الروض
الأنف ت الوكيل [مُبَادَأَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قومه]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ دَخَلَ النّاسُ فِي الْإِسْلَامِ أَرْسَالًا
مِنْ الرّجَالِ وَالنّسَاءِ، حَتّى فَشَا ذِكْرُ الْإِسْلَامِ بِمَكّةَ،
وَتُحَدّثَ بِهِ. ثُمّ إنّ اللهَ- عَزّ وَجَلّ- أَمَرَ رَسُولَهُ- صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أَنْ يَصْدَعَ بِمَا جَاءَهُ مِنْهُ، وَأَنْ
يُبَادِيَ النّاسَ بِأَمْرِهِ، وَأَنْ يَدْعُوَ إلَيْهِ، وَكَانَ بَيْنَ
مَا أَخْفَى رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أَمْرَهُ،
وَاسْتَتَرَ بِهِ إلَى أَنْ أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِإِظْهَارِ دِينِهِ
ثَلَاثَ سِنِينَ- فِيمَا بَلَغَنِي- مِنْ مَبْعَثِهِ، ثُمّ قَالَ اللهُ
تَعَالَى لَهُ: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ، وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ
الحجر: 94. وَقَالَ تَعَالَى: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ.
وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقُلْ إِنِّي
أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ الشعراء: 215: 217
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تَرَى السّرْحَانَ مُفْتَرِشًا يَدَيْهِ ... كَأَنّ بَيَاضَ لَبّتِهِ
صَدِيعُ «1»
عَلَى هَذَا تَأَوّلَهُ أَكْثَرُ أَهْلِ الْمَعَانِي، وَقَالَ قَاسِمُ بْنُ
ثَابِتٍ: الصّدِيعُ فِي هَذَا الْبَيْتِ: ثَوْبٌ أَسْوَدُ تَلْبَسُهُ
النّوّاحَةُ تَحْتَهُ ثَوْبٌ أَبْيَضُ، وَتَصْدَعُ الْأَسْوَدَ عِنْدَ
صَدْرِهَا فَيَبْدُو الْأَبْيَضُ، وَأَنْشَدَ:
كَأَنّهُنّ «2» إذْ وَرَدْنَ لِيعَا ... نَوّاحَةٌ مُجْتَابَةٌ صديعا
__________
(1) نسبه فى اللسان فى مادة صدع إلى عمرو بن معدى كرب، والشماخ شاعر ذبيانى
مخضرم وهو ابن ضرار بن سنان، وقيل اسمه: معقل والشماخ لقب له، وقيل اسمه:
الهيثم، والأول أكثر. ص 85 سمط اللالى.
(2) فى معجم البكرى: كأنها
(3/42)
قال ابن هشام: فاصدع: اُفْرُقْ بَيْنَ
الْحَقّ وَالْبَاطِلِ. قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيّ، وَاسْمُهُ:
خُوَيْلِدُ بْنُ خَالِدٍ، يَصِفُ أُتُنَ وَحْشٍ وَفَحْلَهَا:
وَكَأَنّهُنّ رِبَابَةٌ، وَكَأَنّهُ ... يَسَرٌ يُفِيضُ عَلَى الْقِدَاحِ
وَيَصْدَعُ
أَيْ: يُفَرّقُ عَلَى الْقِدَاحِ وَيُبَيّنُ أَنْصِبَاءَهَا. وَهَذَا
الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ. وَقَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجّاجِ:
أَنْتَ الْحَلِيمُ، وَالْأَمِيرُ الْمُنْتَقِمُ ... تَصْدَعُ بِالْحَقّ،
وَتَنْفِي مَنْ ظَلِمْ
وَهَذَانِ البيتان فى أرجوزة له.
[صلاة الرسول وأصحابه فى الشعاب]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّمَ إذَا صَلّوْا، ذَهَبُوا فِي الشّعَابِ، فَاسْتَخْفَوْا
بِصَلَاتِهِمْ مِنْ قَوْمِهِمْ، فَبَيْنَا سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ فِي
نَفَرٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى الله عليه وسلم- فِي شِعْبٍ
مِنْ شِعَابِ مَكّةَ، إذْ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ نَفَرٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ-
وَهُمْ يُصَلّونَ- فَنَاكَرُوهُمْ، وَعَابُوا عَلَيْهِمْ مَا يَصْنَعُونَ
حَتّى قَاتَلُوهُمْ، فَضَرَبَ سَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ يَوْمَئِذٍ
رَجُلًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ بِلَحْيِ بَعِيرٍ، فَشَجّهُ، فَكَانَ أَوّلَ
دَمٍ هريق فى الإسلام.
[عداوة الشرك للرسول ومساومته لعمه]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا بَادَى رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وآله
وَسَلّمَ قَوْمَهُ بِالْإِسْلَامِ وَصَدَعَ بَهْ كَمَا أَمَرَهُ اللهُ،
لَمْ يَبْعُدْ مِنْهُ قَوْمُهُ، وَلَمْ يَرُدّوا عَلَيْهِ- فِيمَا
بَلَغَنِي-
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/43)
حَتّى ذَكَرَ آلِهَتَهُمْ وَعَابَهَا،
فَلَمّا فَعَلَ ذَلِك أَعْظَمُوهُ وَنَاكَرُوهُ، وَأَجْمَعُوا خِلَافَهُ
وَعَدَاوَتَهُ، إلّا مَنْ عَصَمَ الله تَعَالَى مِنْهُمْ بِالْإِسْلَامِ،
وَهُمْ قَلِيلٌ مُسْتَخْفُونَ، وَحَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَمَنَعَهُ وَقَامَ
دُونَهُ، وَمَضَى رَسُولُ الله- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَلَى
أَمْرِ اللهِ، مُظْهِرًا لِأَمْرِهِ، لَا يَرُدّهُ عَنْهُ شَيْءٌ. فَلَمّا
رَأَتْ قُرَيْشٌ، أَنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يَعْتِبُهُمْ مِنْ
شَيْءٍ، أَنْكَرُوهُ عَلَيْهِ، مِنْ فِرَاقِهِمْ وَعَيْبِ آلِهَتِهِمْ،
وَرَأَوْا أَنّ عَمّهُ أَبَا طَالِبٍ قَدْ حَدِبَ عَلَيْهِ، وَقَامَ
دُونَهُ، فَلَمْ يُسْلِمْهُ لَهُمْ، مَشَى رِجَالٌ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ
إلَى أَبِي طَالِبٍ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ
شَمْسِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بن كلاب بن مرّة ابن كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ. وَأَبُو سُفْيَانَ بن حرب بن أمية بن عبد شمس ابن
عَبْدِ مَنَافِ بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابِ بْنِ مرة بن كعب بن لؤي بن غالب
بْنِ فِهْرٍ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ أَبِي سُفْيَانَ: صَخْرٌ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَأَبُو الْبَخْتَرِيّ، واسمه: العاص بن هشام بن
الحارث ابن أسد ابن عبد العزى بن قصي بن كلاب بن مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
لُؤَيّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَبُو الْبَخْتَرِيّ: الْعَاصِ بْنُ هَاشِمٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَالْأَسْوَدُ بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ بْنِ
عَبْدِ الْعُزّى بن قصىّ ابن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي. وَأَبُو جَهْلٍ-
وَاسْمُهُ عَمْرٌو، وَكَانَ يُكَنّى أَبَا الحكم- ابن هشام بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بن مخزوم بن يقظة بن مرة ابن
كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ. وَالْوَلِيدُ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ
بْنِ عُمَرَ بن مخزوم بن يقظة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/44)
ابن مُرّةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ.
وَنَبِيهٌ وَمُنَبّهٌ ابْنَا الْحَجّاجِ بْنِ عَامِرِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ
سَعْدِ بْنِ سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هصيص بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيّ.
وَالْعَاصِ بْنُ وَائِلٍ.
قال ابن هشام: الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سُعَيْد بْنِ
سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بن حصيص بن كعب بن لؤىّ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: أَوْ مَنْ مَشَى مِنْهُمْ. فَقَالُوا: يَا أَبَا
طَالِبٍ، إنّ ابْنَ أَخِيك قَدْ سَبّ آلِهَتَنَا، وَعَابَ دِينَنَا،
وَسَفّهُ أَحْلَامَنَا، وَضَلّلَ آبَاءَنَا، فَإِمّا أَنْ تَكُفّهُ عَنّا،
وَإِمّا أَنّ تُخِلّي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ، فَإِنّك عَلَى مِثْلِ مَا
نَحْنُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِهِ، فَنَكْفِيكَهُ فَقَالَ لَهُمْ أَبُو
طَالِبٍ قَوْلًا رَفِيقًا، وَرَدّهُمْ رَدّا جميلا، فانصرفوا عنه.
ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، يُظْهِرُ
دِينَ اللهِ، وَيَدْعُو إلَيْهِ، ثُمّ شَرَى الْأَمْرُ بَيْنَهُ،
وَبَيْنَهُمْ حَتّى تَبَاعَدَ الرّجَالُ، وَتَضَاغَنُوا، وَأَكْثَرَتْ
قُرَيْشٌ ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بينها،
فَتَذَامَرُوا فِيهِ، وَحَضّ بَعْضُهُمْ بَعْضًا عَلَيْهِ، ثُمّ إنّهُمْ
مَشَوْا إلَى أَبِي طَالِبٍ مَرّةً أُخْرَى، فَقَالُوا لَهُ:
يَا أَبَا طَالِبٍ، إنّ لَك سِنّا وَشَرَفًا وَمَنْزِلَةً فِينَا، وَإِنّا
قَدْ اسْتَنْهَيْنَاكَ مِنْ ابْنِ أَخِيك فَلَمْ تَنْهَهُ عَنّا، وَإِنّا
وَاَللهِ لَا نَصْبِرُ عَلَى هَذَا مِنْ شَتْمِ آبَائِنَا، وَتَسْفِيهِ
أَحْلَامِنَا، وَعَيْبِ آلِهَتِنَا، حَتّى تَكُفّهُ عَنّا، أَوْ
نُنَازِلَهُ وَإِيّاكَ فِي ذَلِكَ، حَتّى يهلك أحد الفريقين، أو كما
قَالُوا لَهُ. ثُمّ انْصَرَفُوا عَنْهُ، فَعَظُمَ عَلَى أَبِي طَالِبٍ
فِرَاقُ قَوْمِهِ وَعَدَاوَتُهُمْ، وَلَمْ يَطِبْ نَفْسًا بِإِسْلَامِ
رَسُول الله- صَلّى الله عَلَيْهِ وسلم- لهم ولا خذ لانه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/45)
[مناصرة أبى طالب للرسول صلّى الله عليه
وسلم]
قال ابن إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ
بْنِ الْأَخْنَسِ أَنّهُ حُدّثَ: أَنّ قُرَيْشًا حِينَ قَالُوا لِأَبِي
طَالِبٍ هَذِهِ الْمَقَالَةَ، بَعَثَ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال له: يابن أخى، إنّ قومك قد جاؤنى، فَقَالُوا لِي
كَذَا وَكَذَا، لِلّذِي كَانُوا قَالُوا لَهُ، فَأَبْقِ عَلَيّ، وَعَلَى
نَفْسِك، وَلَا تُحَمّلْنِي من الأمر ما لا أطيق: فَظَنّ رَسُولُ اللهِ-
صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- أنه قد بدا لعمه فيه أَنّهُ خَاذِلُهُ
وَمُسْلِمُهُ، وَأَنّهُ قَدْ ضَعُفَ عَنْ نصرته والقيام معه. قَالَ:
رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا عَمّ، وَاَللهِ
لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ
أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتّى يُظْهِرَهُ اللهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ،
مَا تَرَكْتُهُ.
قَالَ: ثُمّ اسْتَعْبَرَ رَسُولُ الله- صلى الله عليه وسلم- فبكى ثم قَامَ،
فَلَمّا وَلّى نَادَاهُ أَبُو طَالِبٍ، فَقَالَ: أقبل يا بن أَخِي، قَالَ:
فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ رَسُولُ الله- صَلّى الله عليه وسلم- فقال: اذهب يا بن
أخى، فقل ما أحببت، فو الله لا أسلمك لشىء أبدا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ قُرَيْشًا حَيْن عَرَفُوا أَنّ أَبَا
طَالِبٍ قَدْ أَبَى خِذْلَانَ رَسُولِ الله- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
وَإِسْلَامَهُ وَإِجْمَاعَهُ لِفِرَاقِهِمْ فِي ذَلِكَ وَعَدَاوَتِهِمْ،
مَشَوْا إلَيْهِ بِعُمَارَةَ بْنِ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَقَالُوا
لَهُ- فِيمَا بَلَغَنِي-: يَا أَبَا طَالِبٍ، هَذَا عُمَارَةُ بْنُ
الْوَلِيدِ، أَنْهَدُ فَتًى فى قُرَيْشٍ وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ فَلَك
عَقْلُهُ وَنَصْرُهُ، وَاِتّخِذْهُ وَلَدًا فَهُوَ لَك، وَأَسْلِمْ
إلَيْنَا ابْنَ أَخِيك هَذَا، الّذِي قَدْ خَالَفَ دِينَك وَدِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/46)
آبَائِك، وَفَرّقَ جَمَاعَةَ قَوْمِك،
وَسَفّهُ أَحْلَامَهُمْ، فَنَقْتُلَهُ فَإِنّمَا هُوَ رَجُلٌ بِرَجُلِ،
فَقَالَ: وَاَللهِ لَبِئْسَ مَا تَسُومُونَنِي! أَتُعْطُونَنِي ابْنَكُمْ
أَغْذُوهُ لَكُمْ، وَأُعْطِيكُمْ ابْنِي تَقْتُلُونَهُ! هَذَا وَاَللهِ مَا
لَا يَكُونُ أَبَدًا. قَالَ: فَقَالَ الْمُطْعِمُ بْنِ عَدِيّ بْنِ
نَوْفَلِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ بْنِ قُصَيّ: وَاَللهِ يَا أَبَا طَالِبٍ
لَقَدْ أَنْصَفَك قَوْمُك، وَجَهَدُوا عَلَى التّخَلّصِ مِمّا تَكْرَهُهُ،
فَمَا أَرَاك تُرِيدُ أَنْ تَقْبَلَ مِنْهُمْ شَيْئًا، فَقَالَ أَبُو
طَالِبٍ لِلْمُطْعِمِ: وَاَللهِ مَا أَنْصَفُونِي، وَلَكِنّك قَدْ
أَجْمَعْتَ خِذْلَانِي وَمُظَاهَرَةَ الْقَوْمِ عَلَيّ، فَاصْنَعْ مَا
بَدَا لك، أو كما قال. قَالَ: فَحَقَبَ الْأَمْرُ، وَحَمِيَتْ الْحَرْبُ،
وَتَنَابَذَ الْقَوْمُ، وبادى بعضهم بعضا.
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ عِنْدَ ذَلِكَ- يُعَرّضُ بِالْمُطْعِمِ بْنِ عَدِيّ-
وَيَعُمّ مَنْ خَذَلَهُ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، وَمَنْ عَادَاهُ مِنْ
قَبَائِلِ قُرَيْشٍ، وَيَذْكُرُ مَا سَأَلُوهُ، وَمَا تَبَاعَدَ مِنْ
أَمْرِهِمْ:
ألا قل لِعَمْرٍو وَالْوَلِيدِ وَمُطْعِمٍ ... أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ
حِيَاطَتِكُمْ بَكْرُ
مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ كَثِيرٌ رُغَاؤُهُ ... يَرُشّ عَلَى السّاقَيْنِ
مِنْ بَوْلِهِ قَطْرُ
تَخَلّفَ خلف الورد ليس بلا حق ... إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ
لَهُ: وَبْرُ
أَرَى أَخَوَيْنَا مِنْ أَبِينَا وَأُمّنَا ... إذَا سُئِلَا قَالَا: إلَى
غَيْرِنَا الْأَمْرُ
بَلَى لَهُمَا أَمْرٌ، وَلَكِنْ تَجَرْجَمَا ... كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ
رَأْسِ ذِي عَلَقَ صَخْرُ
أَخُصّ خُصُوصًا عَبْدَ شَمْسٍ وَنَوْفَلًا ... هُمَا نَبَذَانَا مِثْلَ
مَا يُنْبَذُ الْجَمْرُ
هُمَا أَغْمَزَا لِلْقَوْمِ فِي أَخَوَيْهِمَا ... فَقَدْ أَصْبَحَا
مِنْهُمْ أَكُفّهُمَا صِفْرُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/47)
هُمَا أَشْرَكَا فِي الْمَجْدِ مَنْ لَا
أَبَا لَهُ ... مِنْ النّاسِ إلّا أَنْ يُرَسّ لَهُ ذِكْرُ
وَتَيْمٌ وَمَخْزُومٌ وَزُهْرَةُ مِنْهُمْ ... وَكَانُوا لَنَا مولى إذا
بغى النّصر
فو الله لَا تَنْفَكّ مِنّا عَدَاوَةٌ ... وَلَا مِنْهُمْ مَا كان من نسلنا
شفر
فقد سنهت أَحْلَامُهُمْ وَعُقُولُهُمْ ... وكانوا كَجَفْر بئس ما صنعت
جَفْر
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا بَيْتَيْنِ أقذع فيهما.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ قُرَيْشًا تَذَامَرُوا بَيْنَهُمْ عَلَى
مَنْ فِي الْقَبَائِلِ مِنْهُمْ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- الّذِينَ أَسْلَمُوا مَعَهُ، فَوَثَبَتْ كُلّ
قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يُعَذّبُونَهُمْ،
وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَمَنَعَ اللهُ رَسُولَهُ- صَلّى الله
عَلَيْهِ وَسَلّمَ- مِنْهُمْ بِعَمّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَدْ قَامَ أَبُو
طَالِبٍ، حِينَ رَأَى قُرَيْشًا يَصْنَعُونَ مَا يَصْنَعُونَ فِي بَنِي
هَاشِمٍ وَبَنِيّ الْمُطّلِبِ، فَدَعَاهُمْ إلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، مِنْ
مَنْعِ رَسُولِ اللهِ- صَلّى الله عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَالْقِيَامِ
دُونَهُ، فَاجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَقَامُوا مَعَهُ، وَأَجَابُوهُ إلَى مَا
دَعَاهُمْ إلَيْهِ، إلّا مَا كَانَ مِنْ أَبِي لهب، عدوّ الله الملعون.
فَلَمّا رَأَى أَبُو طَالِبٍ مِنْ قَوْمِهِ مَا سَرّهُ فِي جَهْدِهِمْ
مَعَهُ، وَحَدَبِهِمْ عَلَيْهِ، جَعَلَ يَمْدَحُهُمْ وَيَذْكُرُ
قَدِيمَهُمْ، وَيَذْكُرُ فَضْلَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِيهَا وَمَكَانَهُ مِنْهُمْ، لِيَشُدّ لَهُمْ رَأْيَهُمْ،
وَلِيَحْدَبُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرِهِ، فَقَالَ:
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرِ ... فَعَبْدُ مَنَافٍ سرّها
وصميمها
فإن حَصَلَتْ أَشْرَافُ عَبْدِ مَنَافِهَا ... فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُهَا
وقديمها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/48)
وَإِنْ فَخَرَتْ يَوْمًا، فَإِنّ مُحَمّدًا
... هُوَ الْمُصْطَفَى مَنْ سِرّهَا وَكَرِيمُهَا
تَدَاعَتْ قُرَيْشٌ غَثّهَا وَسَمِينُهَا ... عَلَيْنَا فَلَمْ تَظْفَرْ
وَطَاشَتْ حُلُومُهَا
وَكُنّا قَدِيمًا لَا نُقِرّ ظُلَامَةً ... إذَا مَا ثَنَوْا صُعْرَ
الْخُدُودِ نُقِيمُهَا
وَنَحْمِي حِمَاهَا كُلّ يَوْمٍ كَرِيهَةً ... وَنَضْرِبُ عَنْ
أَجْحَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا
بِنَا انْتَعَشَ الْعُودُ الذّوَاءُ، وَإِنّمَا ... بِأَكْنَافِنَا تَنْدَى
وَتَنْمَى أُرُومُهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مُبَادَأَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمَهُ
أَصْلُ الصّلَاةِ لُغَةً:
ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ: أَنّ أَبَا طَالِبٍ حَدِبَ عَلَى رَسُولِ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَامَ دُونَهُ: أَصْلُ الْحَدَبِ:
انْحِنَاءٌ فِي الظّهْرِ، ثُمّ اُسْتُعِيرَ فِيمَنْ عَطَفَ عَلَى غَيْرِهِ،
وَرَقّ لَهُ كَمَا قَالَ النّابِغَةُ:
حَدِبَتْ عَلَيّ بُطُونُ ضَبّةَ كُلّهَا ... إنْ ظَالِمًا فِيهِمْ، وَإِنْ
مَظْلُومَا
وَمِثْلُ ذَلِكَ الصّلَاةُ، أَصْلُهَا: انْحِنَاءٌ وَانْعِطَافٌ مِنْ
الصّلَوَيْنِ وَهُمَا: عِرْقَانِ فِي الظّهْرِ إلَى الْفَخِذَيْنِ، ثُمّ
قَالُوا: صَلّى عَلَيْهِ، أَيْ: انْحَنَى عَلَيْهِ، ثُمّ سَمّوْا
الرّحْمَةَ حُنُوّا وَصَلَاةً، إذَا أَرَادُوا الْمُبَالَغَةَ فِيهَا،
فَقَوْلُك: صَلّى اللهُ عَلَى مُحَمّدٍ، هُوَ أَرَقّ وَأَبْلَغُ مِنْ
قَوْلِك: رَحِمَ اللهُ مُحَمّدًا فِي الْحُنُوّ والعطف «1» . والصلاة أصلها
__________
(1) ذكر القاموس للصلا هذه التعريفات: وسط الظهر منا، ومن كل ذى أربع، أو
ما انحدر من الوركين، أو الفرجة بين الجاعرة «الدبر» والذنب، أو ما عن يمين
الذنب وشماله، وهما صلوان. ويقول المبرد: أصل الصلاة: الرحمة. والمشهور عند
كثير من المتأخرين أن صلاة الله على الرسول وعلينا هى رحمته، وهو رأى ضعيف،
لأن الله يقول عن عباده الصابرين: (أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ
رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ، وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ) البقرة: 157 فعطف
الرحمة على الصلوات يقتضى المغايرة بينهما. كما أن صلاة الله سبحانه خاصة-
(3/49)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الْمَحْسُوسَاتِ عُبّرَ بِهَا عَنْ هَذَا الْمَعْنَى مُبَالَغَةً
وَتَأْكِيدًا كَمَا قَالَ الشّاعِرُ:
فَمَا زِلْت فِي لِينِي [لَهُ] وَتَعَطّفِي ... عَلَيْهِ، كَمَا تَحْنُو
عَلَى الْوَلَدِ الْأُمّ
وَمِنْهُ قِيلَ: صَلّيْت عَلَى الْمَيّتِ أَيْ: دَعَوْت لَهُ دُعَاءَ مَنْ
يَحْنُو عَلَيْهِ وَيَتَعَطّفُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ لَا تَكُونُ الصّلَاةُ
بِمَعْنَى الدّعَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ: لَا تَقُولُ: صَلّيْت عَلَى
الْعَدُوّ، أَيْ: دَعَوْت عَلَيْهِ. إنّمَا يُقَالُ: صَلّيْت عَلَيْهِ فِي
مَعْنَى الْحُنُوّ وَالرّحْمَةِ وَالْعَطْفِ؛ لِأَنّهَا فِي الْأَصْلِ
انْعِطَافٌ، وَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ عُدّيَتْ فِي اللّفْظِ بِعَلَى،
فَتَقُولُ: صَلّيْت عَلَيْهِ، أَيْ: حَنَوْت عَلَيْهِ، وَلَا تَقُولُ فِي
الدّعَاءِ إلّا: دَعَوْت لَهُ، فَتُعَدّي الْفِعْلَ بِاللّامِ، إلّا أَنْ
تُرِيدَ الشّرّ وَالدّعَاءَ عَلَى الْعَدُوّ، فَهَذَا فَرْقُ مَا بَيْنَ
الصّلَاةِ وَالدّعَاءِ، وَأَهْلُ اللّغَةِ لَمْ يُفَرّقُوا، وَلَكِنْ
قَالُوا: الصّلَاةُ بِمَعْنَى الدّعَاءِ إطْلَاقًا، وَلَمْ يُفَرّقُوا
بَيْنَ حَالٍ وَحَالٍ، وَلَا ذكروا التعدى باللام، ولا بعلى، ولابد مِنْ
تَقْيِيدِ الْعِبَارَةِ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْحَدَبُ
أَيْضًا مُسْتَعْمَلًا فِي مَعْنَى الْمُخَالَفَةِ إذَا قرن بالقعس كقول
الشاعر:
__________
- بالأنبياء والرسل والمؤمنين، أما رحمته فقد وسعت كل شى. ولو أننا تتبعنا
آيات القرآن لوجدنا أن المواضع التى تذكر فيها الرحمة لا يحسن فيها وضع
الصلاة مكانها، ولهذا يقول ابن القيم عن معنى صلاتنا نحن على الرسول «ص»
إنها «الطلب من الله ما أخبر به عن صلاته. وصلاة ملائكته. وهى ثناء عليه
وإظهار لفضله وشرفه وإرادة تكريمه وتقريبه فهى تتضمن الخبر والطلب. وإرادة
من الله أن يعلى ذكره ويزيده تعظيما وتشريفا» ص 99 جلاء الأفهام، وقد ذكر
البخارى فى صحيحه أن صلاة الله على نبيه هى ثناؤه عليه عند الملائكة
(3/50)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَإِنْ حَدِبُوا، فَاقْعَسْ، وَإِنْ هُمْ تَقَاعَسُوا ... لِيَنْتَزِعُوا
مَا خَلْفَ ظَهْرِك فَاحْدَبْ «1»
وَكَقَوْلِ الْآخَرِ:
وَلَنْ يهنه «2» قَوْمًا أَنْتَ خَائِفُهُمْ ... كَمِثْلِ وَقْمِك جُهّالًا
بِجُهّالِ
فَاقْعَسْ إذَا حَدِبُوا، وَاحْدَبْ إذَا قَعِسُوا ... وَوَازِنِ الشّرّ
مِثْقَالًا بِمِثْقَالِ
أَنْشَدَهُ الْجَاحِظُ فِي كِتَابِ الْحَيَوَانِ لَهُ.
أَبُو الْبَخْتَرِيّ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَجِيءَ النّفَرِ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَبِي طَالِبٍ فِي
أَمْرِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ
أَنْسَابَهُمْ، وَذَكَرَ فِيهِمْ أَبَا الْبَخْتَرِيّ بْنَ هِشَامٍ، قَالَ:
وَاسْمُهُ:
الْعَاصِي بْنُ هِشَامٍ، وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: هُوَ الْعَاصِي بْنُ
هَاشِمٍ، وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ إسْحَاقَ هُوَ قَوْلُ ابْنِ الْكَلْبِيّ،
وَاَلّذِي قَالَهُ ابْنُ هِشَامٍ هُوَ قَوْل الزّبَيْرِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ
وَقَوْلُ مُصْعَبٍ «3» وَهَكَذَا وَجَدْت فِي حاشية كتاب الشيخ أبى بحر:
سفيان ابن العاصى.
__________
(1) القعس بفتح القاف والعين، ضد الحدب: دخول الظهر وخروج الصدر، والماضى:
قعس كفرح- والبيت من قصيدة منسوبة إلى أبى الأسود الدؤلى، وهو فى الحيوان
هكذا: فإن حدبوا فاقعس.. ليستمسكوا مما وراءك فاحدب ص 174 ج 5 الحيوان
للجاحظ ط ساسى
(2) نهنه فلانا عن الشىء: زجره وكفه عنه، ووقم الرجل يقمه وقما، أكرهه
وأذله وقهره وقسره، ووقمه عنه: رده أقبح الرد.
(3) هو كما قال فى كتاب المصعب نسب قريش ص 209 وكذلك فى جمهرة ابن حزم ص
108
(3/51)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَاَللهِ لَوْ وَضَعُوا الشّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي شِمَالِي
عَلَى أَنْ أَدَعَ هَذَا الّذِي جِئْت بِهِ مَا تَرَكْته، أَوْ كَمَا قَالَ
«1» . خَصّ الشّمْسَ بِالْيَمِينِ؛ لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمُبْصِرَةُ،
وَخَصّ الْقَمَرَ بِالشّمَالِ لِأَنّهَا الْآيَةُ الْمَمْحُوّةُ، وَقَدْ
قَالَ عُمَرُ- رَحِمَهُ اللهُ- لِرَجُلِ، قَالَ لَهُ: إنّي رَأَيْت فِي
الْمَنَامِ كَأَنّ الشّمْسَ وَالْقَمَرَ يَقْتَتِلَانِ، وَمَعَ كُلّ
وَاحِدٍ مِنْهُمَا نُجُومٌ، فَقَالَ عُمَرُ: مَعَ أَيّهِمَا كُنْت؟
فَقَالَ: مَعَ الْقَمَرِ، قَالَ: كُنْت مَعَ الْآيَةِ الْمَمْحُوّةِ،
اذْهَبْ، فَلَا تَعْمَلْ لِي عَمَلًا، وَكَانَ عَامِلًا لَهُ، فَعَزَلَهُ،
فَقُتِلَ الرّجُلُ فِي صِفّينَ مَعَ مُعَاوِيَةَ، وَاسْمُهُ:
حَابِسُ بْنُ سَعْدٍ، وَخَصّ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- النّيّرَيْنِ حِينَ ضَرَبَ الْمَثَلَ بِهِمَا؛ لِأَنّ
نُورَهُمَا مَحْسُوسٌ، وَالنّورُ الّذِي جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ-
وَهُوَ الّذِي أَرَادُوهُ عَلَى تَرْكِهِ- هُوَ لَا مَحَالَةَ أَشْرَفُ
مِنْ النّورِ الْمَخْلُوقِ، قال الله سبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا
نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ
نُورَهُ التّوْبَةِ: 33. فَاقْتَضَتْ بَلَاغَةُ النّبُوّةِ- لِمَا
أَرَادُوهُ عَلَى تَرْكِ النّورِ الْأَعْلَى- أَنْ يُقَابِلَهُ بِالنّورِ
الْأَدْنَى، وَأَنْ يَخُصّ أَعْلَى النّيّرَيْنِ، وَهِيَ الْآيَةُ
الْمُبْصِرَةُ بِأَشْرَفِ الْيَدَيْنِ، وَهِيَ الْيُمْنَى بَلَاغَةٌ لَا
مِثْلُهَا، وَحِكْمَةٌ لَا يَجْهَلُ اللّبِيبُ فَضْلَهَا.
الْبَدَاءُ:
وَقَوْلُ ابْنِ إسْحَاقَ: ظَنّ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنْ قَدْ بَدَا لِعَمّهِ بَدَاءٌ، أَيْ: ظَهَرَ لَهُ رَأْيٌ،
فَسَمّى الرّأْيَ بَدَاءً، لِأَنّهُ شَيْءٌ يَبْدُو بَعْدَ مَا خفى،
والمصدر
__________
(1) لم يروه أحد من أصحاب الصحاح.
(3/52)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْبَدْءُ «1» وَالْبَدْوُ، وَالِاسْمُ: الْبَدَاءُ، وَلَا يُقَالُ فِي
الْمَصْدَرِ: بَدَا لَهُ بُدُوّ، كَمَا لَا يُقَالُ:
ظَهَرَ لَهُ ظُهُورٌ بِالرّفْعِ؛ لِأَنّ الّذِي يَظْهَرُ، وَيَبْدُو
هَاهُنَا هُوَ الِاسْمُ: نَحْوَ الْبَدَاءِ وَأَنْشَدَ أَبُو عَلِيّ:
لَعَلّك وَالْمَوْعُودُ حَق وَفَاؤُهُ ... بَدَا لَك فِي تِلْكَ الْقُلُوصِ
بَدَاءُ «2»
وَمِنْ أَجْلِ أَنّ الْبُدُوّ هُوَ الظّهُورُ، كَانَ الْبَدَاءُ «3» فِي
وَصْفِ الْبَارِي- سُبْحَانَهُ- مُحَالًا؛ لِأَنّهُ لَا يَبْدُو لَهُ
شَيْءٌ كَانَ غَائِبًا عَنْهُ، وَالنّسْخُ لِلْحُكْمِ لَيْسَ بِبَدَاءِ
كَمَا تَوَهّمَتْ الْجَهَلَةُ مِنْ الرّافِضَةِ وَالْيَهُودِ، إنّمَا هُوَ
تَبْدِيلُ حُكْمٍ بِحُكْمِ بِقَدَرِ قَدّرَهُ، وَعِلْمٍ عَلِمَهُ، وَقَدْ
يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: بَدَا لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، وَيَكُونُ
مَعْنَاهُ:
أَرَادَ. وَهَذَا مِنْ الْمَجَازِ الّذِي لَا سَبِيلَ إلَى إطْلَاقِهِ إلّا
بِإِذْنِ مِنْ صَاحِبِ الشّرْعِ، وَقَدْ صَحّ فِي ذَلِكَ مَا خَرّجَهُ
الْبُخَارِيّ فى حديث الثلاثة: الأعمى والأقرع
__________
(1) ليس لما قيل من قبل عن وضع الشمس والقمر سند صحيح، فكيف يقيم عليه كل
هذا؟!
(2) القلوص من الإبل: الشابة، والبيت من أبيات ذكرها أبو على القالى فى
أماليه ص 71 ج 2 ط 2 غير منسوبة إلى أحد، وهى قول رجل وعد رجلا قلوصا
فأخلفه. ونقل البكرى فى السمط ص 705 عن أبى عمرو الشيبانى أنها لرجل من
مزينة، وذكر الأستاذ الميمنى فى تحقيقه للسمط أنها لمحمد بن بشير الخارجى
كما ورد فى الأغانى
(3) الشيعة هم القائلون بالبداء، وله معان- كما يقول الشهرستانى- (البداء
فى العلم، وهو أن يظهر له صواب على خلاف ما أراد وحكم، والبداء فى الأمر
وهو أن يأمر بشىء ثم يأمر بعده بخلاف ذلك) وهذا محال على الله سبحانه أن
يرى شيئا، ثم يظهر له أن الأمر بخلاف ما رأى، فالله بكل شىء عليم.
(3/53)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالْأَبْرَصِ، وَأَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ قَالَ: بَدَا لِلّهِ أن
يبتليهم، فَبَدَا هُنَا بِمَعْنَى: أَرَادَ، وَذَكَرْنَا الرّافِضَةَ،
لِأَنّ ابْنَ أَعْيَنَ، وَمَنْ اتّبَعَهُ مِنْهُمْ، يُجِيزُونَ الْبَدَاءَ
عَلَى اللهِ تَعَالَى، وَيَجْعَلُونَهُ وَالنّسْخَ شَيْئًا وَاحِدًا،
وَالْيَهُودُ لَا تُجِيزُ النّسْخَ يَحْسَبُونَهُ بَدَاءً، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَجَازَ الْبَدَاءَ كَالرّافِضَةِ، وَيُرْوَى أَنّ عَلِيّا- رَحِمَهُ
اللهُ- صَلّى يَوْمًا، ثُمّ ضَحِكَ فَسُئِلَ عَنْ ضَحِكِهِ فَقَالَ:
تَذَكّرْت أَبَا طَالِبٍ حِينَ فُرِضَتْ الصّلَاةُ، وَرَآنِي أُصَلّي مَعَ
رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِنَخْلَةَ»
فَقَالَ: مَا هَذَا الْفِعْلُ الّذِي أَرَى، فَلَمّا أَخْبَرْنَاهُ، قَالَ:
هذا حَسَنٌ، وَلَكِنْ لَا أَفْعَلُهُ أَبَدًا، لَا أُحِبّ أَنْ تَعْلُوَنِي
اسْتِي فَتَذَكّرْت الْآنَ قَوْلَهُ، فَضَحِكْت.
عرصه قُرَيْشٍ عَلَى أَبِي طَالِبٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ الْمَلَأِ مِنْ قُرَيْشٍ لِأَبِي طَالِبٍ: هَذَا
عُمَارَةُ بن الوليد أنهدفتى فِي قُرَيْشٍ، وَأَجْمَلُهُ، فَخُذْهُ مَكَانَ
ابْنِ أَخِيك. أَنْهَدُ. أَيْ: أَقْوَى وَأَجْلَدُ، وَيُقَالُ: فَرَسٌ
نَهْدٌ لِلّذِي يَتَقَدّمُ الْخَيْلَ، وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ:
التّقَدّمُ، وَمِنْهُ يُقَالُ: نَهَدَ ثَدْيُ الْجَارِيَةِ، أَيْ: بَرَزَ
قُدُمًا. وَعُمَارَةُ بْنُ الْوَلِيدِ هَذَا الْمَذْكُورُ هُوَ:
الّذِي أَرْسَلَتْهُ قُرَيْشٌ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إلَى أَرْضِ
الْحَبَشَةِ فَسُحِرَ هُنَاكَ، وَجُنّ، وَسَنَزِيدُ فِي خَبَرِهِ شَيْئًا
بَعْدَ هَذَا إنْ شَاءَ الله.
__________
(1) نخلة: أما كن متعددة منها: نخلة محمود، وهو موضع بالحجاز قريب من مكه
فيه نخيل وكروم، ونخلة الشامية، وهى ذات عرق وأعلى نخلة ذات عرق، وهى لبنى
سعد الذين أرضعوا النبى صلّى الله عليه وسلم، ونخلة اليمانية واد يصب فيه
يدعان به مسجد النبى.
(3/54)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرُوا أَنّ أَبَا طَالِبٍ قَالَ لَهُمْ حِينَ سَأَلُوهُ أَنْ يَأْخُذَ
عُمَارَةَ بَدَلًا مِنْ مُحَمّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَرَأَيْتُمْ نَاقَةً تَحِنّ إلَى غَيْرِ فَصِيلِهَا وَتَرْأَمُهُ «1» لَا
أُعْطِيكُمْ ابْنِي تقتلونه أبدا، وآحذ ابْنَكُمْ أَكْفُلُهُ، وَأَغْذُوهُ،
وَهُوَ مَعْنَى مَا ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فَحَقِبَ
الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ، يُرِيدُ: اشْتَدّ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِك:
حَقِبَ الْبَعِيرُ إذَا رَاغَ عَنْهُ الْحَقَبُ مِنْ شِدّةِ الْجَهْدِ
وَالنّصَبِ، وَإِذَا عَسُرَ عَلَيْهِ الْبَوْلُ أَيْضًا لِشَدّ الْحَقَبِ
«2» عَلَى ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، فَيُقَالُ مِنْهُ: حَقِبَ الْبَعِيرُ، ثُمّ
يُسْتَعْمَلُ فِي الْأَمْرِ إذَا عَسُرَ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: فَشَرِيَ
الْأَمْرُ عِنْدَ ذَلِكَ، أَيْ: انْتَشَرَ الشّرّ، وَمِنْهُ الشّرَى،
وَهِيَ قُرُوحٌ تَنْتَشِرُ عَلَى «3» الْبَدَنِ، يُقَالُ مِنْهُ: شَرِيَ
جلد الرجل، يشرى شرى.
__________
(1) رتم الجرح بكسر الهمزة انضم والتأم، رتمت الأنثى ولدها رأما ورأمانا
ورئمانا أحبته وعطفت عليه. وينسب إلى أبى طالب أنه قال للنبى هذا الشعر:
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ... حتى أوسد فى التراب دفينا
فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ... وابشر بذاك وقر منه عيونا
ودعوتنى وزعمت أنك ناصحى ... ولقد صدقت، وكنت ثم أمينا
وعرضت دينا لا محالة أنه ... من خير أديان البرية دينا
لولا الملامة، أو حذار مسبة ... لوجدتنى سمحا بذاك مبينا
انظر المواهب ص 248.
(2) الحزام يلى حقو البعير، أو حبل يشد به الرحل فى بطنه
(3) عرفها القاموس بقوله: بثور صغار حمر حكاكة مكربة تحدث دفعة غالبا.
وتشتد ليلا،
(3/55)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شِعْرُ أَبِي طَالِبٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ شِعْرَ أَبِي طَالِبٍ:
أَلَا قُلْ لِعَمْرِو وَالْوَلِيدِ. إلَى آخِرِ الشّعْرِ
وَفِيهِ:
أَلَا لَيْتَ حَظّي مِنْ حِيَاطَتِكُمْ «1» بَكْرُ
أَيْ: إنّ بَكْرًا مِنْ الْإِبِلِ أَنْفَعُ لِي مِنْكُمْ، فَلَيْتَهُ لِي
بَدَلًا مِنْ حِيَاطَتِكُمْ كَمَا قَالَ طَرَفَةُ فِي عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ:
فَلَيْتَ لَنَا مَكَانَ الْمَلْكِ عَمْرٍو ... رَغُوثًا «2» حَوْلَ
قُبّتِنَا تَخُورُ
وَقَوْلُهُ: مِنْ الْخُورِ حَبْحَابٌ. الْخُورُ «3» الضّعَافُ،
وَالْحَبْحَابُ بِالْحَاءِ:
الصّغِيرُ. وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ أَبِي بَحْرٍ: جِبْجَابٌ «4»
بِالْجِيمِ، وَفَسّرَهُ فَقَالَ: هُوَ الْكَثِيرُ الْهَدْرِ، وَفِي
الشّعْرِ:
إذَا مَا عَلَا الْفَيْفَاءَ قِيلَ لَهُ: وَبْرُ
أَيْ يُشَبّهُ بِالْوَبْرِ لِصِغَرِهِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ:
يَصْغُرُ فِي الْعَيْنِ لِعُلُوّ الْمَكَانِ وَبُعْدِهِ، وَالْفَيْفَاءُ
فَعْلَاءُ، وَلَوْلَا قَوْلُهُمْ: الْفَيْفُ، لَكَانَ حَمْلُهُ عَلَى
بَابِ.
__________
(1) فى رواية «حفاظتكم، والحفاظ الغضب ص 82 الخشنى
(2) الرغوث هى كل مرضعة وفى الأصل: ليت
(3) جمع أخور
(4) وتروى بالخاء. الضعيف
(3/56)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
القضقاص وَالْجَرْجَارِ أَوْلَى «1» ، وَلَكِنْ سُمِعَ الْفَيْفُ، فَعُلِمَ
أَنّ الْأَلِفَيْنِ زَائِدَتَانِ «2» ، وَأَنّهُ مِنْ بَابِ قَلِقَ
وَسَلِسَ الّذِي ضُوعِفَتْ فِيهِ فَاءُ الْفِعْلِ دُونَ عَيْنِهِ، وَهِيَ
أَلْفَاظٌ يَسِيرَةٌ نَحْوَ قَلِقَ وَسَلِسَ وَثُلُثٌ وَسُدُسٌ «3» ،
وَقَدْ اعْتَنَيْنَا بِجَمْعِهَا مِنْ الْكَلَامِ، وَلَعَلّ لَهَا
مَوْضِعًا تُذْكَرُ فِيهِ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ إنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى،
وَلَا تَكُونُ أَلِفُ فَيْفَاءَ لِلْإِلْحَاقِ فَيُصْرَفُ؛ لِأَنّهُ لَيْسَ
فِي الْكَلَامِ: فَعْلَالٌ، فَإِنْ قِيلَ: يَكُونُ مُلْحَقًا بِقَضْقَاضٍ
وَبَابِهِ، قُلْنَا: قَضْقَاضٌ ثُنَائِيّ مُضَاعَفٌ، فَلَا يُلْحَقُ بِهِ
الثّلَاثِيّ، كَمَا لَا يُلْحَقُ الرّبَاعِيّ بِالثّلَاثِيّ، وَلَا الأكثر
بالأقل «4» ، وقد حكى
__________
(1) القضقاص: أشنان الشام، أو شجر من الحمض، والأسد، ويضمّ وليس فعلال- يضم
الفاء- سواه، والجرجار كالقرقار: نبت، ومن الإبل: الكثير الصوت.
(2) فى اللسان «بالفيف استدل سيبويه على أن ألف فيفاة زائدة» وفيه عن
المبرد: «ألف فيفاة زائدة لأنهم يقولون: فيف» وفى شرح الشافية للرضى
«والألف فى الفيفاة زائدة لقولهم: فيف بمعناه وكذلك الزبزاء والصيصاء إذ
ليس فى الكلام فعلال «بكسر الفاء وسكون العين إلا مصدرا كزلزال» ص 372 ج 2
مطبعة حجازى والزبزاء بالفتح والكسر ما غلظ من الأرض، والصيصاء: الحشف من
التمر، أو حب الحنظل ليس فى جوفه لب.
(3) إذا ضبط ثلث وسدس على أنها فعلان كانا بفتح الفاء والعين، ومن الأسماء
مما هو كذلك: دعد وتوت وطوط «الحبة وغير ذلك»
(4) معنى الإلحاق فى الاسم والفعل أن تزيد حرفا أو حرفين على تركيب زيادة
غير مطردة فى إفادة معنى: ليصير ذلك التركيب بتلك الزيادة مثل كلمة أخرى فى
عدد الحروف وحركاتها المعينة والسكنات، كل واحد فى مثل مكانه فى الملحق
بها، وفى تصاريفها: من الماضى والمضارع والأمر والمصدر واسم الفاعل واسم
المفعول إن كان الملحقة به فعلا رباعيا، ومن التصغير والتكسير إن كان-
(3/57)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَيْفَاةٌ بِالْقَصْرِ وَلَيْسَتْ أَلِفُهَا لِلتّأْنِيثِ، إذْ لَا
يُجْمَعُ بَيْنَ عَلَامَتَيْ تَأْنِيثٍ، فَهِيَ إذًا مِنْ بَابِ أَرْطَاةَ
وَنَحْوِهَا «1» ، كَأَنّهَا مُلْحَقَةٌ بِسَلْهَبَةَ «2» . وَفِي
الشّعْرِ:
كَمَا جَرْجَمَتْ مِنْ رَأْسِ ذِي عَلَقَ صَخْرُ. وَتُرِكَ صَرْفُ عَلَقَ،
إمّا لِأَنّهُ جَعَلَهُ اسْمَ بُقْعَةٍ، وَإِمّا لِأَنّهُ اسْمُ عَلَمٍ،
وَتَرْكُ صَرْفِ الِاسْمِ الْعَلَمِ سَائِغٌ فِي الشّعْرِ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مُؤَنّثًا وَلَا عَجَمِيّا نَحْوَ قَوْلِ عَبّاسِ بْنِ مِرْدَاسٍ:
وَمَا كَانَ حِصْنٌ وَلَا حَابِسٌ ... يَفُوقَانِ مِرْدَاسَ فِي
الْمَجْمَعِ
وَنَحْوَ قَوْلِ الْآخَرِ:
يَا مَنْ جَفَانِي وَمَلّا ... نَسِيت أَهْلًا وسهلا
ومات مرحب لما ... رأيت مالى قلّا
__________
- الملحق به اسما رباعيا لا خماسيا، وفائدة الإلحاق أنه ربما يحتاج فى تلك
الكلمة إلى مثل ذلك التركيب فى شعر أو سجع ص 52 ج 1 شرح شافية ابن الحاجب
لرضى الدين الاستراباذى. م حجازى، وانظر ص 13 المنصف شرح ابن جنى لكتاب
التصريف لأبى عثمان المازنى.
(1) شجرة ثمرها مر تأكلها الإبل، وألفها للالحاق، فتنون نكرة لا معرفة أو
ألفها أصلية، فتنون دائما، أو ووزنها أفعل وموضعها المعتل «القاموس» وفى
اللسان مادة رطا: «الأرطى شجر من شجر الرمل، وهو أفعل من وجه، وفعلى من
وجه، لأنهم يقولون: أديم مأروط إذا دبغ بورقه، ويقولون: أديم مرطى،
والواحدة: أرطاة، ولحوق تاء التأنيث فيه يدل على أن الألف فيه ليست
للتأنيث، وإنما هى للالحاق، أو بنى الاسم عليها
(2) السلهبة: الجسمية من النساء
(3/58)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَمْ يَصْرِفْ مَرْحَبَا، وَسَيَأْتِي فِي هَذَا الْكِتَابِ شَوَاهِدُ
كَثِيرَةٌ عَلَى هَذَا، وَنَشْرَحُ الْعِلّةَ فِيهِ إنْ شَاءَ اللهُ
تَعَالَى «1» ، وَلَوْ رُوِيَ: مِنْ رأس ذى علق الصخر
__________
(1) يقول ابن مالك فى الألفية:
ولاضطرار أو تناسب صرف ... ذو المنع والمصروف قد لا ينصرف
ويقول الأشمونى فى شرحه لها إن الكوفيين أجازوا منع المصروف من الصرف
للضرورة، وأباه سائر البصريين، والصحيح: الجواز، واختاره الناظم- يعنى ابن
مالك لثبوت سماعه، وقد فصل بعض المتأخرين بين ما فيه علية، فأجاز منعه
لوجود إحدى العلتين، وبين ما ليس كذلك، فصرفه ويؤيده أن ذلك لم يسمع إلا فى
العلم، وأجاز قوم منهم: ثعلب، وأحمد بن يحيى منع صرف المنصرف اختيارا ص 224
ج 3 ط الأزهرية. وقد ذكر ابن هشام أن من البصريين من أجاز ذلك، وهما الأخفش
والفارسى وأن من الكوفيين من منع ذلك وهو أبو موسى الحامض من شيوخ الكوفيين
وقد حكى الفخر الرازى عن أكثر الكوفيين والأخفش أن السبب الواحد يمنع من
الصرف، ولم يفرق بين العلمية وغيرها انظر ص 228 ج 2 من كتاب شرح التصريح
على التوضيح ط التجارية، وقد رد الدنوشرى المذهب الذى حكاه الفخر؛ لأن
الأصل فى الأسماء أن تكون منصرفة. المصدر السابق الحاشية بهامشه للعليمى
الحمصى. ومن الأبيات التى ورد فيها منع المصروف:
طلب الأزارق بالكتائب إذ هوت ... بشبيب غائلة النفوس غدور
فمنع صرف شبيب وهو علم مصروف وهو شبيب بن يزيد رأس الخوارج الأزارقة، وفاعل
طلب ضمير يعود على سفيان نائب الحجاج ومثله:
وقائله ما بال دوسر بعدنا ... صحا قلبه عن آل ليلى وعن هند
من معانى قصيدة أبى طالب. حبحاب: من معانيها: قصير، أو الجمل الضئيل. وتروى
بالخاء أيضا: الضعيف. هما أغمزا للقوم: أى سبيلهم الطعن فيهم تجرجم: سقط
وانحدر. ذو علق: جبل فى ديار بنى أسد. والصفر: الخالى من الانية وغيره. إلا
أن يرس له ذكر: أن يذكر ذكرا خفيا. من نسلنا-
(3/59)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِحَذْفِ التّنْوِينِ لِالْتِقَاءِ السّاكِنِينَ، لَكَانَ حَسَنًا، كَمَا
قرىء: قُلْ: هُوَ اللهُ أَحَدٌ، اللهُ الصّمَدُ» بِحَذْفِ التنوين من أحد،
وهى رواية عن أَبِي عَمْرِو بْنِ الْعَلَاءِ، وَقَالَ الشّاعِرُ:
حُمَيْدُ الّذِي أَمُجّ دَارَهُ
وَقَالَ آخَرُ:
وَلَا ذَاكِرُ اللهِ إلّا قَلِيلَا
وَأَنْشَدَ قَوْلَ أَبِي طَالِبٍ:
إذَا اجْتَمَعَتْ يَوْمًا قُرَيْشٌ لِمَفْخَرِ ... فَعَبْدُ مَنَافٍ
سِرّهَا وَصَمِيمُهَا
قَوْلُهُ: سِرّهَا أَيْ: وَسَطُهَا، وَسِرّ الْوَادِي وَسَرَارَتُهُ:
وَسَطُهُ، وَقَدْ تَقَدّمَ مَتَى يَكُونُ الْوَسَطُ مَدْحًا، وَأَنّ ذَلِكَ
فِي مَوْضِعَيْنِ: فِي وَصْفِ الشّهُودِ، وَفِي النّسَبِ، وَبَيّنّا السّرّ
فِي ذَلِكَ.
وَقَالَ فِي الْقَصِيدَةِ: وَنَضْرِبُ عَنْ أَحْجَارِهَا مَنْ يَرُومُهَا.
أَيْ نَدْفَعُ عَنْ حُصُونِهَا وَمَعَاقِلِهَا، وَإِنْ كَانَتْ
الرّوَايَةُ: أَجْحَارُهَا بِتَقْدِيمِ الْجِيمِ، فَهُوَ جَمْعُ جُحْرٍ
وَالْجُحْرُ هُنَا مُسْتَعَارٌ، وَإِنّمَا يُرِيدُ عن بيوتها ومساكنها «1»
.
__________
- شفر: أى: أحد، يقال: ما بالدار أحد، وما بها شفر، وما بها كتيع، وما بها
عريب، وما بها ذبيح؛ وما بها نافخ صرمه كلها بمعنى واحد. أى ما بها أحد.
(1) من معانى القصيدة غث: يعنى ليس له نسبة هنالك. وأصل الغث: اللحم
الضعيف. طاشت حلومها: ذهبت عقولها. انتعش العود الذواء: حي وظهرت فيه
الخضرة، وأصل نعش: رفع. والعود الذواء الذى جفت رطوبته. الأكناف: النواحى.
وأرومها: جمع أرومه: الأصل. انظر ص 83، وما بعدها لأبى ذر الخشنى فى شرح
السيرة
(3/60)
|