصّفَةُ

(3/84)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَا يُفْصَلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ مَنْصُوبِهَا بِالظّرْفِ، وَيَجُوزُ ذَلِكَ فِي اسْمِ الْفَاعِلِ، وَالصّفَةُ لَا تَعْمَلُ إلّا بِمَعْنَى الْحَالِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ يَعْمَلُ بِمَعْنَى الْحَالِ وَالِاسْتِقْبَالِ، نَعَمْ وَيَعْمَلُ بِمَعْنَى الْمَاضِي إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ الْأَلِفُ وَاللّامُ، وَلَوْ رُوِيَ: مُوَسّمَةُ الْأَعْضَادَ بِنَصْبِ الدّالِ عَلَى مَعْنَى: مُوَسّمَةٌ الْأَعْضَادَ بِالتّنْوِينِ، وَحَذْفُهُ لِالْتِقَاءِ السّاكِنَيْنِ، لَجَازَ كَمَا رُوِيَ فى شعر حندج «1» :
كبكر مقاناة البياض
__________
(1) فى الأصل: جتدح، ومقنأة التى ستأتى فى الشطرة، وهما خطأ، والصواب ما أثبته، وجاء صواب مقنأة فى موضع آخر من الروض. وحندج هو امرؤ القيس الشاعر الجاهلى، والشعر من معلقته المشهورة، والرواية فى المعلقة، وفى اللسان هكذا.
كبكر المقاناة الْبَيَاضُ بِصُفْرَةِ ... غَذَاهَا نَمِيرُ الْمَاءِ غَيْرَ مُحَلّلِ
اليكر من كل صنف ما لم يسبقه مثله. والمقاناة: الخلط، والمقاناة- كما يقول الزوزنى- مصوغة للمفعول دون المصدر، وفى اللسان: فى شرح كبكر ألخ.. أى: كالبيضة التى هى أول بيضة باضتها النعامة التى قونى بياضها بصفرة، أى: خلط بياضها بصفرة.. فترك الألف واللام من البكر، وأضاف البكر إلى نعتها» وفى اللسان له معنى آخر: «أراد: كبكر الصدفة المقاناة البياض بصفرة؛ لأن فى الصدفة لونين من بياض وصفرة أضاف الدرة إليها» وبكر الصدفه درتها التى لم ير مثلها. شبهها فى صفاء اللون ونقائه بدرة فريدة تضمنتها صدفة بيضاء شابت بياضها صفرة، ويقول الزوزونى: يروى البيت بنصب البياض وخفضه، وهما جيدان بمنزلة قولهم زيد الحسن الوجه، والحسن الوجه الخفض على الإضافة والنصب على التشبيه كقولهم: زيد الضارب الرجل» ص 15 وما بعدها لأبى عبد الله الحسين بن أحمد بن الحسين الزوزنى ط 1288 واللسان مادة قنا. هذا ورواية مقاناة مقترنة بالألف واللام لا تأتى بالتنوين. وقد جاء تصويب مقنأة فى مكان آخر بمقاناة.

(3/85)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بالنصب وبالرفع أيضا، أى: البياض منها عَلَى نِيّةِ التّنْوِينِ فِي مُقَانَاةٍ، وَحَذْفه لِالْتِقَاءِ السّاكِنَيْنِ، وَأَمّا الْخَفْضُ فَلَا خَفَاءَ بِهِ، وَإِذَا كَانَتْ الْقَصَرَاتُ مَخْفُوضَةً بِالْعَطْفِ عَلَى الْأَعْضَادِ، فَفِيهِ شَاهِدٌ لِمَنْ قَالَ: هُوَ حَسَنٌ وَجْهِهِ كَمَا رَوَى سِيبَوَيْهِ حِينَ أَنْشَدَ:
كُمَيْتَا الْأَعَالِي جَوْنَتَا مصطلاهما «1»
__________
(1) أنشده سيبويه فى الكتاب ص 102 ح 1 ط 1316 فى بيتين للشماخ ابن ضرار من قصيدة تبلغ أكثر من عشرين بيتا، والبيتان اللذان أنشدهما سيبويه
أمن دمثين عرس الركب فيهما ... بحقل الرخامى قد عفا طللاهما
أقامت على ربعيهما جارتا صفا ... كميتا الأعالى جونتا مصطلاهما
وتروى الشطرة الثانية من البيت الأول: «قد أنى لبلاهما» وفى الشعر شاهد على أن الصفة المشبهة قد تضاف إلى ظاهر مضاف إلى ضمير صاحبها. والدمنة: الموضع الذى أثر الناس فيه بنزولهم وإقامتهم، وعرس: نزل آخر الليل قليلا للاستراحة، والركب: جمع راكب والطلل: ما بقى من آثار الدار، والرخامى: شجر مثل الضال، وهو السدر البرى. والبلى: الفناء، وأنى: حان. والربع: الدار والمنزل، والضمير فى ربعيهما للدمنتين خلافا للمرتضى الذى يزعم فى أماليه أنه لامرأتين سيأتى ذكرهما، ولم يتقدم. والصفا: الجبل. وجارتاه: أثفيتان- أى حجران للقدر- مقطوعتان من الجبل، وتقربان منه، فيكون هو ثالثة الأثافى. وكميتا الأعالى: صفة جارتا صفا، وكميتا مثنى: كميت بالتصغير من الكمتة، وهى الحمرة الشديدة المائلة إلى السواد، الأعالى: أعالى الجارتين شبه أعلاهما بلون الكميت؛ لأن النار لم تصل إليه فتسوده، وجونتا مصطلاهما-

(3/86)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي حَدِيثِ أُمّ زَرْعٍ: صُفْرُ رِدَائِهَا، وَمِلْءُ كسائها «1» مثل حسنة وجهها،
__________
- صفة أخرى لجارتا صفا، والجونة: السوداء، وهو صفة مشبهة، والمصطلى اسم مكان الصلاء، أى: الاحتراق بالنار، فيكون المصطلى موضع إحراق النار. يريد إن أسافل الأثافى «الأثافى هى أرجل القدر الذى يطبخ عليه» قد اسودت من إيقاد النار بينها ... كل هذا فى وصف القدر الذى كان للأحبة بجواز الجبل يوقدون فيه النار. ومحل الشاهد فى قوله: جونتا مصطلاهما. فإنه أضاف جونتا إلى مصطلاهما، فجونتا بمنزلة: حسنتا، ومصطلاهما بمنزلة. وجههما، والضمير الذى فى مصطلاهما يعود على قوله: جارتا صفا، وفى خزانة الأدب للبغدادى تفصيل لما دار حول هذا البيت الذى استشهد به سيبويه «أقامت على ربعيهما» الخ فى قرابة عشر صفحات من 219 إلى 228 ح 4 ط السلفية، وانظر كتاب سيبويه ص 102 ح 1، والأمالى للمرتضى ح 3 ص 118 والأشمونى مع حاشية الصبان ح 3 ص 10 ط 1305.
(1) حديث أم زرع أخرجه البخارى ومسلم والترمذى فى الشمائل والطبرانى وأبو يعلى وغيرهم، وفيه تتحدث عائشة- رضى الله عنها- عن إحدى عشرة امرأة من أهل اليمن تعاهدن أن لا يكتمن من أخبار أزواجهن شيئا، ثم مضت تقص عائشة ما قالته كل زوجة حتى الحادية عشرة التى قالت: زوجى أبو زرع، وما أبو زرع؟ .. ثم مضت هذه فى ثنائها العظيم على زوجها وأهله حتى بلغت ذكر ابنة أبى زرع، فقالت عنها: «طوع أبيها، وطوع أمها، وزين أهلها ونسائها، وملء كسائها، وصفر ردائها، وغيظ جارتها» ثم تختم عائشة رضى الله عنها قصة أم زرع بأن زوجها طلقها، فنكحت بعده رجلا سريا تقول عنه أم زرع: «لو جمعت كل شىء أعطانيه ما بلغ أصغر آنية أبى زرع» قالت عائشة: فقال لى رسول الله «ص» كنت لك كأبى زرع لأم زرع إلا أنه طلقها، وإنى لا أطلقك، فقالت عائشة: «بأبى أنت وأمى، لأنت خير لى من أبى زرع لأم زرع والمقصود من صفر ردائها أنها ضامرة البطن، فكان رداؤها صفرا أى خاليا لشدة ضمور بطنها، والرداء ينتهى إلى البطن، فيقع عليه.

(3/87)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي الْأَمَالِي مِنْ صِفَةِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: شئن الْكَفّيْنِ «1» طَوِيلُ أَصَابِعِهِ، أَعْنِي: مِثْلَ صِفْرِ رِدَائِهَا.
وقوله: ترى الودع فيه. الودع فيه. وَالْوَدْعُ بِالسّكُونِ وَالْفَتْحِ: خَرَزَاتٌ تُنْظَمُ، وَيَتَحَلّى بِهَا النّسَاءُ وَالصّبْيَانُ كَمَا قَالَ:
[السّنّ مِنْ جَلْنَزِيزٍ عَوْزَمٍ خَلَقٍ] ... وَالْحِلْمُ حِلْمُ صَبِيّ يَمْرُسُ «2» الْوَدَعَهْ
وَقَالَ الشّاعِرُ:
إنّ الرّوَاةَ بِلَا فَهْمٍ لِمَا حَفِظُوا ... مِثْلَ الْجِمَالِ عَلَيْهَا يُحْمَلُ الْوَدَعُ
لَا الْوَدْعُ يَنْفَعُهُ حَمْلُ الْجِمَالِ لَهُ ... وَلَا الْجِمَالُ بِحَمْلِ الْوَدْعِ تَنْتَفِعُ
وَيُقَالُ: إنّ هَذِهِ الْخَرَزَاتِ يَقْذِفُهَا الْبَحْرُ، وَأَنّهَا حَيَوَانٌ فِي جَوْفِ الْبَحْرِ، فَإِذَا قَذَفَهَا مَاتَتْ، وَلَهَا بَرِيقٌ وَلَوْنٌ حَسَنٌ، وَتَصَلّبُ صَلَابَةَ الْحَجَرِ، فَتُثْقَبُ، وَيُتّخَذُ مِنْهَا الْقَلَائِدُ، وَاسْمُهَا مُشْتَقّ مِنْ وَدَعْته أَيْ: تَرَكْته، لِأَنّ البحر ينصب
__________
(1) ورد أنه شئن الكفين والقدمين فى أحاديث بعضها رواه البخارى والترمذى، والمعنى أن كفيه وقدميه يميلان إلى الغلظ والقصر، وقيل: هو الذى فى أنامله غلظ بلا قصر ويحمد؟؟؟ هذا فى الرجل لأنه أشد لقبضته، ويذم فى النساء وفى حديث المغيرة «؟؟؟ الكف. أى غليظته»
(2) يلوكه ويمصه والبيت فى الأصمعيات لرجل من تميم

(3/88)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْهَا وَيَدَعُهَا، فَهِيَ وَدَعٌ مِثْلَ قَبَضٍ وَنَفَضٍ «1» ، وَإِذَا قُلْت الْوَدْعَ بِالسّكُونِ فَهِيَ مِنْ بَابِ مَا سُمّيَ بِالْمَصْدَرِ.
وَقَوْلُهُ: وَالرّخَامَ أَيْ: مَا قُطِعَ مِنْ الرّخَامِ، فَنُظِمَ وَهُوَ حَجَرٌ أَبْيَضُ نَاصِعٌ: وَالْعَثَاكِلُ: أَرَادَ الْعَثَاكِيلَ «2» ، فَحَذَفَ الْيَاءَ ضَرُورَةً كَمَا قَالَ ابْنُ مُضَاضٍ: وَفِيهَا الْعَصَافِرُ، أَرَادَ: الْعَصَافِيرَ، وَفِي أَوّلِ الْقَصِيدَةِ: وَقَدْ حَالَفُوا قَوْمًا عَلَيْنَا أَظِنّةً [جَمْعُ ظَنِينٍ «3» ] أَيْ مُتّهَمٌ، وَلَوْ كَانَ بِالضّادِ مَعَ قَوْلِهِ: عَلَيْنَا، لَعَادَ مَعْنَاهُ مَدْحًا لَهُمْ، كَأَنّهُ قَالَ: أَشِحّةً عَلَيْنَا، كَمَا أَنْشَدَ عَمْرُو بْنُ بَحْرٍ [الْجَاحِظُ] :
لَوْ كُنْت فِي قَوْمٍ عَلَيْك أَشِحّةً ... عَلَيْك أَلَا إنّ مَنْ طَاحَ طَائِحُ
يَوَدّونَ لَوْ خَاطُوا عَلَيْك جلودهم ... وهل يدفع الموت النفوس الشحائح «4»
__________
(1) القبض بمعنى: مقبوض. النفض بفتح وسكون: مصدر نفضت الثوب والشجرة وبالتحريك ما تساقط من الورق والثمر والنفض بفاء ساكنة مع كسر النون: خرء النحل فى العسالة أو ما مات منه فيها. أو هو بالقاف وبالتحريك: ما سقط من الورق والثمر وحب العنب حين يوجد بعضه فى بعض.
(2) العثاكل: جمع عثكال، وعثكول: الأغصان التى ينبت عليها الثمر «الخشنى»
(3) زيادة ليست فى الأصل والسياق يقتضيها.
(4) البيتان فى البيان والتبيين لأبى عثمان عمرو بن بحر الجاحظ ص 50 ح 1. ط 1948 والبيت الأول يروى هكذا..
لقد كنت فى قوم عليك أشحة ... بنفسك لولا أن من طاح طائح
وهما للأغر، والأغر لقب لشاعرين من بنى يشكر بن وائل.

(3/89)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِيهَا:
وَثَوْرٍ وَمَنْ أَرْسَى ثَبِيرًا مَكَانَهُ ... وَرَاقٍ لِيَرْقَى فِي حِرَاءَ وَنَازِلِ
ثَوْرٌ: جَبَلٌ بِمَكّةَ، وَثَبِيرٌ: جَبَلٌ مِنْ جِبَالِهَا ذَكَرُوا أَنّ ثَبِيرًا كَانَ رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ مَاتَ فِي ذَلِكَ الْجَبَلِ، فَعُرِفَ الْجَبَلُ بِهِ، كَمَا عُرِفَ أَبُو قبيس يقبيس بْنِ شَالَحٍ رَجُلٍ مِنْ جُرْهُمٍ، كَانَ قَدْ وَشَى بَيْنَ عَمْرِو بْنِ مُضَاضٍ، وَبَيْنَ ابْنَةِ عَمّهِ مَيّةَ، فَنَذَرَتْ أَلّا تُكَلّمَهُ، وَكَانَ شَدِيدَ الْكَلَفِ بِهَا، فَحَلَفَ لَيَقْتُلَن قُبَيْسًا، فَهَرَبَ مِنْهُ فِي الْجَبَلِ الْمَعْرُوفِ بِهِ، وَانْقَطَعَ خَبَرُهُ فَإِمّا مَاتَ، وَإِمّا تَرَدّى مِنْهُ، فَسُمّيَ الْجَبَلُ: أَبَا قُبَيْسٍ «1» وَهُوَ خَبَرٌ طَوِيلٌ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ.
وَقَوْلُهُ: وَرَاقٍ لِيَرْقَى قَدْ تَقَدّمَ الْقَوْلُ فِيهِ، وَأَصَحّ الرّوَايَتَيْنِ فِيهِ: وراق لبرّ فى حِرَاءَ وَنَازِلِ «2» . قَالَ الْبَرْقِيّ: هَكَذَا رَوَاهُ ابْنُ إسْحَاقَ وَغَيْرُهُ، وَهُوَ الصّوَابُ. قَالَ الْمُؤَلّفُ: فَالْوَهْمُ فِيهِ إذًا مِنْ ابْنِ هِشَامٍ، أَوْ مِنْ الْبَكّائِيّ.
وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَقَوْلُهُ: وَبِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ، فِيهِ زحاف «3» يسمى: الكفّ، وهو حذف
__________
(1) فى القاموس: سمى برجل من مذحج حداد لأنه أول من بنى فيه.
(2) وفى رواية: وعير وراق فى حراء ونازل.. وعير: اسم جبل.
(3) فى السيرة: المسود. فلا يكون زحاف الكف

(3/90)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّونِ مِنْ مَفَاعِيلُنْ «1» وَهُوَ بَعْدَ الْوَاوِ مِنْ الْأَسْوَدِ وَنَحْوِهِ قَوْلُ حُنْدُجٍ:
أَلَا رُبّ يَوْمٍ لَك مِنْهُنّ صَالِحُ «2»
وَمَوْضِعُ الزّحَافِ بَعْدَ اللّامِ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَوْلُهُ: إذَا اكْتَنَفُوهُ بِالضّحَى وَالْأَصَائِلِ. الْأَصَائِلُ: جَمْعُ أَصِيلَةٍ، وَالْأُصُلُ جَمْعُ أَصِيلٍ، وَذَلِكَ أَنّ فَعَائِلَ جَمْعُ فَعِيلَةٍ، وَالْأَصِيلَةُ: لُغَةٌ مَعْرُوفَةٌ فِي الْأَصِيلِ، وَظَنّ بَعْضُهُمْ أَنّ أَصَائِلَ: جَمْعُ آصَالٍ عَلَى وَزْنِ أَفْعَالٍ، وَآصَالٌ: جَمْعُ أَصْلٍ نَحْوَ أَطْنَابٍ وَطُنُبٍ، وَأُصُلٌ: جَمْعُ أَصِيلٍ مِثْلَ رُغُفٍ: جَمْعُ رَغِيفٍ، فَأَصَائِلُ عَلَى قَوْلِهِمْ: جَمْعُ جَمْعِ الْجَمْعِ، وَهَذَا خَطَأٌ بَيّنٌ مِنْ وُجُوهٍ، مِنْهَا: أَنّ جَمْعَ جَمْعِ الْجَمْعِ لَمْ يُوجَدْ قَطّ فِي الْكَلَامِ، فَيَكُونُ هَذَا نَظِيرَهُ، وَعَنْ جهة القياس إذا كَانُوا لَا يَجْمَعُونَ الْجَمْعَ الّذِي لَيْسَ لِأَدْنَى الْعَدَدِ، فَأَحْرَى أَلّا يَجْمَعُوا جَمْعَ الْجَمْعِ، وَأَبْيَنُ خَطَأٍ فِي هَذَا الْقَوْلِ غَفْلَتِهِمْ عَنْ الْهَمْزَةِ الّتِي هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ الّتِي فِي أَصِيلٍ وَأُصُلٍ، وَكَذَلِكَ. هِيَ فَاءُ الْفِعْلِ فِي أَصَائِلَ، لِأَنّهَا فَعَائِلُ، وَتَوَهّمُوهَا زَائِدَةً كَاَلّتِي فِي أَقَاوِيلَ، وَلَوْ كَانَتْ كَذَلِكَ كَانَتْ الصّادُ فَاءَ الْفِعْلِ، وَإِنّمَا هِيَ عَيْنُهُ، كَمَا هِيَ فِي أَصِيلٍ وَأُصُلٍ، فَلَوْ كَانَتْ أَصَائِلُ جَمْعَ آصَالٍ، مِثْلَ أقوال
__________
(1) من تفعيلات البحر الطويل وهى: فعولن مفاعيلن. أربع مرات البيت الواحد.
(2) هو من معلقته، وشطرته الأخرى: ولا سيما يوم بدارة جلجل. والشطرة الأولى رواية لم بدخلها زحاف الكف، وهى: ألا رب يوم كان منهن صالح. ودارة جلجل: غدير بعينه.

(3/91)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَقَاوِيلَ لَاجْتَمَعَتْ هَمْزَةُ الْجَمْعِ مَعَ هَمْزَةِ الْأَصْلِ وَلَقَالُوا فِيهِ: أَوَاصِيلُ بِتَسْهِيلِ الْهَمْزَةِ الثّانِيَةِ، وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ الْخَطَأِ بَيّنٌ أَيْضًا، وَهُوَ أَنّ أَفَاعِيلَ جَمْعُ أَفْعَالٍ، لَا بُدّ مِنْ يَاءٍ قَبْلَ آخِرِهِ، كَمَا قَالُوا فِي أَقَاوِيلَ، فَكَانَ يَكُونُ أَوَاصِيلَ، وَلَيْسَ فِي أَصَائِلَ حَرْفُ مَدّ وَلِينٍ قَبْلَ آخِرِهِ إنّمَا هِيَ هَمْزَةُ فَعَائِلَ، وَمِنْ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِمْ أَيْضًا: أَنْ جَعَلُوا أُصُلًا جَمْعًا كَثِيرًا مِثْلَ رُغُفٍ، ثُمّ زَعَمُوا أَنّ آصَالًا جَمْعٌ لَهُ، فَهُمْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَالَ فِي رُغُفٍ جَمْعُ أَرْغَافٍ، فَإِنْ قِيلَ: فَجَمْعُ أَيّ شَيْءٍ هِيَ آصَالٌ؟ قُلْنَا: جَمْعَ أُصُلٍ الّذِي هُوَ اسْمٌ مُفْرَدٌ فِي مَعْنَى الْأَصَائِلِ لَا جَمْعَ أُصُلٍ الّذِي هُوَ جَمْعٌ، فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ يُقَالُ أُصُلٌ وَاحِدٌ، كَمَا يُقَالُ أَصِيلٌ وَاحِدٌ؟
قُلْنَا: قَدْ قَالَ بَعْضُ أَرْبَابِ اللّغَةِ ذَلِكَ، وَاسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِ الْأَعْشَى:
يَوْمًا بِأَطْيَبَ مِنْهَا نَشْرَ رَائِحَةٍ ... وَلَا بِأَحْسَنَ مِنْهَا إذْ دَنَا الْأُصُلُ «1»
أَيْ: دَنَا الْأَصِيلُ، فَإِنْ صَحّ أَنّ الْأُصُلَ بِمَعْنَى الْأَصِيلِ، وَإِلّا فَآصَالُ جَمْعُ أَصِيلٍ عَلَى حَذْفِ الْيَاءِ الزّائِدَةِ مِثْلَ طَوِيّ «2» وَأَطْوَاءٍ، وَلَا أَعْرِفُ أَحَدًا قَالَ هَذَا الْقَوْلَ، أَعْنِي: جَمْعَ جَمْعِ الْجَمْعِ غَيْرِ الزّجّاجِيّ وابن عزيز.
__________
(1) قصيدة أولها: «ودع هريرة إن الركب مرتحل» ومنها قبل هذا البيت
ما روضة من رياض الحزية معشبة ... خضراء جاد عليها مسبل هطل
يضاحك الشمس منها كوكب شرق ... مؤزر بعميم النبت مكتهل
يَوْمًا بِأَطْيَبَ مِنْهَا نَشْرَ رَائِحَةٍ ... وَلَا بِأَحْسَنَ منها إذ دنا الأصل
(2) الطوى كغنى: البئر.

(3/92)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: وَمَوْطِئِ إبْرَاهِيمَ فِي الصّخْرِ رَطْبَةً. يَعْنِي مَوْضِعَ قَدَمَيْهِ حِينَ غُسِلَتْ كَنّتْهُ «1» رَأْسَهُ، وَهُوَ رَاكِبٌ، فَاعْتَمَدَ بِقَدَمِهِ عَلَى الصّخْرَةِ حِينَ أَمَالَ رَأْسَهُ لِيَغْسِلَ، وَكَانَتْ سَارّةُ قَدْ أَخَذَتْ عَلَيْهِ عَهْدًا حِينَ اسْتَأْذَنَهَا فِي أَنْ يُطَالِعَ تَرِكَتَهُ «2» بِمَكّةَ، فَحَلَفَ لَهَا أَنّهُ لَا يَنْزِلُ عَنْ دَابّتِهِ، وَلَا يَزِيدُ عَلَى السّلَامِ، وَاسْتِطْلَاعُ الْحَالِ غَيْرَةٌ مِنْ سَارّةَ عَلَيْهِ مِنْ هَاجَرَ، فَحِينَ اعْتَمَدَ عَلَى الصّخْرَةِ أَبْقَى اللهُ فِيهَا أَثَرَ قَدَمِهِ آيَةً. قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ آلِ عِمْرَانَ: 97 أَيْ: مِنْهَا مَقَامُ إبْرَاهِيمَ، وَمَنْ جَعَلَ مَقَامًا بَدَلًا مِنْ آيَاتٍ، قَالَ: الْمَقَامُ جَمْعُ مَقَامَةٍ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ أَثَرُ قَدَمِهِ حِينَ رَفَعَ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ «3» .
وَقَوْلُهُ: بَيْنَ الْمَرْوَتَيْنِ: هُوَ كَنَحْوِ مَا تَقَدّمَ فِي بَطْنِ الْمَكّتَيْنِ والحمّتين
__________
(1) الكنيت بفتح فكسر: سقاء مسيك- بكسر فسين مشددة مكسورة- كثير الأخذ للماء والكنة: امرأة الابن يعنى امرأة إسماعيل
(2) بسكون الراء وفتح التاء بيض النعام يريد به ولده إسماعيل وأمه هاجر ولو روى بكسر الراء لكان من التركة، وهى الشىء المتروك.
(3) روى عن ابن عباس أن المقام هو الحرم كله، أو الحج كله، وعن سعيد بن جبير: الحجر مقام إبراهيم، فكان يقوم عليه، ويناوله إسماعيل الحجارة، ولو غسل رأسه كما يقولون لاختلت رجلاه، واختار ابن كثير أنه الحجر الذى كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه، ويناوله الحجارة، فيضعها بيده لرفع الجدار. وكلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التى تليها، وكان هذا المقام ملصقا بجدار الكعبة قديما، ومكانه اليوم معروف.

(3/93)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَعُنَيْزَتَيْنِ، مِمّا وَرَدَ مُثَنّى مِنْ أَسْمَاءِ الْمَوَاضِعِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فِي الْحَقِيقَةِ، وَذَكَرْنَا الْعِلّةَ فِي مَجِيئِهِ مُثَنّى وَمَجْمُوعًا فِي الشّعْرِ. وَفِيهَا قَوْلُهُ:
وَبِالْمَشْعَرِ الْأَقْصَى إذَا قَصَدُوا لَهُ أَلَالًا
الْبَيْتَ. فَالْمَشْعَرُ الْأَقْصَى: عَرَفَةُ، وَأَلَالًا: جَبَلُ عَرَفَةَ. قال النابغة:
يزرن أَلَالًا سَيْرُهُنّ التّدَافُعُ «1»
وَسُمّيَ: أَلَالًا لِأَنّ الْحَجِيجَ إذا رأوه ألّوافى السّيْرِ أَيْ: اجْتَهَدُوا فِيهِ؛ لِيُدْرِكُوا الْمَوْقِفَ قَالَ الرّاجِزُ:
مُهْرَ أَبِي الْحَبْحَابِ لَا تَشَلّي ... بَارّك فِيك اللهُ مِنْ ذِي أَلّ «2»
وَالشّرَاجُ: جَمْعُ شَرْجٍ، وَهُوَ مَسِيلُ الْمَاءِ، وَالْقَوَابِلُ: الْمُتَقَابِلَةُ. وَفِيهَا قَوْلُهُ: وَحَطْمُهُمْ سُمْرَ الصّفَاحِ: جَمْعُ صَفْحٍ، وَهُوَ سَطْحُ الْجَبَلِ، وَالسّمْرُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ بِهِ السّمُرَ، يُقَالُ فِيهِ: سَمُرَ وَسَمْرَ بِسُكُونِ الْمِيمِ، وَيَجُوزُ نَقْلُ ضَمّةِ الْمِيمِ إلَى مَا قَبْلَهَا إلَى السّينِ، كَمَا قَالُوا فِي حَسُنَ: حُسْنَ، وَكَذَا وَقَعَ فِي الْأَصْلِ بِضَمّ السّينِ، غَيْرَ أَنّ هَذَا النّقْلَ إنّمَا يَقَعُ غَالِبًا فيما يراد به المدح أو الذم
__________
(1) شطرة البيت الأولى: «بمصطحبات من لصاف وثبرة» وفى المراصد: إلال: جبل بعرفات. قيل جبل رمل بعرفات عليه يقوم الإمام، وقيل عن يمين الإمام، وقيل: هو جبل عرفة نفسه. وفى البكرى قريب مما ذكر المراصد. وقد يقال عنه الإل، والإل كسحاب أو كبلال.
(2) البيت لأبى الخضر اليربوعى يمدح عبد الملك بن مروان، وكان أجرى مهرا، فسبق. وانظر ص 23 إصلاح المنطق لابن السكيت.

(3/94)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نَحْوَ حَسُنَ وَقَبُحَ، كَمَا قَالَ: وَحُسْنَ ذَا أَدَبًا. أَيْ حَسُنَ ذَا أَدَبًا «1» ، وَجَائِزٌ أَنْ يُرَادَ بِالسّمْرِ هَهُنَا جَمْعُ: أَسْمَرَ وَسَمْرَاءَ وَيَكُونُ وَصْفًا لِلنّبَاتِ، وَالشّجَرِ كَمَا يُوصَفُ بِالدّهْمَةِ إذَا كَانَ مُخَضّرًا، وَفِي التّنْزِيلِ: مُدْهامَّتانِ الرّحْمَنِ: 64 أَيْ: خَضْرَاوَانِ إلَى السّوَادِ.
وَقَوْلُهُ: وَشِبْرِقَهُ. وَهُوَ نَبَاتٌ يقال ليابسه: الحلّى، والرطبة: الشّبرق.
__________
(1) يقول الجوهرى: تقول: قد حسن الشىء، وإن شئت خففت الضمة، فقلت حسن الشىء بسكون السين، ولا يجوز أن تنقل الضمة إلى الحاء، لأنه خبر. وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح والذم لأنه يشبه فى جواز النقل بنعم وبئس، وذلك أن الأصل فيها: نعم وبئس ... قال سهم بن حنظلة الغنوى:
لم يمنع الناس منى ما أردت، وما ... أُعْطِيهِمْ مَا أَرَادُوا حُسْنَ ذَا أَدَبَا
أَيْ حسن هذا أدبا، فخفف، ونقله «اللسان» فى مادة حسن وقال ابن السكيت فى إصلاح المنطق ص 41 «يقال: عظم بضم- الظاء- البطن بطنك- وعظم بسكون الظاء- البطن بطنك بتخفيف الضمة، ويقال عظم- بضم العين وسكون الظاء- البطن بطنك، يخففون ضمة الظاء، وينقلونها إلى العين، وإنما يكون النقل فيما يكون مدحا أو ذما، فإذا لم يكن مدحا ولا ذما، كان الضم والتخفيف، ولم يكن النقل، تقول: حسن الوجه- بضم السين- وجهك، وحسن بفتح الحاء سكون السين الوجه وجهك: وحسن بضم الحاء وسكون السين الوجه وجهك وقد حسن بسكون السين وجهك وفتح الحاء، وحسن بضم السين وجهك قال: حسن على أن يكون على مذهب نعم وبئس، نقل وسطه إلى أوله، وما لم يحسن لم ينقل، وقد حسن وجهك لا تنقل ضمة السين إلى الحاء وقد فصل هذا أيضا التبريرى فى تهذيب إصلاح المنطق ص 54 ط أولى، ثم قال-

(3/95)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وقوله: نبذى مُحَمّدًا «1» أَيْ نُسْلَبُهُ وَنُغْلَبُ عَلَيْهِ.
وَقَوْلُهُ: نُهُوضَ الرّوَايَا. هِيَ الْإِبِلُ تَحْمِلُ الْمَاءَ وَاحِدَتُهَا: رَاوِيَةٌ، وَالْأَسْقِيَةُ أَيْضًا يُقَالُ لَهَا: رَوَايَا، وَأَصْلُ هَذَا الْجَمْعِ: رَوَاوِيّ ثُمّ يَصِيرُ فِي الْقِيَاسِ:
رِوَائِيّ مِثْلَ حَوَائِلَ جَمْعُ: حَوْلٍ، وَلَكِنّهُمْ قَلَبُوا الْكَسْرَةَ فتحة بعد ما قَدّمُوا الْيَاءَ قَبْلَهَا، وَصَارَ وَزْنُهُ: فَوَالِعَ، وَإِنّمَا قَلَبُوهُ كَرَاهِيَةَ اجْتِمَاعِ وَاوَيْنِ، وَاوُ فَوَاعِلَ، الْوَاوُ الّتِي هِيَ عَيْنُ الْفِعْلِ، وَوَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنّ الْوَاوَ الثّانِيَةَ قِيَاسُهَا أَنْ تَنْقَلِبَ هَمْزَةً فِي الْجَمْعِ لِوُقُوعِ الْأَلِفِ بَيْنَ وَاوَيْنِ، فَلَمّا انْقَلَبَتْ هَمْزَةً قَلَبُوهَا يَاءً، كَمَا فَعَلُوا فِي خَطَايَا وَبَابِهِ، مِمّا الْهَمْزَةُ فِيهِ مُعْتَرِضَةٌ فِي الْجَمْعِ، وَالصّلَاصِلُ. الْمَزَادَاتُ لَهَا صَلْصَلَةٌ بِالْمَاءِ «2» ،
وَفِيهَا قَوْلُهُ: غَيْرَ ذَرْبٍ مُوَاكِلِ. وَهُوَ مُخَفّفٌ مِنْ ذَرِبَ وَالذّرِبُ: اللّسَانُ الْفَاحِشُ الْمَنْطِقُ، وَالْمُوَاكِلُ الّذِي لاجد عنده فهو يكل أموره إلى غيره.
__________
- فى شرح هذا البيت: «يريد أنه يقهر الناس، فيمنعهم ما يريدون منه، ولا يمنعونه ما يريد منهم لعزه، وجعله أدبا حسنا، وقال أبو العلاء فى معنى هذا البيت: كان ينكر على نفسه أن يعطيه الناس، ولا يعطيهم، وهو صواب، وذا فاعل حسن، وأدبا منصوب على التمييز، وأراد حسن، فخفف، ونقل، لأن هذا مذهب التعجب
(1) فى السيرة والروض يبذى بالذال وهو خطأ والصواب نبزى أى نسلب ونغلب عليه- كما شرح الخشنى وصاحب الروض- وقد رواه اللسان فى مادة: يبزى على البناء للمفعول ورفع محمد. ونقل عن شمر أن معناه: يقهر ويستذل، وأنه من باب ضررته وأضررت به.. وأراد: لا يبزى، فحذف لا من جواب القسم، وهى مرادة، أى لا يقهر، ولم نقاتل عنه وندافع.
(2) فى شرح السيرة للخشنى: الصلاصل: جمع صلصلة. وهى بقية الماء.

(3/96)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِيهَا قَوْلُهُ: ثِمَالَ الْيَتَامَى، أَيْ: يَثْمُلُهُمْ، وَيَقُومُ بِهِمْ، يُقَالُ: هُوَ ثِمَالُ مَالٍ أَيْ يَقُومُ بِهِ.
وَفِيهَا: قَوْلُهُ لِيُظْعِنَنَا فِي أَهْلِ شَاءٍ وَجَامِلِ. الشّاءُ وَالشّوِيّ: اسْمٌ لِلْجَمْعِ مِثْلُ الْبَاقِرِ وَالْبَقِيرِ، وَلَا وَاحِدَ لِشَاءِ، وَالشّوِيّ مِنْ لَفْظِهِ، وَإِذَا قَالُوا فِي الْوَاحِدِ:
شَاةٌ، فَلَيْسَ مِنْ هَذَا؛ لِأَنّ لَامَ الْفِعْلِ فِي شَاةٍ هَاءٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِمْ فِي التّصْغِيرِ:
شُوَيْهَةٌ، وَفِي الْجَمْعِ شِيَاهٌ، وَالْجَامِلُ «1» اسْمُ جَمْعٍ بِمَنْزِلَةِ الْبَاقِرِ.
وَقَوْلُهُ: وَكُنْتُمْ زَمَانًا «2» حَطْبَ قِدْرٍ: حَطْبٌ اسْمٌ لِلْجَمْعِ مِثْلُ رَكْبٍ، وَلَيْسَ بِجَمْعِ، لِأَنّك تَقُولُ فِي تَصْغِيرِهِ: حُطَيْبٌ وَرُكَيْبٌ.
وَقَوْلُهُ: حِطَابُ أَقْدُرٍ: هُوَ جَمْعُ حَاطِبٍ فَلَا يُصَغّرُ، إلّا أَنْ تَرُدّهُ إلَى الْوَاحِدِ، فَتَقُولُ: حُوَيْطِبُونَ، وَمَعْنَى الْبَيْتِ: أَيْ: كُنْتُمْ مُتّفِقِينَ لَا تَحْطِبُونَ إلّا لِقِدْرِ وَاحِدَةٍ، فَأَنْتُمْ الْآنَ بِخِلَافِ ذَلِكَ.
وَفِيهَا قَوْلُهُ: مِنْ الْأَرْضِ بَيْنَ أَخْشُبٍ، فَمَجَادِل. أَرَادَ الْأَخَاشِبَ، وَهِيَ جِبَالُ مَكّةَ «3» ، وَجَاءَ بِهِ عَلَى أَخْشُبٍ، لِأَنّهُ فى معنى أجبل، مع أن الاسم
__________
(1) فى القاموس أن جامل جمع جمل.
(2) فى السيرة: وكنتم حديثا
(3) هى أربعة أخاشب، فأخشبا مكة: جبلاها، وأخشبا المدينة: حرتاها المكتنفتان لها، وهما لابتاها، وأخاشب الصمان فى محلة بنى تميم، ويروى: أخشب على أنها مفرد

(3/97)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَدْ يُجْمَعُ عَلَى حَذْفِ الزّوَائِدِ كَمَا يُصَغّرُونَهُ كَذَلِكَ، وَالْمَجَادِلُ: جَمْعُ مِجْدَلٍ وَهُوَ: الْقَصْرُ، كَأَنّهُ يُرِيدُ مَا بَيْنَ جِبَالِ مَكّةَ، فَقُصُورُ الشّامِ أَوْ الْعِرَاقِ، وَالْفَاءُ مِنْ قَوْلِهِ: فَمَجَادِلِ تُعْطِي الِاتّصَالَ بِخِلَافِ الْوَاوِ، كَقَوْلِهِ بَيْنَ الدّخُولِ فَحَوْمَلِ، وَتَقُولُ: مُطِرْنَا بَيْنَ مَكّةَ فَالْمَدِينَةِ إذَا اتّصَلَ الْمَطَرُ مِنْ هَذَا إلَى هَذِهِ، وَلَوْ كَانَتْ الْوَاوُ لَمْ تُعْطِ هَذَا الْمَعْنَى.
وَقَوْلُهُ: أُولِي جَدَلٍ مِنْ الْخُصُومِ الْمَسَاجِلِ يُرْوَى بِالْجِيمِ وَبِالْحَاءِ فَمَنْ رَوَاهُ بِالْجِيمِ فَهُوَ مِنْ الْمُسَاجَلَةِ فِي الْقَوْلِ، وَأَصْلُهُ فِي اسْتِقَاءِ الْمَاءِ بِالسّجِلّ، وَصَبّهِ فَكَأَنّهُ جَمْعُ مَسَاجِلَ عَلَى تَقْدِيرِ حَذْفِ الْأَلِفِ الزّائِدَةِ مِنْ مَفَاعِلَ، أَوْ جَمْعُ مِسْجَلٍ بِكَسْرِ الْمِيمِ، وَهُوَ مِنْ نَعْتِ الْخُصُومِ، وَمَنْ رَوَاهُ الْمَسَاحِلَ بِالْحَاءِ، فَهُوَ جَمْعُ مِسْحَلٍ وَهُوَ اللّسَانُ، وَلَيْسَ بِصِفَةِ لِلْخُصُومِ، إنّمَا هُوَ مَخْفُوضٌ بِالْإِضَافَةِ، أَيْ: خُصَمَاءُ الْأَلْسِنَةِ، وَقَالَ ابْنُ أَحْمَرَ:
مَنْ خَطِيبٌ إذَا مَا انْحَلّ مِسْحَلُهُ «1»
أَيْ: لِسَانُهُ وَهُوَ أَيْضًا مِنْ السّحْلِ وَهُوَ الصّبّ، وَمِنْهُ حَدِيثُ أَيّوبَ حِينَ فُرّجَ عَنْهُ، فَجَاءَتْ سَحَابَةٌ فَسَحَلَتْ فِي بَيْدَرِهِ ذَهَبًا، وَجَاءَتْ أُخْرَى فَسَحَلَتْ فى البيدر الاخر فضة «2» .
__________
(1) روايته فى اللسان:
ومن خطيب إذا ما انساح مسحله ... مفرج القول ميسورا ومعسورا
ومن معانى مسحل أيضا: الخطيب الماضى وغير هذا.
(2) البيدر: الجرن أو القمح ونحوه بعد دياسه. ويقول الحافظ فى الفتح-

(3/98)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فصل: وفيها:
لقد سفهت أحلام قوم تبالوا ... بَنِي خَلَفٍ قَيْضًا بِنَا وَالْغَيَاطِلِ
قَيْضًا أَيْ: مُعَاوَضَةً، وَمِنْهُ قَوْلُ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ لِذِي الْجَوْشَنِ «1» :
إنْ شِئْت قَايَضْتُك بِهِ الْمُخْتَارَ مِنْ دروع بدر، فقال: ما كنت لأقيضه
__________
- لم يثبت عند البخارى فى قصة أيوب شىء سوى: «بينا أيوب يغتسل عريانا خر عليه رجل جراد من ذهب، فجعل يحثى فى ثوبه، فناداه ربه: يا أيوب ألم أكن أغنيتك عما ترى؟ قال: بلى يا رب، ولكن لا غنى لى عن بركتك،. ومسألة السحابة عند ابن أبى حاتم وابن جريج وابن حبان والحاكم، ولكنها لا تخلو من غرابة ونكارة» أقول: ويجب أن نقف عند الذى ذكره القرآن، وما صح صحة قوية عن رسول الله «ص» حتى لا نرجم بالغيب فى قصص النبيين التى وصلت زياداتها إلينا عن طريق أسفار اليهود، وألسنة اليهود التى نافقت بكلمة التوحيد، وخدع بها الكثير من ذوى القلوب الصافية.
(1) أصل الجوشن: الصدر والدرع، قال أبو السعادات ابن الأثير: يقال إنه لقب ذا الجوشن، لأنه دخل على كسرى، فأعطاه جوشنا، فلبسه فكان أول عربى لبسه، وقال غيره: لأن صدره كان ناتئا، وفى القاموس مثله، واختلف فى اسمه فقيل اسمه: أوس بن الأعور، وقيل: شرحبيل- وهو الأشهر- بن الأعور بن عمرو ابن معاوية، وينتهى إلى عامر بن صعصعة. وقيل: عثمان بن نوفل. وفى القاموس: شرحبيل بن قرط الأعور. ويقول ابن حجر فى الإصابة له حديث عند أبى داود من طريق أبى إسحاق عنه، ويقال: إنه لم يسمع منه، وإنما سمعه من ولده شمر. وفى ذخائر المواريث أن حديثه هذا هو الذى ذكره السهيلى: «أتيت النبى «ص» بعد أن فرغ من أهل بدر بابن فرس لى يقال لها الترحاء» وذكر أن أبا داود رواه فى الجهاد عن مسدد.

(3/99)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْيَوْمَ بِشَيْءِ يَعْنِي: فَرَسًا لَهُ، يُقَالُ لَهُ: ابْنُ الْقَرْحَاءِ. وَقَالَ أَبُو الشّيصِ «1» :
لَا تُنْكِرِي صَدّي وَلَا إعْرَاضِي ... لَيْسَ الْمُقِلّ عَنْ الزّمَانِ بِرَاضِ
بُدّلَتْ مِنْ بُرْدِ الشّبَابِ مُلَاءَةً ... خَلَقًا، وَبِئْسَ مَثُوبَةُ الْمُقْتَاضِ
وَالْغَيَاطِلُ: بَنُو سَهْمٍ، لِأَنّ أُمّهُمْ الْغَيْطَلَةُ، وَقَدْ تَقَدّمَ نَسَبُهَا، وَقِيلَ:
إنّ بَنِي سَهْمٍ سُمّوا بِالْغَيَاطِلِ، لِأَنّ رَجُلًا مِنْهُمْ قَتَلَ جَانّا طَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا، ثُمّ خَرَجَ مِنْ الْمَسْجِدِ فَقَتَلَهُ، فَأَظْلَمَتْ مَكّةُ، حَتّى فَزِعُوا مِنْ شِدّةِ الظّلْمَةِ الّتِي أَصَابَتْهُمْ «2» ، وَالْغَيْطَلَةُ: الظّلْمَةُ الشّدِيدَةُ، وَالْغَيْطَلَةُ أَيْضًا: الشّجَرُ الْمُلْتَفّ، وَالْغَيْطَلَةُ: اخْتِلَاطُ الْأَصْوَاتِ، وَالْغَيْطَلَةُ: الْبَقَرَةُ الْوَحْشِيّةُ، وَالْغَيْطَلَةُ: غَلَبَةُ النّعَاسِ، وَقَوْلُهُ: يُخِسّ شَعِيرَةً، أَيْ: يُنْقِصُ، وَالْخَسِيسُ: النّاقِصُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ، وَيُرْوَى فِي غَيْرِ السّيرَةِ: يَحُصّ بِالصّادِ وَالْحَاءِ مُهْمَلَةً مِنْ حَصّ الشّعْرَ:
__________
(1) هو محمد بن رزين، أو ابن عبد الله بن رزين، وأبو الشيص: لقب غلب عليه، والشيص: ردىء التمر، وكان من شعراء الرشيد، فأخمل أبو نواس ومسلم ابن الوليد ذكره، ومن قصيدته هذه:
ولقد أقول لشيبة أبصرتها ... فى مفرقى، فمنحتها إعراضى
عنى إليك، فلست منتهيا، ولو ... عممت منك مفارقى ببياض
هل لى سوى عشرين عاما قد مضت ... مع ستة فى إثرهن مواضى
ولقلما أرتاع منك. وإننى ... فيما هويت وإن وزعت لماض
فعليك ما اسطعت الظهور بلمتى ... وعلى أن ألقاك بالمقراض
انظر ص 337 سمط اللالى، ونكت الهميان: «كان أبو الشيص أعمى» وص 123 ح 3 البيان للجاحظ بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون
(2) أسطورة

(3/100)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إذَا أَذْهَبَهُ «1» . وَقَوْلُهُ: مِنْ كُلّ طِمْلٍ وَخَامِلِ: الطّمْلُ: اللّصّ، كَذَا وَجَدْته فِي كِتَابِ أَبِي بَحْرٍ، وَفِي الْعَيْنِ: الطّمْلُ الرّجُلُ الْفَاحِشُ، وَالطّمْلُ وَالطّمْلَالُ:
الْفَقِيرُ، وَالطّمْلُ: الذّئْبُ «2» . وَقَوْلُهُ: لِقْحَةٌ غَيْرَ بَاهِلِ: الْبَاهِلُ: النّاقَةُ الّتِي لَا صِرَارَ عَلَى أَخْلَافِهَا، فَهِيَ مُبَاحَةُ الْحَلْبِ يُقَالُ: نَاقَةٌ مَصْرُورَةٌ، إذَا كَانَ عَلَى خَلْفِهَا صِرَارٌ يَمْنَعُ الْفَصِيلَ مِنْ أَنْ يَرْضَعَ، وَلَيْسَتْ الْمُصَرّاةُ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى، إنّمَا هِيَ الّتِي جُمِعَ لَبَنُهَا فِي ضَرْعِهَا، فَهُوَ مِنْ الْمَاءِ الصّرَى «3» ، وَقَدْ غَلِطَ أَبُو عَلِيّ فِي الْبَارِعِ، فَجَعَلَ الْمُصَرّاةَ بِمَعْنَى المصرورة، وله وجه بعيد، وذلك أن يحتجّ لَهُ بِقَلْبِ إحْدَى الرّاءَيْنِ يَاءً مِثْلَ: قَصَيْتُ أَظْفَارِي، غَيْرَ أَنّهُ بَعِيدٌ فِي الْمَعْنَى، وَقَالَتْ امْرَأَةُ الْمُغِيرَةِ تُعَاتِبُ زَوْجَهَا، وَتَذْكُرُ أَنّهَا جَاءَتْهُ كَالنّاقَةِ الْبَاهِلَةِ الّتِي لَا صِرَارَ عَلَى أَخْلَافِهَا: أَطْعَمْتُك مَأْدُومِي وَأَبْثَثْتُكَ مَكْتُومِي، وَجِئْتُك بَاهِلًا غَيْرَ ذَاتِ صِرَارٍ، وَفِي الْحَدِيثِ: لَا تُورَدُ الْإِبِلُ بُهْلًا [أَوْ بُهّلًا] ، فَإِنّ الشّيَاطِينَ تَرْضَعُهَا، أَيْ: لَا أَصِرّةَ عَلَيْهَا.
وَفِيهَا قَوْلُهُ: بِرَاءٍ إلَيْنَا مِنْ مَعْقَةِ خَاذِلِ. يُقَالُ قَوْمٌ بُرَاءٌ [بِالضّمّ] «4»
__________
(1) ويروى: لا يخيس: من قولهم: خاس بالعهد: إذا نقضه وأفسده. والعائل هنا: الحائر «الخشنى ص 91» .
(2) وكذلك الطمل «بكسر الطاء والميم وتشديد اللام» والطملال بكسر الطاء أما الفقير: فالطمل «والطملال والطمليل بكسر الطاء فى الجميع، والطملول بضمها «اللسان» .
(3) الذى طال مكثه.
(4) الزيادة يقتضيها السياق وزيادة بهل من اللسان

(3/101)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبَرَاءٌ بِالْفَتْحِ، وَبِرَاءٌ بِالْكَسْرِ، فَأَمّا بِرَاءٌ بِالْكَسْرِ، فَجَمْعُ بَرِيءٍ، مِثْلَ كَرِيمٍ وَكِرَامٍ، وَأَمّا بَرَاءٌ فَمَصْدَرٌ، مِثْلَ سَلَامٍ وَالْهَمْزَةُ فِيهِ، وَفِي الّذِي قَبْلَهُ لَامُ الْفِعْلِ، وَيُقَالُ: رَجُلٌ بَرَاءٌ وَرَجُلَانِ بَرَاءٌ، وَإِذَا كَسَرْتهَا أَوْ ضَمَمْتهَا لَمْ يَجُزْ إلّا فِي الْجَمْعِ، وَأَمّا بُرَاءٌ بِضَمّ الْبَاءِ، فَالْأَصْلُ فِيهِ بُرَآءُ مِثْلَ كُرَمَاءُ فَاسْتَثْقَلُوا اجْتِمَاعَ الْهَمْزَتَيْنِ، فَحَذَفُوا الْأُولَى، وَكَانَ وَزْنُهُ فُعَلَاءَ، فَلَمّا حَذَفُوا الّتِي هِيَ لَامُ الْفِعْلِ صَارَ وَزْنُهُ فُعَاءَ، وَانْصَرَفَ لِأَنّهُ أَشْبَهَ فُعَالًا، وَالنّسَبُ «1» إلَيْهِ إذَا سَمّيْت بِهِ: بُرَاوِيّ، وَالنّسَبُ إلَى الْآخَرَيْنِ بَرَائِيّ وَبِرَائِيّ، وَزَعَمَ بَعْضُهُمْ إلَى أَنّ بُرَاءَ بِضَمّ أَوّلِهِ مِنْ الْجَمْعِ الّذِي جَاءَ عَلَى فُعَالٍ، وَهِيَ ثَمَانِيَةُ أَلْفَاظٍ: فَرِيرٌ وَفُرَارٌ وَعَرْنُ وَعُرّانُ «2» ، وَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَقَالَ النّحّاسُ: بُرَاءُ بضم الباء.
__________
(1) حكى الفراء فى براء أنه غير مصروف على حذف إحدى الهمزتين. ونص ابن جنى على أن لبرىء أربعة جموع: براء مثل ظريف وظراف، وبرآء مثل: شريف وشرفاء، وأبرياء مثل أصدقاء، وبراء مثل تؤام ورباء بضم الأول فيهما جمع توأم، وربى.
(2) فى أدب الكاتب ص 558 لابن قتيبة: «قال الفراء: الفرار بضم الفاء ولد البقرة الوحشية قال: ويقال: فرير وفرار مثل طويل وطوال وكان غيره يزعم أن فرارا: جمع فرير» ، وفى القاموس: فرير بفتح الفاء وفرار بضم الفاء وفرور بفتح الفاء الخ ولد النعجة والماعز والبقرة الوحشية، أو هى الخرفان والحملان، وجمعها فرار نادر. وقال أبو عبيدة، لم يأت شىء من الجمع على فعال إلا أحرف: هذا أحدها. وأما عرق فالعظم أكل ما عليه من اللحم، ومثله عراق بضم العين، ويقول القالى فى أماليه: لم يأت من فعال بضم الفاء جمعا إلا أحرف قليلة جدا مثل رباب جمع ربى بضم الراء وتشديد الباء مع فتح وهى الحديثة النتاج ونعم جفال: الكثيرة الشعر، ونعم كباب كثيرة، وفرار جمع فرير وهو ولد البقرة، وبراء: جمع برىء. وعند ابن السكيت والسيرا فى أنها تؤام جمع-

(3/102)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الِاسْتِسْقَاءُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ اسْتِسْقَاءِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْمَدِينَةِ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَرْوِيّ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَبِأَلْفَاظِ مُخْتَلِفَةٍ.
وَقَوْلُهُ: حَتّى أَتَاهُ أَهْلُ الضّوَاحِي يَشْكُونَ الْغَرَقَ. الضّوَاحِي: جَمْعُ ضَاحِيَةٍ، وَهِيَ الْأَرْضُ الْبَرَازُ الّتِي لَيْسَ فِيهَا مَا يُكِنّ مِنْ الْمَطَرِ، وَلَا مَنْجَاةٌ مِنْ السّيُولِ، وَقِيلَ: ضَاحِيَةُ كُلّ بَلَدٍ: خَارِجُهُ. وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: اللهُمّ حَوَالَيْنَا، وَلَا عَلَيْنَا، كَقَوْلِهِ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: اللهُمّ مَنَابِتَ الشّجَرِ، وَبُطُونَ الْأَوْدِيَةِ، وَظُهُورَ الْآكَامِ، فَلَمْ يَقُلْ: اللهُمّ ارْفَعْهُ عَنّا- هُوَ مِنْ حُسْنِ الْأَدَبِ فِي الدّعَاءِ؛ لِأَنّهَا رَحْمَةُ اللهِ، وَنِعْمَتُهُ الْمَطْلُوبَةُ مِنْهُ، فَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْهُ رَفْعُ نِعْمَتِهِ، وَكَشْفُ رَحْمَتِهِ، وإنما يسئل سُبْحَانَهُ كَشْفَ الْبَلَاءِ، وَالْمَزِيدَ مِنْ النّعْمَاءِ، فَفِيهِ تَعْلِيمُ كَيْفِيّةِ الِاسْتِسْقَاءِ. وَقَالَ: اللهُمّ مَنَابِتَ الشّجَرِ، وَلَمْ يَقُلْ: اصْرِفْهَا إلَى مَنَابِتِ الشّجَرِ؛ لِأَنّ الرّبّ تَعَالَى أَعْلَمُ بِوَجْهِ اللّطْفِ، وَطَرِيقُ الْمَصْلَحَةِ كان ذلك بمطر
__________
- توأم، وشاة ربى وغنم رباب، وظئر وظؤار وعرق بفتح العين وعراق ورخل بكسر الراء ورخال وفرير وفرار «كل الجمع بضم الأول» . وقال الزجاجى مثل قول السيرافى. وقال ابن خالويه فى كتاب ليس: عرق وعراق، ورخل من أولاد الضأن ورخال وشاة ربى ورباب، وتوأم وتوأم، وفرير وفرار ولد الظبية ونذل ونذال ورذل ورذال وثنى وثناء، وهو الولد الذى بعد البكر، وناقة بسط أو بسط بضم الباء أو كسرها إذا كانت غزيرة والجمع: بساط، فتكون ثلاث عشرة كلمة. وزاد الزمخشرى: عرام بمعنى عراق. ونظمها فى أبيات وزاد السيوطى عنه: نذال «ص 72، المزهر للسيوطى ج 2

(3/103)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْ بِنَدَى أَوْ طَلّ، أَوْ كَيْفَ شَاءَ، وَكَذَلِكَ بُطُونُ الْأَوْدِيَةِ، وَالْقَدْرُ الّذِي يُحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ مَائِهَا.
فَصْلٌ: فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ قَالَ أَبُو طَالِبٍ:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ
وَلَمْ يره قط استسقى، وإنما كانت استسقاآته عَلَيْهِ السّلَامُ بِالْمَدِينَةِ فِي سَفَرٍ وَحَضَرٍ، وَفِيهَا شُوهِدَ مَا كَانَ مِنْ سُرْعَةِ إجَابَةِ اللهِ لَهُ.
فَالْجَوَابُ: أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَدْ شَاهَدَ مِنْ ذَلِكَ أَيْضًا فِي حَيَاةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ مَا دَلّهُ عَلَى مَا قَالَ، رَوَى أَبُو سَلْمَانَ حَمَدُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ إبْرَاهِيمَ [بْنِ الْخَطّابِ الْخَطّابِيّ] الْبُسْتِيّ النّيْسَابُورِيّ «1» ، أَنّ رَقِيقَةَ «2» بِنْتَ أَبِي صَيْفِيّ بْنِ هَاشِمٍ قَالَتْ:
تَتَابَعَتْ عَلَى قُرَيْشٍ سُنُو جَدْبٍ قَدْ أَقْحَلَتْ الظّلْفَ، وَأَرّقَتْ الْعَظْمَ، فَبَيْنَا أَنَا رَاقِدَةٌ اللهُمّ، أَوْ مُهَدّمَةٌ، وَمَعِي صِنْوَى إذْ أَنَا بِهَاتِفِ صَيّتٍ يَصْرُخُ بِصَوْتِ صَحِلٍ يَقُولُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ إنّ هذا النبىّ المبعوث منكم، هذا إبّان
__________
(1) هو صاحب معالم السنن توفى بست سنة 388 هـ كما فى معجم الأدباء، وفى وفيات الأعيان. وفى اللباب لابن الأثير أنه توفى سنة 354. وبست مدينة من بلاد كابل بين هراة وغزنة وقد سمع فى اسمه: أحمد، والأصح حمد كما ذكر والزيادة الموضوعة بين قوسين من اللباب لابن الأثير.
(2) اسمها فى نسب قريش: رقية، ونص قوله عن أبى صيفى «انقرض. إلا من بنته رقية» ص 16 ولكنها رقيقة فى كثير من الكتب. وفى الاشتقاق أن. أبا صيفى أحد من حضر من بنى هاشم حلف عبد المطلب وخزاعة ص 69.

(3/104)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نُجُومِهِ، فَحَيّ هَلًا بِالْحَيَا وَالْخِصْبِ، أَلَا فَانْظُرُوا مِنْكُمْ رَجُلًا طُوّالًا عُظّامًا أَبْيَضَ فَظّا، أَشَمّ الْعِرْنِينَ، لَهُ فَخْرٌ يَكْظِمُ «1» عَلَيْهِ. أَلَا فَلْيَخْلُصْ هُوَ وَوَلَدُهُ، وَلْيَدْلِفْ إلَيْهِ مِنْ كُلّ بَطْنٍ رَجُلٌ، أَلَا فَلْيَشُنّوا مِنْ الْمَاءِ، وَلِيَمَسّوا مِنْ الطّيبِ، وَلْيَطُوفُوا بِالْبَيْتِ سَبْعًا، أَلَا وَفِيهِمْ الطّيبُ الطّاهِرُ لِذَاتِهِ، أَلَا فَلْيَدْعُ الرّجُلُ، وَلْيُؤَمّنْ الْقَوْمُ، أَلَا فَغِثْتُمْ أَبَدًا مَا عِشْتُمْ. قَالَتْ: فَأَصْبَحْت مَذْعُورَةً قَدْ قَفّ جِلْدِي، وَوَلِهَ عَقْلِي، فَاقْتَصَصْت رؤياى، فو الحرمة وَالْحَرَمِ إنْ بَقِيَ أَبْطَحِيّ «2» إلّا قَالَ: هَذَا شَيْبَةُ الْحَمْدِ، وَتَتَامّتْ عِنْدَهُ قُرَيْشٌ، وَانْفَضّ إلَيْهِ النّاسُ مِنْ كُلّ بَطْنٍ رَجُلٌ، فَشَنّوا وَمَسّوا وَاسْتَلَمُوا وَاطّوَفّوا، ثُمّ ارْتَقَوْا أَبَا قُبَيْسٍ، وَطَفِقَ الْقَوْمُ يَدِفّونَ حَوْلَهُ، مَا إنْ يُدْرِكْ سَعْيَهُمْ مُهَلّةً، حَتّى قَرّوا بِذَرْوَةِ الْجَبَلِ، وَاسْتَكَفّوْا جَنَابَيْهِ، فَقَامَ عَبْدُ الْمُطّلِبِ، فَاعْتَضَدَ ابْنَ ابْنِهِ مُحَمّدًا- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَرَفَعَهُ عَلَى عَاتِقِهِ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ غُلَامٌ قَدْ أَيْفَعَ، أَوْ قَدْ كَرَبَ، ثُمّ قَالَ: اللهُمّ سَادّ الْخَلّةِ، وَكَاشِفَ الْكُرْبَةِ أَنْتَ عَالِمٌ غَيْرُ مُعَلّمٍ، وَمَسْئُولٌ غَيْرُ مبخّل، وهذه عبدّاؤك، وإملوك بِعَذِرَاتِ حَرَمِك يَشْكُونَ إلَيْك سَنَتَهُمْ، فَاسْمَعْنَ اللهُمّ، وَأَمْطِرْنَ عَلَيْنَا غَيْثًا مَرِيعًا مُغْدِقًا، فَمَا رَامُوا وَالْبَيْتِ، حَتّى انْفَجَرَتْ السّمَاءُ بِمَائِهَا، وَكَظّ الْوَادِي بِثَجِيجِهِ. رَوَاهُ أَبُو سُلَيْمَانَ عَنْ ابْنِ الْأَعْرَابِيّ. قَالَ: حَدّثَنَا مُحَمّدُ بْنُ عَلِيّ بْنِ الْبَخْتَرِيّ، نا يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدِ بْنِ عِيسَى بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ حُمَيْدِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بن عوف،
__________
(1) لا يبد به ولا يظهره.
(2) فى رواية «فقمت فى شعاب مكة فما بقى بها أبطحى الخ»

(3/105)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
نا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ ابْنِ حُوَيّصَةَ، قَالَ يُحَدّثُ مَخْرَمَةُ بْنُ نُفَيْلٍ عَنْ أُمّهِ رَقِيقَةَ بِنْتِ أَبِي صَيْفِيّ.
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَرَوَاهُ بِإِسْنَادِ آخَرَ إلَى رَقِيقَةَ، وَفِيهِ: أَلَا فَانْظُرُوا مِنْكُمْ رَجُلًا وَسِيطًا عُظَامًا جُسَامًا أَوْطَفُ الْأَهْدَابِ، وَأَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ قَامَ وَمَعَهُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَيْفَعَ أو كرب، وذكر القصة «1» .
__________
(1) دلت الأحاديث الصحيحة على مشروعية صلاة الاستسقاء، وبذلك قال جمهور العلماء من السلف والخلف، ولم يخالف فى ذلك إلا أبو حنيفة مستدلا بأحاديث الاستسقاء التى ليس فيها صلاة، وقد وقع الإجماع من المثبتين للصلاة على أنها ركعتان، ووقع الاتفاق على أنها سنة غير واجبة. وفى كيفيتها خلاف فارجع إليها فى كتب السنة والفقه. أقول: إذا كان المعتمد هنا هو الحديث، فلم لا نقول إنها تجوز بصلاة فيها دعاء، وتجوز بالدعاء من غير صلاة؟! هذا وليس فى البخارى ما رواه ابن هشام إنما فيه ما رواه بسنده عَنْ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ دينار عن أبيه قال: سمعت ابن عمر بتمثل بشعر أبى طالب «وأبيض الخ» وروى أيضا من حديث سالم عن أبيه: ربما ذكرت قول الشاعر وأنا أنظر إلى وجه النبى يستسقى. فما ينزل حتى يحيش كل ميزاب: «وأبيض الخ» أما القول المنسوب إلى الرسول «ص» فى السيرة: لو كان أبو طالب الخ فلم يروه أحد من أصحاب الصحيح كالحديث الذى ذكر فى الروض. وأحب أن أذكر هنا بما رواه الخمسة عن أنس رضى الله عنه قال: جاء رجل إلى النبى صلّى الله عليه وسلم، وهو يخطب يوم الجمعة، فقال. يا رسول الله هلكت المواشى، وانقطعت السبل، فادع الله، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وفى رواية: رفع يديه- ثم قال: اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا؟؟؟؟؟؟؟؟

(3/106)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابْنُ الْأَسْلَتِ وَقَصِيدَتُهُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ «1» كُلّ مَنْ سَمّاهُ أَبُو طَالِبٍ فِي قَصِيدَتِهِ،
__________
- إلى جمعة، فجاء رجل، فقال: يا رسول الله تهدمت البيوت، وتقطعت السبل، وهلكت المواشى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اللهم على رؤس الجبال والاكام وبطون الأودية ومنابت الشجر، وفى رواية: اللهم حوالينا، ولا علينا، فانجابت عن المدينه انجياب الثوب، فجعلت تمطر حولها، لا تمطر بها قطرة، فنظرت إلى المدينة وإنها لفى مثل الإكليل رواه الخمسة إلا الترمذى. وفى الحديث المتفق عليه أنه «ص» خرج بالناس إلى المصلى يستسقى، فصلى بهم ركعتين جهر فيهما بالقراءة، واستقبل القبلة يدعو، ورفع يديه، فما حول رداءه حين استقبل القبلة، وكان إذا رأى المطر يقول: اللهم صيبا نافعا، وروى عنه أنه كان يخرج متبذلا متواضعا متخشعا متضرعا «الترمذى والنسائى وأبو داود وابن ماجة» . ومن الأحاديث الصحيحة، نؤمن أن الاستسقاء النبوى إنما هو إلى الله ضراعة وابتهال فى صلاة أو فى غير صلاة، وأن التوسل بذات فلان أو وجهه أو جاهه ليس من هدى الرسول «ص» ولا سنته، فلنحذر نزغة الشرك، ولم يخرج قصة عبد المطلب أحد من أصحاب الصحيح، وإنما هى عند ابن عساكر وابن أبى الدنيا وابن سعد والبيهقى والطبرانى. ورواية الحديث بهذه الصورة لا توحى بالاقتداء فإنه عمل عبد المطلب، وهى لا تثبت جواز الاستسقاء بالوجوه أو بالذوات، فالرواية تسند إلى عبد المطلب أنه دعا الله، ولم يدعه بوجه أحد أو ذات أحد. ولم تسند إليه الرواية أنه حمل محمدا معه ليستسقى بوجهه أو بذاته. وحمل عبد المطلب ابن ابنه فى مثل هذا أمر تفرضه عاطفة رجل شيخ، فقد ابنه، فهو يحبه مرتين فى هذا الحفيد العظيم.
(1) ذكر ابن هشام حديث الأخنس، وهو صحابى من مسلمة الفتح شهد حنينا ومات أول خلافة عمر

(3/107)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَوْ أَشَارَ إلَيْهِ، وَعَرّفَ بِهِمْ تَعْرِيفًا مُسْتَغْنِيًا عن المزيد. وَذَكَرَ قَصِيدَةَ أَبِي قَيْسٍ صَيْفِيّ بْنِ الْأَسْلَتِ، وَاسْمُ الْأَسْلَتِ: عَامِرٌ، وَالْأَسْلَتُ: هُوَ الشّدِيدُ الْفَطَسُ يُقَالُ: سَلَتَ اللهُ أَنْفَهُ، وَمِنْ السّلْتِ حَدِيثُ بِشْرِ بْنِ عَاصِمٍ حِينَ أَرَادَ عُمَرُ أَنْ يَسْتَعْمِلَهُ، فَلَمّا كَتَبَ لَهُ عَهْدَهُ أَبَى أَنْ يَقْبَلَهُ، وَقَالَ: لَا حَاجَةَ لِي بِهِ. إنّي سَمِعْت رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: إنّ الْوُلَاةَ يُجَاءُ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَقِفُونَ عَلَى جِسْرِ جَهَنّمَ، فَمَنْ كَانَ مُطَاوِعًا لِلّهِ تَنَاوَلَهُ بِيَمِينِهِ حَتّى يُنْجِيَهُ، وَمَنْ كَانَ عَاصِيًا لِلّهِ انْخَرَقَ بِهِ الْجِسْرُ إلَى وَادٍ مِنْ نَارٍ تَلْتَهِبُ الْتِهَابًا، قَالَ: فَأَرْسَلَ عُمَرُ إلَى أَبِي ذَرّ، وَإِلَى سَلْمَانَ، فَقَالَ لِأَبِي ذَرّ: أَنْتَ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: نَعَمْ وَاَللهِ، وَبَعْدَ الْوَادِي وَادٍ آخَرُ مِنْ نَارٍ.
قَالَ: وَسَأَلَ سَلْمَانَ، فَكَرِهَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِشَيْءِ، فَقَالَ عُمَرُ: مَنْ يَأْخُذُهَا بِمَا فِيهَا «1» ؟ فَقَالَ أَبُو ذَرّ. مَنْ سَلَتَ اللهُ أَنْفَهُ وَعَيْنَيْهِ، وَأَضْرَعَ خَدّهُ إلَى الْأَرْضِ ذَكَرَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
وَأَوّلُ الْقَصِيدَةِ: يَا رَاكِبًا إمّا عَرَضْت فَبَلّغَنْ. الْبَيْتَ. الْمُغَلْغَلَةُ:
الدّاخِلَةُ إلَى أَقْصَى مَا يُرَادُ بُلُوغُهُ مِنْهَا «2» ، وَمِنْهُ تَغَلْغَلَ فِي الْبِلَادِ: إذَا بَالَغَ فِي الدّخُولِ فِيهَا، وَأَصْلُهُ: تَغَلّلَ وَمُغَلّلَةٌ، وَلَكِنْ قَلَبُوا إحْدَى اللّامَيْنِ غَيْنًا، كَمَا فَعَلُوا فِي كَثِيرٍ مِنْ الْمُضَاعَفِ، وَأَصْلُهُ مِنْ الْغَلَلِ وَالْغِلَالَةِ، فَأَمّا الْغَلَلُ فَمَاءٌ يَسْتُرُهُ النّبَاتُ وَالشّجَرُ، وَأَمّا الْغِلَالَةُ فَسَاتِرَةٌ لِمَا تَحْتَهَا
وَفِيهَا. نُبَيّتُكُمْ شَرْجَيْنِ. أَيْ: فَرِيقَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَنُبّئْتُكُمْ لَفْظٌ مُشْكِلٌ
__________
(1) يعنى الخلافة.
(2) المغلغلة: الرسالة.

(3/108)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ: نُبَيّتُكُمْ شَرْجَيْنِ «1» ، وَهُوَ بَيّنٌ فِي الْمَعْنَى، وَفِيهِ زِحَافُ خَرْمٍ، وَلَكِنْ لَا يُعَابُ الْمَعْنَى بِذَلِكَ، وَأَمّا لَفْظُ التّبَيّتِ فِي هَذَا الْبَيْتِ، فَبَعِيدٌ مِنْ مَعْنَاهُ، وَالْأَزْمَلُ: الصّوْتُ، وَالْمُذَكّي: الّذِي يُوقِدُ النّارَ، وَالْحَاطِبُ:
الّذِي يَحْطِبُ لَهَا، ضُرِبَ هَذَا مَثَلًا لِنَارِ الْحَرْبِ، كَمَا قال الاخر:
أزى خَلَلَ الرّمَادِ وَمِيضَ جَمْرٍ ... وَيُوشِكُ أَنْ يَكُونَ لَهَا ضِرَامُ
فَإِنّ النّارَ بِالْعُودَيْنِ تُذْكَى ... وَإِنّ الحرب أولها الكلام «2»
وقوله: هى الْغُولُ لِلْأَدْنَى «3» ، أَيْ: هِيَ الْهَلَاكُ، يُقَالُ: الْغَضَبُ: غُولُ الْحِلْمِ، أَيْ يُهْلِكُهُ، وَالْغَوْلُ بِفَتْحِ الْغَيْنِ: وَجَعُ الْبَطْنِ، قَالَهُ الْبُخَارِيّ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: لا فِيها غَوْلٌ. وقوله: وإحلال إجرام الظّبَاءِ الشّوَازِبِ «4» .
أَيْ: إنّ بَلَدَكُمْ بَلَدٌ حَرَامٌ تَأْمَنُ فِيهِ الظّبَاءُ الشّوَازِبُ الّتِي تَأْتِيهِ مِنْ بعد، لتأمن
__________
(1) والذى فى السيرة: نبيتكم.
(2) من أبيات ضمنها نصر بن سيار والى خراسان فى آخر أيام بنى أمية- كتابه إلى مروان بن محمد حينما وجد أمر أبى مسلم الخراسانى يشتد فى الدعوة إلى آل العباس. ومنها:
أقول من التعجب: ليت شعرى ... أأيقاظ أمية أم نيام
فإن يك قومنا أضحوا نياما ... فقل: قوموا، فقد حان القيام
فقرى عن رحالك، ثم قولى ... على الإسلام والعرب السلام
ص 256 ح 3 مروح الذهب.
(3) فى السيرة: للأفصين.
(4) التى يحرم صيدها فى الحرم «الخشنى»

(3/109)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فيه، فهى شازبة أَيْ: ضَامِرَةٌ مِنْ بُعْدِ الْمَسَافَةِ، وَإِذَا لَمْ تَحِلّوا بِالظّبَاءِ فِيهِ، فَأَحْرَى أَلَا تَحِلّوا بِدِمَائِكُمْ، وَإِحْرَامُ الظّبَاءِ: كَوْنُهَا فِي الْحَرَمِ، يُقَالُ لِمَنْ دَخَلَ فِي الشّهْرِ الْحَرَامِ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ: مُحْرِمٌ. وَالْأَتْحَمِيّةُ: ثِيَابٌ رِقَاقٌ تُصْنَعُ بِالْيَمَنِ، وَالشّلِيلُ: دِرْعٌ قَصِيرَةٌ «1» ، وَالْأَصْدَاءُ: جَمْعُ صَدَأِ الْحَدِيدِ، وَالْقَتِيرُ: حَلَقُ الدّرْعِ «2» شَبّهَهَا بِعُيُونِ الْجَرَادِ، وَأَخَذَ هَذَا الْمَعْنَى التّنّوخِيّ.
فَقَالَ:
كَأَثْوَابِ الْأَرَاقِمِ مَزّقَتْهَا ... فَخَاطَتْهَا بِأَعْيُنِهَا الْجَرَادُ
وَقَوْلُهُ فِي وَصْفِ الْحَرْبِ:
تَزَيّنُ لِلْأَقْوَامِ، ثُمّ يَرَوْنَهَا ... بِعَاقِبَةِ إذْ بَيّتَتْ أُمّ صَاحِبِ
هُوَ كَقَوْلِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ:
الْحَرْبُ أَوّلُ مَا تَكُونُ فَتِيّةٌ ... تَسْعَى بِبَزّتِهَا لِكُلّ جَهُولِ
حَتّى إذَا اشْتَعَلَتْ وَشَبّ ضِرَامُهَا ... وَلّتْ عَجُوزًا غَيْرَ ذَاتِ خَلِيلِ
شَمْطَاءَ جزّت رأسها، فتنكرت ... مكروهة للشّمّ والتّقبيل
__________
(1) أو هى ثياب تلبس تحت الدروع.
(2) فى اللسان: الصدأ مهموز مقصور: الطبع والدنس يركب الحديد، وصدأ الحديد: وسخه. وفى شرح الخشنى: أصداء: يعنى دروعا متغيرة بالصدأ. وفى الخشنى أيضا: أن القتير: مسامير حلق الدروع

(3/110)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَوْلُهُ: أُمّ صَاحِبِ، أَيْ: عَجُوزًا كَأُمّ صَاحِبٍ لَك، إذْ لَا يَصْحَبُ الرّجُلَ إلّا رَجُلٌ فِي سِنّهِ، وَفِي جَامِعِ الْبُخَارِيّ: كَانُوا إذَا وَقَعَتْ الْحَرْبُ يَأْمُرُونَ بِحِفْظِ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ، يَعْنِي: أَبْيَاتِ عَمْرٍو الْمُتَقَدّمَةَ. وَقَوْلُهُ: أَلَمْ تَعْلَمُوا مَا كَانَ فِي حَرْبِ دَاحِسٍ. يُذْكَرُ مَعْنَى دَاحِسٍ إذَا ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ بَعْدَ هَذِهِ الْقَصِيدَةِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَقَوْلُهُ فِيهَا: وَلِيّ امرىء فاختار دينا فإنما «1» . أى: هو ولى امرىء اخْتَارَ دِينًا، وَالْفَاءُ زَائِدَةٌ عَلَى أَصْلِ أَبِي الْحَسَنِ، قَالَ فِي قَوْلِهِمْ: زَيْدًا فَاضْرِبْ:
الْفَاءُ مُعَلّقَةٌ أَيْ: زَائِدَةٌ، وَمَنْ لَا يَقُولُ بِهَذَا الْقَوْلِ يَجْعَلُ الْفَاءَ عَاطِفَةً عَلَى فِعْلٍ مُضْمَرٍ، كأنه قال: ولى امرىء تَدِينُ، فَاخْتَارَ دِينًا، أَوْ نَحْوَ هَذَا، وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُ بَاقِي الْقَصِيدَةِ فِي آخِرِ قِصّةِ الْحَبَشَةِ.
وَقَالَ فِيهَا: كَرِيمِ الْمَضَارِبِ، وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ: لَعَلّهُ الضّرَائِبِ، يُرِيدُ: جَمْعَ ضَرِيبَةٍ، وَلَا يَبْعُدُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ قَالَ: الْمَضَارِبِ. يُرِيدُ أَنّ مَضَارِبَ سُيُوفِهِ غَيْرُ مَذْمُومَةٍ، وَلَا رَاجِعَةٍ عَلَيْهِ إلّا بِالثّنَاءِ وَالْحَمْدِ وَالْوَصْفِ بِالْمَكَارِمِ.
وَفِيهَا قَوْلُهُ: وَمَاءٍ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ. وَيُرْوَى: فِي الصّلَالِ جَمْعُ صِلَةٍ، وَهِيَ الْأَرْضُ الّتِي لَا تُمْسِكُ الْمَاءَ. أَيْ رُبّ مَاءٍ هُرِيقَ فِي الضّلَالِ مِنْ أَجْلِ السّرَابِ، لِأَنّهُ لَا يُهْرِيقُ مَاءً مِنْ أَجْلِ السّرَابِ إلّا ضَالّ غير مميز بمواضع
__________
(1) فى السيرة: فلا يكن بدلا من «فإنما»

(3/111)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَاءِ، وَأَذَاعَتْ بِهِ، أَيْ: بَدّدَتْهُ، فَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، وَهَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ لِلنّظَرِ فِي عَوَاقِبِ الْأُمُورِ، وَيُرْوَى: وَمَا أُهْرِيقَ فِي أَمْرٍ، وَمَعْنَاهُ: وَاَلّذِي أُهْرِيقَ فِي أَمْرِ الضّلَالِ، فَوَصَلَ أَلِفَ الْقَطْعِ ضَرُورَةً، وَيُقَالُ: أُرِيقَ الْمَاءُ، وَأُهْرِيقَ بِالْجَمْعِ بَيْنَ الْهَمْزَةِ وَالْهَاءِ، وَهِيَ أَقَلّهَا، وَلِتَعْلِيلِهَا مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا.
وَقَوْلُهُ فِيهَا: بَيْنَ سَافٍ وَحَاصِبِ: السّافِي: الّذِي يَرْمِي بِالتّرَابِ، وَالْحَاصِبُ الّذِي يَقْذِفُ بِالْحَصْبَاءِ.
وَفِيهَا ذِكْرُ الْجَبَاجِبِ، وَهِيَ مَنَازِلُ مِنًى. كَذَا قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، وَقَالَ الْبَرْقِيّ: هِيَ حُفَرٌ بِمِنَى، يُجْمَعُ فِيهَا دَمُ الْبُدْنِ، وَالْهَدَايَا، وَالْعَرَبُ تُعَظّمُهَا وَتَفْخَرُ بِهَا، وَقِيلَ: الْجَبَاجِبُ: الْكُرُوشُ. يُقَالُ لِلْكَرِشِ: جَبْجَبَةٌ بِفَتْحِ الْجِيمِ، وَاَلّذِي تَقَدّمَ وَاحِدُهُ: جُبْجُبَةٌ بِالضّمّ «1» .
حَرْبُ دَاحِسٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ حَرْبِ دَاحِسٍ مُخْتَصَرًا، وَدَاحِسٌ: اسْمُ فَرَسٍ كَانَ لِقَيْسِ بْنِ أَبِي زُهَيْرٍ، وَمَعْنَى دَاحِسٍ: مَدْحُوسٌ كَمَا قِيلَ: مَاءٌ دَافِقٌ، أَيْ:
مَدْفُوقٌ، وَالدّحْسُ: إدْخَالُ الْيَدِ بِقُوّةِ فِي ضَيّقٍ، كَمَا رُوِيَ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرّ بِغُلَامِ يَسْلُخُ شَاةً، فَأَمَرَهُ أَنْ يتنحى ليريه، ثم دحس «2»
__________
(1) المراصد: الجبجبة بالضم: ماء معروف بنواحى اليمامة. والجباجب والأخاشب: جبال مكة.
(2) أدخلها بين جلدها ولحمها ليسلخها، وفى الأصل عن الإبط التى ستأتى: الأربط: والتصويب من اللسان والنهاية لابن الأثير

(3/112)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ السّلَامُ بِيَدِهِ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللّحْمِ، حَتّى بَلَغَ الْإِبِطَ ثُمّ صَلّى، وَلَمْ يَتَوَضّأْ.
فَدَاحِسٌ سُمّيَ بِهَذَا الِاسْمِ؛ لِأَنّ أُمّهُ كَانَتْ لِرَجُلِ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، ثُمّ مِنْ بَنِي يَرْبُوعٍ اسْمُهُ: قِرْوَاشُ بْنُ عَوْفٍ، وَكَانَ اسْمُ الْفَرَسِ: جَلْوَى، وَكَانَ ذُو الْعُقّالِ فَرَسًا عَتِيقًا لِحَوْطِ بْنِ جَابِرٍ، فَخَرَجَتْ بِهِ فَتَاتَانِ لَهُ، لِتَسْقِيَاهُ، فَبَصُرَ بِجَلْوَى، فَأَدْلَى حِينَ «1» رَآهَا، فَضَحِكَ غِلْمَةٌ كَانُوا هُنَالِكَ، فَاسْتَحْيَتْ الْفَتَاتَانِ، وَنَكّسَتَا رَأْسَيْهِمَا، فَأَفْلَتَ ذُو الْعُقّالِ حَتّى نَزَا عَلَى جَلْوَى، وَقِيلَ ذَلِكَ لِحَوْطِ فَأَقْبَلَ مُغْضَبًا، وَهُوَ يَسْعَى حَتّى ضَرَبَ بِيَدِهِ فِي التّرَابِ، ثُمّ دَحَسَهَا فِي رَحِمِ الْفَرَسِ، فَسَطَا عَلَيْهَا، فَأَخْرَجَ مَاءَ الْفَحْلِ منها، وَاشْتَمَلَتْ الرّحِمُ عَلَى بَقِيّةِ الْمَاءِ، وَحَمَلَتْ بِمُهْرِ فَسَمّوْهُ: دَاحِسًا، وَأَظْهَرُ مَا فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِثْلَ: لَابِنٍ وَتَامِرٍ، وَأَنْ لَا يَكُونَ فَاعِلًا بِمَعْنَى مَفْعُولٍ، فَهُوَ دَاحِسُ بْنُ ذِي الْعُقّالِ بْنِ أَعْوَجَ الّذِي تُنْسَبُ إلَيْهِ الْخَيْلُ الْأَعْوَجِيّةُ «2» فِي قَوْلِ بَعْضِهِمْ، وَقَدْ تَقَدّمَ غَيْرُ هَذَا الْقَوْلِ- ابْنُ سَبَلٍ «3» ، وَكَانَ لِغَنِيّ بْنِ يَعْصُرَ، وفيه يقال:
__________
(1) أدلى الفرس وغيره أخرج جردانه ليبول، أو يضرب.
(2) أعوج: فرس لبنى هلال تنسب إليه الأعوجيات كان لكندة، فأخذته سليم، ثم صار إلى بنى هلال، أو صار إليهم من بنى آكل المرار، وفرس لغنى ابن أعصر أو يعصر كما فى الروض
(3) فى اللسان عن الأصمعى أن سبل هى أم أعوج وكانت لغنى، وأعوج لبنى آكل المرار، ثم صار لبنى هلال بن عامر

(3/113)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إنّ الْجَوَادَ بْنَ الْجَوَادِ بْنِ سَبَلٍ ... إنْ ديّموا جَادَ، وَإِنْ جَادَ وَبَلْ «1»
وَفِي ذِي الْعُقّالِ يَقُولُ جَرِيرٌ:
تُمْسِي جِيَادُ الْخَيْلِ حَوْلَ بُيُوتِنَا ... مِنْ آلِ أَعْوَجَ، أَوْ لِذِي الْعُقّالِ «2»
وَأَنْشَدَ:
أَفَبَعْدَ مَقْتَلِ مَالِكِ بْنِ زُهَيْرٍ ... تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ «3»
وَفِيهِ إقْوَاءٌ، وَهُوَ حَذْفُ نِصْفِ سَبَبٍ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوّلِ، وَقَدْ تَكَلّمْنَا عَلَى مَعْنَى الْإِقْوَاءِ قَبْلُ، وَأَمّا اخْتِلَافُ الْقَوَافِي فَيُسَمّى: اكْتِفَاءً، وَإِقْوَاءً أَيْضًا لِأَنّهُ مِنْ الْكُفْءِ، فَكَأَنّهُ جَعَلَ الرّفْعَ كُفْئًا لِلْخَفْضِ، فَسَوّى بَيْنَهُمَا، وَفِيهَا قوله:
__________
(1) قال ابن برى: الشعر لجهم بن شبل، وقال أبو زياد الكلابى: وهو من بنى كعب بن بكر.. قال وقد أدركته يرعد رأسه، وهو يقول:
أنا الجواد بن الجواد بن سبل ... إن ديمو اجاد، وإن جادوا وبل
قال ابن برى: فثبت بهذا أن سبل اسم رجل وليس باسم فرس. هذا ما ذكره اللسان فى مادة سبل، وفى مادة: دوم رواه: «هو الجواد الخ» .
(2) وفى النقائض «إن الجياد ببتن حول قبابنا
(3) القصيدة للربيع بن زياد بن عبد الله بن سفيان بن قارب العبسى، وقد ذكر ابن هشام نسبه مختصرا وأول قصيدته:
نام؟؟؟، وما أغمض حار ... من سيىء النبأ الجليل السارى
ص 81؟؟؟ بعدها ح 1 النقائض بين جرير والفرزدق لأبى عبيدة معمر ن المثنى ط 1353 هـ وص 151 ح 1 أمالى المرتضى

(3/114)


. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَرْجُو النّسَاءُ عَوَاقِبَ الْأَطْهَارِ. كَقَوْلِ الْأَخْطَلِ:
قَوْمٌ إذَا حَارَبُوا شَدّوا مَآزِرَهُمْ ... دُونَ النّسَاءِ وَلَوْ بَاتَتْ بِأَطْهَارِ
فَيُقَالُ: إنّ حَرْبَ دَاحِسٍ دَامَتْ أَرْبَعِينَ سَنَةً، لَمْ تَحْمِلْ فِيهَا أُنْثَى، لِأَنّهُمْ كَانُوا لَا يَقْرَبُونَ النّسَاءَ مَا دَامُوا مُحَارِبِينَ، وَذَكَرَ الْأَصْبَهَانِيّ أَنّ حَرْبَ دَاحِسٍ كَانَتْ بَعْدَ يَوْمِ جَبَلَةَ بِأَرْبَعِينَ سَنَةً، وَقَدْ تَقَدّمَ يَوْمُ جَبَلَةَ، وَأَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وُلِدَ فِي تِلْكَ الْأَيّامِ، وَقَالَ لَبِيدٌ:
وَغَنِيت حَرَسًا قَبْلَ مَجْرَى دَاحِسٍ ... لَوْ كَانَ لِلنّفْسِ اللّجُوجِ خُلُودُ
وَكَانَ لَبِيدٌ فِي حَرْبِ جَبَلَةَ ابْنَ عَشْرِ سِنِينَ، وَقَوْلُهُ: حَرَسًا أَيْ: وَقْتًا مِنْ الدّهْرِ، وَيُرْوَى سَبْتًا «1» وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَكَانَ إجْرَاءُ دَاحِسٍ وَالْغَبْرَاءِ عَلَى ذَاتِ الْإِصَادِ «2» مَوْضِعٍ فِي بِلَادِ فَزَارَةَ، وَكَانَ آخِرُ أَيّامِ حَرْبِ دَاحِسٍ بِقَلَهَى مِنْ أَرْضِ قَيْسٍ، وَهُنَاكَ اصْطَلَحَتْ عَبْسٌ وَمَنُولَةُ: وَهِيَ أُمّ بَنِي فَزَارَةَ: شَمْخٍ وَعَدِيّ وَمَازِنٍ، فَيُقَالُ لِهَذَا الْمَوْضِعِ: قَلَهَى، وَأَمّا قَلَهّي فَمَوْضِعٌ بِالْحِجَازِ، وَفِيهِ اعْتَزَلَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ حِينَ قُتِلَ عُثْمَانُ، وَأَمَرَ ألّا يحدّث بشىء من أخبار
__________
(1) فى اللسان فى مادة سبت وجرى رواه: وغنيت سبتا قبل مجرى داحس. وفى الأصل: مجراء
(2) فى المراصد: الإصاد: اسم الماء الذى لطم عليه داحس، وكانت الحرب المشهورة بسببها، وذات الإصاد. ردهة فى ديار بنى عبس وسط هضب القليب

(3/115)