الروض
الأنف ت الوكيل [ذكر الإسراء
والمعراج]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنَا زياد بن عبد الله البكائي عن محمد بْنِ
إسْحَاقَ الْمُطّلِبِيّ قَالَ: ثُمّ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ
الْأَقْصَى، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ مِنْ إيلِيَاء، وَقَدْ فَشَا
الْإِسْلَامُ بِمَكّةَ فِي قُرَيْشٍ، وَفِي الْقَبَائِلِ كُلّهَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَانَ مِنْ الْحَدِيثِ فِيمَا بَلَغَنِي عَنْ
مَسْرَاهُ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مَسْعُودٍ، وَأَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ، وَعَائِشَةَ زَوْجِ النّبِيّ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَمُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ،
وَالْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ الْبَصْرِيّ، وَابْنِ شِهَابٍ
الزّهْرِيّ، وَقَتَادَةَ وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَأُمّ
هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ، مَا اجْتَمَعَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، كُلّ
يُحَدّثُ عَنْهُ بَعْضَ مَا ذُكِرَ مِنْ أَمْرِهِ حِينَ أُسْرِيَ بِهِ-
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَكَانَ فِي مَسْرَاهُ، وَمَا ذُكِرَ
عَنْهُ بَلَاءٌ وَتَمْحِيصٌ، وَأَمْرٌ من أمر الله فِي قُدْرَتِهِ
وَسُلْطَانِهِ، فِيهِ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/395)
وَهُدًى وَرَحْمَةٌ وَثَبَاتٌ لِمَنْ آمَنَ
وَصَدّقَ، وَكَانَ مِنْ أَمْرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَلَى
يَقِينٍ، فأسرى به كَيْفَ شَاءَ، لِيُرِيَهُ مِنْ آيَاتِهِ مَا أَرَادَ،
حَتّى عَايَنَ مَا عَايَنَ مِنْ أَمْرِهِ وَسُلْطَانِهِ الْعَظِيمِ،
وَقُدْرَتِهِ الّتِي يَصْنَعُ بِهَا مَا يُرِيدُ.
[راوية ابن مسعود]
فَكَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ- فِيمَا بَلَغَنِي- عَنْهُ- يَقُولُ:
أُتِيَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْبُرَاقِ- وَهِيَ
الدّابّةُ الّتِي كَانَتْ تُحْمَلُ عَلَيْهَا الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَهُ،
تَضَعُ حَافِرَهَا فِي مُنْتَهَى طَرْفِهَا- فَحُمِلَ عَلَيْهَا، ثُمّ
خَرَجَ بِهِ صَاحِبُهُ، يَرَى الْآيَاتِ فِيمَا بَيْنَ السّمَاءِ
وَالْأَرْضِ، حَتّى انْتَهَى إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ
إبْرَاهِيمَ الْخَلِيلَ وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ
قَدْ جُمِعُوا لَهُ، فَصَلّى بِهِمْ. ثُمّ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيَةٍ،
إنَاءٌ فِيهِ لَبَنٌ، وَإِنَاءٌ فِيهِ خَمْرٌ، وَإِنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ
قَالَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَسَمِعْتُ قَائِلًا يَقُولُ حِينَ عُرِضَتْ عَلَيّ: إنْ أَخَذَ الْمَاءَ،
غَرِقَ وَغَرِقَتْ أُمّتُهُ، وَإِنْ أَخَذَ الْخَمْرَ غَوَى، وَغَوَتْ
أُمّتُهُ، وَإِنْ أَخَذَ اللّبَنَ هُدِيَ، وَهُدِيَتْ أُمّتُهُ. قَالَ:
فَأَخَذْت إنَاءَ اللّبَنِ، فَشَرِبْت مِنْهُ، فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السّلَامُ: هُدِيت وهديت أمتك يا محمد.
[حديث الحسن]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحُدّثْت عَنْ الْحَسَنِ أَنّهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ
فِي الْحِجْرِ، إذْ جَاءَنِي جِبْرِيلُ، فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْت
فَلَمْ أَرَ شَيْئًا، فَعُدْت إلَى مَضْجَعِي، فَجَاءَنِي الثّانِيَةَ
فَهَمَزَنِي بقدمه،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/396)
فجلست فلم أر شيئا، فعدت إلى مضجعي،
فَجَاءَنِي الثّالِثَةَ فَهَمَزَنِي بِقَدَمِهِ، فَجَلَسْتُ، فَأَخَذَ
بِعَضُدِي، فقمت معه فخرج إلَى بَابِ الْمَسْجِدِ، فَإِذَا دَابّةٌ
أَبْيَضُ، بَيْنَ الْبَغْلِ- وَالْحِمَارِ- فِي فَخِذَيْهِ جَنَاحَانِ
يَحْفِزُ بِهِمَا رِجْلَيْهِ، يَضَعُ يَدَهُ فِي مُنْتَهَى طَرْفِهِ،
فَحَمَلَنِي عليه، ثم خرج معى لا يفوتى ولا أفوته.
[حديث قتادة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ، وَحُدّثْت عَنْ قَتَادَةَ أَنّهُ قَالَ: حُدّثْت
أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ: لَمّا دَنَوْتُ
مِنْهُ؛ لِأَرْكَبَهُ شَمَسَ، فَوَضَعَ جِبْرِيلُ يَدَهُ عَلَى
مَعْرَفَتِهِ، ثُمّ قَالَ: أَلَا تَسْتَحِي يَا بُرَاقُ مِمّا تَصْنَعُ، فو
الله مَا رَكِبَك عَبْدٌ لِلّهِ قَبْلَ مُحَمّدٍ أَكْرَمُ على الله مِنْهُ.
قَالَ: فَاسْتَحْيَا حَتّى ارْفَضّ عَرَقًا، ثُمّ قرّ حتى ركبته.
[من حديث الحسن]
قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ: فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَمَضَى جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ مَعَهُ، حَتّى
انْتَهَى بِهِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَوَجَدَ فِيهِ إبْرَاهِيمَ
وَمُوسَى وَعِيسَى فِي نَفَرٍ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ فَأَمّهُمْ رَسُولُ
اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فَصَلّى بِهِمْ، ثُمّ أُتِيَ
بِإِنَاءَيْنِ، فِي أَحَدِهِمَا: خَمْرٌ، وَفِي الْآخَرِ: لَبَنٌ. قَالَ:
فَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إنَاءَ
اللّبَنِ، فَشَرِبَ مِنْهُ، وَتَرَكَ إنَاءَ الْخَمْرِ.
قَالَ: فَقَالَ: لَهُ جِبْرِيلُ: هُدِيت لِلْفِطْرَةِ، وَهُدِيَتْ أُمّتُك
يَا مُحَمّدُ، وَحُرّمَتْ عَلَيْكُمْ الْخَمْرُ، ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ
اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى مَكّةَ، فَلَمّا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/397)
أَصْبَحَ غَدَا عَلَى قُرَيْشٍ،
فَأَخْبَرَهُمْ الْخَبَرَ. فَقَالَ أَكْثَرُ النّاسِ: هَذَا وَاَللهِ
الْإِمْرُ الْبَيّنُ، وَاَللهِ إنّ الْعِيرَ لَتُطْرَدُ شَهْرًا مِنْ
مَكّةَ إلَى الشّامِ مُدْبِرَةً، وَشَهْرًا مُقْبِلَةً، أَفَيَذْهَبُ
ذَلِكَ مُحَمّدٌ فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَرْجِعُ إلَى مَكّةَ! قَالَ:
فَارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ كَانَ أَسْلَمَ، وَذَهَبَ النّاسُ إلى أبى بكر،
فَقَالُوا لَهُ: هَلْ لَك يَا أَبَا بَكْرٍ فِي صَاحِبِك، يَزْعُمُ أَنّهُ
قَدْ جَاءَ هَذِهِ اللّيْلَةَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَصَلّى فِيهِ، وَرَجَعَ
إلَى مَكّةَ. قَالَ: فَقَالَ لَهُمْ أَبُو بَكْرٍ: إنّكُمْ تَكْذِبُونَ
عَلَيْهِ، فَقَالُوا: بَلَى، هَا هُوَ ذَاكَ فِي الْمَسْجِدِ يُحَدّثُ بِهِ
النّاسَ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: وَاَللهِ لَئِنْ كَانَ قَالَهُ لَقَدْ
صَدَقَ، فما يعجبكم من ذلك؟! فو الله إنه ليخبرنى أنّ الخبر ليأتيه مِنْ
السّمَاءِ إلَى الْأَرْضِ فِي سَاعَةٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ
فَأُصَدّقُهُ، فَهَذَا أَبْعَدُ مِمّا تَعْجَبُونَ مِنْهُ، ثُمّ أَقْبَلَ
حَتّى انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
فقال: يَا نَبِيّ اللهِ. أَحَدّثْتَ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ أَنّك أتيت
الْمَقْدِسِ هَذِهِ اللّيْلَةَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا نَبِيّ اللهِ،
فَصِفْهُ لِي، فَإِنّي قَدْ جِئْته- قَالَ الْحَسَنُ: فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَرُفِعَ لِي حَتّى نَظَرْتُ إلَيْهِ- فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَصِفُهُ لِأَبِي بَكْرٍ: وَيَقُول أَبُو
بَكْرٍ: صَدَقْتَ، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ اللهِ، كَلَمّا وَصَفَ لَهُ
مِنْهُ شَيْئًا، قَالَ: صَدَقْتَ، أَشْهَدُ أَنّك رَسُولُ الله، حتى
انْتَهَى، قَالَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لِأَبِي بَكْرٍ: وَأَنْتَ يَا أَبَا بَكْرٍ الصّدّيقُ، فَيَوْمَئِذٍ
سَمّاهُ الصّدّيقَ.
قَالَ الْحَسَنُ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيمَنْ ارْتَدّ عَنْ
إسْلَامِهِ لِذَلِكَ: (وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ
إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ، وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ،
وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً» الإسراء: 60.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/398)
فَهَذَا حَدِيثُ الْحَسَنِ عَنْ مَسْرَى
رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ. وَمَا دَخَلَ فِيهِ من حديث
قتادة.
[الإسراء رؤيا]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ آلِ أَبِي بَكْرٍ: أَنّ
عَائِشَةَ زَوْجَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ كَانَتْ
تَقُولُ: مَا فُقِدَ جَسَدُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَلَكِنْ الله أسرى بروحه.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَعْقُوبَ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ الْأَخْنَسِ: أَنّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ،
كَانَ إذَا سُئِلَ عَنْ مَسْرَى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال: كانت
رؤيا من الله تعالى صادقة.
فَلَمْ يُنْكَرْ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِمَا، لِقَوْلِ الْحَسَنِ: إنّ هَذِهِ
الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي ذَلِكَ، قَوْلُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (وَما
جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)
الإسراء:
60. وَلِقَوْلِ اللهِ تَعَالَى فِي الْخَبَرِ عَنْ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السّلَامُ إذْ قَالَ لِابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ
أَنِّي أَذْبَحُكَ) الصافات: 102. ثُمّ مَضَى عَلَى ذَلِكَ.
فَعَرَفْتُ أَنّ الْوَحْيَ مِنْ اللهِ يَأْتِي الْأَنْبِيَاءَ أَيْقَاظًا
وَنِيَامًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- يَقُولُ: تَنَامُ عَيْنَايَ، وَقَلْبِي
يَقْظَانُ. وَاَللهُ أَعْلَمُ أَيّ ذَلِكَ كَانَ قَدْ جَاءَهُ، وَعَايَنَ
فِيهِ مَا عَايَنَ، مِنْ أَمْرِ اللهِ، عَلَى أَيّ حَالَيْهِ كَانَ:
نَائِمًا، أو يقظان، كلّ ذلك حقّ وصدق.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/399)
[الصفات التى
وصف بها النبى بعض الرسل]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَزَعَمَ الزّهْرِيّ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ
أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- وَصَفَ لِأَصْحَابِهِ
إبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى حِينَ رَآهُمْ فِي تِلْكَ اللّيْلَةِ،
فَقَالَ: أَمّا إبراهيم، فلم أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ، وَلَا
صَاحِبُكُمْ أَشَبَهَ بِهِ مِنْهُ، وَأَمّا مُوسَى فَرَجُلٌ آدَمُ طَوِيلٌ
ضَرْبٌ جَعْدٌ أَقْنَى كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ، وَأَمّا عِيسَى
بْنُ مَرْيَمَ، فَرَجُلٌ أَحْمَرُ، بَيْنَ الْقَصِيرِ وَالطّوِيلِ، سَبْطُ
الشّعَرِ، كَثِيرُ خِيلَانِ الْوَجْهِ، كَأَنّهُ خَرَجَ مِنْ دِيمَاسٍ،
تَخَالُ رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً، وَلَيْسَ بِهِ مَاءٌ، أَشْبَهُ
رِجَالِكُمْ بِهِ عروة بن مسعود الثقفى
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ وَكَانَتْ صِفَةُ رَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- فِيمَا- ذَكَرَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ عَنْ إبْرَاهِيمَ بْنِ
مُحَمّدِ بْنِ عَلِيّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، قَالَ: كَانَ عَلِيّ بْنُ أَبِي
طَالِبٍ عَلَيْهِ السّلَامُ، إذَا نَعَتَ رسول الله- صلى الله عليه وسلم
قال-:
لَمْ يَكُنْ بِالطّوِيلِ الْمُمّغِطِ، وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدّدِ.
وَكَانَ رَبْعَةً مِنْ الْقَوْمِ، وَلَمْ يَكُنْ بِالْجَعْدِ الْقَطَطِ
وَلَا السّبِطِ، كَانَ جَعْدًا رَجِلًا، وَلَمْ يَكُنْ بِالْمُطَهّمِ وَلَا
الْمُكَلْثَمِ وَكَانَ أَبْيَضَ مُشْرَبًا، أدعج العينين، أهدب الأشفار،
جليل المشاش الكتد، دقيق المسربة أجرد، شئن الكفّين والقدمين، إذا مثى
تَقَلّعَ، كَأَنّمَا يَمْشِي فِي صَبَبٍ، وَإِذَا الْتَفَتَ الْتَفَتَ
مَعًا، بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النّبُوّةِ، وَهُوَ صلى الله وَسَلّمَ
خَاتَمُ النّبِيّينَ، أَجْوَدُ النّاسِ كَفّا، وَأَجْرَأُ النّاسِ صَدْرًا،
وَأَصْدَقُ النّاسِ لَهْجَةً، وَأَوْفَى النّاسِ ذِمّةً، وَأَلْيَنُهُمْ
عَرِيكَةً، وَأَكْرَمُهُمْ عِشْرَةً،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/400)
مَنْ رَآهُ بَدِيهَةً هَابَهُ، وَمَنْ
خَالَطَهُ أَحَبّهُ، يَقُولُ نَاعِتُهُ: لَمْ أَرَ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ
مثله، صلى الله عليه وسلم
[حديث أم هانئ عن الإسراء]
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ- فِيمَا بَلَغَنِي- عَنْ أُمّ
هَانِئِ بِنْتِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- وَاسْمُهَا: هِنْدٌ-
فِي مَسْرَى رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، أَنّهَا كَانَتْ
تَقُولُ: مَا أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إلا وهو فى بيتى، نائم عِنْدِي تِلْكَ اللّيْلَةَ فِي بَيْتِي،
فَصَلّى الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ، ثُمّ نَامَ وَنِمْنَا، فَلَمّا كَانَ
قُبَيْلَ الْفَجْرِ أَهَبّنَا رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- فَلَمّا صَلّى الصّبْحَ، وَصَلّيْنَا مَعَهُ، قَالَ: يَا أُمّ
هَانِئٍ، لَقَدْ صَلّيْتُ مَعَكُمْ الْعِشَاءَ الْآخِرَةَ كَمَا رَأَيْتِ
بِهَذَا الْوَادِي، ثُمّ جِئْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ فَصَلّيْت فِيهِ، ثُمّ
قَدْ صَلّيْت صَلَاةَ الْغَدَاةِ مَعَكُمْ الْآنَ كَمَا تَرَيْنَ، ثُمّ قال
لِيَخْرُجَ، فَأَخَذْتُ بِطَرَفِ رِدَائِهِ، فَتَكَشّفَ عَنْ بَطْنِهِ
كَأَنّهُ قُبْطِيّةٌ مَطْوِيّةٌ، فَقُلْت لَهُ: يَا نَبِيّ اللهِ، لَا
تُحَدّثْ بِهَذَا النّاسَ، فَيُكَذّبُوك وَيُؤْذُوك، قَالَ: وَاَللهِ
لأحدثنهموه. قَالَتْ: فَقُلْت لِجَارِيَةِ لِي حَبَشِيّةٍ: وَيْحَك
اتْبَعِي رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- حَتّى تَسْمَعِي
مَا يَقُولُ لِلنّاسِ، وَمَا يَقُولُونَ لَهُ.
فَلَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلَى
النّاسِ أَخْبَرَهُمْ، فَعَجِبُوا وَقَالُوا:
مَا آيَةُ ذَلِكَ يَا مُحَمّدُ؟ فَإِنّا لَمْ نَسْمَعْ بِمِثْلِ هَذَا
قَطّ، قَالَ: آيَةُ ذَلِكَ أَنّي مَرَرْت بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ بِوَادِي
كَذَا وَكَذَا، فَأَنْفَرَهُمْ حِسّ الدّابّةِ، فَنَدّ لَهُمْ بَعِيرٌ،
فَدَلَلْتُهُمْ عَلَيْهِ، وَأَنَا مُوَجّهٌ إلَى الشّامِ. ثُمّ أَقْبَلْتُ
حَتّى إذَا كُنْتُ بِضَجَنَانَ مَرَرْتُ بِعِيرِ بَنِي فُلَانٍ، فَوَجَدْتُ
الْقَوْمَ نِيَامًا، وَلَهُمْ إنَاءٌ فِيهِ مَاءٌ قَدْ غَطّوْا عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/401)
بشىء فكشفت غطاءه وشربت ما فيه، ثم غطيت
عليه كما كان، وآية ذلك أن عيرهم الان تصوب مِنْ الْبَيْضَاءِ، ثَنِيّةِ
التّنْعِيمِ يَقْدُمُهَا جَمَلٌ أَوْرَقُ، عَلَيْهِ غِرَارَتَانِ،
إحْدَاهُمَا سَوْدَاءُ، وَالْأُخْرَى بَرْقَاءُ. قَالَتْ: فَابْتَدَرَ
الْقَوْمُ الثّنِيّةَ، فَلَمْ يَلْقَهُمْ أَوّلُ مِنْ الْجَمَلِ كَمَا
وَصَفَ لَهُمْ، وَسَأَلُوهُمْ عَنْ الْإِنَاءِ، فأخبروهم أنهم وضعوه مملوآ
مَاءً ثُمّ غَطّوْهُ، وَأَنّهُمْ هَبّوا فَوَجَدُوهُ مُغَطّى كَمَا
غَطّوْهُ، وَلَمْ يَجِدُوا فِيهِ مَاءً. وَسَأَلُوا الْآخَرِينَ وَهُمْ
بِمَكّةَ، فَقَالُوا: صَدَقَ وَاَللهِ، لَقَدْ أنفرنا فى الوادى الذى ذكره،
وندّلنا بَعِيرٌ، فَسَمِعْنَا صَوْتَ رَجُلٍ يَدْعُونَا إلَيْهِ، حَتّى
أخذناه.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الأبتر والكوثر:
فصل: وذكر قول العاصى بْنِ وَائِلٍ: إنّ مُحَمّدًا أَبْتَرُ إذَا مَاتَ
انْقَطَعَ ذِكْرُهُ، وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ قَوْلَهُ مِنْ
سُورَةِ الْكَوْثَرِ عَلَى قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ، وَأَكْثَرُ
الْمُفَسّرِينَ. وَقِيلَ: إنّ أَبَا جَهْلٍ هُوَ الذى قال ذلك. وقد قيل:
كعب ابن الْأَشْرَفِ، وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْأَخِيرِ أَنْ
تَكُونَ سُورَةُ الْكَوْثَرِ مَدَنِيّةً، وَقَدْ رَوَى يُونُسُ عَنْ أَبِي
عَبْدِ اللهِ الْجُعْفِيّ عَنْ جَابِرٍ الْجُعْفِيّ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ
عَلِيّ، قَالَ: كَانَ الْقَاسِمُ ابْنُ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ بَلَغَ أَنْ يَرْكَبَ الدّابّةَ، وَيَسِيرَ عَلَى
النّجِيبَةِ، فَلَمّا قَبَضَهُ اللهُ، قَالَ الْعَاصِي: أَصْبَحَ مُحَمّدٌ
أَبْتَرُ مِنْ ابْنِهِ، فَأَنْزَلَ اللهُ عَلَى نَبِيّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» عوضا يَا مُحَمّدُ
مِنْ مُصِيبَتِك بِالْقَاسِمِ: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ إِنَّ
شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ» وَلَمْ يَقُلْ: إنّ شَانِئَك أَبْتَرُ «1»
يَتَضَمّنُ اخْتِصَاصَهُ بِهَذَا الْوَصْفِ، لِأَنّ هُوَ فِي مِثْلِ هَذَا
__________
(1) فى الكلام نقص لعله: «فقوله: هو الأبتر» .
(3/402)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمَوْضِعِ تُعْطِي الِاخْتِصَاصَ، مِثْلَ أَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إنّ
زَيْدًا فَاسِقٌ، فَلَا يَكُونُ مَخْصُوصًا بِهَذَا الْوَصْفِ دُونَ
غَيْرِهِ، فَإِذَا قُلْت: إنّ زَيْدًا هُوَ الْفَاسِقُ، فَمَعْنَاهُ:
هُوَ الْفَاسِقُ الّذِي زَعَمَتْ «1» ، فَدَلّ عَلَى أَنّ بِالْحَضْرَةِ
مَنْ يَزْعُمُ غَيْرَ ذَلِكَ، وَهَكَذَا قَالَ الْجُرْجَانِيّ وَغَيْرُهُ
فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنّ هُوَ تُعْطِي الِاخْتِصَاصَ،
وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: (وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى
وَأَقْنى) لَمّا كَانَ الْعِبَادُ «2» يُتَوَهّمُونَ أَنّ غَيْرَ اللهِ
قَدْ يُغْنِي، قَالَ: هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى، أَيْ: لَا غَيْرُهُ،
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا» إذْ
كَانُوا قَدْ يَتَوَهّمُونَ فِي الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ ما توهمه
النّمْرُودُ حِينَ قَالَ: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ، أَيْ: أَنَا أَقْتُلُ
مَنْ شِئْت، وَأَسْتَحْيِي مَنْ شِئْت، فَقَالَ عَزّ وَجَلّ: وَأَنّهُ هُوَ
أَمَاتَ وَأَحْيَا أَيْ: لَا غَيْرُهُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى:
(وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) «3» أَيْ: هُوَ الرّبّ لَا غَيْرُهُ، إذْ
كَانُوا قَدْ اتّخَذُوا أَرْبَابًا مِنْ دُونِهِ، مِنْهَا: الشّعْرَى،
فَلَمّا قَالَ: وَإِنّهُ خَلَقَ الزّوْجَيْنِ، وَأَنّهُ أَهْلَكَ عَادًا
اسْتَغْنَى الْكَلَامُ عَنْ هُوَ الّتِي تُعْطِي معنى الاختصاص، لأنه فصل
لَمْ يَدَعْهُ أَحَدٌ، وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا، فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: إِنَّ
شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ أَيْ: لَا أَنْتَ. وَالْأَبْتَرُ: الّذِي لَا
عَقِبَ لَهُ يَتْبَعُهُ، فعدمه كالبتر الذى هو عدم
__________
(1) فى الأصل: التى.
(2) التعبير الدقيق: بعض العبيد.
(3) هذه الايات من سورة النجم وترتيبها: (وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا.
وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى مِنْ نُطْفَةٍ إِذا
تُمْنى، وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى. وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى
وَأَقْنى، وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى) النجم 44- 49. وأقنى: أعطى
المال المتخذ قنية. والشعرى: كوكب خلف الجوزاء أشد ضياء من الغميصا وفى
القاموس: الشعرى: العبور، والشعرى: الغميصاء أختا سهيل.
(3/403)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الذّنْبِ، فَإِذَا مَا قُلْت هَذَا، وَنَظَرْت إلَى الْعَاصِي، وَكَانَ ذَا
وَلَدٍ وَعَقِبٍ، وَوَلَدُهُ عَمْرٌو وَهِشَامٌ ابْنَا الْعَاصِي بْنِ
وَائِلٍ، فَكَيْفَ يَثْبُتُ لَهُ الْبَتْرُ، وَانْقِطَاعُ الْوَلَدِ،
وَهُوَ ذُو وَلَدٍ وَنَسْلٍ، وَنَفْيُهُ عَنْ نَبِيّهِ، وَهُوَ يَقُولُ:
«مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ» الْأَحْزَابُ الْآيَة:
40. فَالْجَوَابُ: أَنّ الْعَاصِيَ- وَإِنْ كَانَ ذَا وَلَدٍ- فَقَدْ
انْقَطَعَتْ الْعِصْمَةُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ، فَلَيْسُوا بِأَتْبَاعِ
لَهُ، لِأَنّ الْإِسْلَامَ قَدْ حَجَزَهُمْ عَنْهُ، فَلَا يَرِثُهُمْ وَلَا
يَرِثُونَهُ، وَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ مُحَمّدٍ عَلَيْهِ السّلَامُ،
وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ، وَهُوَ أَبٌ لهم. كما قرأ: أبىّ ابن كَعْبٍ:
«وَأَزْوَاجُهُ أُمّهَاتُهُمْ، وَهُوَ أَبٌ لَهُمْ «1» ، وَالنّبِيّ
أَوْلَى بِهِمْ» كَمَا قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ، فَهُمْ وَجَمِيعُ
الْمُؤْمِنِينَ أَتْبَاعُ النّبِيّ فِي الدّنْيَا، وَأَتْبَاعُهُ فِي
الْآخِرَةِ إلَى حَوْضِهِ، وَهَذَا مَعْنَى الْكَوْثَرِ، وَهُوَ مَوْجُودٌ
فِي الدّنْيَا لِكَثْرَةِ أَتْبَاعِهِ فِيهَا، ليغذى
__________
(1) لا يتصور مسلم أن قوله: «وهو أب لهم» آية من القرآن، لأنها ليست فى
المصحف. وما ليس فى المصحف فلا يعده مسلم قرآنا أبا كان راويه. والحديث
الذى رواه البخارى حول الاية: ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به فى الدنيا
والاخرة. اقرؤا إن شئتم: (النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ
أَنْفُسِهِمْ) فأبما مؤمن ترك ما لا فليرثه عصبته من كانوا، وإن ترك دينا
أو ضياعا فليأتنى، فأنا مولاه، ولم ترد تلك القراءة عن طريق صحيح، والعجيب
أن تسند هذه القراءة إلى أبى بن كعب وابن عباس، وأنها تروى عن معاوية
ومجاهد وعكرمة والحسن!! تدبر هذه الأسماء المحشودة وراء «وهو أب لهم» والله
يَقُولُ: (مَا كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) ففى القراءة
مخالفة صريحة للاية المحكمة، ثم هى توحى كغيرها من القراآت المفتراة بأن
المصحف الذى بأيدينا ينقص بعض آيات أنزلها الله على محمد صلى الله عليه
وسلم. ومحاولة التأويل، أو الدفاع عن هذه القراآت محاولة يكيد بها الشيطان،
ويمكر ضد القرآن، ومساندة لرواة مجهولين دسوا، وكتب يحاول بعض الناس أن
يرفعوها فوق القرآن.
(3/404)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرْوَاحَهُمْ بِمَا فِيهِ حَيَاتُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ، وَكَثْرَةِ
أَتْبَاعِهِ فِي الْآخِرَةِ لِيَسْقِيَهُمْ مِنْ حَوْضِهِ مَا فِيهِ
الْحَيَاةُ الْبَاقِيَةُ، وَعَدُوّ اللهِ الْعَاصِي عَلَى هَذَا هُوَ
الْأَبْتَرُ عَلَى الْحَقِيقَةِ، إذْ قَدْ انْقَطَعَ ذَنَبُهُ
وَأَتْبَاعُهُ، وَصَارُوا تَبَعًا لِمُحَمّدِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَلِذَلِكَ قُوبِلَ تَعْيِيرُهُ لِلنّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْبَتْرِ بِمَا هُوَ ضِدّهُ مِنْ الْكَوْثَرِ؛
فَإِنّ الْكَثْرَةَ تُضَادّ مَعْنَى الْقِلّةِ، وَلَوْ قَالَ فِي جَوَابِ
اللّعِينِ: إنّا أَعْطَيْنَاك الْحَوْضَ الّذِي مِنْ صِفَتِهِ كَذَا
وَكَذَا لَمْ يَكُنْ رَدّا عَلَيْهِ، وَلَا مُشَاكِلًا لِجَوَابِهِ،
وَلَكِنْ جَاءَ بِاسْمِ يَتَضَمّنُ الْخَيْرَ الْكَثِيرَ؛ وَالْعَدَدَ
الْجَمّ الْغَفِيرَ الْمُضَادّ لِمَعْنَى الْبَتْرِ، وَأَنّ ذَلِكَ فِي
الدّنْيَا وَالْآخِرَةِ بِسَبَبِ الْحَوْضِ الْمَوْرُودِ الّذِي أَعْطَاهُ،
فَلَا يَخْتَصّ لَفْظُ الْكَوْثَرِ بِالْحَوْضِ، بَلْ يَجْمَعُ هَذَا
الْمَعْنَى كُلّهُ، وَيَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وَلِذَلِكَ كَانَتْ آنِيَتُهُ
كَعَدَدِ النّجُومِ «1» ، وَيُقَال: هَذِهِ الصّفَةُ فِي الدّنْيَا:
عُلَمَاءُ الْأُمّةِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَمِنْ بَعْدِهِمْ، فَقَدْ قَالَ:
أَصْحَابِي كَالنّجُومِ «2» ، وَهُمْ يَرْوُونَ العلم عنه، ويؤدونه
__________
(1) فى حديث متفق عليه: «حوضى مسيرة شهر، وزواياه سواء، ماؤه أبيض من
اللبن، وريحه أطيب من المسك، وكيزانه كنجوم السماء من يشرب منها فلا يظمأ
أبدا» . كما وردت مسألة الكيزان هذه فى روايتين عند مسلم، إحداهما عن أبى
هريرة، والأخرى عن أنس. ولكن لنذكر مع هذا حديثا آخر: «قال رسول الله «ص» :
«إنى فرطكم على الحوض، من مر على شرب، ومن شرب لم يظمأ أبدا، ليردن على
أقوام أعرفهم، ويعرفوننى، ثم يحال بينى وبينهم، فأقول إنهم منى، فيقال: إنك
لا تدرى ما أحدثوا بعدك، فأقول: سحقا سحقا لمن غير بعدى» متفق عليه.
(2) فى حديث رواه رزين: «أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم» وقد قال
عنه المحدث الفاضل الشيخ محمد ناصر الألبانى: «حديث باطل، وإسناده واه جدا»
. ص 219 ج 3 مشكاة المصابيح.
(3/405)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلى من بعدهم، كما تروى الْآنِيّةُ فِي الْحَوْضِ، وَتَسْقِي الْوَارِدَةُ
عَلَيْهِ: تَقُولُ:
رَوَيْت الْمَاءَ، أَيْ: اسْتَقَيْته كَمَا تَقُولُ: رَوَيْت الْعِلْمَ،
وَكِلَاهُمَا فِيهِ حَيَاةٌ، وَمِنْهُ قِيلَ لِمَنْ رَوَى عِلْمًا أَوْ
شِعْرًا: رَاوِيَةً تَشْبِيهًا بِالْمَزَادَةِ أَوْ الدّابّةِ الّتِي
يُحْمَلُ عَلَيْهَا الْمَاءُ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ عَلّامَةٍ وَنَسّابَةٍ،
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ فِي صِفَةِ الْحَوْضِ أَنّهَا تَنْزُو فِي
أَكُفّ الْمُؤْمِنِينَ، يَعْنِي الْآنِيّةَ، وَحَصْبَاءُ الْحَوْضِ:
اللّؤْلُؤُ وَالْيَاقُوتِ «1» ، وَيُقَابِلُهُمَا فِي الدّنْيَا الْحِكَمُ
الْمَأْثُورَةُ عَنْهُ، أَلّا تَرَى أَنّ اللّؤْلُؤَ فِي عِلْمِ
التّعْبِيرِ حِكَمٌ وَفَوَائِدُ عِلْمٍ، وَفِي صِفَةِ الْحَوْضِ لَهُ
الْمِسْكُ، أَيْ: حَمْأَتُهُ «2» وَيُقَابِلُهُ فِي الدّنْيَا: طِيبُ
الثّنَاءِ عَلَى الْعُلَمَاءِ، وَأَتْبَاعِ النّبِيّ الْأَتْقِيَاءِ، كَمَا
أَنّ الْمِسْكَ، فِي: عِلْمِ التّعْبِيرِ ثَنَاءٌ حَسَنٌ، وَعِلْمٌ
التّعْبِيرِ مِنْ عِلْمِ النّبُوءَةِ مُقْتَبَسٌ. وَذَكَرَ فِي صِفَةِ
الْحَوْضِ الطّيْرَ الّتِي تَرُدّهُ كَأَعْنَاقِ الْبُخْتِ «3» ،
وَيُقَابِلُهُ مِنْ صِفَةِ الْعِلْمِ فِي الدّنْيَا وُرُودُ الطّالِبِينَ
مِنْ كُلّ صُقْعٍ «4» وَقُطْرٍ عَلَى حَضْرَةِ الْعِلْمِ وَانْتِيَابِهِمْ
إيّاهَا فِي زَمَنِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَبَعْدَهُ، فَتَأَمّلْ صِفَةَ الْكَوْثَرِ مَعْقُولَةٌ فِي الدّنْيَا،
مَحْسُوسَةٌ فِي الْآخِرَةِ مدركة
__________
(1) فى حديث رواه النسائى: حصباؤه اللؤلؤ والياقوت
(2) كذا بالأصل، والحمأة: الطين الأسود، وفى حديث رواه البخارى عن الكوثر:
«فإذا طينه مسك أذفر» . وفى حديث رواه أحمد: «فضربت بيدى فى ترابه، فإذا
مسك أذفر» ، وفى حديث آخر: «وضرب بيده إلى أرضه، فأخرج من طينه المسك» .
(3) البخت: نوع من الإبل طويلة الأعناق، وقد ذكرت فى حديث رواه الترمذى،
وصححه الحاكم، وفيه: أو أعناق الجزر، جمع جزور: البعير.
(4) ناحية.
(3/406)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِالْعِيَانِ- هُنَالِكَ يُبَيّنُ لَك إعْجَازَ التّنْزِيلِ وَمُطَابَقَةَ
السّورَةِ- لِسَبَبِ- نُزُولِهَا، وَلِذَلِكَ قَالَ فُضَيْل: (فَصَلِّ
لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أَيْ: تَوَاضَعْ لِمَنْ أَعْطَاك الْكَوْثَرَ
بِالصّلَاةِ لَهُ، فَإِنّ الْكَثْرَةَ فِي الدّنْيَا تَقْتَضِي فِي
أَكْثَرِ الْخَلْقِ الْكِبْرَ: وَتَحْدُو إلَى الْفَخْرِ والمحيرية،
فَلِذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ السّلَامُ طَأْطَأَ رَأْسَهُ عَام الْفَتْحِ
حِينَ رَأَى كَثْرَةَ أَتْبَاعِهِ، وَهُوَ عَلَى الرّاحِلَةِ حَتّى
أَلْصَقَ عُثْنُونَهُ «1» بِالرّحْلِ امْتِثَالًا لِأَمْرِ رَبّهِ،
وَكَذَلِكَ أَمَرَهُ بِالنّحْرِ شُكْرًا لَهُ، وَرَفَعَ الْيَدَيْنِ إلَى
النّحْرِ «2» فِي الصّلَاةِ عِنْدَ اسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ الّتِي
عِنْدَهَا يَنْحَرُ، وَإِلَيْهَا يَهْدِي مَعْنَاهُ: الْجَمْعُ بَيْنَ
الْفِعْلَيْنِ. النّحْرُ الْمَأْمُورُ بِهِ يَوْمَ الْأَضْحَى،
وَالْإِشَارَةُ إلَيْهِ فِي الصّلَاةِ بِرَفْعِ الْيَدَيْنِ إلَى النّحْرِ،
كَمَا أَنّ الْقِبْلَةَ مَحْجُوجَةٌ مُصَلّى إلَيْهَا، فَكَذَلِكَ يَنْحَرُ
عِنْدَهَا، وَيُشَارُ إلَى النّحْرِ عِنْدَ اسْتِقْبَالِهَا، وَإِلَى هَذَا
الْتَفَتَ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ قَالَ: مَنْ صَلّى صَلَاتَنَا،
وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَنَسَكَ نُسُكَنَا فَهُوَ مُسْلِمٌ، وَقَدْ
قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: «قُلْ: إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ
وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَبِذلِكَ
أُمِرْتُ، وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ] الْأَنْعَامُ 162، 163 فَقَرَنَ
بَيْنَ الصّلَاةِ إلَى الْكَعْبَةِ، وَالنّسُكِ إلَيْهَا، كَمَا قَرَنَ
بَيْنَهُمَا حِينَ قَالَ: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ» وَذَكَرَ فِي
صِفَةِ الْحَوْضِ: كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ وَأَيْلَةَ «3» وَقَدْ جَاءَ
فِيهِ أَيْضًا فِي الصّحِيحِ «كما بين جرباء وأذرح «4» » وبينهما
__________
(1) العثنون: ما نبت على الذق وتحته سفلا.
(2) النحر: أعلى المصدر.
(3) من حديث رواه الطبرانى وابن حبان. وأيلة: مدينة على ساحل بحر القلزم
مما يلى الشام. وأيلة: موضع برضوى.
(4) جرباء- وفى الأصل: حرباء موضع من أعمال عمان بالبلقاء من أرض الشام.
وهما واردتان فى حديث متفق عليه. وجرباء تقصر وتمد، والقصر أولى.
(3/407)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَسَافَةٌ بَعِيدَةٌ، وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا فِي صِفَتِهِ: كَمَا بَيْنَ
عَدَنِ أَبْيَنَ إلَى عَمّانَ، وَقَدْ تَقَدّمَ ذِكْرُ أَبْيَنَ، وَأَنّهُ
ابْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَيْمَنَ بْنِ حِمْيَرَ، وَأَنّ عَدَنَ سُمّيَتْ
بِرَجُلِ مِنْ حَمِيرَ عَدَنَ بِهَا، أَيْ: أَقَامَ، وَتَقَدّمَ أَيْضًا
مَا قَالَهُ الطّبَرِيّ أَنّ عَدَنَ وَأَبْيَنَ هُمَا ابْنَا عَدْنَانَ
أَخَوَا مَعَدّ، وَأَمّا عَمّانَ بِتَشْدِيدِ الْمِيمِ وَفَتْحِ الْعَيْنِ،
فَهِيَ بِالشّامِ قُرْبُ دِمَشْقَ، سُمّيَتْ بِعَمّانَ بْنِ لُوطِ بْنِ
هَارَانَ، كَانَ سَكَنَهَا- فِيمَا ذَكَرُوا- وَأَمّا عُمَانُ بِضَمّ
الْعَيْنِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ، فَهُوَ بِالْيَمَنِ سُمّيَتْ بِعُمَانَ
بْنِ سِنَانٍ، وَهُوَ مِنْ وَلَدِ إبْرَاهِيمَ- فِيمَا ذَكَرُوا- وَفِيهِ
نَظَرٌ؛ إذْ لَا يُعْرَفُ فِي وَلَدِ إبْرَاهِيمَ لِصُلْبِهِ مِنْ اسْمِهِ
سِنَانٍ. وَفِي صِفَةِ الْحَوْضِ أَيْضًا كَمَا بَيْنَ الْكُوفَةِ
وَمَكّةَ، وَكَمَا بَيْنَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَالْكَعْبَةِ، وَهَذِهِ
كُلّهَا رِوَايَاتٌ مُتَقَارِبَةُ الْمَعَانِي، وَإِنْ كَانَتْ
الْمَسَافَاتُ بَعْضُهَا أَبْعَدُ مِنْ بَعْضٍ، فَكَذَلِكَ الْحَوْضُ
أَيْضًا لَهُ طُولٌ وَعَرْضٌ وَزَوَايَا وَأَرْكَانٌ، فَيَكُونُ اخْتِلَافُ
هَذِهِ الْمَسَافَاتِ الّتِي فِي الْحَدِيث عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ جَعَلَنَا
اللهُ مِنْ الْوَارِدِينَ عَلَيْهِ، وَلَا أَظْمَأَ أَكْبَادَنَا فِي
الْآخِرَةِ إلَيْهِ. وَمِمّا جَاءَ فِي مَعْنَى الْكَوْثَرِ مَا رَوَاهُ
ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ عَائِشَةَ- قَالَتْ: الْكَوْثَرُ نَهْرٌ فِي
الْجَنّةِ، لَا يَدْخُلُ أَحَدٌ إصْبَعَيْهِ فِي أُذُنَيْهِ إلّا سَمِعَ
خَرِيرَ ذَلِكَ النّهَرِ، وَقَعَ هَذَا الْحَدِيثُ فى السيرة من رواية
يونس، وراوه الدّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ مَالِكِ بْنِ مِغْوَلٍ عَنْ
الشّعْبِيّ عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رسول الله- صلى
الله عليه وسلم: «إن اللهَ أَعْطَانِي نَهَرًا يُقَالُ لَهُ الْكَوْثَرُ
لَا يَشَاءُ أَحَدٌ مِنْ أُمّتِي أَنْ يَسْمَعَ خَرِيرَ ذَلِكَ الْكَوْثَرِ
إلّا سَمِعَهُ، فَقُلْت: يَا رَسُولَ اللهِ وَكَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ:
أَدْخِلِي أُصْبُعَيْك فِي أُذُنَيْك وَشِدّي، فَاَلّذِي تَسْمَعِينَ
فِيهِمَا مِنْ خَرِيرِ الكوثر «1» » وروى
__________
(1) حديث ابن أبى نجيح منقطع، وحديث الدار قطنى مرفوع.
(3/408)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الدّارَقُطْنِيّ مِنْ طَرِيقِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ أَنّ رَسُولَ
اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم- قَالَ لِعَلِيّ: «وَاَلّذِي نَفْسِي
بِيَدِهِ إنّك لَذَائِدٌ عَنْ حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ تَذُودُ عَنْهُ
كُفّارَ الْأُمَمِ، كَمَا تُذَادُ الْإِبِلُ الضّالّةُ عَنْ الْمَاءِ
بعصامن عَوْسَجٍ «1» » إلّا أَنّ هَذَا الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ حَرَامُ بْن
عُثْمَانَ عَنْ ابْنَيْ جَابِرٍ، وَقَدْ سُئِلَ مَالِكٌ عَنْهُ، فَقَالَ:
لَيْسَ بِثِقَةِ، وَأَغْلَظَ فِيهِ الشّافِعِيّ الْقَوْلَ، وَأَمّا
قَوْلُهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ: وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي، فَقَدْ قِيلَ
فِي مَعْنَاهُ أَقْوَالٌ، وَيُفَسّرُهُ عِنْدِي الْحَدِيثُ الْآخَرُ،
وَهُوَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ، وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ: «إنّي
لَأَنْظُرُ إلَى حَوْضِي الْآنَ «2» مِنْ مَقَامِي هَذَا» فَتَأَمّلْهُ.
اسْتِشْهَادُ ابْنِ هِشَامٍ عَلَى مَعْنَى الْكَوْثَرِ:
وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي الِاسْتِشْهَادِ عَلَى مَعْنَى الْكَوْثَرِ
قَوْلَ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ:
وَصَاحِبُ مَلْحُوبٍ فُجِعْنَا بِيَوْمِهِ ... وَعِنْدَ الرّدَاعِ بَيْتُ
آخِرِ كَوْثَرِ
وَبِالْفَوْرَةِ الْحَرّابِ ذُو الْفَضْلِ عَامِرٌ ... فَنِعْمَ ضِيَاءُ
الطّارِقِ الْمُتَنَوّر «3»
يَعْنِي عَامِرَ بْنَ مَالِكٍ مُلَاعِبَ الْأَسِنَةِ، وَهُوَ عَمّ لَبِيدٍ،
وَسَنَذْكُرُ: لِمَ سُمّيَ مُلَاعِبَ الْأَسِنَةِ إذَا جَاءَ ذِكْرُهُ إنْ
شَاءَ اللهُ تَعَالَى. وصاحب ملحوب: عوف
__________
(1) شجر من شجر الشوك له ثمر مدور، كأنه خرز العقيق «المعجم الوسيط»
(2) عجيب من السهيلى أن يعتد بمثل هذه الداهيات التى أنف أصحاب الصحيح من
ذكرها!!
(3) بيت الكميت الذى فى السيرة فى الاشتقاق واللسان، وفيه: الخلائف مكان:
العقائل.
(3/409)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن الْأَحْوَصِ، وَقَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ هِشَامٍ. وَاَلّذِي عِنْدَ
الرّدَاعِ: شُرَيْح بْنُ الْأَحْوَصِ فِي قَوْله، وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ
حِبّانُ بْنُ عُتْبَةَ بْنِ مَالِكِ بن جعفر بن كلاب.
والرّادع: مِنْ أَرْضِ الْيَمَامَةِ. وَمَلْحُوبٌ: مَفْعُولٌ مِنْ لَحَبْت
الْعُودَ، إذَا قَشّرْته، فَكَأَنّ هَذَا الْمَوْضِعَ سُمّيَ مَلْحُوبًا،
لِأَنّهُ لَا أَكَمٌ فِيهِ وَلَا شَجَرٌ.
ذَكَرَ حَدِيثَ الْمُسْتَهْزِئِينَ:
وَذَكَرَ حَدِيثَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَمَا أَنَزَلَ اللهُ فِيهِمْ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
«وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ» الاية الأنبياء: 41.
فقال فيها: استهزىء بِرُسُلِ ثُمّ قَالَ: فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا
مِنْهُمْ، ولم يقل:
استهزؤا، ثُمّ قَالَ: مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ وَلَمْ يقل:
يسخرون. ولابدّ فِي حِكْمَةٍ فِي هَذَا مِنْ جِهَةِ الْبَلَاغَة وتنزيل
الكلام منازله، فقوله: استهزىء بِرُسُلِ، أَيْ:
أُسْمِعُوا مِنْ الْكَلَامِ الّذِي يُسَمّى اسْتِهْزَاءً مَا سَاءَهُمْ
تَأْنِيسًا لَهُ، لِيَتَأَسّى بِمَنْ قَبْلَهُ مِنْ الرّسُلِ، وَإِنّمَا
سُمّيَ اسْتِهْزَاءً إذَا كَانَ مَسْمُوعًا، وَهُوَ مِنْ فِعْلِ
الْجَاهِلِينَ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى: «أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ: أَعُوذُ بِاللَّهِ
أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ» الْبَقَرَةُ: 67. وَأَمّا السّخْرُ
وَالسّخْرَى، فَقَدْ يَكُونُ فِي النّفْسِ غَيْرُ مَسْمُوعٍ، وَلِذَلِكَ
تَقُولُ: سَخِرْت مِنْهُ، كَمَا تَقُولُ: عَجِبْت مِنْهُ إلّا أَنّ
الْعُجْبَ لَا يَخْتَصّ بِالْمَعْنَى الْمَذْمُومِ، كَمَا يَخْتَصّ
السّخْرُ، وَفِي التّنْزِيلِ خَبَرًا عَنْ نُوحٍ: «إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا،
فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ، كَما تَسْخَرُونَ» هود: 28 ولم يقل: نستهزىء
بِكَمْ كَمَا تَسْتَهْزِئُونَ؛ لِأَنّ الِاسْتِهْزَاءَ لَيْسَ مِنْ فِعْلِ
الْأَنْبِيَاءِ، إنّمَا هُوَ مِنْ فِعْلِ الْجَاهِلِينَ كَمَا قَدّمْنَا
مِنْ قَوْلِ مُوسَى عَلَيْهِ السّلَامُ، فَالنّبِيّ يَسْخَرُ: أَيْ،
يَعْجَبُ مِنْ كُفْرِ مَنْ
(3/410)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَسْخَرُ بِهِ، وَمَنْ سُخْرِ عُقُولِهِمْ. فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ قَالَ
اللهُ تَعَالَى: (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ» ، قُلْنَا: الْعَرَبُ
تُسَمّي الْجَزَاءَ عَلَى الْفِعْلِ بِاسْمِ الفعل كما قال تعالى: (نسوا
الله فنسنيهم) وَهُوَ مَجَازٌ حَسَنٌ «1» وَأَمّا الِاسْتِهْزَاءُ الّذِي
كُنّا بِصَدَدِهِ، فَهُوَ الْمُسَمّى اسْتِهْزَاءُ حَقِيقَةٍ، وَلَا
يَرْضَى بِهِ إلّا جَهُولٌ. ثُمّ قَالَ سُبْحَانَهُ: (فَحَاقَ بِالّذِينَ
سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) أَيْ حَاقَ بِهِمْ
مِنْ الْوَعِيدِ الْمُبَلّغِ لَهُمْ على ألسنة لرسل ما كانوا يستهزؤن بِهِ
بِأَلْسِنَتِهِمْ، فَنَزَلَتْ كُلّ كَلِمَةٍ مَنْزِلَهَا، وَلَمْ يَحْسُنْ
فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ وَضْعُ وَاحِدَةٍ مَكَانَ الْأُخْرَى. وَذَكَرَ
أَيْضًا قَوْله سُبْحَانَهُ: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ ملكا لجعلناه رجلا) أَيْ:
لَوْ جَعَلْنَا الرّسُولَ إلَيْهِمْ مِنْ الْمَلَائِكَةِ لَمْ يَكُنْ إلّا
عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ، وَلَدَخَلَ عَلَيْهِمْ مِنْ اللّبْسِ فِيهِ مَا
دَخَلَ فِي أَمْرِ مُحَمّدٍ وَقَوْلُهُ: لَبِسْنَا يَدُلّ عَلَى أَنّ
الْأَمْرَ كُلّهُ مِنْهُ سُبْحَانَهُ، فَهُوَ يُعْمِي مَنْ شَاءَ عَنْ
الْحَقّ، وَيَفْتَحُ بَصِيرَةَ مَنْ شَاءَ، وَقَوْلُهُ: مَا يَلْبَسُونَ،
مَعْنَاهُ: يَلْبَسُونَ عَلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنّ أَكْثَرَهُمْ قَدْ
عَرَفُوا أَنّهُ الْحَقّ، وَلَكِنْ جَحَدُوا بِهَا، وَاسْتَيْقَنَتْهَا
أَنْفُسُهُمْ، فَجَعَلُوا، يَلْبَسُونَ أَيْ يَلْبَسُ، بَعْضُهُمْ عَلَى
بَعْضٍ وَيَلْبَسُونَ عَلَى أَهْلِيهِمْ وَأَتْبَاعِهِمْ، أَيْ:
يَخْلِطُونَ عَلَيْهِمْ بِالْبَاطِلِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: لبست عليهم
__________
(1) سبق التعليق على مثل هذا. والنسيان هنا حقيقة لا مجاز، لأن أصل
النسيان- كما يقول ابن الأثير: الترك. ويقول ابن فارس فى معجمه عن أصل
المادة إنها أصلان: أحدهما يدل على إغفال الشىء، والثانى: على ترك الشىء،
فيكون المعنى: تركوا الله فتركهم، هذا لأن دعوى المجاز فيما يتعلق بأسماء
الله وصفاته وأفعاله دعوى تجمع بين الحماقة والجرأة والقول على الله بغير
علم. ولا سيما وأنه لم يرد عن خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم شىء من
هذا.
(3/411)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْأَمْرَ أَلْبِسُهُ، أَيْ: سَتَرْته وَخَلَطْته، وَمِنْ لُبْسِ
الثّيَابِ: لَبِسْت أَلْبَسُ، لِأَنّهُ فِي مَعْنَى كَسِيت، وفى مقابلة
عربت، فَجَاءَ عَلَى وَزْنِهِ، وَالْآخَرُ فِي مَعْنَى: خَلَطْت أَوْ
سَتَرْت، فَجَاءَ عَلَى وَزْنِهِ.
شَرْحُ مَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ الْمُشْكِلِ اتّفَقَتْ الرّوَاةُ
عَلَى تَسْمِيَتِهِ إسْرَاءً، وَلَمْ يُسَمّهِ أَحَدٌ مِنْهُمْ: سُرًى،
وَإِنْ كَانَ أَهْلُ اللّغَةِ قَدْ قَالُوا: سَرَى وَأَسْرَى بِمَعْنَى
وَاحِدٍ، فَدَلّ عَلَى أَنّ أَهْلَ اللّغَةِ لَمْ يُحَقّقُوا الْعَبّارَةَ،
وَذَلِكَ أَنّ القرّاء لم يختلفوا فى العلاوة من قوله: (سبحان الذى أسرى
بعبده) وَلَمْ يَقُلْ: سَرَى، وَقَالَ: وَاللّيْلِ إِذَا يَسْرِ، وَلَمْ
يَقُلْ:
يَسْرِي، فَدَلّ عَلَى أَنّ السّرَى مِنْ سَرَيْت إذَا سِرْت لَيْلًا،
وَهِيَ مُؤَنّثَةٌ «1» تَقُولُ: طَالَتْ سُرَاك اللّيْلَةَ، وَالْإِسْرَاءُ
مُتَعَدّ فِي الْمَعْنَى، وَلَكِنْ حُذِفَ مَفْعُولُهُ كَثِيرًا حَتّى ظَنّ
أَهْلُ اللّغَةِ أَنّهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ، لَمّا رَأَوْهُمَا غَيْرَ
مُتَعَدّيَيْنِ إلَى مَفْعُولٍ فِي اللّفْظِ، وَإِنّمَا أَسْرَى
بِعَبْدِهِ، أَيْ: جَعَلَ الْبُرَاق يَسْرِي، كَمَا تَقُولُ: أَمَضَيْته،
أَيْ: جَعَلْته يَمْضِي، لَكِنْ كَثُرَ حَذْفُ الْمَفْعُولِ لَقُوّةِ
الدّلَالَةِ عَلَيْهِ، أَوْ لِلِاسْتِغْنَاءِ عَنْ ذِكْرِهِ، إذْ
الْمَقْصُودُ بِالْخَبَرِ ذِكْرُ مُحَمّدٍ، لَا ذِكْرُ الدّابّةِ الّتِي
سَارَتْ بِهِ، وَجَازَ فِي قِصّةِ لُوطٍ عَلَيْهِ السّلَامُ. أَنْ يُقَالَ
له: فأسر بأهلك: أَيْ فَاسْرِ بِهِمْ، وَأَنْ يَقْرَأَ فَأَسْرِ بِأَهْلِك
بِالْقِطْعِ، أَيْ: فَأَسْرِ بِهِمْ مَا يَتَحَمّلُونَ عَلَيْهِ مِنْ
دَابّةٍ أَوْ نَحْوِهَا، وَلَمْ يُتَصَوّرْ ذَلِكَ فِي السّرَى بِالنّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذْ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ سَرَى
بِعَبْدِهِ بوجه
__________
(1) فى اللسان أنها تذكر وتؤنث.
(3/412)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ الْوُجُوهِ؛ فَلِذَلِكَ لَمْ تَأْتِ التّلَاوَةُ إلّا بِوَجْهِ
وَاحِدٍ فِي هَذِهِ الْقِصّةِ فَتَدَبّرْهُ.
وَكَذَلِكَ تَسَامَحَ النّحْوِيّونَ أَيْضًا فِي الْبَاءِ وَالْهَمْزَةِ،
وَجَعَلُوهُمَا بِمَعْنَى وَاحِدٍ فِي حُكْمِ التّعْدِيَةِ، وَلَوْ كَانَ
مَا قَالُوهُ أَصْلًا لَجَازَ فِي: أَمْرَضْته أَنْ تَقُولَ: مَرِضْت بِهِ،
وَفِي أَسْقَمْته: أَنْ تَقُولَ: سَقِمْت بِهِ، وَفِي أَعْمَيْته أَنْ
تَقُولَ: عَمِيت بِهِ قِيَاسًا عَلَيّ: أَذْهَبْته وَأَذْهَبْت بِهِ،
وَيَأْبَى اللهُ ذَلِكَ وَالْعَالِمُونَ؛ فَإِنّمَا الْبَاءُ تُعْطِي مَعَ
التّعْدِيَةِ طَرَفًا مِنْ الْمُشَارَكَةِ فِي الْفِعْلِ، وَلَا تُعْطِيهِ
الْهَمْزَةَ، فَإِذَا قُلْت: أَقْعَدْته، فَمَعْنَاهُ:
جَعَلْته يَقْعُدُ، وَلَكِنّك شَارَكْته فِي الْقُعُودِ، فَجَذَبْته
بِيَدِك إلَى الْأَرْضِ، أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، فَلَا بُدّ مِنْ طَرَفٍ مِنْ
الْمُشَارَكَةِ إذَا قَعَدْت بِهِ، وَدَخَلْت بِهِ، وَذَهَبْت بِهِ
بِخِلَافِ أَدْخَلْته وَأَذْهَبْته.
فَإِنْ قُلْت: فَقَدْ قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ ذَهَبَ الله بنورهم، وذهب
بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ» وَيَتَعَالَى- سُبْحَانَهُ- عَنْ أَنْ يوصف
بالذهاب، ويضاف إلَيْهِ طَرَفٌ مِنْهُ، وَإِنّمَا مَعْنَاهُ: أَذَهَبَ
نُورَهُمْ وَسَمْعَهُمْ. قُلْنَا: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا: أَنّ النّورَ
وَالسّمْعَ وَالْبَصَرَ كَانَ بِيَدِهِ سُبْحَانَهُ، وَقَدْ قَالَ:
بِيَدِهِ الْخَيْرُ، وَهَذَا: مِنْ الْخَيْرِ الّذِي بِيَدِهِ، وَإِذَا
كَانَ بِيَدِهِ، فَجَائِزٌ أَنْ يُقَالَ ذَهَبَ بِهِ عَلَى الْمَعْنَى
الّذِي يَقْتَضِيهِ قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ بِيَدِهِ الْخَيْرُ كَائِنًا مَا
كَانَ ذَلِكَ الْمَعْنَى، فَعَلَيْهِ يَنْبَنِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الْآخَرُ
الّذِي فِي قَوْلِهِ: ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِمْ مَجَازًا كَانَ أَوْ
حَقِيقَةً، أَلَا تَرَى أَنّهُ لَمّا ذَكَرَ الرّجْسَ كَيْفَ قَالَ:
«لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرّجْسَ» الْأَحْزَابُ: 33.
وَلَمْ يَقُلْ يُذْهِبُ بِهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ: «وَيُذْهِبَ عنكم رجز
الشّيطان» الأنفال: 11 تعليما لِعِبَادِهِ حُسْنَ الْأَدَبِ مَعَهُ، حَتّى
لَا يُضَافُ إلَى الْقُدّوسِ سُبْحَانَهُ- لَفْظًا وَمَعْنًى شَيْءٌ مِنْ
الْأَرْجَاسِ، وَإِنْ كَانَتْ خَلْقًا لَهُ وَمِلْكًا
(3/413)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَلَا يُقَالُ: هِيَ بِيَدِهِ عَلَى الْخُصُوصِ، تَحْسِينًا لِلْعِبَارَةِ
وَتَنْزِيهًا لَهُ، وَفِي مِثْلِ النّورِ وَالسّمْعِ وَالْبَصَرِ يَحْسُنُ
أَنْ يُقَالَ: هِيَ بِيَدِهِ، فَحَسُنَ عَلَى هَذَا أَنْ يُقَال: ذَهَبَ
بِهِ، وَأَمّا أَسْرَى بِعَبْدِهِ، فَإِنّ دُخُولَ الْبَاءِ فِيهِ لَيْسَ
مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ، فَإِنّهُ فِعْلٌ يَتَعَدّى إلَى مَفْعُولٍ،
وَذَلِكَ الْمَفْعُولُ الْمُسَرّى هُوَ الّذِي سَرَى بالعبد فشاد كه
بِالسّرَى، كَمَا قَدّمْنَا فِي قَعَدْت بِهِ أَنّهُ يُعْطَى
الْمُشَارَكَةُ فِي الْفِعْلِ، أَوْ فِي طَرَفٍ منه، فتأمله «1» .
__________
(1) علق ابن القيم على قوله سبحانه: «أسرى بعبده» فقال: «فى قوله تعالى:
(أسرى بعبده) دون بعث بعبده، وأرسل به ما يفيد مصاحبته له فى مسراه فإن
الباء هنا للمصاحبة كهى فى قوله: هاجر بأهله، وسافر بغلامه، وليست للتعدية
فإن أسرى بتعدى بنفسه، يقال: سرى به، وأسراه، وهذا لأن ذلك السرى كان أعظم
أسفاره- صلى الله عليه وسلم- والسفر يعتمد الصاحب، ولهذا كان- صلى الله
عليه وسلم- إذا سافر يقول: اهم؟؟؟ أنت الصاحب فى السفر. فإن قيل: فهذا
المعنى يفهم من الفعل الثلاثى لو قيل: سرى بعبده، فما فائدة الجمع بين
الهمزة والباء، ففيه أجوبة» ثم رفض ما أجاب به غيره ثم قال: «والجواب
الصحيح أن الثلاثى المتعدى بالباء يفهم منه شيئان أحدهما: صدور الفعل من
فاعله: الثانى: مصاحبته لما دخلت عليه الباء. فإذا قلت: سريت بزيد، وسافرت
به كنت قد وجد منك السرى والسفر مصاحبا لزيد فيه. وأما المتعدى بالهمزة،
فيقتضى إيقاع الفعل بالمفعول فقط، كقوله تعالى: (والله أخرجكم من بطون
أمهاتكم» . ونظائره فإذا قرن هذا المتعدى بالهمزة بالباء أفاد إيقاع الفعل
على المفعول مع المصاحبة المفهومة من الباء، ولو أتى فيه بالثلاثى فهم منه
معنى المشاركة فى مصدره، وهو ممتنع فتأمله» ص 203 ح 3 بدائع الفوائد.
(3/414)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أكان الإسراء يقظة أم مناما:
فصل: ونقدم بَيْنَ يَدَيْ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ: هَلْ كَانَ
الْإِسْرَاءُ فِي يَقَظَةٍ بِجَسَدِهِ، أَوْ كَانَ فِي نُوُمِهِ بِرُوحِهِ،
كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: «اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها
وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها» الزّمَرُ: 43 وَقَدْ ذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ عَنْ عَائِشَةَ وَمُعَاوِيَةَ أَنّهَا كَانَتْ رُؤْيَا حَقّ،
وَأَنّ عَائِشَةَ قَالَتْ: لَمْ تَفْقِدْ بَدَنَهُ، وَإِنّمَا عُرِجَ
بِرُوحِهِ تِلْكَ اللّيْلَةَ، وَيَحْتَجّ قَائِلُ هَذَا الْقَوْلِ
بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: «وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أربناك إِلّا
فِتْنَةً لِلنّاسِ» الْإِسْرَاءُ 60. وَلَمْ يَقُلْ: الرّؤْيَةَ، وَإِنّمَا
يُسَمّى رُؤْيَا مَا كَانَ فِي النّوُمِ فِي عُرْفِ اللّغَةِ،
وَيَحْتَجّونَ أَيْضًا بِحَدِيثِ الْبُخَارِيّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ
قَالَ: لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- مِنْ مَسْجِدِ الْكَعْبَةِ أَنّهُ جَاءَهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ
قَبْلَ أن يوحى إليه، وهو قائم فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، فَقَالَ
أَوّلُهُمْ: أَيّهُمْ هُوَ؟ فَقَالَ أَوْسَطُهُمْ: هُوَ هَذَا، وَهُوَ
خَيْرُهُمْ، فَقَالَ آخِرُهُمْ: خُذُوا خَيْرَهُمْ فَكَانَ تِلْكَ
اللّيْلَةَ، فَلَمْ يَرَهُمْ حَتّى أَتَوْهُ لَيْلَةً أُخْرَى، فِيمَا
يَرَى قَلْبُهُ وَتَنَامُ عَيْنُهُ وَلَا يَنَامُ قَلْبُهُ، وَكَذَلِكَ
الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السّلَامُ تَنَامُ أَعْيُنُهُمْ، وَلَا تَنَامُ
قُلُوبُهُمْ، فَلَمْ يُكَلّمُوهُ، حَتّى احْتَمَلُوهُ فَوَضَعُوهُ عِنْدَ
بِئْرِ زَمْزَمَ، فَتَوَلّاهُ مِنْهُمْ جِبْرِيلُ. الْحَدِيثُ بِطُولِهِ،
وَقَالَ فِي آخِرِهِ: وَاسْتَيْقَظَ، وَهُوَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ،
وَهَذَا نَصّ لَا إشْكَالَ فِيهِ أَنّهَا كَانَتْ رُؤْيَا صَادِقَةً،
وَقَالَ أَصْحَابُ الْقَوْلِ الثّانِي: قَدْ تَكُونُ الرّؤْيَا بِمَعْنَى
الرّؤْيَةِ فِي الْيَقَظَةِ، وَأَنْشَدُوا لِلرّاعِي يَصِفُ صَائِدًا:
(3/415)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَكَبّرَ لِلرّؤْيَا، وَهَشّ فُؤَادُهُ ... وَبَشّرَ قَلْبًا كَانَ جَمّا
بَلَابِلُهُ «1»
قَالُوا: وَفِي الْآيَةِ بَيَانُ أَنّهَا كَانَتْ فِي الْيَقَظَةِ،
لِأَنّهُ قَالَ: «وَمَا جَعَلْنَا الرّؤْيَا الّتِي أَرَيْنَاكَ إِلّا
فِتْنَةً للناس» وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ مَا افْتَتَنَ بِهَا
النّاسُ حَتّى ارْتَدّ كَثِيرٌ مِمّنْ أَسْلَمَ، وَقَالَ الْكُفّار:
يَزْعُمُ مُحَمّدٌ أَنّهُ أَتَى بَيْت الْمَقْدِسِ، وَرَجَعَ إلَى مَكّةَ
لَيْلَتَهُ، وَالْعِيرُ تَطْرُدُ إلَيْهَا شَهْرًا مُقْبِلَةً وَشَهْرًا
مُدْبِرَةً، وَلَوْ كَانَتْ رُؤْيَا نَوْمٍ، لَمْ يَسْتَبْعِدْ أَحَدٌ
مِنْهُمْ هَذَا، فَمَعْلُومٌ أَنّ النّائِمَ قَدْ يَرَى نَفْسَهُ فِي
السّمَاءِ، وَفِي الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَلَا يُسْتَبْعَدُ مِنْهُ
ذَلِكَ واحتج هؤلاء أيضا بشر به الْمَاءَ مِنْ الْإِنَاءِ الّذِي كَانَ
مُغَطّى عِنْدَ الْقَوْمِ، وَوَجَدُوهُ حِينَ أَصْبَحَ لَا مَاء فِيهِ،
وَبِإِرْشَادِهِ لِلّذِينَ نَدّ بَعِيرُهُمْ حِين أَنْفَرَهُمْ حِسّ
الدّابّةِ، وَهُوَ الْبُرَاقُ حَتّى دَلّهُمْ عَلَيْهِ، فَأَخْبَرَ أهل مكة
بأمارة ذلك، حتى ذكر الْغِرَارَتَيْنِ السّوْدَاء وَالْبَرْقَاءِ «2» كَمَا
فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ: أَنّهُ وَعَدَ قُرَيْشًا
بِقُدُومِ الْعِيرِ الّتِي أَرْشَدَهُمْ إلَى الْبَعِيرِ، وَشَرِبَ
إنَاءَهُمْ، وأنهم سيقدمون ويخبرون بذلك،
__________
(1) البلابل: شدة الهم والوسواس فى الصدر. والراعى هو: عبيد بن حصين ابن
معاوية من بنى نمير، يكنى أبا جندل أو أبا نوح شاعر إسلامى، وهم أهل بيت
وسؤدد. وسمى الراعى لقوله:
ضعيف العصا بادى العروق تخاله ... عليها إذا ما أمحل الناس إصبعا
حذا إبل إن تتبع الريح مرة ... يدعها ويخف الصوت حتى تربعا
لها أمرها حتى إذا ما تبوأت ... لأخفاقها مرعى تبوأ مضجعا
(2) اجتمع فيها سواد وبياض. وفى الرواية أنها بيضاء
(3/416)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَقَالُوا: يَا مُحَمّدُ مَتَى يَقْدُمُونَ؟ فَقَالَ: يَوْمَ
الْأَرْبِعَاءِ، فَلَمّا كَانَ ذَلِكَ الْيَوْمُ، وَلَمْ يَقْدُمُوا، حَتّى
كَرَبَتْ الشّمْسُ أَنْ تَغْرُبَ، فَدَعَا اللهَ فَحَبَسَ الشّمْسَ حَتّى
قَدِمُوا كَمَا وَصَفَ، قَالَ: وَلَمْ يَحْبِسْ الشّمْسَ إلّا لَهُ ذَلِكَ
الْيَوْمَ، وَلِيُوشَعَ بْنِ نُونٍ «1» وَهَذَا كُلّهُ لَا يَكُونُ إلّا
يَقَظَةً، وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ ثَالِثَةٌ، مِنْهُمْ: شَيْخُنَا القاضى أبو
بكر [ابن الْعَرَبِيّ] رَحِمَهُ اللهُ إلَى تَصْدِيقِ الْمَقَالَتَيْنِ،
وَتَصْحِيحِ الْحَدِيثَيْنِ، وَأَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ مَرّتَيْنِ،
إحْدَاهُمَا: كَانَ فِي نُوُمِهِ وَتَوْطِئَةً لَهُ وَتَيْسِيرًا عَلَيْهِ،
كَمَا كَانَ بَدْءُ نُبُوّتِهِ الرّؤْيَا الصّادِقَةُ، لِيَسْهُلَ عَلَيْهِ
أَمْرُ النّبُوّةِ فَإِنّهُ عَظِيمٌ تَضْعُفُ عَنْهُ الْقُوَى
الْبَشَرِيّةُ، وَكَذَلِكَ الْإِسْرَاءُ سَهّلَهُ عَلِيّه بِالرّؤْيَا؛
لِأَنّ هو له عَظِيمٌ، فَجَاءَهُ فِي الْيَقَظَةِ عَلَى تَوْطِئَةٍ
وَتَقْدِمَةٍ، رِفْقًا مِنْ اللهِ بِعَبْدِهِ وَتَسْهِيلًا عَلَيْهِ،
وَرَأَيْت الْمُهَلّبَ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ قَدْ حَكَى هَذَا الْقَوْلَ
عَنْ طَائِفَةٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ، وَأَنّهُمْ قَالُوا:
كَانَ الْإِسْرَاءُ مَرّتَيْنِ: مَرّةً فِي نُوُمِهِ، وَمَرّةً فِي
يَقَظَتِهِ بِبَدَنِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
__________
(1) هو فتى موسى- كما يقال- ونبى بنى إسرائيل بعده، واسمه عند النكتابيين:
يشوع، وسفره يقع بعد سفر التثنية من العهد القديم، وهم يروون أن يوشع حاصر
أريحا، فلما غربت الشمس، أو كادت تغرب، ويدخل عليهم السبت الذى جعل عليهم،
وشرع لهم قال لها: إنك مأمورة، وأنا مأمور اللهم احبسها على: فحبسها الله
حتى تمكن من فتح البلد، وزادوا فقالوا: وأمر القمر، فوقف عن الطلوع. ثم
يروى ابن كثير حديثا عن الإمام أحمد: «إن الشمس لم تحبس لبشر إلا ليوشع
ليالى سار إلى بيت المقدس» فكيف إذن حبست للنبى صلى الله عليه وسلم؟ وفى
مسلم حديث يفيد أن الله حبس الشمس لنبى غزا. لكنه لم يصرح فيه باسم يوشع
انظر ص 323 ج 1 البداية والنهاية لابن كثير ج 1 ص 1348.
(3/417)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ الّذِي يَصِحّ، وبه تتفق معانى
الأخيار، أَلَا تَرَى أَنّهُ قَالَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ الّذِي قَدّمْنَا
ذِكْرَهُ: أَتَاهُ ثَلَاثَةُ نَفَرٍ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ،
وَمَعْلُومٌ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ بَعْدَ النّبُوّةِ، وَحَيْنَ فُرِضَتْ
الصّلَاةُ «1» كَمَا قَدّمْنَا فِي الْجُزْءِ قَبْلَ هَذَا، وَقِيلَ كَانَ
قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِعَامِ، وَلِذَلِكَ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: فَارْتَدّ
كَثِيرٌ مِمّنْ كَانَ قَدْ أَسْلَمَ، وَرُوَاةُ الْحَدِيثَيْنِ حُفّاظٌ،
فَلَا يَسْتَقِيمُ الْجَمْعُ بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ إلّا أَنْ يَكُونَ
الْإِسْرَاءُ مَرّتَيْنِ، وَكَذَلِكَ ذُكِرَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ: أَنّهُ
لَقِيَ إبْرَاهِيمَ فِي السّمَاءِ السادسة وموسى فى السابغة، وَفِي
أَكْثَرِ الرّوَايَاتِ الصّحِيحَةِ أَنّهُ رَأَى إبْرَاهِيمَ عند البيت
المعمور فى السماء السابغة، وَلَقِيَ مُوسَى فِي السّادِسَةِ، وَفِي
رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أُتِيَ بِثَلَاثَةِ آنِيّةٍ، أَحَدُهَا مَاءٌ
فَقَالَ قَائِلٌ: إنْ أَخَذَ الْمَاءَ غَرِقَ، وَغَرِقَتْ أُمّتُهُ، وَفِي
إحْدَى رِوَايَاتِ الْبُخَارِيّ فِي الْجَامِعِ الصّحِيحِ: أَنّهُ أُتِيَ
بِإِنَاءِ فِيهِ عَسَلٌ، وَلَمْ يَذْكُرْ الْمَاءَ وَالرّوَاةُ أَثَبَاتٌ،
وَلَا سَبِيلَ إلَى تَكْذِيبِ بَعْضِهِمْ وَلَا تَوْهِينِهِمْ، فَدَلّ
عَلَى صِحّةِ الْقَوْلِ بِأَنّهُ كَانَ مَرّتَيْنِ، وَعَادَ الِاخْتِلَافُ
إلَى أَنّهُ كَانَ كُلّهُ حَقّا، وَلَكِنْ فِي حَالَتَيْنِ وَوَقْتَيْنِ
مَعَ مَا يَشْهَدُ لَهُ مِنْ ظَاهِرِ الْقُرْآنِ، فَإِنّ اللهَ سُبْحَانَهُ
يَقُولُ: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى،
فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ مَا أَوْحى) ثُمّ قَالَ: (مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا
رَأى) النّجْمُ: 8، 11 فَهَذَا نَحْوُ مَا وَقَعَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ
قَوْلِهِ:
فِيمَا يَرَاهُ قَلْبُهُ، وَعَيْنُهُ نَائِمَةٌ «2» وَالْفُؤَادُ: هُوَ
الْقَلْبُ، ثم قال: «أَفَتُمارُونَهُ عَلى
__________
(1) بل الثابت من آيات القرآن أن الصلاة كانت مفروضة قبل الإسراء.
(2) فى البخارى: باب: كان النبى «ص» تنام عينه، ولا ينام قلبه، رواه سعيد
بن ميناه عن جابر عن النبى «ص» .
(3/418)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ما يَرى) وَلَمْ يَقُلْ: مَا قَدْ رَأَى، فَدَلّ عَلَى أَنّ ثَمّ رُؤْيَةٌ
أُخْرَى بَعْدَ هَذِهِ، ثُمّ قال:
(ولقد رآه نزلة أخرى) أَيْ: فِي نَزْلَةٍ نَزَلَهَا جِبْرِيلُ إلَيْهِ
مَرّةً، فَرَآهُ فِي صُورَتِهِ الّتِي هُوَ عَلَيْهَا (عِنْدَ سدرة
المنتهى، إذ يغشى السّدرة ما يغشى) قَالَ: يَغْشَاهَا فِرَاشٌ مِنْ ذَهَبٍ،
وَفِي رِوَايَةٍ: يَنْتَثِرُ مِنْهَا الْيَاقُوتُ، وَثَمَرُهَا مِثْلُ
قِلَالِ هَجَرَ «1» ثم قال: (ما زاغَ الْبَصَرُ) وَلَمْ يَقُلْ:
الْفُؤَادُ، كَمَا قَالَ فِي الّتِي قَبْلَ هَذِهِ، فَدَلّ عَلَى أَنّهَا
رُؤْيَةُ عَيْنٍ وَبَصَرٍ فِي النّزْلَةِ الْأُخْرَى، ثُمّ قَالَ:
(لَقَدْ رأى من آيات ربّه الكبرى) «2» ، وَإِذَا كَانَتْ رُؤْيَةَ عَيْنٍ؛
فَهِيَ مِنْ الْآيَاتِ الْكُبْرَى، وَمِنْ أَعْظَمِ الْبَرَاهِينِ
وَالْعِبَرِ، وَصَارَتْ الرّؤْيَا الْأُولَى بِالْإِضَافَةِ إلَى
الْأُخْرَى لَيْسَتْ مِنْ الْكِبْرِ؛ لِأَنّ مَا يَرَاهُ الْعَبْدُ فِي
مَنَامِهِ دُونَ مَا يَرَاهُ فِي يَقَظَتِهِ لَا مَحَالَةَ، وَكَذَلِكَ
قَالَ فِي أَكْثَرِ الْأَحَادِيثِ إنّهُ رَأَى عِنْدَ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى نَهَرَيْنِ ظَاهِرَيْنِ، وَنَهَرَيْنِ بَاطِنِينَ،
وَأَخْبَرَهُ جِبْرِيل أَنّ الظّاهِرَيْنِ: النّيلُ وَالْفُرَاتُ، وَذَكَرَ
فِي حَدِيثِ أَنَس أَنّهُ رَأَى هَذَيْنِ النّهَرَيْنِ فِي السّمَاءِ
الدّنْيَا، وَقَالَ لَهُ الْمَلِكُ: هُمَا النّيلُ وَالْفُرَاتُ،
أَصُلْهُمَا وَعُنْصُرُهُمَا، فَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ رَأَى فِي حَالِ
الْيَقَظَةِ مَنْبَعَهُمَا، وَرَأَى فِي الْمَرّةِ الْأُولَى النّهَرَيْنِ
دُونَ أَنْ يَرَى أَصْلَهُمَا وَاَللهُ أَعْلَمُ. فَقَدْ جَاءَ فِي
تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَأَنْزَلْنَا مِنَ السّمَاءِ مَاءً
بِقَدَرٍ فَأَسْكَنّاهُ فِي الْأَرْضِ) الْمُؤْمِنُونَ: 18 أَنّهُمَا
النّيلُ وَالْفُرَاتُ أُنْزِلَا مِنْ الجنة
__________
(1) قرية كانت من قرى المدينة، وليست هجر البحرين، وكانت تعمل بها القلال
تأخذ الواحدة منها مزادة من الماء، سمّيت قلة لأنها ترفع وتحمل.
(2) الايات السابقة كلها من سورة النجم.
(3/419)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ أَسْفَلِ دَرَجَةٍ مِنْهَا عَلَى جُنَاح جِبْرِيل، فأودعهما بطون
الجبال «1» ثم إن
__________
(1) مما أومن به أنه من الخير تخطئة حديث يرويه راو يخالف المحكم الصريح من
كتاب الله، والواقع المحس بكل نوع من الإحساس، فهذا أفضل من أن نحتفى بشأن
حديث ينتج عنه تكذيب القرآن، وتكذيب الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ورمى
الإسلام بأنه عفن وخرافة، والإسلام هو الحق والنور والحياة، وأرجو أن يكون
قولى واضحا: «الحديث الذى يخالف المحكم الصريح من القرآن، والواقع المشهود
الملموس المحس» وقد أكد القرآن الإسراء، وآياته المحكمة تقطع به وحددت مكان
الإسراء، ومن لمس جانب هذا الحق بأثارة من شك، فقد أثم إثما عظيما وباء
بخسران مبين، وقارىء القرآن عن الإسراء لا يرتاب فى شىء، فإن هو عرج على
بعض الأحاديث، وبعضها مخالف لبعض ربما أثارته نزعة من ريبة، لهذا يجب علينا
أن نستمع إلى ما يصادق القرآن منها، ونضرب صفحا عن الأخرى، تدبر أمر النيل
والفرات، وأين هما، ثم اقرأ ما ورد فى بعض الأحاديث عنهما نجد شيئا لا يمكن
تصديقه إلا بضروب بعيدة من خرف التأويل، ألا يكفى أن نتدير قوله تعالى:
(سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ
إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ، لِنُرِيَهُ مِنْ
آياتِنا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) كلام يملأ القلب والعقل
والشعور نورا وهداية وبصرا وإيمانا وتسبيحا لله الذى فعل بعبده ذلك. هذا
وقد عرض السهيلى أمورا منها: رأى القائلين بأن الإسراء كان مرتين مرة فى
نومه، ومرة فى يقظته. وإليك عرض الإمام ابن القيم لهذا: «قال موسى ابن عقبة
عن الزهرى: عرج بروح رسول الله- صلى الله عليه وسلم- إلى بيت المقدس، وإلى
السماء قبل خروجه إلى المدينة بسنة ... وكان الإسراء مرة واحدة، وقيل:
مرتين، مرة يقظة، ومرة مناما، وأرباب هذا القول كأنهم أرادوا أن يجمعوا بين
حديث شريك، وقوله: ثم استيقظت، وبين سائر الروايات، ومنهم من قال: بل كان
هذا مرتين، مرة قبل الوحى لقوله فى حديث شريك: وذلك قبل أن يوحى إليه، ومرة
بعد-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- الوحى كما دلت عليه سائر الأحاديث. ومنهم من قال: بل ثلاث مرات، مرة قبل
الوحى، ومرتين بعده، وكل هذا خبط، وهذه طريقة ضعفاء الظاهرية من أرباب
النقل الذين إذا رأوا فى القصة لفظة تخالف سياق بعض الروايات جعلوها مرة
أخرى، فكلما اختلفت عليهم الروايات عددوا الوقائع. والصواب الذى عليه أئمة
النقل أن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة. ويا عجبا لهؤلاء الذين
زعموا أنه مرارا كيف ساغ لهم أن يظنوا أنه فى كل مرة تفرض عليه الصلاة
خمسين، ثم يتردد بين ربه وبين موسى، حتى تصير خمسا، ثم يقول: أمضيت فريضتى،
وخففت عن عبادى، ثم يعيدها فى المرة الثانية إلى خمسين، ثم يحطها عشرا
عشرا؟! وقد غلط الحفاظ شريكا فى ألفاظ من حديث الإسراء، ومسلم أورد المسند
منه، ثم قال: فقدم وأخر، وزاد ونقص، ولم يسرد الحديث، وأجاد رحمه الله» ص
130 ح 2 زاد المعاد ط السنة المحمدية. وعن المعراج يقظة أو مناما يقول
الإمام الجليل أيضا: «وقد نقل عن ابن إسحاق عن عائشة ومعاوية أنهما قالا:
إنما كان الإسراء بروحه، ولم يفقد جسده. ونقل عن الحسن البصرى نحو ذلك،
ولكن ينبغى أن يعلم الفرق بين أن يقال: كان الإسراء مناما، وبين أن يقال:
كان بروحه دون جسده، وبينهما فرق عظيم، وعائشة ومعاوية لم يقولا: كان
مناما، وإنما قالا: أسرى بروحه، ولم يفقد جسده. وفرق بين الأمرين، فإن ما
يراه النائم قد يكون أمثالا مضروبة للمعلوم فى الصور المحسوسة، فيرى كأنه
قد عرج به إلى السماء، أو ذهب به إلى مكة وأقطار الأرض، وروحه لم تصعد، ولم
تذهب، وإنما ملك الرؤيا ضرب له المثال. والذين قالوا: عرج برسول الله- صلى
الله عليه وسلم- طائفتان، طائفة قالت: عرج بروحه وبدنه، وطائفة قالت: عرج
بروحه، ولم يفقد بدنه، وهؤلاء لم يريدوا أن المعراج كان مناما، وإنما
أرادوا أن الروح ذاتها أسرى بها، وعرج بها حقيقة، وباشرت من جنس ما تباشر
بعد المفارقة، وكان حالها فى ذلك كحالها بعد المفارقة فى صعودها إلى
السماوات سماء سماء، حتى ينتهى بها-. . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- إلى السماء السابغة، فتقف بين يدى الله عز وجل، فيأمر فيها بما يشاء، ثم
تنزل إلى الأرض. والذى كان لرسول الله- صلى الله عليه وسلم- ليلة الإسراء
أكمل مما يحصل للروح عند المفارقة، ومعلوم أن هذا أمر فوق ما يراه النائم،
لكن لما كان رسول الله- صلى الله عليه وسلم فى مقام خرق العوائد.. عرج بذات
روحه المقدسة حقيقة من غير إماتة، ومن سواه لا ينال بذات روحه الصعود إلى
السماء إلا بعد الموت والمفارقة» ص 128 المصدر السابق، وهو تأويل جيد
للامام الجليل. ويقول الإمام الشوكانى: «وقد اختلف أهل العلم: هل كان
الإسراء بجسده مع روحه، أو بروحه فقط؟ فذهب معظم السلف والخلف إلى الأول،
وذهب إلى الثانى طائفة من أهل العلم، منهم: عائشة ومعاوية والحسن وابن
إسحاق، وحكاه ابن جرير عن حذيفة بن اليمان، وذهبت طائفة إلى التفصيل،
فقالوا: كان الإسراء بجسده يقظة إلى بيت المقدس» وإلى السماء بالروح،
واستدلوا على هذا التفصيل بقوله: إلى المسجد الأقصى، فجعله غاية للاسراء
بذاته، فلو كان الإسراء من بيت المقدس إلى السماء وقع بذاته لذكره، والذى
دلت عليه الأحاديث الصحيحة الكثيرة هو ما ذهب إليه معظم السلف والخلف من أن
الإسراء بجسده وروحه يقظة إلى بيت المقدس، ثم إلى السماوات، ولا حاجة إلى
التأويل، ص 199 ح 2 فتح القدير ط مصطفى البابى الحلبى. ولو أن الشوكانى
قال: بعض الأحاديث الصحيحة، لكان أوفق لأن بعض الأحاديث الصحيحة أيضا تدل
على أنه كان بروحه. تاريخ الإسراء: كما يتحدث الإمام الشوكانى عن تاريخ
الإسراء بقوله: «وقد اختلف أيضا فى تاريخ الإسراء، فروى أن ذلك كان قبل
الهجرة إلى المدينة بسنة، وروى أن الإسراء كان قبل الهجرة بأعوام، ووجه ذلك
أن خديجة صلت مع النبى صلى الله عليه وسلم، وقد ماتت قبل الهجرة بخمس سنين،
وقيل بثلاث، وقيل بأربع، ولم تفرض الصلاة إلا ليلة الإسراء، وقد استدل بهذا
ابن عبد البر على ذلك، وقد اختلفت الرواية عن الزهرى. وممن قال: بأن-. . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- الإسراء كان قبل الهجرة بسنة الزهرى فى رواية عنه، وكذلك الحربى، فإنه
قال: أسرى بالنبى صلى الله عليه وسلم ليلة سبع وعشرين من ربيع الأول قبل
الهجرة بسنة. وقال ابن القاسم فى تاريخه: كان الإسراء بعد مبعثه بثمانية
عشر شهرا قال ابن عبد البر: لا أعلم أحدا من أهل السير قال يمثل هذا. وروى
عن الزهرى أنه أسرى به قبل مبعثه بسبعة أعوام، وروى عنه أنه قال: كان قبل
مبعثه بخمس سنين، وروى يونس عن عروة عن عائشة أنها قالت: توفيت خديجة قبل
أن تفرض الصلاة» ص 200 المصدر السابق. وأقول: سبق أن بينت أن القرآن يؤكد
أن الصلاة فرضت فى بداية مبعثه صلى الله عليه وسلم. وقد تحدث السهيلى عن
قوله سبحانه (ثم دنا فتدلى) الخ وإليك رأى السلف فى هذا ينقله الإمام ابن
القيم أيضا، وأنا أنقله عنه من المصدر السابق: «وأما قوله تعالى فى سورة
النجم (ثم دنا فتدلى) فهو غير الدنو والتدلى فى قصة الإسراء، فإن الذى فى
سورة النجم هو: دنو جبريل وتدليه، كما قالت عائشة وابن مسعود، والسياق يدل
عليه، فإنه قال: (علمه شديد القوى) وهو جبريل: (ذو مرة فاستوى، وهو بالأفق
الأعلى، ثم دنا فتدلى) فالضمائر كلها راجعة إلى هذا المعلم الشديد القوى،
وهو ذو المرة- أى القوة- وهو الذى استوى بالأفق الأعلى، وهو الذى دنا
فتدلى، فكان محمد- صلى الله عليه وسلم- قدر قاب قوسين أو أدنى، فأما الدنو
والتدلى الذى فى حديث الإسراء، فذلك صريح فى أنه دنو الرب تبارك وتعالى
وتدليه، ولا تعرض فى سورة النجم لذلك، بل فيها أنه رآه نزلة آخرى عند سدرة
المنتهى. وهذا هو جبريل رآه محمد- صلى الله عليه وسلم- على صورته مرتين مرة
فى الأرض، ومرة عند سدرة المنتهى» ص 127 المصدر السابق. وبهذا يسقط استدلال
السهيلى بأن الإسراء كان مرتين. وعن مسألة رؤية النبى صلى الله عليه وسلم
ربه ليلة الإسراء والمعراج يقول الإمام ابن القيم أيضا: «واختلف الصحابة:
هل رأى ربه تلك اليلة أم لا؟ فصح-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- عن ابن عباس أنه رأى ربه، وصح عنه أنه قال: رآه بفؤاده، وصح عن عائشة
وابن مسعود إنكار ذلك، وقالا: إن قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً
أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى) إنما هو جبريل، وصح عن أبى ذر أنه
سأله: هل رأيت ربك، فقال: نور أنى أراه أى حال بينى وبين رؤيته النور، كما
قال فى لفظ آخر: رأيت نورا، وقد حكى عثمان بن سعيد الدارمى اتفاق الصحابة
على أنه لم يره. قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: وليس قول ابن
عباس إنه رآه مناقضا لهذا، ولا قوله: رآه بفؤاده، وقد صح عنه أنه قال: رأيت
ربى تبارك وتعالى، ولكن لم يكن هذا فى الإسراء، ولكن كان فى المدينة لما
احتبس فى صلاة الصبح، ثم أخبرهم عن رؤية ربه تبارك وتعالى تلك الليلة فى
منامه، وعلى هذا بنى الإمام أحمد، وقال: نعم رآه حقا، فإن رؤيا الأنبياء
حق، ولا بد. ولكن لم يقل أحمد: إنه رآه بعينى رأسه يقظة، ومن حكى عنه ذلك،
فقد وهم عليه، ولكن قال مرة: رآه، ومرة قال: رآه بفؤاده، فحكيت عنه
روايتان؛ وحكيت عنه الثالثة من تصرف بعض أصحابه أنه رآه بعينى رأسه؟ وهذه
نصوص أحمد موجودة ليس فيها ذلك، وأما قول ابن عباس إنه رآه بفؤاده مرتين،
فإن كان استناده إلى قوله تعالى: (ما كذب الفؤاد ما رأى) ثم قال: (ولقد رآه
نزلة أخرى) - والظاهر أنه مستنده- فقد صح عنه- صلى الله عليه وسلم- أن هذا
المرئى جبريل، رآه مرتين فى صورته التى خلق عليها، وقول ابن عباس هذا هو
مستند الإمام أحمد فى قوله: رآه بفؤاده، والله أعلم» ص 27 المصدر السابق.
وقد يقال: رأى آخر هو أن الإسراء به صلى الله عليه وسلم كان بجسده وروحه،
أما المعراج فكان بروحه كما شرح الإمام ابن القيم، بدليل ما ورد فى بعض
الروايات. فرواية شريك لا يذكر فيها الإسراء مطلقا. وفى رواية عن أنس أيضا:
«بينا أنا نائم إذ جاء جبريل عليه السلام، فوكز بين كتفى، فقمت إلى شجرة
فيها كوكرى الطير، فقعد فى أحدهما، وقعدت فى الاخر، فسمت وارتفعت حتى سدت
الخافقين، وأنا أقلب طرفى، ولو شئت أن أمس السماء لمست، ... هذه أيضا لم
يأت فيها ذكر للإسراء إلى المسجد الأقصى، ولا للبراق. وفى رواية-
(3/420)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
__________
- أنس عن مالك بن صعصعة يقول: «بينما أنا فى الحطيم- وربما قال قتادة فى
الحجر مضطجعا- إذ أتانى آت، فجعل يقول لصاحبه: الأوسط بين الثلاثة، قال:
فأتانى، فقد ما بين هذه إلى هذه أى من ثغرة نحره إلى مشعرته. أو من قصته
إلى مشعرته، ولم يأت كذلك ذكر الإسراء، وفى رواية أخرى: فرج سقف بينى، وأنا
بمكة، فنزل جبريل، ففرج صدرى، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب
ممتلىء حكمة وإيمانا، فأفرغها فى صدرى ثم أطبقه، ثم أخذ بيدى فعرج بى إلى
السماء ... لعل هذه الروايات تعين على إثبات هذا الرأى الأخير، وهو أن
المعراج شىء، والإسراء شىء آخر، وأن أن المعراج كان بالروح، وهذه هى الرؤيا
التى أراه الله، أما الإسراء، فكان بجسده وروحه. هذا وقد أجريت بعض مقارنات
بين الروايات المختلفة عن بعض الأمور التى وردت فى قصة، وإليك بعضها:
المكان الذى كان منه الإسراء: سنغفل التعبير بما يأتى: «ورد فى رواية» ،
وورد فى رواية أخرى للاختصار، وإليك ما ورد عن مكان الإسراء: المسجد
الحرام، فرج عن سقف بيته، وهو فى مكة. بيت أم هانىء. وقد جاءت هذه الرواية
بصورة توكيد، وذلك إذ تقول أم هانىء «ما أسرى برسول الله «ص» إلا وهو فى
بيتى نائم عندى» . وبعض الروايات أغفلت ذكر المكان. البراق أو ما حمل عليه:
بعض الروايات أغفلت ذكره. دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل- أتى به مسرجا
ملجما، فاستصعب، قهره جبريل، فارفض عرقه. حمل على البراق، فأوثق الدابة، أو
قال: الفرس. شجرة فيها كوكرى الطير، فقعد فى أحدهما، وقعد جبريل فى الاخر،
فسمت وارتفعت حتى سادت الخافقين. ينفى حذيفة بن اليمان أنه ربطه، وإنما
سخره له الله. سمى فرسا، وراح يصفها النبى لأبى بكر، لأن أبا بكر كان قد
رآها من قبل،. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- شق الصدر: كان قبل الوحى، وقد جاءه ثلاثة نفر، وهو نائم فى المسجد
الحرام، فقال أوسطهم: هو خيرهم، فقال آخرهم: خذوا خيرهم، فكانت تلك الليلة،
فلم يرهم حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه، ولا ينام قلبه، فلم
يكلموه، حتى احتملوه، فوضعوه عند بئر زمزم، فتولاه منهم جبريل، فشق ما بين
نحره إلى لبته الخ. أتاه ثلاثة، فشق أحدهم من ثغرة نحره إلى مشعرته، أو من
قصته إلى شعرته.. جاء جبريل ومكيال، فشق بطنه. فرج سقف بيته، وهو بمكة فنزل
جبريل، ففرج صدره، ثم غسله من ماء زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتلىء حكمة
وإيمانا، فأفرغها فى صدره «ص» ثم أطبقه صلاته ليلة الإسراء: صلى ركعتين فى
بيت المقدس. صلى بطيبة وبطور سيناء وبيت لحم، حيث ولد عيسى وصلى فى بيت
المقدس، حيث جمع له الأنبياء عليهم السلام، فقدمه جبريل، حتى أمهم، يقسم
حذيفة بن اليمان أنه ما صلى فى المسجد الأقصى، ولا دخله هو وجبريل، وأنهما
ما زايلا البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء، صلى فى بيت المقدس حيث اجتمع
ناس كثيرون، ثم أذن مؤذن، فأقيمت الصلاة، ويروى الحديث أن النبى «ص» قال:
فقمنا صفوفا ننتظر من يؤمنا، فأخذ بيدى جبريل عليه السلام، فقدمنى فصليت
بهم، فلما انصرفت، قال جبريل: يا محمد أتدرى من صلى خلفك؟ قال: قلت: لا،
قال: صلى خلفك كل نبى، بعثه الله عز وجل. بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء،
فأمهم تلك الليلة. صلى فى بيت المقدس، وصلى النبيون أجمعون معه. صلى فى بيت
المقدس، كما صلى فى البيت المعمور. هبط إلى بيت المقدس، وهبط معه الأنبياء،
فصلى بهم. كانت صلاته بالأنبياء فى السماء، وكانت صلاته أول دخوله إلى بيت
المقدس. الانية التى شرب منها: أتى بها بعد صلاته ركعتين فى بيت المقدس قبل
العروج. وهما: خمر ولبن، وأسند إلى الرسول «ص» اختيار اللبن. عرض عليه خمر
وماء ولبن عند بيت المقدس. عرضت عليه الانية فى السماء بعد أن رفع إلى
البيت المعمور. وكانت آنيته آنية خمر ولبن وعسل. إناء من لبن وإناء عسل بين
يدى-. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- شيخ متكىء، وهو الذى قال لجبريل: اختار صاحبك الفطرة. بعد انصرافه من بيت
المقدس أتى له بقدحين من لبن وعسل. جىء له بكأس من عسل ولبن، وهو فى
المسجد. بعد خروجه من بيت المقدس جىء له بإناء فيه ماء، فشرب يسيرا، وبإناء
فيه لبن فشرب حتى روى، وبإناء فيه خمر فلم يشرب. الأنبياء الذين لقيهم فى
السموات: سأذكر ما ورد فى عدة روايات فى الرواية الأولى: فى السماء الأولى
آدم وعنصرا النيل والفرات والكوثر، وفى الثانية إدريس ولم يذكر من فى
الثالثة، وفى الرابعة: هارون، ومن فى الخامسة لم يحفظ الراوى اسمه، وفى
السادسة: إبراهيم، وفى السابعة موسى. فى الرواية الثانية آدم فى السماء
الأولى، وفى الثانية: يحيى وعيسى. وفى الثالثة: يوسف، وفى الرابعة إدريس،
وفى الخامسة: هارون، وفى السادسة: موسى، وفى السابعة: إبراهيم وهو مستند
إلى البيت المعمور. وفى الرواية الثالثة: فتح له باب من أبواب السماء، فرأى
النور الأعظم، وإذا دون الحجاب: رفرف الدر والياقوت، وأوحى إلى الرسول «ص»
ما شاء الله أن يوحى. ولم يذكر شيئا عن النبيين. وفى الرواية الرابعة: فى
السماء الأولى: آدم فى الأولى، وفى الثانية: عيسى ويحيى وفى الثالثة يوسف،
وفى الرابعة: هارون، وفى الخامسة إدريس، وفى السادسة: موسى، وفى السابعة
إبراهيم. وفى الرواية الخامسة: آدم فى الأولى، فى الثانية عيسى وابن خالته
يحيى، فى الثالثة: يوسف. فى السماء الرابعة: إدريس، فى الخامسة: هارون، فى
السادسة: موسى، فى السابعة: إبراهيم. والكوثر فوق السابعة: وفى الرواية
السادسة: فى الأولى: آدم، فى الثانية: عيسى ويحيى، فى الثالثة: يوسف. فى
الرابعة: إدريس، فى الخامسة: هارون. فى السادسة: موسى، فى السابعة:
إبراهيم. وعند سدرة المنتهى فوق ذلك وجد أربعة الأنهار منها: النيل
والفرات، ثم رفع إلى البيت المعمور. -. . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- وفى الرواية السابعة: فى الأولى: آدم، ثم عرج إلى السماء الثانية، وذكر
أنه وجد فى السماوات إدريس وموسى وعيسى، ولكن لم يثبت منازلهم، وذكر أنه
وجد إبراهيم فى السادسة وفى الرواية الثامنة: كالرواية السابقة. وفى
الرواية التاسعة: وجد ملكا يقال له: إسماعيل، وهو صاحب السماء الدنيا، ووجد
فى السماء الأولى آدم وفى الثانية: يوسف، وفى الثالثة: يحيى وعيسى، وفى
الرابعة: إدريس، وفى الخامسة: هارون، وفى السادسة: موسى، وفى السابعة:
إبراهيم. وفى الرواية العاشرة: فى الأولى: آدم، وفى الثانية: عيسى ويحيى.
فى الثالثة: يوسف، فى الرابعة: إدريس: فى الخامسة: هارون. فى السادسة: موسى
يبكى. فى السابعة: إبراهيم. الأنهار: فى السماء الدنيا نهران، هما: عنصرا
النيل والفرات، كما وجد الكوثر: فوق ظهر السماء السابعة عند سدرة المنتهى:
أربعة أنهار، اثنان باطنان والاخران: النيل والفرات. الكوثر: ينشق من عين
تخرج من سدرة المنتهى التى فوق السماء السابعة، وهناك أيضا نهر يسمى الرحمة
اغتسل فيه النبى «ص» فغفر له كل ذنب، أنهار أولها: رحمة الله، والثانى:
نعمة الله، والثالث: سقاهم ربهم شرابا طهورا. بهذا العرض يتجلى لنا وجود ما
لا يمكن أن يوصف إلا بالتضاد أو التناقض، ولا يمكن أن يتصور مسلم أن رسول
الله- صلى الله عليه وسلم- يأتى بمثل هذا التناقض، أو يحكم على الشىء
بالنفى، وبالإثبات فى آن واحد. الإسراء حق، لأنه من إخبار القرآن، فلنحرص
على عدم التوسع فى ذكر الروايات التى يناقض بعضها بعضا، أو يحكم عليه
الواقع المشهود المحسوس بأنه وضع خيال. وليحذر المتهوكون الظن بأننا نضرب
صفحا عن أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، إنما نضرب صفحا عن أحاديث
الرواة الذين يخطئون ساهين، أو يتعمدون الخطأ ماكرين. ألا ترون إلى المفسر
السلفى الجليل الإمام ابن كثير كيف يقول عن شريك بن عبد الله بن أبى نمر
الذى أخرج له البخارى حديث-
(3/425)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
- اللهَ سُبْحَانَهُ سَيَرْفَعُهُمَا، وَيَذْهَبُ بِهِمَا عِنْدَ رَفْعِ
الْقُرْآنِ وَذَهَابِ الْإِيمَانِ، فَلَا يَبْقَى عَلَى الْأَرْض خَيْر،
وَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: (وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ) وَفِي
حَدِيثٍ مُسْنَدٍ ذَكَرَهُ النّحَاسُ فِي الْمَعَانِي بأتم من هذا
فاختصرته، وَوَقَعَ فِي كِتَابِ الْمُعَلّمِ لِلْمَازَرِيّ قَوْلٌ رَابِعٌ
فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَقْوَالِ قَالَ: كَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ
فِي الْيَقَظَةِ إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، فَكَانَتْ رُؤْيَا عَيْنٍ، ثُمّ
أُسْرِيَ بِرُوحِهِ إلَى فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ، وَلِذَلِكَ شَنّعَ
الْكُفّارُ قَوْلَهُ: وَأَتَيْت بَيْتَ الْمَقْدِسِ فِي لَيْلَتِي هَذِهِ،
وَلَمْ يُشَنّعُوا قوله فيما سوى ذلك «1» .
__________
- الإسراء فى كتاب التوحيد: «إن شريك. اضطرب فى هذا الحديث، وساء حفظه، ولم
يضبطه» ويقول عن روايات حديث الإسراء: «وإن اختلفت عبارات الرواة فى أدائه،
أو زاد بعضهم فيه، أو نقص منه، فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم
السلام، ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة، فأثبت إسراآت
متعددة، فقد أبعد، وأغرب، وهرب إلى غير مهرب، ولم يتحصل على مطلب، وقد صرح
بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسرى به مرة من مكة إلى بيت المقدس
فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط، ومرة إلى بيت المقدس، ومنه إلى السماء،
وفرح بهذا المسلك، وأنه قد ظفر بشىء يخلص به من الإشكالات، وهذا بعيد جدا،
انظر تفسير سورة الإسراء من تفسير ابن كثير، ولعلنا ندرك أنه ما دفع هؤلاء
إلى هذا إلا التناقض البادى بين روايات حديث الإسراء، وإلا إيمانهم بأن كل
هذه المتناقضات تنتسب حقا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، أما أنا فأومن
أن الرسول لا يقول إلا حقا وصدقا، ولا يمكن أن يصيبه النسيان الماكر، وهو
يقص علينا آية من آيات ربه الكبرى. وما عرضت نفسى لغضب الناس إلا اتقاء
لغضب الله، فإن يك هذا الظن منى صوابا فمن الله، وإلا فمنى، والله الهادى
إلى ما يحبه ويرضاه.
(1) هذا رأى سديد، وهو بعض ما ذهب إليه الإمام ابن القيم.
(3/429)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
شِمَاسُ الْبُرَاقِ:
فَصْلٌ: وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ شِمَاسُ الْبُرَاقِ
حِينَ رَكِبَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ لَهُ
جِبْرِيلُ: أَمَا تَسْتَحْيِي يَا بُرَاقُ، فَمَا رَكِبَك عَبْدٌ الله
قَبْلَ مُحَمّدٍ هُوَ أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُ، فَقَدْ قِيلَ: فِي
نُفْرَتِهِ مَا قَالَهُ ابْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ الْجَامِعِ الصّحِيحِ،
قَالَ: كَانَ ذَلِكَ لِبُعْدِ عَهْدِ الْبُرَاقِ بِالْأَنْبِيَاءِ، وَطُولِ
الْفَتْرَةِ بَيْنَ عِيسَى وَمُحَمّدٍ عَلَيْهِمَا السّلَامُ، وَرَوَى
غَيْرُهُ فِي ذَلِكَ سَبَبًا آخَرَ قَالَ فِي رِوَايَتِهِ فِي حَدِيثِ
الْإِسْرَاءِ: قَالَ جِبْرِيلُ لِمُحَمّدِ عَلَيْهِ السّلَامُ حِينَ شَمَسَ
بِهِ الْبُرَاقُ: لَعَلّك يَا مُحَمّدُ مَسِسْت الصّفْرَاءَ الْيَوْمَ،
فَأَخْبَرَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّهُ مَا
مَسّهَا إلّا أَنّهُ مَرّ بِهَا، فَقَالَ: تَبّا لِمَنْ يَعْبُدَك مِنْ
دُونِ اللهِ، وَمَا مَسّهَا إلّا لِذَلِكَ، وَذَكَرَ هَذِهِ الرّوَايَةَ
أَبُو سَعِيدٍ النّيْسَابُورِيّ فِي شَرَفِ الْمُصْطَفَى، فَاَللهُ
أَعْلَمُ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُ الصّفْرَاءِ فِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ،
وَأَنّهَا كَانَتْ صَنَمًا بَعْضُهُ مِنْ ذَهَبٍ فَكَسُرّهَا رَسُولُ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ الْفَتْحِ، وَفِي
الْحَدِيثِ الّذِي خَرّجَهُ التّرْمِذِيّ «1» مِنْ طَرِيقِ بُرَيْدَةَ
الْأَسْلَمِيّ «2» أَنّهُ- عليه السلام- حين انتهى
__________
(1) يقول ابن الأثير فى اللباب إنها نسبة إلى مدينة قديمة على طرف نهر بلخ
الذى يقال له جيحون، والناس مختلفون فى كيفية هذه النسبة، بعضهم يقول بفتح
التاء وبعضهم بضمها، وبعضهم بكسرها. والمتداول على لسان أهل تلك المدينة:
بفتح التاء وكسر الميم، والذى كنا نعرفه فيه قديما كسر التاء والميم جميعا،
والذى يقوله المنفوقون، وأهل المعرفة بضم التاء والميم، وبعض هذا فى
المراصد.
(2) قيل اسمه عامر: وبريدة لقب، وفى الصحيحين أنه غزا مع النبى «ص» ست عشرة
غزوة
(3/430)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ، قَالَ جِبْرِيلُ: بِإِصْبَعِهِ إلَى الصخرة،
فحرقها فَشَدّ بِهَا الْبُرَاقَ «1» ، وَصَلّى، وَأَنّ حُذَيْفَةَ أَنْكَرَ
هَذِهِ الرّوَايَةَ، وَقَالَ: لَمْ يَفِرّ مِنْهُ وَقَدْ سَخّرَهُ لَهُ
عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشّهَادَةِ «2» ، وَفِي هَذَا مِنْ الْفِقْهِ عَلَى
رِوَايَةِ بُرَيْدَةَ: التّنْبِيه عَلَى الْأَخْذِ بِالْحَزْمِ مَعَ صِحّة
التّوَكّل، وَأَنّ الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ كَمَا- رُوِيَ عَنْ وَهْب بْن
مُنَبّهٍ- لَا يَمْنَعُ الْحَازِمُ مِنْ تُوقِي الْمَهَالِك. قَالَ وَهْب:
وَجَدَتْهُ فِي سَبْعِينَ كِتَابًا مِنْ كُتُبِ
__________
(1) رواه أبو بكر البزار، وقال: لا نعلم رواه عن الزبير بن جنادة إلا أبو
نميلة، ولا نعلم هذا الحديث إلا عن بريدة. وقد رواه الترمذى فى التفسير من
جامعه عن يعقوب بن إبراهيم. وقال: غريب.
(2) فى الأصل: لم أيفر منه. وفى حديث حذيفة هذا تعبير محكم المعنى، فقد سمع
زر بن حبيش- بحدث عن ليلة الإسراء، فقال له: ما اسمك يا أصلع؟! فأنا أعرف
وجهك، ولا أدرى ما اسمك؟ قال زر: أنا زر ابن حبيش، فقال له حذيفة: فما علمك
بِأَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى فيه
ليلتئذ، أى: فى بيت المقدس؟ فقال زر: القرآن يخبرنى بذلك، فقال حذيفة كلمته
الرائعة التى تشع بنور الحق العظيم: من تكلم بالقرآن أفلح، ثم طلب من زر أن
يقرأ، فقرأ: سبحان الذى أسرى، فقال حذيفة: يا أصلع!! هل تجد صلى فيه؟ فقال
زر: لا: فقال حذيفة: والله ما صلى فيه رسول الله «ص» ليلتئذ، ولو صلى فيه
لكتبت عليكم صلاة فيه، كما كتب عليكم صلاة فى البيت العتيق. والله ما زايلا
البراق حتى فتحت لهما أبواب السماء، فرأيا الجنة والنار، ووعد الاخرة أجمع،
ثم عادا عودهما على بدئهما، قال زر: ثم ضحك حتى رأيت نواجذه قال حذيفة:
ويحدثون أنه ربطه لا يفر منه، وإنما سخره له عالم الغيب والشهادة. وقد روى
حديث حذيفة هذا الإمام أحمد، وأبو داود الطيالسى، والترمذى والنسائى، وقال
الترمذى: حسن
(3/431)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اللهِ الْقَدِيمَةِ «1» ، وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «قَيّدْهَا وَتَوَكّلْ» «2» فَإِيمَانُهُ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنّهُ قَدْ سُخّرَ لَهُ كَإِيمَانِهِ
بِقَدَرِ اللهِ وَعِلْمِهِ بِأَنّهُ سَبَقَ فِي عِلْمِ الْكِتَابِ مَا
سَبَقَ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ يَتَزَوّدُ فِي أَسْفَارِهِ وَيَعُدّ
السّلَاحَ فِي حُرُوبِهِ، حَتّى لَقَدْ ظَاهَرَ بَيْنَ دِرْعَيْنِ فِي
غَزْوَةِ أُحُدٍ. وَرَبْطُهُ لِلْبُرَاقِ فِي حَلْقَةِ الْبَابِ مِنْ هَذَا
الْفَنّ، وَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُ بُرَيْدَةَ
وَوَقَعَ فِي حَدِيثِ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي أُسَامَةَ مِنْ طَرِيقِ
أَنَسٍ، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ، وَغَيْرِهِمَا أَعْنِي رَبْطَهُ
لِلْبُرَاقِ فِي الْحَلْقَةِ الّتِي كَانَتْ تَرْبُطُهُ فِيهَا
الْأَنْبِيَاءُ، غَيْرَ أَنّ الْحَدِيثَ يَرْوِيهِ دَاوُدُ بْنُ
الْمُحَبّرِ، وَهُوَ ضَعِيفٌ.
مَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ: مَنْ مَعَك مَعْنَى قَوْلِ الْمَلَائِكَةِ:
مَنْ مَعَك وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ قَوْلُ الْمَلَائِكَةِ فِي كُلّ
سَمَاءٍ لِجِبْرِيلَ: مَنْ مَعَك، فَيَقُولُ: مُحَمّدٌ، فَيَقُولُونَ:
أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ فَيَقُولُ: نَعَمْ هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي
الصّحَاحِ، وَمَعْنَى سُؤَالِهِمْ عَنْ الْبَعْثِ إلَيْهِ فِيمَا قَالَ
بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَيْ: قَدْ بُعِثَ إلَيْهِ إلَى السّمَاءِ، كَمَا
قَدْ وَجَدُوا فِي الْعِلْمِ أَنّهُ سَيُعْرَجُ بِهِ، وَلَوْ أَرَادُوا
بَعْثَهُ إلَى الْخَلْقِ، لَقَالُوا: أَوَقَدْ بُعِثَ، وَلَمْ يَقُولُوا
إلَيْهِ، مَعَ أَنّهُ يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى عَنْ الْمَلَائِكَةِ بَعْثُهُ
إلَى الْخَلْقِ، فَلَا يَعْلَمُونَ بِهِ إلَى لَيْلَةِ الْإِسْرَاءِ، وَفِي
الْحَدِيثِ الّذِي تَقَدّمَ فِي هَذَا الْكِتَابِ بَيَانٌ أَيْضًا حِينَ
ذَكَرَ تَسْبِيحَ مَلَائِكَةِ السّمَاءِ السّابِعَةِ، ثُمّ تَسْبِيحُ
مَلَائِكَةِ كُلّ سَمَاءٍ، ثُمّ يَسْأَلُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا: مِمّ
سَبّحْتُمْ حَتّى يَنْتَهِي السّؤَالُ إلَى مَلَائِكَةِ السّمَاءِ
السّابِعَةِ، فيقولون: قضى ربّنا فى خلفه
__________
(1) ياويل التفسير من مخترعات وهب
(2) فى الجامع الصغير للسيوطى: «اعقلها وتوكل» وراه الترمذى عن أنس وهو
ضعيف
(3/432)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَذَا، ثُمّ يَنْتَهِي الْخَبَرُ إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا- الْحَدِيثُ
بِطُولِهِ، وَفِي هَذَا مَا يَدُلّ عَلَى أَنّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ
عَلِمَتْ بِنُبُوّةِ مُحَمّدٍ- صَلَّى الله عليه وسلم- حين نبّىء،
وَإِنّمَا قَالَتْ:
أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ، أَيْ قَدْ بُعِثَ إلَيْهِ بِالْبُرَاقِ كَمَا
تَقَدّمَ عَلَى أَنّ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ أَنّ مَلَائِكَةَ سَمَاءِ
الدّنْيَا قَالَتْ لِجِبْرِيلَ: أَوَقَدْ بُعِثَ، كَمَا وَقَعَ فِي
السّيرَةِ وَلَيْسَ فِي أَوّلِ الْحَدِيثِ: إلَيْهِ، هَذَا إنّمَا جَاءَ
فِي حَدِيثِ الرّؤْيَا الّتِي رَآهَا بِقَلْبِهِ، كَمَا قَدّمْنَا، وَأَنّ
ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُوحَى إلَيْهِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ بِعَيْنِهِ،
وَفِي هَذَا قُوّةٌ لِمَا تَقَدّمَ مِنْ أَنّ الْإِسْرَاءَ كَانَ رُؤْيَا،
ثُمّ كَانَ رُؤْيَةً؛ وَلِذَلِكَ لَمْ نَجِدْ فِي رِوَايَةٍ مِنْ
الرّوَايَاتِ أَنّ الْمَلَائِكَةَ قَالُوا: أَوَقَدْ بُعِثَ إلَيْهِ إلّا
فِي ذَلِكَ الْحَدِيثِ، فَاَللهُ أَعْلَمُ.
بَابُ الْحَفَظَةِ:
وَذَكَرَ بَابَ الْحَفَظَةِ، وَأَنّ عَلَيْهِ مَلَكًا يُقَالُ لَهُ:
إسْمَاعِيلُ، وَقَدْ جَاءَ ذِكْرُهُ فِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ، وَفِيهِ أَنّ
تَحْتَ يَدِهِ سَبْعُونَ أَلْفِ مَلَكٍ تَحْتَ يَدِ كُلّ مَلَكٍ سَبْعُونَ
أَلْفِ «1» مَلَكٍ، هَكَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ فِي رِوَايَةِ الْحَارِثِ،
وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ مَلَكٍ هَكَذَا
لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَفِي مُسْنَدِ الْحَارِثِ أَيْضًا.
__________
(1) أخرجه البيهقى فى كتاب دلائل النبوة وأوله يخالف الروايات الأخرى
«فبينما أنا نائم عشاء فى المسجد الحرام، إذ أتانى آت، فأيقظنى، فاستيقظت،
فلم أر شيئا، فإذا أنا بكهيئة خيال، فأتبعته بصرى؛ حتى خرجت من المسجد
الحرام الخ.
(3/433)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، فَقَالَ: لَوْ غُطّيَتْ بِوَرَقَةِ مِنْ
وَرَقِهَا هَذِهِ الْأُمّةُ لَغَطّتْهُمْ، وَفِي صِفَتِهَا مِنْ رِوَايَةِ
الْجَمِيعِ: فَإِذَا ثَمَرُهَا كَقِلَالِ هَجَرَ، وَفِي حَدِيثِ
الْقِلّتَيْنِ مِنْ كِتَابِ الطّهَارَةِ، مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ جُرَيْج «1»
: إذَا كَانَ الْمَاءُ قِلّتَيْنِ مِنْ قِلَالِ هَجَرَ لَمْ يَحْمِلْ
الْخَبَثَ «2» قَالُوا: وَالْقِلّتَانِ مِنْهَا تِسْعَانِ خَمْسمِائَةِ
رِطْلٍ، قَالَ التّرْمِذِيّ: وَذَلِكَ نَحْوٌ مِنْ خَمْسِ قِرَبٍ، وَفِي
تَفْسِيرِ ابْنِ سَلّامٍ قَالَ عَنْ بَعْضِ السّلَفِ: إنّهَا سُمّيَتْ
سِدْرَةَ الْمُنْتَهَى، لِأَنّ رُوحَ الْمُؤْمِنِ يَنْتَهِي بِهِ إلَيْهَا،
فَتُصَلّي عَلَيْهِ هُنَالِكَ الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرّبُونَ. قَالَ ذَلِكَ
فِي تَفْسِيرِ عِلّيّينَ.
آدَم فِي سَمَاءِ الدّنْيَا وَالْأَسْوِدَةُ الّتِي رَآهَا:
فَصْلٌ: وَفِيهِ أَنّهُ رَأَى آدَم فِي سَمَاءِ الدّنْيَا، وَعَنْ
يَمِينِهِ أَسْوِدَةٌ، وَعَنْ شِمَالِهِ أَسْوِدَةٌ، وَأَنّ جِبْرِيلَ
أَعْلَمَهُ أَنّ الْأَسْوِدَةَ الّتِي عَنْ يَمِينِهِ هُمْ: أَصْحَابُ
الْيَمِينِ، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ: تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ
ذُرّيّتِهِ، فَإِذَا نَظَرَ إلَى الّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ ضَحِكَ، وَقَدْ
سُئِلَ عَنْ هَذَا، فَقِيلَ: كَيْفَ رَأَى عَنْ يَمِينِهِ أَرْوَاحَ
أَصْحَابِ الْيَمِينِ، وَلَمْ يَكُنْ إذْ ذَاكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ
إلّا نَفَرٌ قَلِيلٌ، وَلَعَلّهُ لَمْ يَكُنْ مات
__________
(1) هو عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ جُرَيْجٍ القرشى
الأموى مولاهم المكى أبو الوليد، ويقال: أبو خالد، وهو من تابعى التابعين
توفى سنة 150 وقيل غير ذلك.
(2) تكلمنا عنه من قبل، وأقول: ورد فى نيل الأوطار للامام الشوكانى: «وأما
التقييد بقلال هجر، فلم يثبت مرفوعا إلا من رواية المغيرة بن صقلاب عند ابن
عدى، وهو منكر الحديث. قال النفيل: لم يكن مؤتمنا على الحديث، وقال ابن
عدى: لا يتابع على عامة حديثه» ص 31 ح 1 ط عثمان خليفة.
(3/434)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تِلْكَ اللّيْلَةَ مِنْهُمْ أَحَدٌ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْضِي أَنّهُمْ
كَانُوا جَمَاعَةً. فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: إنْ كَانَ الْإِسْرَاءُ
رُؤْيَا بِقَلْبِهِ، فَتَأْوِيلُهَا أَنّ ذَلِكَ سَيَكُونُ، وَإِنْ كَانَتْ
رُؤْيَا عَيْنٍ، كَمَا قَالَ ابْنُ عَبّاسٍ وَغَيْرُهُ بِمَعْنَاهُ: أَنّ
ذَلِكَ أَرْوَاحُ الْمُؤْمِنِينَ رَآهَا هُنَالِكَ، لِأَنّ اللهَ تَعَالَى
يَتَوَفّى الْخَلْقَ فِي مَنَامِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي التّنْزِيلِ:
اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الزّمَرُ 43 فَصَعِدَ
بِالْأَرْوَاحِ إلَى هُنَالِكَ، فَرَآهَا ثُمّ أُعِيدَتْ إلَى
أَجْسَادِهَا. وَجَوَابٌ آخَرُ: وَهُوَ أَنّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ الّذِينَ
ذَكَرَهُمْ اللهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمُدّثّرِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ.
فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ 39: 40. قَالَ ابْنُ
عَبّاسٍ: هُمْ الْأَطْفَالُ الّذِينَ مَاتُوا صِغَارًا، وَلِذَلِكَ
سَأَلُوا المجرمين: (ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ) لِأَنّهُمْ مَاتُوا قَبْلَ
أَنْ يَعْلَمُوا بِكُفْرِ الْكَافِرِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصّحِيحِ أَنّ
أَطْفَالَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي كِفَالَةِ إبْرَاهِيمَ
عَلَيْهِ السّلَامُ، وَأَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
قال لِجِبْرِيلَ حِينَ رَآهُمْ فِي الرّوْضَةِ مَعَ إبْرَاهِيمَ: مَنْ
هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ فَقَالَ: أَوْلَادُ الْمُؤْمِنِينَ الّذِينَ
يَمُوتُونَ صِغَارًا، فَقَالَ لَهُ: وَأَوْلَادُ الْكَافِرِينَ، قَالَ:
وَأَوْلَادُ الْكَافِرِين. خَرّجَهُ الْبُخَارِيّ فِي الْحَدِيثِ الطّوِيلِ
مِنْ كِتَابِ الْجَنَائِزِ، وَخَرّجَهُ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ، فَقَالَ فِيهِ:
أَوْلَادُ النّاسِ، فَهُوَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوّلِ نَصّ، وَفِي الثّانِي
عُمُومٌ، وَقَدْ رُوِيَ فِي أَطْفَالِ الْكَافِرِينَ أَنّهُمْ خَدَمٌ
لِأَهْلِ الْجَنّةِ، فَعَلَى هَذَا لَا يَبْعُدُ أَنْ يَكُونَ الّذِي رَآهُ
عَنْ يَمِينِ آدَم مِنْ نَسَمِ ذُرّيّتِهِ أَرْوَاحُ هَؤُلَاءِ، وَفِي
هَذَا مَا يَدْفَعُ تَشْعِيبَ هَذَا السّؤَالِ وَالِاعْتِرَاضِ مِنْهُ.
(3/435)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ حُكْمِ الْمَاءِ:
فَصْلٌ: وَفِيهِ شُرْبُهُ مِنْ إنَاءِ الْقَوْمِ، وَهُوَ مُغَطّى،
وَالْمَاءُ وَإِنْ كَانَ لَا يُمْلَكُ وَالنّاسُ شُرَكَاءُ فِيهِ، وَفِي
النّارِ وَالْكَلَأِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ، لَكِنْ الْمُسْتَقَى إذَا
أَحْرَزَهُ فِي وِعَائِهِ، فَقَدْ مَلَكَهُ، فَكَيْفَ اسْتَبَاحَ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شُرْبَهُ وَهُوَ مِلْكٌ لِغَيْرِهِ،
وَأَمْلَاكُ الْكُفّارِ لَمْ تَكُنْ أُبِيحَتْ يَوْمئِذٍ، وَلَا
دِمَاؤُهُمْ.
فَالْجَوَابُ أَنّ الْعَرَبَ فِي الْجَاهِلِيّةِ كَانَ فِي عُرْفِ
الْعَادَةِ عِنْدَهُمْ إبَاحَةُ الرّسُلِ لَابْنِ السّبِيلِ فَضْلًا عَنْ
الْمَاءِ، وَكَانُوا يَعْهَدُونَ بِذَلِكَ إلَى رِعَائِهِمْ،
وَيَشْتَرِطُونَهُ عَلَيْهِمْ عِنْدَ عَقْدِ إجَارَتِهِمْ: أَلّا
يَمْنَعُوا الرّسُلَ، وَهُوَ اللّبَنُ مِنْ أَحَدٍ مَرّ بِهِمْ،
وَلِلْحُكْمِ فِي الْعُرْفِ فِي الشّرِيعَةِ أُصُولٌ تَشْهَدُ لَهُ، وَقَدْ
تَرْجَمَ الْبُخَارِيّ عَلَيْهِ فِي كِتَابِ الْبُيُوعِ، وَخَرّجَ حَدِيثَ
هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَةَ، وَفِيهِ: خُذِي مَا يَكْفِيك وَوَلَدَك
بِالْمَعْرُوف.
عَنْ دُخُولِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَصِفَةُ الْأَنْبِيَاءِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ فِيهِ أَنّهُ دَخَلَ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَوَجَدَ فِيهِ
نَفَرًا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ، فَصَلّى بِهِمْ، وَفِي حَدِيثِ التّرْمِذِيّ
الّذِي قَدّمْنَاهُ عَنْ حُذَيْفَةَ أَنّهُ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ صَلّى
بِهِمْ، وَقَالَ: مَا زَالَ مِنْ ظَهْرِ الْبُرَاقِ، حَتّى رَأَى الْجَنّةَ
وَالنّارَ، وَمَا وَعَدَهُ اللهُ تَعَالَى، ثُمّ عَادَ إلَى الْأَرْضِ،
وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ، وَرِوَايَةُ مَنْ أَثْبَتَ مُقَدّمَةٌ
عَلَى رِوَايَةِ مَنْ نَفَى، وَذَكَرَ فِيهِ صِفَةَ الْأَنْبِيَاءِ،
وَقَالَ فِي عِيسَى:
كَأَنّ رَأْسَهُ يَقْطُرُ مَاءً وَلَيْسَ بِهِ مَاءٌ، وَكَأَنّهُ خَرَجَ
مِنْ دِيمَاس وَالدّيمَاسُ: الحمّام،
(3/436)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَصْلُهُ: دِمَاسٌ وَيُجْمَعُ عَلَى دَمَامِيسَ، وَقَدْ قِيلَ فِي
جَمْعِهِ: دَيَامِيسُ «1» ، وَمِثْلُهُ:
قِيرَاطٌ وَدِينَارٌ وَدِيبَاجٌ، الْأَصْلُ فِيهَا كُلّهَا: التّضْعِيفُ،
ثُمّ قُلِبَ الْحَرْفُ الْمُدْغَمُ يَاءً، فَلَمّا جَمَعُوا وَصَغّرُوا،
رَدّوهُ إلَى أَصْلِهِ، فَقَالُوا: قَرَارِيطُ وَدَنَانِيرُ:
[وَقُرَيْرِيطٌ وَدُنَيْنِيرٌ] «2» ، غَيْرَ أَنّهُمْ لَمْ يَقُولُوا:
دَنَانِيرُ وَلَا قَيَارِيط، كَمَا قالوا: دياميس، وقالوا: دبابيج وديابيج
«3» ، وَأَصْلُ الدّمْسِ: التّغْطِيَةُ وَمِنْهُ لَيْلٌ دَامِسٌ، وَفِي
هَذِهِ الصّفّةِ مِنْ صِفَاتِ عِيسَى عَلَيْهِ السّلَامُ إشَارَةٌ إلَى
الرّيّ وَالْخِصْبِ الّذِي يَكُونُ فِي أَيّامِهِ إذْ أُهْبِطَ إلَى
الْأَرْضِ وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَذَكَرَ فِي صِفَةِ مُوسَى أَنّهُ آدَم طُوَالٌ، وَلِوَصْفِهِ إيّاهُ
بِالْأَدْمَةِ أَصْلٌ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، قَالَهُ الطّبَرِيّ
عِنْدَ تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ قَالَ:
فِي خُرُوجِ يَدِهِ بَيْضَاءَ آيَةٌ فِي أَنْ خَرَجَتْ بَيْضَاءَ
مُخَالِفًا لَوْنُهَا لِسَائِرِ لَوْنِ جَسَدِهِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ بَيْنَ
عَلَى الْأَدْمَةِ الّتِي هِيَ خِلَافُ الْبَيَاضِ «4» .
وَذَكَرَ إبْرَاهِيمَ فَقَالَ: لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ
وَلَا صَاحِبُكُمْ أَشَبَهَ به منه،
__________
(1) فى اللسان «إن فتحت الدال جمع على دياميس مثل شيطان وشياطين، وإن
كسرتها جمعت على دماميس»
(2) زيادة يقتضيها السباق.
(3) فى اللسان مادة دنر: «قال أبو منصور: دينار وقيراط وديباج أصلها
أعجمية، غير أن العرب تكلمت بها قديما، فصارت عربية» .
(4) الذى فى الطبرى فى تفسير الاية: «ذكر أن موسى عليه السلام كان رجلا
آدم، فأدخل يده فى جيبه، ثم أخرجها بيضاء من غير سوء من غير برص مثل الثلج،
ثم ردها، فخرجت كما كانت على لونه» .
(3/437)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَعْنِي: نَفْسَهُ، وَفِي آخِرِ هَذَا الْكَلَامِ إشْكَالٌ مِنْ أَجْلِ
أَنْ أَشَبَهَ مَنْصُوبٌ فِي الْمَوْضِعَيْنِ، وَلَكِنْ إذَا فَهِمْت
مَعْنَاهُ، عَرَفْت إعْرَابَهُ، وَمَعْنَاهُ: لَمْ أَرَ رَجُلًا أَشَبَهَ
بِصَاحِبِكُمْ وَلَا صَاحِبُكُمْ بِهِ مِنْهُ «1» ، ثُمّ كَرّرَ أَشَبَهَ
تَوْكِيدًا فَصَارَتْ لَغْوًا كَالْمُقْحَمِ وَصَاحِبُكُمْ مَعْطُوفٌ عَلَى
الضّمِيرِ الّذِي فِي أَشَبَهَ الْأَوّلِ الّذِي هُوَ نَعْتٌ لِرَجُلِ،
وَحَسُنَ الْعَطْفُ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يُؤَكّدْ بِهُوَ، كَمَا حَسُنَ
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا مِنْ أَجْلِ الْفَصْلِ
بِلَا النّافِيَةِ، وَلَوْ أُسْقِطَ مِنْ الْكَلَامِ أَشَبَهَ الثّانِي،
لَكَانَ حَسَنًا جِدّا، وَلَوْ أَخّرَ صَاحِبُكُمْ فَقَالَ: وَلَا أَشَبَهَ
بِهِ صَاحِبُكُمْ مِنْهُ لَجَازَ، وَيَكُونُ فَاعِلًا بِأَشْبَهَ
الثّانِيَةِ، وَيَكُونُ مِنْ بَابِ قَوْلِهِمْ: مَا رَأَيْت رَجُلًا
أَحْسَنَ فِي عَيْنِهِ الْكُحْلُ مِنْ زَيْدٍ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عَذْرَاءُ
لَمْ تَفْتَرِعْهَا أَيْدِي النّحَاةِ «2» ، بَعْدُ وَلَمْ يَشْفِ مِنْهَا
مُتَقَدّمٌ مِنْهُمْ، وَلَا مُتَأَخّرٌ ممّن رأينا كلامه فيها وقد أملينا
هى غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ فِيهَا تَحْقِيقًا شَافِيًا.
صِفَةُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ في صفة- النبي- صلى الله عليه وسلم- مِمّا نَعَتَهُ بِهِ
عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ
بالطويل الممغط بالغين المعجمة،
__________
(1) رواية مسلم «أشبه الناس به صاحبكم- يعنى نفسه» .
(2) هى مسألة مفصلة فى كتب النحو عن عمل أفعل التفضيل ورفعه للاسم الظاهر،
فانظر لها مثلا ص 106 ح 2 من شرح التصريح على التوضيح، ص 46 ح 3 من حاشية
الصبان على شرح الأشمونى ط 1305 هـ ص 252 ح 3 النحو الوافى للأستاذ عباس
حسن.
(3/438)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ بِالْعَيْنِ الْمُهْمَلَةِ، وَذَكَرَ
الْأَوْصَافَ إلَى آخِرِهَا وَقَدْ شَرَحَهَا أَبُو عُبَيْدٍ، فَقَالَ عَنْ
الْأَصْمَعِيّ، وَالْكِسَائِيّ وَأَبِي عَمْرٍو وَغَيْرِ وَاحِدٍ:
قَوْلُهُ: لَيْسَ بِالطّوِيلِ الْمُمّعِطِ أَيْ: لَيْسَ بِالْبَائِنِ
الطّوِيلِ، وَلَا الْقَصِيرِ الْمُتَرَدّدِ «1» يَعْنِي: الّذِي تَرَدّدَ
خَلْقُهُ بَعْضُهُ عَلَى بَعْضٍ، وَهُوَ مُجْتَمَعٌ لَيْسَ بِسَبْطِ
الْخَلْقِ يَقُولُ: فَلَيْسَ هُوَ كَذَلِكَ، وَلَكِنْ رَبْعَةٌ بَيْنَ
الرّجُلَيْنِ، وَهَكَذَا صِفَتُهُ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: ضَرَبَ اللّحْمُ بَيْنَ الرّجُلَيْنِ.
وَقَوْلُهُ: لَيْسَ بِالْمُطَهّمِ، قَالَ الْأَصْمَعِيّ: هُوَ التّامّ كُلّ
شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ، فَهُوَ بَارِعُ الْجَمَالِ، وَقَالَ غَيْرُ
الْأَصْمَعِيّ الْمُكَلْثَمُ الْمُدَوّرُ الْوَجْهُ، يَقُولُ: لَيْسَ
كَذَلِكَ، وَلَكِنّهُ مَسْنُونٌ، وَقَوْله: مُشْرَبٌ يَعْنِي الّذِي
أُشْرِبَ حُمْرَةً، وَالْأَدْعَجُ الْعَيْنُ: الشّدِيدُ سَوَادِ الْعَيْنِ
قَالَ الْأَصْمَعِيّ: الدّعْجَةُ: هِيَ السّوَادُ، وَالْجَلِيلُ
الْمُشَاشُ: الْعَظِيمُ الْعِظَامِ مِثْلَ الرّكْبَتَيْنِ
وَالْمِرْفَقَيْنِ وَالْمَنْكِبَيْنِ، وَقَوْلُهُ: الْكَتَدُ هُوَ:
الْكَاهِلُ، وَمَا يَلِيهِ مِنْ جَسَدِهِ، وَقَوْلُهُ شَثْنُ الْكَفّيْنِ
وَالْقَدَمَيْنِ يَعْنِي: أَنّهُمَا إلَى الْغِلَظِ. وَقَوْلُهُ: لَيْسَ
بِالسّبْطِ وَلَا الْجَعْدِ الْقَطَطِ، فَالْقَطَطُ: الشّدِيدُ
الْجُعُودَةُ مِثْلُ شُعُورِ الْحَبَشَةِ، وَوَقَعَ فِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ
لِأَبِي عُبَيْدٍ التّامّ كُلّ شَيْءٍ مِنْهُ عَلَى حِدَتِهِ. يَقُول:
لَيْسَ كَذَلِكَ، وَلَكِنّهُ بَارِعُ الْجَمَالِ، فَهَذِهِ الْكَلِمَةُ،
أَعْنِي: لَيْسَ كَذَلِكَ مُخِلّةً بِالشّرْحِ، وَقَدْ وَجَدْته فِي
رِوَايَةٍ أُخْرَى عَنْ أَبِي عُبَيْدٍ بِإِسْقَاطِ: يَقُولُ كَذَلِكَ،
وَلَكِنْ عَلَى نص ذكرناه آنفا
__________
(1) وردت هذه الأوصاف فى حديث رواه الترمذى وإسناده ضعيف.
(3/439)
[قِصّةُ الْمِعْرَاجِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنّهُ قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: لَمّا فَرَغْتُ مِمّا كَانَ
فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ، أُتِيَ بِالْمِعْرَاجِ- وَلَمْ أَرَ شَيْئًا قَطّ
أَحْسَنَ مِنْهُ- وَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عنه عن الأصمعي، والذي في غريب الحديث من تلك الزيادة وهم وقع في الكتاب،
والله أعلم.
وأما ما رواه الترمذي عن الأصمعى فى شرح المطهم قال: هو البادن: الكثير
اللحم، ذكره عن أبى جعفر، عن الأصمعى، وذكر عنه في الممغط نحو ما قدمناه،
قال: وسمعت أعرابيا يقول تمغط في نشابة أي: مدها، وفي كتاب العين: مغطت
الشيء إذا مددته، وقال فى باب العين المهملة معطت «1» الشيء إذا مددته، كما
قال في العين المعجمة، فعلى هذا يقال فيه ممغط وممغط، ووزنه منفعل، واندغمت
النون في الميم، كما اندغمت في محوته فامحى لما أمن التباسه بالمضاعف، ولم
يدغموا النون في الميم في شاه زنماء، ولا في غنم لئلا يلتبس بالمضاعف، لو
قالوا: أزماء وغما، وقد ذكرنا قبل ما وهم فيه الترمذي من تفسير زر الحجلة
حيث قال: يقال إنه بيض له، حيث تكلمنا على خاتم النبوة وصفته، واختلاف
الرواية فيه والحمد لله.
__________
(1) كذلك يقول اللسان.
(3/440)
الّذِي يَمُدّ إلَيْهِ مَيّتُكُمْ
عَيْنَيْهِ إذَا حُضِرَ، فَأَصْعَدَنِي صَاحِبِي فِيهِ، حَتّى انْتَهَى بِي
إلَى بَابٍ مِنْ أَبْوَابِ السّمَاءِ، يُقَالُ لَهُ: بَابُ الْحَفَظَةِ،
عَلَيْهِ مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، يُقَالُ لَهُ: إسْمَاعِيلُ، تَحْتَ
يَدَيْهِ اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ، تَحْتَ يَدَيْ كُلّ مَلَكٍ مِنْهُمْ
اثْنَا عَشَرَ أَلْفَ مَلَكٍ- قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ حَدّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ: وَمَا
يَعْلَمُ جُنُودَ رَبّك إلّا هُوَ- فَلَمّا دُخِلَ بِي، قَالَ: مَنْ هَذَا
يَا جِبْرِيلُ؟ قال: هذا محمد. قال: أو قد بُعِثَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ:
فَدَعَا لِي بِخَيْرِ: وقاله.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَمّنْ
حَدّثَهُ عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّهُ
قَالَ: تَلَقّتْنِي الْمَلَائِكَةُ حِينَ دَخَلْت السّمَاءَ الدّنْيَا،
فَلَمْ يَلْقَنِي مَلَكٌ إلّا ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا، يَقُولُ خَيْرًا
وَيَدْعُو بِهِ، حَتّى لَقِيَنِي مَلَكٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ، فَقَالَ
مِثْلَ مَا قَالُوا، وَدَعَا بِمِثْلِ مَا دَعَوْا بِهِ، إلّا أَنّهُ لَمْ
يَضْحَكْ، وَلَمْ أَرَ مِنْهُ مِنْ الْبِشْرِ مِثْلَ مَا رَأَيْت مِنْ
غَيْرِهِ، فَقُلْت لِجِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ مَنْ هَذَا الْمَلَكُ الّذِي
قَالَ لِي كَمَا قَالَتْ الْمَلَائِكَةُ وَلَمْ يَضْحَكْ إلَيّ، وَلَمْ
أَرَ مِنْهُ مِنْ الْبِشْرِ مِثْلَ الّذِي رَأَيْتُ مِنْهُمْ؟ قَالَ:
فَقَالَ لِي جِبْرِيلُ: أَمَا إنّهُ لَوْ ضَحِكَ إلَى أَحَدٍ كَانَ
قَبْلَك، أَوْ كَانَ ضَاحِكًا إلَى أَحَدٍ بَعْدَك، لَضَحِكَ إلَيْك،
وَلَكِنّهُ لَا يَضْحَكُ، هَذَا مَالِكٌ خَازِنُ النّارِ، فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقُلْت لِجِبْرِيلَ، وَهُوَ
مِنْ اللهِ تَعَالَى بِالْمَكَانِ الّذِي وُصِفَ لَكُمْ (مُطَاعٍ ثَمّ
أَمِينٍ) :
أَلَا تَأْمُرُهُ أَنْ يُرِيَنِي النّارَ؟ فَقَالَ: بَلَى، يَا مَالِكُ،
أَرِ مُحَمّدًا النّارَ. قَالَ: فَكَشَفَ عَنْهَا غِطَاءَهَا، فَفَارَتْ،
وَارْتَفَعَتْ، حَتّى ظَنَنْت: لَتَأْخُذَنّ مَا أَرَى. قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/441)
فَقُلْت لِجِبْرِيلَ: يَا جِبْرِيلُ،
مُرْهُ، فَلْيَرُدّهَا إلَى مكانها. قال: فأمره، فقال لها:
اخسبى، فَرَجَعَتْ إلَى مَكَانِهَا الّذِي خَرَجَتْ مِنْهُ. فَمَا شَبّهْتُ
رُجُوعَهَا إلّا وُقُوعَ الظّلّ. حَتّى إذَا دَخَلَتْ مِنْ حَيْثُ خَرَجَتْ
رَدّ عَلَيْهَا غِطَاءَهَا.
قَالَ أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ فِي حَدِيثِهِ: أَنّ رَسُولَ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- قال: لَمّا دَخَلْتُ السّمَاءَ الدّنْيَا،
رَأَيْت بِهَا رَجُلًا جَالِسًا تُعْرَضُ عَلَيْهِ أَرْوَاحُ بَنِي آدَمَ،
فَيَقُولُ لِبَعْضِهَا، إذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ خَيْرًا وَيُسَرّ بِهِ،
وَيَقُولُ: رُوحٌ طَيّبَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ طَيّبٍ، وَيَقُولُ
لِبَعْضِهَا إذَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ: أُفّ، وَيَعْبِسُ بِوَجْهِهِ
وَيَقُولُ: رُوحٌ خَبِيثَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ خَبِيثٍ. قَالَ: قُلْت:
مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَبُوك آدَمُ، تُعْرَضُ عَلَيْهِ
أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ، فَإِذَا مَرّتْ بِهِ رُوحُ الْمُؤْمِنِ مِنْهُمْ
سُرّ بِهَا: وَقَالَ رُوحٌ طَيّبَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ طَيّبٍ.
وَإِذَا مَرّتْ بَهْ رُوحُ الْكَافِرِ مِنْهُمْ أَفّفَ مِنْهَا،
وَكَرِهَهَا، وَسَاءَ ذَلِكَ، وَقَالَ:
رُوحٌ خَبِيثَةٌ خَرَجَتْ مِنْ جَسَدٍ خَبِيثٍ.
قَالَ ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا لَهُمْ مَشَافِرُ كَمَشَافِرِ الْإِبِلِ، فِي
أَيْدِيهمْ قِطَعٌ مِنْ نَارٍ كَالْأَفْهَارِ، يَقْذِفُونَهَا فِي
أَفْوَاهِهِمْ، فَتَخْرُجُ مِنْ أَدْبَارِهِمْ. فَقُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ
يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ أَكَلَةُ أَمْوَالِ اليتامى ظلما.
قَالَ: ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا لَهُمْ بُطُونٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهَا قَطّ
بِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ، يَمُرّونَ عَلَيْهِمْ كَالْإِبِلِ
الْمَهْيُومَةِ حِينَ يُعْرَضُونَ عَلَى النّارِ، يَطَئُونَهُمْ لَا
يَقْدِرُونَ عَلَى أَنْ يَتَحَوّلُوا مِنْ مَكَانِهِمْ ذَلِكَ قَالَ قُلْت:
مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جبريل؟ قال هؤلاء أكلة الربا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/442)
قَالَ: ثُمّ رَأَيْت رِجَالًا بَيْنَ
أَيْدِيهِمْ لَحْمٌ ثَمِينٌ طَيّبٌ، إلَى جَنْبِهِ لَحْمٌ غَثّ مُنْتِنٌ،
يَأْكُلُونَ مِنْ الْغَثّ الْمُنْتِنِ، وَيَتْرُكُونَ السّمِينَ الطّيّبَ.
قَالَ: قُلْت: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الّذِينَ
يَتْرُكُونَ مَا أَحَلّ اللهُ لَهُمْ مِنْ النّسَاءِ، وَيَذْهَبُونَ إلَى
مَا حَرّمَ اللهُ عليهم منهنّ.
قَالَ: ثُمّ رَأَيْت نِسَاءً مُعَلّقَاتٍ بِثُدِيّهِنّ، فَقُلْت: مَنْ
هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ:
هَؤُلَاءِ اللّاتِي أَدْخَلْنَ عَلَى الرّجَالِ مَنْ لَيْسَ مِنْ
أَوْلَادِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ عَمْرٍو، عَنْ الْقَاسِمِ
بْنِ مُحَمّدٍ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ:
اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى امْرَأَةٍ أَدْخَلَتْ عَلَى قَوْمٍ مَنْ لَيْسَ
مِنْهُمْ، فَأَكَلَ حَرَائِبَهُمْ، وَاطّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ.
عود إلى حديث الخدرى: ثُمّ رَجَعَ إلَى حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ،
قَالَ:
ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الثّانِيَةِ، فَإِذَا فِيهَا ابْنَا
الْخَالَةِ: عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ، وَيَحْيَى، بْنُ زَكَرِيّا، قَالَ: ثُمّ
أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الثّالِثَةِ، فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ صُورَتُهُ
كَصُورَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ، قَالَ: قُلْت: مَنْ هَذَا يَا
جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا أَخُوك يُوسُفُ بْنُ يَعْقُوبَ. قَالَ: ثُمّ
أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ الرّابِعَةِ، فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ
فَسَأَلْته: مَنْ هُوَ؟
قَالَ: هَذَا إدْرِيسُ- قَالَ: يَقُولُ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيّا- قَالَ: ثُمّ أصعدنى
إلى السماء الخامسة فإذا فيها كهل أبيض الرأس واللّحية، عظيم العثلون، لم
أر كهلا أَجْمَلَ مِنْهُ، قَالَ قُلْت: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟
قَالَ: هَذَا الْمُحَبّبُ فِي قَوْمِهِ هَارُونُ بْنُ عِمْرَانَ، قَالَ:
ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ السّادِسَةِ، فَإِذَا فِيهَا رَجُلٌ آدَمُ
طَوِيلٌ أَقْنَى كَأَنّهُ مِنْ رِجَالِ شَنُوءَةَ؛ فَقُلْت لَهُ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/443)
مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَذَا
أَخُوك مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ. ثُمّ أَصْعَدَنِي إلَى السّمَاءِ
السّابِعَةِ، فَإِذَا فِيهَا كَهْلٌ جَالِسٌ عَلَى كُرْسِيّ إلَى بَابِ
الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ،
لَا يَرْجِعُونَ فِيهِ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. لَمْ أَرَ رَجُلًا
أَشَبَهَ بِصَاحِبِكُمْ، وَلَا صَاحِبُكُمْ أَشْبَهُ بِهِ مِنْهُ، قَالَ:
قُلْت: مَنْ هَذَا يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ:
هَذَا أَبُوك إبْرَاهِيمُ. قَالَ: ثُمّ دَخَلَ بِي الْجَنّةَ، فَرَأَيْتُ
فِيهَا جَارِيَةً لَعْسَاءَ، فَسَأَلْتهَا: لِمَنْ أَنْتِ؟ وَقَدْ
أَعْجَبَتْنِي حِينَ رَأَيْتُهَا، فَقَالَتْ: لِزَيْدِ بْنِ حَارِثَةَ،
فَبَشّرَ بِهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ زَيْدَ بْنَ
حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ- رَضِيَ
اللهُ عَنْهُ- عَنْ النّبِيّ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا
بَلَغَنِي: أَنّ جِبْرِيلَ لَمْ يَصْعَدْ بِهِ إلَى سَمَاءٍ مِنْ
السّمَوَاتِ إلّا قَالُوا لَهُ حِينَ يَسْتَأْذِنُ فِي دُخُولِهَا: مَنْ
هَذَا يا جبريل؟ فيقول:
محمد، فيقولون: أو قد بُعِثَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ، فَيَقُولُونَ: حَيّاهُ
اللهُ مِنْ أَخ وَصَاحِبٍ، حَتّى انْتَهَى بِهِ إلَى السّمَاءِ
السّابِعَةِ، ثُمّ انْتَهَى بِهِ إلَى رَبّهِ، فَفَرَضَ عليه خمسين صلاة فى
كلّ يوم.
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: فَأَقْبَلْت
رَاجِعًا، فَلَمّا مَرَرْت بِمُوسَى بْنِ عِمْرَانَ وَنِعْمَ الصّاحِبُ
كَانَ لَكُمْ، سَأَلَنِي كَمْ فُرِضَ عَلَيْك مِنْ الصّلَاةِ؟ فَقُلْت
خَمْسِينَ صَلَاةً كُلّ يَوْمٍ؛ فَقَالَ: إنّ الصّلَاةَ ثَقِيلَةٌ، وَإِنّ
أُمّتَك ضَعِيفَةٌ، فَارْجِعْ إلَى رَبّك، فَاسْأَلْهُ أَنْ يخفّف عنك وعن
أمتك. فرجعت فسألت رَبّي أَنْ يُخَفّفَ عَنّي، وَعَنْ أُمّتِي، فَوَضَعَ
عَنّي عَشْرًا. ثُمّ انْصَرَفْت فَمَرَرْت عَلَى مُوسَى فَقَالَ لِي مِثْلَ
ذَلِكَ، فَرَجَعْت فَسَأَلْت رَبّي، فَوَضَعَ عَنّي عَشْرًا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(3/444)
ثُمّ انْصَرَفْت، فَمَرَرْت عَلَى مُوسَى،
فَقَالَ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، فَرَجَعْت فَسَأَلْته فَوَضَعَ عَنّي عَشْرًا،
ثُمّ لَمْ يَزَلْ يَقُولُ لِي مِثْلَ ذَلِكَ، كُلّمَا رَجَعْت إلَيْهِ،
قَالَ: فَارْجِعْ فَاسْأَلْ، حَتّى انْتَهَيْتُ إلَى أَنْ وَضَعَ ذَلِكَ
عَنّي، إلّا خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ. ثُمّ رَجَعْت
إلَى مُوسَى، فَقَالَ لِي مِثْلَ، ذَلِكَ، فَقُلْت: قَدْ رَاجَعْتُ رَبّي
وَسَأَلْته، حَتّى اسْتَحْيَيْتُ منه، فما أنا بفاعل رواه البيهقى فى كتاب
دلائل النبوة وابن جرير وابن أبى حاتم.
فَمَنْ أَدّاهُنّ مِنْكُمْ إيمَانًا بِهِنّ، وَاحْتِسَابًا لَهُنّ، كان له
أجر خمسين صلاة مكتوبة. رواه وفى الحديث غرابة ونكارة.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رؤية النبي ربه:
فَصْلٌ: وَقَدْ تَكَلّمَ الْعُلَمَاءُ فِي رُؤْيَةِ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبّهِ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ، فَرَوَى
مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ أَنّهَا أَنْكَرَتْ أَنْ يَكُونَ رَآهُ،
وَقَالَتْ مَنْ زَعَمَ أَنّ مُحَمّدًا رَأَى رَبّهُ، فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى
اللهِ الْفِرْيَةَ، وَاحْتَجّتْ بِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ لَا تُدْرِكُهُ
الْأَبْصارُ، وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ الْأَنْعَامَ: 103 وَفِي
مُصَنّفِ التّرْمِذِي عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ وَكَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنّهُ
رَآهُ، قَالَ كَعْبٌ: إنّ اللهَ قَسّمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ
مُوسَى وَمُحَمّدٍ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي ذَرّ قُلْت: يَا
رَسُولَ اللهِ هَلْ رَأَيْت رَبّك؟ قَالَ: رَأَيْت نُورًا، وَفِي حَدِيثٍ
آخَرَ مِنْ كِتَابِ مُسْلِمٍ أَنّهُ قَالَ: نُورًا أَنّى أَرَاهُ، وَلَيْسَ
فِي هَذَا الْحَدِيثِ بَيَانٌ شَافٍ أَنّهُ رَآهُ، وَحُكِيَ عَنْ أَبِي
الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيّ أَنّهُ قَالَ: رَآهُ بِعَيْنَيْ رَأْسِهِ، وَفِي
تَفْسِيرِ النّقّاشِ عَنْ ابْنِ حَنْبَلٍ أَنّهُ سُئِلَ: هَلْ رَأَى
مُحَمّدٌ رَبّهُ، فَقَالَ: رَآهُ رَآهُ رَآهُ حَتّى انْقَطَعَ صَوْتُهُ،
وَفِي تَفْسِيرِ
(3/445)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَبْدِ الرّزّاقِ عَنْ مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ وَذَكَرَ إنكار عائشة أنه
رآه، فقال لزهرى:
لَيْسَتْ عَائِشَةُ أَعْلَمَ عِنْدَنَا مِنْ ابْنِ عَبّاسٍ، وَفِي
تَفْسِيرِ ابْنِ سَلَامٍ عَنْ عُرْوَةَ أَنّهُ كَانَ إذْ ذُكِرَ إنْكَارُ
عَائِشَةَ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
رَأَى رَبّهُ يَشْتَدّ ذَلِكَ عَلَيْهِ، وَقَوْلُ أَبِي هُرَيْرَةَ فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَقَوْلِ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ رَآهُ؟
رَوَى يُونُسُ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ دَاوُدَ بْنِ الْحُصَيْنِ قَالَ:
سَأَلَ مَرْوَانُ أَبَا هُرَيْرَةَ:
هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ رَبّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَفِي رِوَايَةِ يُونُسَ أَنّ
ابْنَ عُمَرَ أَرْسَلَ إلَى ابْنِ عَبّاسٍ يَسْأَلُهُ: هَلْ رَأَى مُحَمّدٌ
رَبّهُ؟ فَقَالَ: نَعَمْ رَآهُ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: وَكَيْفَ رَآهُ،
فَقَالَ ابْنُ عَبّاسٍ كَلَامًا كَرِهْت أَنْ أُورِدَهُ بِلَفْظِهِ لِمَا
يُوهِمُ مِنْ التّشْبِيهِ، وَلَوْ صَحّ لَكَانَ لَهُ تَأْوِيلٌ وَاَللهُ
أَعْلَمُ، والمتحصل مِنْ هَذِهِ الْأَقْوَالِ- وَاَللهُ أَعْلَمُ- أَنّهُ
رَآهُ لَا عَلَى أَكْمَلِ مَا تَكُونُ الرّؤْيَةُ عَلَى نَحْوِ مَا يَرَاهُ
فِي حَظِيرَةِ الْقُدْسِ عِنْدَ الْكَرَامَةِ الْعُظْمَى وَالنّعِيمِ
الْأَكْبَرِ، وَلَكِنْ دُونَ ذَلِكَ، وإلى هذا يومى قوله: رأيت نورا ونورا
أَنّى أَرَاهُ فِي الرّؤْيَةِ الْأُخْرَى وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَأَمّا الدّنُوّ وَالتّدَلّي فَهُمَا خَبَرٌ عَنْ النّبِيّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ بَعْضِ الْمُفَسّرِينَ، وَقِيلَ إنّ
الّذِي تَدَلّى هُوَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السّلَامُ تَدَلّى إلَى مُحَمّدٍ
حَتّى دَنَا مِنْهُ وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ أَيْضًا، وَفِي الْجَامِعِ
الصّحِيحِ فِي إحْدَى الرّوَايَاتِ مِنْهُ: فَتَدَلّى الْجَبّارُ، وَهَذَا
مَعَ صِحّةِ نَقْلِهِ لَا يَكَادُ أَحَدٌ مِنْ المفسرين يذكره لا ستحالة
ظَاهِرِهِ، أَوْ لِلْغَفْلَةِ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَلَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ؛
لِأَنّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ إنْ كَانَ رُؤْيَا رَآهَا بِقَلْبِهِ
وَعَيْنُهُ نَائِمَةٌ- كَمَا فِي حَدِيثِ أَنَسٍ فَلَا إشْكَالَ فِيمَا
يَرَاهُ فِي نَوْمِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ فَقَدْ رَآهُ فِي أَحْسَنِ
صُورَةٍ وَوَضَعَ كَفّهُ بَيْنَ كَتِفَيْهِ، حَتّى وَجَدَ بَرْدَهَا بين
ثدييه
(3/446)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَوَاهُ التّرْمِذِيّ «1» مِنْ طَرِيقِ مُعَاذٍ فِي حَدِيثٍ طويل، ولما
كانت هذه رؤيا
__________
(1) الحديث كما رواه أحمد بسنده عن ابن عباس أن رسول الله «ص» قال: أتانى
ربى الليلة فى أحسن صورة- أحسبه يعنى فى النوم- فقال: يا محمد أتدرى فيم
يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت لا، فوضع يده بين كتفى حتى وجدت بردها بين
ثديى- أو قال نحرى فعلمت- فى السموات والأرض، ثم قال: يا محمد هل تدرى فيم
يختصم الملأ الأعلى؟ قال: قلت: نعم يختصمون فى الكفارات والدرجات. قال: وما
الكفارات؟ قال: قلت المكث فى المساجد بعد الصلوات، والمشى على الأقدام إلى
الجماعات، وإبلاغ الوضوء فى المكاره، من فعل ذلك عاش بخير. ومات بخير، وكان
من خطيئته كيوم ولدته أمه. وقال: قل يا محمد إذا صليت. اللهم إنى أسألك فعل
الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضنى
إليك غير مفتون. قال: والدرجات: بذل الطعام، وإفشاء السلام، والصلاة بالليل
والناس نيام، ورواه أحمد أيضا بسنده عن معاذ قال: احتبس علينا رسول الله
صلى الله عليه وسلم ذات غداة من صلاة الصبح، حتى كدنا نتراءى قرن الشمس،
فخرج- صلى الله عليه وسلم- سريعا فثوب بالصلاة، فصلى، وتجوز فى صلاته، فلما
سلم، قال- صلى الله عليه وسلم- كما أنتم، ثم أقبل إلينا فقال: إنى قمت من
الليل، فصليت ما قدر لى، فنعست فى صلاتى حتى استيقظت، فإذا أنا بربى عز وجل
فى أحسن صورة» الخ ولكنه قال فى هذه الرواية: فتجلى لى كل شىء وعرفت، بدلا
من: فعلمت ما فى السموات الأرض. وشتان ما هما فى الدلالة. وعن الدرجات قال
فيها: لين الكلام بدلا من إفشاء السلام. أما الدعاء ففى رواية معاذ أن الله
قال له: سل، قلت: اللهم إنى أسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب
المساكين وأن تغفر لى، وترحمنى، وإذا أردت فتنة بقوم فتوفنى غير مفتون،
وأسألك حبك، وحب من يحبك وحب عمل يقربنى إلى حبك، أما فى رواية ابن عباس،
فقد ورد أن الله هو الذى طلب منه أن يقول هذا، وعلمه إياه. هذا والحديث
رواه الترمذى من حديث جهضم بن عبد الله
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
اليمامى، وقال: حسن صحيح، وهو فى السنن من طرق. ويقول ابن كثير: وهو حديث
المنام المشهور، ومن جعله يقظة، فقد غلط. وما أعظم فقه أم المؤمنين عائشة
رضى الله عنها فيما رواه أحمد بسنده عن عامر، قال: أتى مسروق عائشة، فقال:
يا أم المؤمنين: هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم- ربه عز وجل؟ قالت سبحان
الله لقد قف شعرى لما قلت. أين أنت من ثلاث من حدثكهن، فقد كذب. من حدثك أن
محمدا رأى ربه، فقد كذب، ثم قرأت: (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، وَهُوَ
يُدْرِكُ الْأَبْصارَ) (وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ
إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ومن أخبرك أنه يعلم ما فى غد، فقد
كذب. ثم قرأت: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ، وَيُنَزِّلُ
الْغَيْثَ، وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ) الاية. ومن أخبرك أن محمدا قد
كتم، فقد كذب، ثم قرأت: (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) ولكنه رأى جبريل فى صورته مرتين» وتدبر ما رواه
أحمد بسنده عن مسروق قال: «كنت عند عائشة، فقالت: أليس الله يقول:
(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ- وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى)
فقالت: أنا أول هذه الأمة، سألت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- عنها،
فقال: إنما ذاك جبريل. لم يره فى صورته التى خلق عليها إلا مرتين، رآه
منهبطا من السماء إلى الأرض سادا عظم خلقه ما بين السماء والأرض» وأخرجاه
فى الصحيحين من حديث الشعبى به. ولمسلم فى الرؤية طريقان بلفظين عن أبى ذر
قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل رأيت ربك؟ فقال: نورانى أراه.
والأخر: رأيت نورا. وقد حكى الخلال فى علله أن الإمام أحمد سئل عن هذا
الحديث، فقال: ما زلت منكرا له، وما أدرى ما وجهه.. ويقول الأئمة: إن عائشة
سألت عن الرؤية بعد الإسراء، ولم يثبت لها النبى الرؤية، ومن قال: إنه
خاطبها على قدر عقلها، أو حاول تخطئتها فيما ذهبت إليه كابن خزيمة فى كتاب
التوحيد، فإنه هو المخطىء. وقد ثبت فى صحيح مسلم عن أبى هريرة أنه قال فى
قوله تعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى) قال: رأى جبريل عليه السلام.
وحسبنا هذا.
(3/447)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَمْ يُنْكِرْهَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَلَا اسْتَبْشَعَهَا،
وَقَدْ بَيّنّا آنِفًا أَنّ حَدِيثَ الْإِسْرَاءِ كَانَ رُؤْيَا ثُمّ كَانَ
يَقَظَةً فَإِنْ كَانَ قَوْلُهُ فَتَدَلّى الْجَبّارُ فِي الْمَرّةِ الّتِي
كَانَ فِيهَا غَيْرَ نَائِمٍ، وَكَانَ الْإِسْرَاءُ بِجَسَدِهِ، فَيُقَالُ
فِيهِ مِنْ التّأْوِيلِ مَا يُقَالُ فِي قَوْلِهِ: يَنْزِلُ رَبّنَا كُلّ
لَيْلَةٍ إلَى سَمَاءِ الدّنْيَا، فَلَيْسَ بِأَبْعَدَ مِنْهُ فِي بَابِ
التّأْوِيلِ، فَلَا نَكَارَةَ فِيهِ كَانَ فِي نَوْمٍ أَوْ يَقَظَةٍ،
وَقَدْ أَشَرْنَا إلَى تَمَامِ هَذَا الْمَعْنَى فِي شَرْحِ مَا تَضَمّنَهُ
لَفْظُ الْقَوْسَيْنِ مِنْ قَوْلِهِ: قَابَ قَوْسَيْنِ فِي جُزْءٍ
أَمْلَيْنَاهُ فِي شَرْحِ سُبْحَانَ اللهِ وَبِحَمْدِهِ، تَضَمّنَ
لَطَائِفَ مِنْ مَعْنَى التّقْدِيسِ وَالتّسْبِيحِ، فَلْيُنْظَرْ هُنَاكَ
وَأَمْلَيْنَا أَيْضًا فِي مَعْنَى رُؤْيَةِ الرّبّ سُبْحَانَهُ فِي
الْمَنَامِ، وَفِي عَرَصَاتِ الْقِيَامَةِ مَسْأَلَةً لِقِنَاعِ
الْحَقِيقَةِ فِي ذَلِكَ كَاشِفَةً فَمَنْ أَرَادَ فَهْمَ الرّؤْيَةِ
وَالرّؤْيَا فَلْيَنْظُرْهَا هُنَالِكَ، وَيُقَوّي مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ
مَعْنَى إضَافَةِ التّدَلّي إلَى الرّبّ سُبْحَانَهُ كَمَا فِي حَدِيثِ
الْبُخَارِيّ مَا رَوَاهُ ابْنُ سُنْجُرَ مُسْنَدًا إلَى شُرَيْحِ بْنِ
عُبَيْدٍ، قَالَ: لَمّا صَعِدَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- إلَى السّمَاءِ، فَأَوْحَى إلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى، فَلَمّا
أَحَسّ جِبْرِيلُ بدنوّ الرّبّ خرّ ساجد، فَلَمْ يَزَلْ يُسَبّحُ سُبْحَانَ
رَبّ الْجَبَرُوتِ وَالْمَلَكُوتِ وَالْكِبْرِيَاءِ وَالْعَظَمَةِ حَتّى
قَضَى اللهُ إلَى عَبْدِهِ مَا قَضَى، قَالَ: ثُمّ رَفَعَ رَأْسَهُ،
فَرَأَيْته فِي خَلْقِهِ الّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ مَنْظُومًا أَجْنِحَتُهُ
بِالزّبَرْجَدِ وَاللّؤْلُؤِ وَالْيَاقُوتِ، فَخُيّلَ إلَيّ أَنّ مَا
بَيْنَ عَيْنَيْهِ قَدْ سَدّ الْأُفُقَيْنِ، وَكُنْت لَا أَرَاهُ قَبْلَ
ذَلِكَ إلّا عَلَى صُوَرٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَكُنْت أَكْثَرَ مَا أَرَاهُ
عَلَى صُورَةِ دِحْيَةَ بْنِ خَلِيفَةَ الْكَلْبِيّ، وَكَانَ أَحْيَانًا
لَا يَرَاهُ قَبْلَ ذَلِكَ إلّا كَمَا يَرَى الرّجُلُ صَاحِبَهُ من وراء
الغربال «1» .
__________
(1) حديث متهافت. أما رؤيته صلى الله عليه وسلم لجبريل على صورة دحية، فقد
ورد فى روايات صحيحة.
(3/449)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِقَاؤُهُ لِلنّبِيّينَ:
فَصْلٌ: وَمِمّا سُئِلَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ، وَتَكَلّمَ
فِيهِ لِقَاؤُهُ لِآدَمَ فِي السّمَاءِ الدّنْيَا، وَلِإِبْرَاهِيمَ فِي
السّمَاءِ السّابِعَةِ، وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ الّذِينَ
لَقِيَهُمْ فِي غَيْرِ هَاتَيْنِ السّمَاءَيْنِ، وَالْحِكْمَةُ فِي
اخْتِصَاصِ كُلّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِالسّمَاءِ الّتِي رَآهُ فِيهَا:
وَسُؤَالٌ آخَرُ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِاللّقَاءِ
دُونَ غَيْرِهِمْ، وَإِنْ كَانَ رَأَى الْأَنْبِيَاءَ كُلّهُمْ، فَمَا
الْحِكْمَةُ فِي اخْتِصَاصِ هَؤُلَاءِ الْأَنْبِيَاءِ بِالذّكْرِ؟ وَقَدْ
تَكَلّمَ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيّ عَلَى
هَذَا السّؤَالِ، فَلَمْ يَصْنَعْ شَيْئًا، وَمَغْزَى كَلَامِهِ الّذِي
أَشَارَ إلَيْهِ أَنّ الْأَنْبِيَاءَ لَمّا عَلِمُوا بِقُدُومِهِ
عَلَيْهِمْ ابْتَدَرُوا إلَى لِقَائِهِ ابْتِدَارَ أَهْلِ الْغَائِبِ
لِلْغَائِبِ الْقَادِمِ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَسْرَعَ، وَمِنْهُمْ مَنْ
أَبْطَأَ. إلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ فَلَمْ يَزِدْ عَلَيْهِ،
وَاَلّذِي أَقُولُ فِي هَذَا: إنّ مَأْخَذَ فَهْمِهِ مِنْ عِلْمِ
التّعْبِيرِ، فَإِنّهُ مِنْ عِلْمِ النّبُوءَةِ، وَأَهْلُ التّعْبِيرِ
يَقُولُونَ: مَنْ رَأَى نَبِيّا بِعَيْنِهِ فِي الْمَنَامِ، فَإِنّ
رُؤْيَاهُ تُؤْذِنُ بِمَا يُشْبِهُ حَالَ ذَلِكَ النّبِيّ مِنْ شِدّةٍ أَوْ
رَخَاءٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ الّتِي أُخْبِرَ بِهَا عَنْ
الْأَنْبِيَاءِ فِي الْقُرْآنِ، وَالْحَدِيثِ، وَحَدِيثُ الْإِسْرَاءِ
كَانَ بِمَكّةَ وَهِيَ حَرَمُ اللهِ وَأَمْنُهُ وَقُطّانُهَا جِيرَانُ
اللهِ، لِأَنّ فِيهَا بَيْتَهُ، فَأَوّلُ مَا رَأَى عَلَيْهِ مِنْ
الْأَنْبِيَاءِ آدَمُ الّذِي كَانَ فِي أَمْنِ اللهِ وَجِوَارِهِ،
فَأَخْرَجَهُ عَدُوّهُ إبْلِيسُ مِنْهَا، وَهَذِهِ الْقِصّةُ تُشْبِهُهَا
الْحَالَةُ الْأُولَى مِنْ أَحْوَالِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ أَخْرَجَهُ أَعْدَاؤُهُ مِنْ حَرَمِ اللهِ وَجِوَارِ
بَيْتِهِ، فَكَرَبَهُ ذَلِكَ وَغَمّهُ.
وَأَشْبَهَتْ قِصّتُهُ فِي هَذَا قِصّةَ آدَمَ، مَعَ أَنّ آدَمَ تُعْرَضُ
عَلَيْهِ أَرْوَاحُ ذُرّيّتِهِ الْبَرّ وَالْفَاجِرِ مِنْهُمْ، فَكَانَ فِي
السّمَاءِ الدّنْيَا بِحَيْثُ يَرَى الْفَرِيقَيْنِ، لِأَنّ أَرْوَاحَ
أَهْلِ الشّقَاءِ لَا تَلِجُ فِي السّمَاءِ، وَلَا تُفَتّحُ لَهُمْ
أَبْوَابُهَا كَمَا قَالَ اللهُ تَعَالَى، ثُمّ رَأَى
(3/450)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي الثّانِيَةِ عِيسَى وَيَحْيَى وَهُمَا الْمُمْتَحَنَانِ بِالْيَهُودِ،
أَمَا عِيسَى فَكَذّبَتْهُ الْيَهُودُ وَآذَتْهُ، وَهَمّوا بِقَتْلِهِ
فَرَفَعَهُ اللهُ، وَأَمّا يَحْيَى فَقَتَلُوهُ، وَرَسُولُ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بَعْدَ انْتِقَالِهِ إلَى الْمَدِينَةِ صَارَ
إلَى حَالَةٍ ثَانِيَةٍ مِنْ الِامْتِحَانِ، وَكَانَتْ مِحْنَتُهُ فِيهَا
بِالْيَهُودِ، آذَوْهُ وَظَاهَرُوا عَلَيْهِ وَهَمّوا بِإِلْقَاءِ
الصّخْرَةِ عَلَيْهِ، لِيَقْتُلُوهُ فَنَجّاهُ اللهُ تَعَالَى كَمَا نَجّى
عِيسَى مِنْهُمْ، ثُمّ سَمّوهُ فِي الشّاةِ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ
الْأَكْلَةُ تُعَاوِدُهُ، حَتّى قَطَعَتْ أَبْهَرَهُ «1» كَمَا قَالَ
عِنْدَ الْمَوْتِ، وَهَكَذَا فَعَلُوا بِابْنَيْ الْخَالَةِ:
عِيسَى وَيَحْيَى، لِأَنّ أُمّ يَحْيَى أَشْيَاعُ بِنْتُ عِمْرَانَ أُخْتُ
مَرْيَمَ، أُمّهُمَا: حَنّةُ.
وَأَمّا لِقَاؤُهُ لِيُوسُفَ فِي السّمَاءِ الثّالِثَةِ، فَإِنّهُ يُؤْذِنُ
بِحَالَةِ ثَالِثَةٍ تُشْبِهُ حَالَ يوسف، وذلك بأن يوسف ظفر بإخوته بعد ما
أَخْرَجُوهُ مِنْ بَيْنِ ظَهْرَانَيْهِمْ فَصَفَحَ عَنْهُمْ، وَقَالَ لا
تثريب عليكم الْآيَةَ، وَكَذَلِك نَبِيّنَا- عَلَيْهِ السّلَامُ أَسَرَ
يَوْمَ بَدْرٍ جُمْلَةً مِنْ أَقَارِبِهِ الّذِينَ أَخْرَجُوهُ فِيهِمْ
عَمّهُ الْعَبّاسُ، وَابْنُ عَمّهِ عَقِيلٌ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ،
وَمِنْهُمْ مَنْ قَبِلَ فِدَاءَهُ، ثُمّ ظَهَرَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ ذَلِكَ
عَامَ الْفَتْحِ فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ:
أَقُولُ مَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ، ثُمّ
لِقَاؤُهُ لِإِدْرِيسَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ، وَهُوَ الْمَكَانُ
الّذِي سَمّاهُ اللهُ مَكَانًا عَلِيّا، وَإِدْرِيسُ أَوّلُ مَنْ آتَاهُ
اللهُ الْخَطّ بِالْقَلَمِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُؤْذِنًا بِحَالَةِ رَابِعَةٍ،
وَهِيَ عُلُوّ شَأْنِهِ- عَلَيْهِ السّلَامُ- حَتّى أَخَافَ الْمُلُوكَ
وَكَتَبَ إلَيْهِمْ يَدْعُوهُمْ إلَى طَاعَتِهِ، حَتّى قَالَ أَبُو
سُفْيَانَ، وَهُوَ عِنْدَ مَلِكِ الرّومِ، حِين جَاءَهُ كِتَابٌ لِلنّبِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ، وَرَأَى ما رأى من خوف هرقل:
__________
(1) الأبهر: الظهر وعرق فيه، ووريد العنق والأكحل. وقد ذكر قصة الشاة
المسمومة البخارى وغيره.
(3/451)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَقَدْ أَمِرَ أَمْرُ ابْنِ أَبِي كَبْشَةَ «1» ، حَتّى أَصْبَحَ يَخَافُهُ
مَلِكُ بَنِي الْأَصْفَرِ، وَكُتِبَ عَنْهُ بِالْقَلَمِ إلَى جَمِيعِ
مُلُوكِ الْأَرْضِ، فَمِنْهُمْ مَنْ اتّبَعَهُ عَلَى دِينِهِ
كَالنّجَاشِيّ، وَمَلِكِ عُمَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ هَادَنَهُ، وَأَهْدَى
إلَيْهِ وَأَتْحَفَهُ كَهِرَقْلَ وَالْمُقَوْقَسِ وَمِنْهُمْ مَنْ تَعَصّى
عَلَيْهِ، فَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ، فَهَذَا مَقَامٌ عَلِيّ، وَخَطّ
بِالْقَلَمِ كَنَحْوِ مَا أُوتِيَ إدْرِيسُ- عَلَيْهِ السّلَامُ-
وَلِقَاؤُهُ فِي السّمَاءِ الْخَامِسَةِ لِهَارُونَ الْمُحَبّبِ فِي
قَوْمِهِ يُؤْذِنُ بِحُبّ قُرَيْشٍ، وَجَمِيعِ الْعَرَبِ لَهُ بَعْدَ
بُغْضِهِمْ فِيهِ، وَلِقَاؤُهُ فِي السّمَاءِ السّادِسَةِ لِمُوسَى
يُؤْذِنُ بِحَالَةِ تُشْبِهُ حَالَةَ مُوسَى حِينَ أَمَرَ بِغَزْوِ الشّامِ
فَظَهَرَ عَلَى الْجَبَابِرَةِ الّذِينَ كَانُوا فِيهَا، وَأَدْخَلَ بَنِي
إسْرَائِيلَ الْبَلَدَ الّذِي خَرَجُوا مِنْهُ بَعْدَ إهْلَاكِ عَدُوّهِمْ،
وَكَذَلِك غَزَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
تَبُوكَ مِنْ أَرْضِ الشّامِ، وَظَهَرَ عَلَى صَاحِبِ دَوْمَةَ حَتّى
صَالَحَهُ عَلَى الْجِزْيَةِ بَعْد أَنْ أُتِيَ بِهِ أَسِيرًا، وَافْتَتَحَ
مَكّةَ، وَدَخَلَ أَصْحَابُهُ الْبَلَدَ الّذِي خَرَجُوا مِنْهُ، ثُمّ
لِقَاؤُهُ فِي السّمَاءِ السّابِعَةِ لِإِبْرَاهِيمَ- عَلَيْهِ السّلَامُ-
لِحِكْمَتَيْنِ: إحْدَاهُمَا: أَنّهُ رَآهُ عِنْدَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ
مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إلَيْهِ وَالْبَيْتُ الْمَعْمُورُ حِيَالَ مَكّةَ،
وَإِلَيْهِ تَحُجّ الْمَلَائِكَةُ، كَمَا أَنّ إبْرَاهِيمَ هُوَ الّذِي
بَنَى الْكَعْبَةَ، وَأَذّنَ فِي النّاسِ بِالْحَجّ إلَيْهَا وَالْحِكْمَةُ
الثّانِيَةُ أَنّ آخِرَ أَحْوَالِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَجّهُ إلَى الْبَيْتِ الْحَرَامِ، وَحَجّ مَعَهُ نَحْوٌ مِنْ
سَبْعِينَ أَلْفًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَرُؤْيَةُ إبْرَاهِيمَ عِنْدَ
أَهْلِ التّأْوِيلِ تُؤْذِنُ بِالْحَجّ، لِأَنّهُ الدّاعِي إلَيْهِ
وَالرّافِعُ لِقَوَاعِدِ الْكَعْبَةِ الْمَحْجُوبَةِ، فَقَدْ انْتَظَمَ فِي
هَذَا الكلام الجواب عن
__________
(1) أى كثر وارتفع شأنه يعنى النبى صلى الله عليه وسلم، وقد تقدم ذكر أبى
كبشة
(3/452)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السّؤَالَيْنِ الْمُتَقَدّمَيْنِ، أَحَدُهُمَا: السّؤَالُ عَنْ تَخْصِيصِ
هَؤُلَاءِ بِالذّكْرِ، وَالْآخَرُ:
السّؤَالُ عَنْ تَخْصِيصِهِمْ بِهَذِهِ الْأَمَاكِنِ مِنْ السّمَاءِ
الدّنْيَا إلَى السّابِعَةِ، وَكَانَ الْحَزْمُ تَرْكَ التّكَلّفِ
لِتَأْوِيلِ مَا لَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصّ عَنْ السّلَفِ، وَلَكِنْ عَارَضَ
هَذَا الْغَرَضُ مَا يَجِبُ مِنْ التّفْكِيرِ فِي حِكْمَةِ اللهِ،
وَالتّدَبّرِ لِآيَاتِ اللهِ، وَقَوْلُ اللهِ تَعَالَى:
إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَقَدْ رُوِيَ أَنّ
تَفَكّرَ سَاعَةٍ خَيْرٌ مِنْ عِبَادَةِ سَنَة «1» مَا لَمْ يَكُنْ
النّظَرُ وَالتّفْكِيرُ مُجَرّدًا مِنْ مُلَاحَظَةِ الْكِتَابِ وَالسّنّةِ،
وَمُقْتَضَى كَلَامِ الْعَرَبِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ يَكُونُ الْقَوْلُ فِي
الْكِتَابِ وَالسّنّةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ عَصَمَنَا اللهُ- تَعَالَى- مِنْ
ذَلِكَ «2» ، وَجَعَلَنَا مِنْ الْمُمْتَثِلِينَ لِأَمْرِهِ حَيْثُ
يَقُولُ: فاعتبروا يا أولى الأبصار وليدّبروا آياته، وليتذكّر أولو
الألباب، وَلَوْلَا إسْرَاعُ النّاسِ إلَى إنْكَارِ مَا جَهِلُوهُ،
وَغِلَظُ الطّبَاعِ عَنْ فَهْمِ كَثِيرٍ مِنْ الْحِكْمَةِ لَأَبْدَيْنَا
مِنْ سِرّ هَذَا السّؤَالِ، وَكَشَفْنَا عَنْ الْحِكْمَةِ فِي هَؤُلَاءِ
الْأَنْبِيَاءِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذِهِ الْمَرَاتِبِ أَكْثَرَ مِمّا
كَشَفْنَا «3» .
الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ، وَأَنّهُ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ
سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ رَوَى ابْنُ سُنْجُرَ عَنْ عَلِيّ- رَحِمَهُ
اللهُ- قَالَ: الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ بَيْتٌ فى السماء السابعة
__________
(1) التفكير نفسه فى خلق السموات والأرض وغيرهما من أجل أنواع العبادة،
فكيف نجعل التفكير شيئا والعبادة شيئا آخر؟ وهذا يدل على ضعف الحديث.
(2) هذه رائعة من السهيلى، فلنتدبرها باحتفال تستحقه
(3) والحق أنه لم يكشف، وإنما اعتسف.
(3/453)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يقال له: الضّراح، واسم السماء السابعة: عربيا «1» ، رَوَى أَبُو بَكْرٍ
الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِ صَحِيحٍ إلَى وَهْبِ بْنِ مُنَبّهٍ قَالَ: مَنْ
قَرَأَ الْبَقَرَةَ وَآلَ عِمْرَانَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ كَانَ لَهُ نُورٌ
يملأ ما بين عربياء وَجَرِيبَاءَ وَجَرِيبَا، وَهِيَ الْأَرْضُ
السّابِعَةُ»
، وَذَكَرَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي الْهُذَيْلِ قَالَ: الْبَيْتُ
الْمَعْمُورِ يَدْخُلُهُ كُلّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ دحية عِنْدَ كُلّ
دِحْيَةٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ رَوَاهُ عَنْهُ أَبُو التّيّاحِ [يَزِيدُ
الضّبَعِيّ] قَالَ أَبُو سَلَمَةَ: قُلْت مَا الدّحْيَةُ؟ قَالَ:
الرّئِيسُ. وَرَوَى ابْنُ سُنْجُرَ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ
عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فِي
السّمَاءِ السّابِعَةِ بَيْتٌ يُقَالُ لَهُ: الْمَعْمُورُ بِحِيَالِ
مَكّةَ، وَفِي السّمَاءِ السّابِعَةِ نَهَرٌ يُقَالُ لَهُ الْحَيَوَانُ «3»
يَدْخُلُهُ جِبْرِيلُ كُلّ يَوْمٍ فَيَنْغَمِسُ فِيهِ انْغِمَاسَةً، ثُمّ
يَخْرُجُ فَيَنْتَفِضُ انْتِفَاضَةً، يَخِرّ عَنْهُ سَبْعُونَ أَلْفَ
قَطْرَةٍ، يَخْلُقُ اللهُ مِنْ كُلّ قَطْرَةٍ مَلَكًا وَيُؤْمَرُونَ أَنْ
يَأْتُوا الْبَيْتَ الْمَعْمُورَ وَيُصَلّوا فِيهِ فَيَفْعَلُونَ ثُمّ
يَخْرُجُونَ فَلَا يَعُودُونَ إلَيْهِ أَبَدًا، [وَ] يُوَلّى عَلَيْهِمْ
أَحَدُهُمْ يُؤْمَرُ أَنْ يَقِفَ بِهِمْ مِنْ السّمَاءِ موقفا يسبّحون الله
[فيه]
__________
(1) فى القاموس واللسان والنهاية لابن الأثير أن اسم السماء السابعة:
عروباء
(2) فى اللسان: الجرباء: السماء سميت بذلك لما فيها من الكواكب، وقيل: سميت
بذلك لموضع المجرة كأنها جربت بالنجوم. وقيل: الجرباء من السماء: الناحية
التى لا يدور فيها فلك الشمس والقمر.. والجرباء والملساء: السماء الدنيا..
وأرض جرباء ممحلة وقحوطة لا شىء فيها، وفى القاموس عن الجرباء أنها قرية
بجنب أذرح، ثم قال: وغلط من قال: بينهما ثلاثة أيام، وإنما الوهم من رواة
الحديث من إسقاط زيادة ذكرها الدار قطنى، وهى: ما بين ناحيتى حوض كما بين
المدينة وجرباء وأذرح.
(3) فى ابن أبى حاتم: «وفى السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان.
(3/454)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
إلَى أَنْ تَقُومَ السّاعَةُ» «1»
فَرْضُ الصّلَاةِ:
فَصْلٌ: وَأَمّا فَرْضُ الصّلَاةِ عَلَيْهِ هُنَالِكَ، فَفِيهِ التّنْبِيهُ
عَلَى فَضْلِهَا، حَيْثُ لَمْ تُفْرَضْ إلّا فِي الْحَضْرَةِ «2»
الْمُقَدّسَةِ؛ وَلِذَلِكَ كَانَتْ الطّهَارَةُ مِنْ شَأْنِهَا، وَمِنْ
شَرَائِطِ أَدَائِهَا، وَالتّنْبِيهِ عَلَى أَنّهَا مُنَاجَاةُ الرّبّ،
وَأَنّ الرّبّ تَعَالَى مُقْبِلٌ بِوَجْهِهِ عَلَى الْمُصَلّي يُنَاجِيهِ
يَقُولُ: حَمِدَنِي عَبْدِي، أَثْنَى عَلَيّ عبدى «3» إلى آخر
__________
(1) الحديث أخرجه ابن أبى حاتم، وقد تكلم عنه ابن كثير، فقال: «هذا حديث
غريب جدا تفرد به روح بن جناح، هذا وهو القرشى الأموى مولاهم أبو سعيد
الدمشقى، وقد أنكر عليه هذا الحديث جماعة من الحفاظ، منهم: الجوزجانى
والعقبلى والحاكم أبو عبد الله النيسابورى وغيرهم، وقال الحاكم: لا أصل له
من حديث أبى هريرة، ولا سعيد، ولا الزهرى» تفسير سورة الطور.
(2) سبق بيان أن آيات القرآن تؤكد أن الصلاة كانت مفروضة قبل هذا، وإلا وجب
القول بأن الإسراء كان فى عقب المبعث مباشرة. هذا، ولا يجوز أن نقول
«الحضرة المقدسة» فإنه لا يعد تعبيرا إسلاميا، ولكنه تعبير صوفى قديم ولم
يرد فى قرآن أو حديث، ولم يجر على لسان صحابى أو تابعى، ولا يجوز أن تنسب
إلى الله سبحانه إلا ما نسب هو- جل شأنه- إلى نفسه.
(3) من حديث رواه مسلم والنسائى أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: «من صلى
صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن، فهى خداج- ثلاثا- غير تمام فقيل لأبى هريرة:
إنا نكون خلف الإمام، فقال اقرأ بها فى نفسك، فإنى سمعت رسول الله- صلى
الله عليه وسلم- يقول: قال الله- عز وجل- قسمت الصلاة بينى وبين عبدى
نصفين. ولعبدى ما سأل، فإذا قال العبد: الحمد لله رب العالمين قال الله:
حمدنى عبدى، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال الله أثنى على عبدى، -
(3/455)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
السّورَةِ، وَهَذَا مُشَاكِلٌ لِفَرْضِهَا عَلَيْهِ فِي السّمَاءِ
السّابِعَةِ حَيْثُ سَمِعَ كَلَامَ الرّبّ، وَنَاجَاهُ، وَلَمْ يُعْرَجْ
بِهِ حَتّى طُهّرَ ظَاهِرُهُ وَبَاطِنُهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ كَمَا
يَتَطَهّرُ الْمُصَلّي لِلصّلَاةِ، وَأُخْرِجَ عَنْ الدّنْيَا بِجِسْمِهِ،
كَمَا يَخْرُجُ الْمُصَلّي عَنْ الدّنْيَا بِقَلْبِهِ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ
كُلّ شَيْءٍ إلّا مُنَاجَاةُ رَبّهِ وَتَوَجّهُهُ إلَى قِبْلَتِهِ فِي
ذَلِكَ الْحِينِ، وَهُوَ بَيْتُ الْمَقْدِسِ، وَرُفِعَ إلَى السّمَاءِ
كَمَا يَرْفَعُ الْمُصَلّي يَدَيْهِ إلَى جِهَةِ السّمَاءِ إشَارَةً إلَى
الْقِبْلَةِ الْعُلْيَا فَهِيَ الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ، وَإِلَى جِهَةِ
عَرْشِ مَنْ يُنَاجِيهِ وَيُصَلّي لَهُ سُبْحَانَهُ.
فَرْضُ الصّلَوَاتِ خَمْسِينَ فَصْلٌ وَأَمّا فَرْضُ الصّلَوَاتِ خَمْسِينَ
ثُمّ حَطّ مِنْهَا عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ إلَى خَمْسِ صَلَوَاتٍ. وَقَدْ
رُوِيَ أَيْضًا أَنّهَا حُطّتْ خَمْسًا بَعْدَ خَمْسٍ، وَقَدْ يُمْكِنُ
الْجَمْعُ بَيْنَ الرّوَايَتَيْنِ لِدُخُولِ الْخَمْسِ فِي الْعَشْرِ،
فَقَدْ تكلم فى هذا النقص من الفريضة:
__________
- فإذا قال: مالك يوم الدين، قال الله: مجدنى عبدى، وقال مرة: فوض إلى عبدى
فإذا قال: إياك نعبد، وإياك نستعين قال: هذا بينى وبين عبدى، ولعبدى ما
سأل، فإذا قال: اهْدِنَا الصّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الّذِينَ
أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غير المغضوب عليهم، ولا الضالين، قال الله: هذا
لعبدى، ولعبدى ما سأل، وقال الترمذى: هذا حديث حسن. أقول: إن القرآن يفرض
على كل مسلم إذا قرئ القرآن أن يستمع وينصت، وعلى هذا يجب على المأموم-
خلافا لما فى الحديث- ألا يقرأ بالفاتحة فى نفسه، وهو يسمع القرآن من
الإمام، لأن الله يقول: (وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ،
وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) الأعراف: 204. والقول بأن الأمر
موجه إلى من يكونون فى غير الصلاة قول على الله بغير علم.
(3/456)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَهُوَ نَسْخٌ أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ، فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مِنْ
بَابِ نَسْخِ الْعِبَادَةِ قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا، وَأَنْكَرَ أَبُو
جَعْفَرٍ النّحّاسُ هَذَا الْقَوْلَ مِنْ وَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا
الْبِنَاءُ عَلَى أَصْلِهِ وَمَذْهَبِهِ فِي أَنّ الْعِبَادَةَ لَا يَجُوزُ
نَسْخُهَا قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا، لِأَنّ ذَلِكَ عِنْدَهُ مِنْ
الْبَدَاءِ، وَالْبَدَاءُ مُحَالٌ عَلَى اللهِ سُبْحَانَهُ. الثّانِي: أَنّ
الْعِبَادَةَ إنْ جَازَ نَسْخُهَا قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا عِنْدَ مَنْ
يَرَى ذَلِكَ، فَلَيْسَ يَجُوزُ عِنْدَ أَحَدٍ نَسْخُهَا قَبْلَ هُبُوطِهَا
إلَى الْأَرْضِ وَوُصُولِهَا إلَى الْمُخَاطَبِينَ: قَالَ: وَإِنّمَا
ادّعَى النّسْخَ فِي هَذِهِ الصّلَوَاتِ الْمَوْضُوعَةِ عَنْ مُحَمّدٍ
وَأُمّتِهِ الْقَاشَانِيّ، لِيُصَحّحَ بِذَلِكَ مَذْهَبَهُ فِي أَنّ
الْبَيَانَ لَا يَتَأَخّرُ، ثُمّ قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إنّمَا هِيَ
شَفَاعَةٌ شَفَعَهَا رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
لِأُمّتِهِ وَمُرَاجَعَةٌ رَاجَعَهَا رَبّهُ، لِيُخَفّفَ عَنْ أُمّتِهِ،
وَلَا يُسَمّى مِثْلُ هَذَا نَسْخًا.
قَالَ الْمُؤَلّفُ: أَمّا مَذْهَبُهُ فِي أَنّ الْعِبَادَةَ لَا تُنْسَخُ
قَبْلَ الْعَمَلِ بِهَا، وَأَنّ ذَلِكَ بَدَاءٌ فَلَيْسَ بِصَحِيحِ، لِأَنّ
حَقِيقَةَ الْبَدَاءِ أَنْ يَبْدُوَ لِلْآمِرِ رَأْيٌ يَتَبَيّنُ لَهُ
الصّوَابُ فِيهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ تَبَيّنَهُ، وَهَذَا مُحَالٌ فِي
حَقّ مَنْ يَعْلَمُ الْأَشْيَاءَ بِعِلْمِ قَدِيمٍ «1» ، وَلَيْسَ النّسْخُ
مِنْ هَذَا فِي شَيْءٍ إنّمَا النسخ تبديل حكم بحكم، والكلّ
__________
(1) فى اللسان: «البداء: استصواب شىء علم بعد أن لم يعلم، وذلك على الله
غير جائز» ويقول الشهرستانى فى الملل والنحل: «والبداء له معان: البداء فى
العلم، وهو أن يظهر لة صواب على خلاف ما أراد وحكم، والبداء فى الأمر، وهو
أن يأمر بشىء، ثم يأمر بعده بخلاف ذلك» قال هذا وهو يتحدث عن المختار بن
عبيد الثقفى أحد زعماء فرق الشيعة الأوائل، ثم قال: «وإنما صار المختار إلى
اختيار القول بالبداء، لأنه كان يدعى علم ما يحدث من الأحوال إما بوحى يوحى
إليه، وإما برسالة من قبل الإمام، فكان إذا وجد أصحابه بكون شىء، وحدوث
حادثة، فإن وافق كونه قوله جعله دليلا-
(3/457)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي سَابِقِ عِلْمِهِ وَمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ، كَنَسْخِهِ الْمَرَضَ
بِالصّحّةِ، وَالصّحّةِ بِالْمَرَضِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَأَيْضًا بِأَنّ
الْعَبْدَ الْمَأْمُورَ يَجِبُ عَلَيْهِ عِنْدَ تَوَجّهِ الْأَمْرِ إلَيْهِ
ثَلَاثُ عِبَادَاتٍ:
الْفِعْلُ الّذِي أُمِرَ بِهِ، وَالْعَزْمُ عَلَى الِامْتِثَالِ عِنْدَ
سَمَاعِ الْأَمْرِ، وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ إنْ كَانَ وَاجِبًا فَإِنْ
نُسِخَ الْحُكْمُ قَبْلَ الْفِعْلِ، فَقَدْ حَصَلَتْ فَائِدَتَانِ:
الْعَزْمُ وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ. وَعَلِمَ اللهُ ذَلِكَ مِنْهُ، فَصَحّ
امْتِحَانُهُ له واختياره إيّاهُ، وَأَوْقَعَ الْجَزَاءَ عَلَى حَسَبِ مَا
عَلِمَ مِنْ نِيّتِهِ، وَإِنّمَا الّذِي لَا يَجُوزُ نَسْخُ الْأَمْرِ
قَبْلَ نُزُولِهِ، وَقَبْلَ عِلْمِ الْمُخَاطَبِ بِهِ، وَاَلّذِي ذَكَرَ
النّحّاسُ مِنْ نَسْخِ الْعِبَادَةِ بَعْدَ الْعَمَلِ بِهَا، فَلَيْسَ هُوَ
حَقِيقَةَ النّسْخِ، لِأَنّ الْعِبَادَةَ الْمَأْمُورَ بِهَا قَدْ مَضَتْ،
وَإِنّمَا جَاءَ الخطاب بالنهى عن مثلها لَا عَنْهَا، وَقَوْلُنَا فِي
الْخَمْسِ وَالْأَرْبَعِينَ صَلَاةً الْمَوْضُوعَةِ عَنْ مُحَمّدٍ
وَأُمّتِهِ أَحَدُ وَجْهَيْنِ، إمّا أَنْ يَكُونَ نُسِخَ مَا وَجَبَ عَلَى
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَدَائِهَا وَرُفِعَ
عَنْهُ اسْتِمْرَارُ الْعَزْمِ وَاعْتِقَادُ الْوُجُوبِ، وَهَذَا قَدْ
قَدّمْنَا أَنّهُ نَسْخٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَنُسِخَ عَنْهُ مَا وَجَبَ
عَلَيْهِ مِنْ التّبْلِيغِ، فَقَدْ كَانَ فِي كُلّ مَرّةٍ عَازِمًا عَلَى
تَبْلِيغِ مَا أُمِرَ بِهِ، وَقَوْلُ أَبِي جَعْفَرٍ: إنّمَا كَانَ
شَافِعًا وَمُرَاجِعًا يَنْفِي النّسْخَ فَإِنّ النّسْخَ قَدْ يَكُونُ عَنْ
سَبَبٍ مَعْلُومٍ، فَشَفَاعَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِأُمّتِهِ كَانَتْ
سَبَبًا لِلنّسْخِ لَا مُبْطِلَةً لِحَقِيقَتِهِ،
__________
- على صدق دعواه، وإن لم يوافق قال: قد بدا لربكم، وكان لا يفرق بين النسخ
والبداء» ص 237 ح 1 الملل والنحل للشهرستانى ط مكتبة الحسين التجارية
فالبداء إذن أسطورة ملعونة، ومحال نسبتها إلى الله سبحانه ولا يجوز وصف علم
الله بأنه قديم، كما لا يجوز وصف الله بهذه الصفة كما سبق بيانه. كما أنه
لا يجوز أن يقال عن آية فى القرآن إنها منسوخة، فكل آية فى القرآن هى حق لا
ريب فيه، وكل آية فيه يجب أن نؤمن بأنها غير منسوخة.
(3/458)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَكِنّ الْمَنْسُوخَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ التّبْلِيغِ الْوَاجِبِ
عَلَيْهِ قَبْلَ النّسْخِ وَحُكْمِ الصّلَوَاتِ الْخَمْسِ فِي خَاصّتِهِ،
وَأَمّا أُمّتُهُ فَلَمْ يُنْسَخْ عَنْهُمْ حُكْمٌ إذْ لَا يُتَصَوّرُ
نَسْخُ الْحُكْمِ قَبْلَ بُلُوغِهِ إلَى الْمَأْمُورِ، كَمَا قَدّمْنَا،
وَهَذَا كُلّهُ أَحَدُ الْوَجْهَيْنِ فِي الْحَدِيثِ.
وَالْوَجْهُ الثّانِي أَنْ يَكُونَ هَذَا خَبَرًا لَا تَعَبّدًا، وَإِذَا
كَانَ خَبَرًا لَمْ يَدْخُلْهُ النّسْخُ، وَمَعْنَى الْخَبَرِ أَنّهُ
عَلَيْهِ السّلَامُ أَخْبَرَهُ رَبّهُ أَنّ عَلَى أُمّتِهِ خَمْسِينَ
صَلَاةً، وَمَعْنَاهُ: أَنّهَا خَمْسُونَ فِي اللّوْحِ الْمَحْفُوظِ،
وَكَذَلِك قَالَ فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: هِيَ خَمْسٌ وَهِيَ خَمْسُونَ،
وَالْحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَتَأَوّلَهُ رسول الله- صلى الله
عليه وسلم- على أَنّهَا خَمْسُونَ بِالْفِعْلِ، فَلَمْ يَزَلْ يُرَاجِعُ
رَبّهُ حَتّى بَيّنَ لَهُ أَنّهَا خَمْسُونَ فِي الثّوَابِ لا بالعمل. فإن
قيل: فما معنى نقصها عَشْرًا بَعْدَ عَشْرٍ؟ قُلْنَا: لَيْسَ كُلّ
الْخَلْقِ يَحْضُرُ قَلْبُهُ فِي الصّلَاةِ مِنْ أَوّلِهَا إلَى آخِرِهَا،
وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ أَنّهُ يُكْتَبُ لَهُ مِنْهَا مَا حَضَرَ
قَلْبُهُ فِيهَا، وَأَنّ الْعَبْدَ يُصَلّي الصّلَاةَ، فَيُكْتَبُ لَهُ
نِصْفُهَا رُبُعُهَا حَتّى انْتَهَى إلَى عُشْرِهَا، وَوَقَفَ، فَهِيَ
خَمْسٌ فِي حَقّ مَنْ كُتِبَ لَهُ عُشْرُهَا، وَعَشْرٌ فِي حَقّ مَنْ
كُتِبَ لَهُ أَكْثَرُ مِنْ ذَلِكَ، وَخَمْسُونَ فِي حَقّ مَنْ كَمُلَتْ
صَلَاتُهُ وَأَدّاهَا بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ تَمَامِ خُشُوعِهَا وَكَمَالِ
سُجُودِهَا وَرُكُوعِهَا.
أَوْصَافٌ مِنْ الْمَلَائِكَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمْ يَلْقَهُ مَلَكٌ مِنْ
الْمَلَائِكَةِ إلّا ضَاحِكًا مُسْتَبْشِرًا إلّا مَالِكًا خَازِنَ
جَهَنّمَ، وَذَلِكَ أَنّهُ لَمْ يَضْحَكْ لِأَحَدِ قَبْلَهُ، وَلَا هُوَ
ضَاحِكٌ لِأَحَدِ، وَمِصْدَاقُ هَذَا فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى، قَالَ
اللهُ سُبْحَانَهُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ التّحْرِيمَ: 6
وَهُمْ مُوكَلُونَ بِغَضَبِ اللهِ تَعَالَى، فَالْغَضَبُ لَا يُزَايِلُهُمْ
(3/459)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبَدًا، وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مُعَارَضَةٌ لِلْحَدِيثِ الّذِي فِي
صِفَةِ مِيكَائِيلَ أَنّهُ مَا ضَحِكَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ جَهَنّمَ،
وَكَذَلِكَ يُعَارِضُهُ مَا خَرّجَ الدّار قطنىّ أن رسول الله- صلى الله
عليه وسلم- تَبَسّمَ فِي الصّلَاةِ، فَلَمّا انْصَرَفَ سُئِلَ عَنْ ذَلِكَ،
فَقَالَ:
رَأَيْت مِيكَائِيلَ رَاجِعًا مِنْ طَلَبِ الْقَوْمِ، عَلَى جَنَاحَيْهِ
الْغُبَارُ فَضَحِكَ إلَيّ، فَتَبَسّمْت إلَيْه، وَإِذَا صَحّ
الْحَدِيثَانِ، فَوَجْهُ الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا: أَنْ يَكُونَ لَمْ
يَضْحَكْ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ النّارَ إلَى هَذِهِ الْمُدّةِ الّتِي ضَحِكَ
فِيهَا لِرَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَيَكُونُ
الْحَدِيثُ عَامّا يُرَادُ بِهِ الْخُصُوصُ، أَوْ يَكُونُ الْحَدِيثُ
الْأَوّلُ حَدّثَ بِهِ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
قَبْلَ هَذَا الْحَدِيثِ الْأَخِيرِ ثُمّ حَدّثَ بَعْدُ بِمَا حَدّثَ بِهِ
مِنْ ضَحِكِهِ إلَيْهِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ وَلَمْ يَرَ مَالِكًا عَلَى
الصّورَةِ الّتِي يَرَاهُ عَلَيْهَا الْمُعَذّبُونَ فِي الْآخِرَةِ، وَلَوْ
رَآهُ عَلَى تِلْكَ الصّورَةِ مَا اسْتَطَاعَ أَنْ يَنْظُرَ إلَيْهِ.
أَكَلَةُ الرّبَا فِي رُؤْيَا الْمِعْرَاجِ:
وَذَكَرَ أَكَلَةَ الرّبَا وَأَنّهُمْ بِسَبِيلِ آلِ فِرْعَوْنَ يَمُرّونَ
عَلَيْهِمْ كَالْإِبِلِ الْمَهْيُومَةِ، وَهِيَ الْعِطَاشُ، وَالْهُيَامُ:
شِدّةُ الْعَطَشِ، وَكَانَ قِيَاسُ هَذَا الْوَصْفِ أَلّا يُقَالَ فِيهِ
مَهْيُومَةٌ، كَمَا لَا يُقَالُ مَعْطُوشَةٌ، إنّمَا يُقَالُ هَائِمٌ
وَهَيْمَانُ، وَقَدْ يُقَالُ: هَيُومٌ وَيُجْمَعُ عَلَى هِيمٍ، وَوَزْنُهُ
فُعْلٌ بِالضّمّ لَكِنْ كُسِرَ مِنْ أَجْلِ الْيَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ الْوَاقِعَةَ: 55 وَلَكِنْ جَاءَ فِي
الْحَدِيثِ مَهْيُومَةٌ، كَأَنّهُ شَيْءٌ فُعِلَ بِهَا كَالْمَحْمُومَةِ
وَالْمَجْنُونَةِ وَكَالْمَنْهُومِ، وَهُوَ الّذِي لَا يَشْبَعُ وَكَانَ
قِيَاسُ الْيَاءِ أَنْ تَعْتَلّ، فَيُقَالَ: مَهِيمَةٌ، كَمَا يُقَالُ:
مَبِيعَةٌ فِي مَعْنَى مَبْيُوعَةٍ،
(3/460)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَكِنْ صَحّتْ الْيَاءُ، لِأَنّهَا فِي مَعْنَى الْهَيُومَةِ كَمَا
صَحّتْ الْوَاوُ فِي عُورٍ لِأَنّهُ فِي مَعْنَى أَعْوَرَ، كَمَا صَحّتْ
فِي اجْتَوَرُوا لِأَنّهُ فِي مَعْنَى: تَجَاوَرُوا، وَإِنّمَا رَآهُمْ
مُنْتَفِخَةً بُطُونُهُمْ؛ لِأَنّ الْعُقُوبَةَ مُشَاكِلَةٌ لِلذّنْبِ،
فَآكِلُ الرّبَا يَرْبُو بَطْنُهُ، كَمَا أَرَادَ أَنْ يَرْبُوَ مَالُهُ
بِأَكْلِ مَا حُرّمَ عَلَيْهِ، فَمُحِقَتْ الْبَرَكَةُ مِنْ مَالِهِ،
وَجُعِلَتْ نَفْخًا فِي بَطْنِهِ، حَتّى يَقُومَ كَمَا يَقُومُ الّذِي
يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنْ الْمَسّ، وَإِنّمَا جُعِلُوا بِطَرِيقِ آلِ
فِرْعَوْنَ يَمُرّونَ عَلَيْهِمْ غُدُوّا وَعَشِيّا لِأَنّ آلَ فِرْعَوْنَ
هُمْ أَشَدّ النّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، كَمَا قَالَ
سُبْحَانَهُ: أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ غَافِرَ: 46.
فَخُصّوا بِسَبِيلِهِمْ، لِيُعْلَمَ أَنّ الّذِينَ هُمْ أَشَدّ النّاسِ
عَذَابًا يَطَئُونَهُمْ فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِمْ مِنْ الْكُفّارِ، وَهُمْ
لَا يَسْتَطِيعُونَ الْقِيَامَ، وَمَعْنَى كَوْنِهِمْ فِي طَرِيقِ جَهَنّمَ
بِحَيْثُ يَمُرّ بِالْكُفّارِ عَلَيْهِمْ، أَنّ اللهَ سُبْحَانَهُ قَدْ
أَوْقَفَ أَمْرَهُمْ بَيْنَ أَنْ يَنْتَهُوا، فَيَكُونَ خَيْرًا لَهُمْ،
وَبَيْنَ أَنْ يَعُودُوا وَيُصِرّوا، فَيُدْخِلَهُمْ النّارَ، وَهَذِهِ
صِفَةُ مَنْ هُوَ فِي طَرِيقِ النّارِ قَالَ اللهُ تَعَالَى: فَمَنْ جاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى
اللَّهِ الْبَقَرَةَ: 275. إلَى آخِرِ الْآيَةِ وَفِي بَعْضِ
الْمُسْنَدَاتِ أَنّهُ رَأَى بُطُونَهُمْ كَالْبُيُوتِ، يَعْنِي: أَكَلَةَ
الرّبَا، وَفِيهَا حَيّاتٌ تُرَى خَارِجَ الْبُطُونِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذِهِ
الْأَحْوَالُ الّتِي وَصَفَهَا عَنْ أَكَلَةِ الرّبَا إنْ كَانَتْ
عِبَارَةً عَنْ حالهم فى الاخرة، فال فِرْعَوْنُ فِي الْآخِرَةِ قَدْ
أُدْخِلُوا أَشَدّ الْعَذَابِ، وَإِنّمَا يُعْرَضُونَ عَلَى النّارِ
غُدُوّا وَعَشِيّا فِي الْبَرْزَخِ، وَإِنْ كَانَتْ هَذِهِ الْحَالُ الّتِي
رَآهُمْ عَلَيْهَا فِي الْبَرْزَخِ، فَأَيّ بُطُونٍ لَهُمْ، وَقَدْ صَارُوا
عِظَامًا وَرُفَاتًا، وَمُزّقُوا كُلّ مُمَزّقٍ فَالْجَوَابُ أَنّهُ إنّمَا
رَآهُمْ فِي الْبَرْزَخِ، لِأَنّهُ حَدِيثٌ عَمّا رَأَى، وَهَذِهِ الْحَالُ
هِيَ حَالُ
(3/461)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَرْوَاحِهِمْ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَفِيهَا تَصْحِيحٌ لِمَنْ قَالَ:
الْأَرْوَاحُ أَجْسَادٌ لَطِيفَةٌ قَابِلَةٌ لِلنّعِيمِ وَالْعَذَابِ،
فَيَخْلُقُ اللهُ فِي تِلْكَ الْأَرْوَاحِ مِنْ الْآلَامِ مَا يجده من
انتفخ بطنه حتى وطىء بِالْأَقْدَامِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ مِنْ قِيَامٍ،
وَلَيْسَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ أَشَدّ عَذَابًا
مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ، وَلَكِنْ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنّهُمْ يَطَؤُهُمْ
آلُ فِرْعَوْنَ وَغَيْرُهُمْ مِنْ الْكُفّارِ الّذِينَ لَمْ يَأْكُلُوا
الرّبَا مَا دَامُوا فِي الْبَرْزَخِ إلَى أَنْ يَقُومُوا يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، كَمَا يَقُومُ الّذِي يَتَخَبّطُهُ الشّيْطَانُ مِنْ
الْمَسّ، ثُمّ يُنَادِي مُنَادِي اللهِ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ
الْعَذابِ غَافِرَ: 46 وَكَذَلِكَ مَا رَأَى مِنْ النّسَاءِ الْمُعَلّقَاتِ
بِثُدِيّهِنّ «1» يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ رَأَى أَرْوَاحَهُنّ، وَقَدْ خُلِقَ
فِيهَا مِنْ الْآلَامِ مَا يَجِدُهُ مَنْ هَذِهِ حَالُهُ، وَيَحْتَمِلُ
أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مُثّلَتْ لَهُ حَالُهُنّ فِي الْآخِرَةِ، وَذَكَرَ
الّذِينَ يَدْعُونَ مَا أَحَلّ اللهُ مِنْ نِسَائِهِمْ، وَيَأْتُونَ مَا
حُرّمَ عَلَيْهِمْ، وَهَذَا نَصّ عَلَى تَحْرِيمِ إتْيَانِ النّسَاءِ فِي
أَعْجَازِهِنّ، وَقَدْ قَامَ الدّلِيلُ عَلَى تَحْرِيمِهِ مِنْ الْكِتَابِ
وَالسّنّةِ وَالْإِجْمَاعِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الْمَوَاضِعَ الّتِي يَقُومُ
مِنْهَا التّحْرِيمُ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ كِتَابِ اللهِ،
وَمِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَذَكَرْنَا مَا جَاءَ فِي ذَلِكَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ مِنْ قَوْلِهِ: هُوَ
الْكُفْرُ، وَقَوْلُ ابْنِ عُمَرَ: هى الّلوطيّة الصغرى، وأما
الْإِجْمَاعُ، فَإِنّ الْمَرْأَةَ تُرَدّ بِدَاءِ الْفَرْجِ، وَلَوْ جَازَ
وَطْؤُهَا فِي الْمَسْلَكِ الْآخَرِ مَا أَجْمَعُوا عَلَى رَدّهَا بِدَاءِ
الْفَرْجِ، وَقَدْ مَهّدْنَا الْأَدِلّةَ عَلَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ
مُفْرَدَةً فِي غَيْرِ هَذَا الإملاء بما فيه شفاء والحمد لله
__________
(1) لم يخرجه أحد من أصحاب الصحيح، وفى بعض رواياته غرابة ونكارة.
(3/462)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَلَدُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ:
وَقَوْلُهُ: فَأَكَلَ حَرَائِبَهُمْ: الْحَرِيبَةُ: الْمَالُ، وَهُوَ مِنْ
الْحَرْبِ، وَهُوَ السّلَبُ، يُرِيدُ أَنّ الْوَلَدَ إذَا كَانَ لِغَيْرِ
رِشْدَةٍ نُسِبَ إلَى الّذِي وُلِدَ عَلَى فِرَاشِهِ، فَيَأْكُلُ مِنْ
مَالِهِ صَغِيرًا، وَيَنْظُرُ إلَى بَنَاتِهِ مِنْ غَيْرِ أُمّهِ وَإِلَى
أَخَوَاتِهِ، وَلَسْنَ بِعَمّاتِ لَهُ، وَإِلَى أُمّهِ وَلَيْسَتْ بِجَدّةِ
لَهُ، وَهَذَا فَسَادٌ كَبِيرٌ، وَإِنّمَا قُدّمَ ذِكْرُ الْأَكْلِ مِنْ
حَرِيبَتِهِ وَمَالِهِ قَبْلَ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ
الِاطّلَاعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ أَشْنَعَ، لِأَنّ نَفَقَتَهُ عَلَيْهِ
أَوّلُ مِنْ حَالِ صِغَرِهِ، ثُمّ قَدْ يَبْلُغُ حَدّ الاطلاع على عوراته،
أولا يَبْلُغُ، وَأَيْضًا فَإِنّ الْأُمّ أَرْضَعَتْهُ بِلِبَانِهَا،
وَلَمْ تَدْفَعْهُ إلَى مُرْضِعَةٍ كَانَ الزّوْجُ أَبًا لَهُ مِنْ
الرّضَاعَةِ، وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ الِابْنِ مِنْ الرّضَاعَةِ، وَفِي
ذَلِكَ نُقْصَانٌ مِنْ الشّنَاعَةِ، فَإِنْ بَلَغَ الصّبِيّ، وَتَابَتْ
الْأُمّ، وَأَعْلَمَتْهُ أَنّهُ لِغَيْرِ رِشْدَةٍ لِيَسْتَعِفّ عَنْ
مِيرَاثِهِمْ، وَيَكُفّ عَنْ الِاطّلَاعِ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، أَوْ عَلِمَ
ذَلِكَ بِقَرِينَةِ حَالٍ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَ شَرّ
الثّلَاثَةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ فِي ابْنِ الزّنَا، وَقَدْ
تُؤُوّلَ حَدِيثُ شَرّ الثّلَاثَةِ عَلَى وُجُوهٍ، هَذَا أَقْرَبُهَا إلَى
الصّوَابِ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَكَلَ حَرَائِبَهُمْ،
وَاطّلَعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ، وَمَنْ فَعَلَ هَذَا عَنْ عَمْدٍ وَقَصْدٍ
فَهُوَ شَرّ النّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ فَأَكْلُهُ وَاطّلَاعُهُ شَرّ
عَمَلٍ، وَأَبَوَاهُ حِينَ زَنَيَا فَارَقَا ذَلِكَ الْعَمَلَ الْخَبِيثَ
لِحِينِهِمَا وَالِابْنُ فِي عَمَلٍ خَبِيثٍ مِنْ مَنْشَئِهِ إلَى
وَفَاتِهِ،، فَعَمَلُهُ شَرّ عَمَلٍ.
حُكْمُ الْحَاكِمِ لَا يُحِلّ الْحَرَامَ:
وَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ الْفِقْهِ أَيْضًا أَنّ حُكْمَ الْحَاكِمِ لَا
يُحِلّ حَرَامًا، وَذَلِكَ أَنّ الْوَلَدَ فِي حُكْمِ الشّرِيعَةِ
لِلْفِرَاشِ إلّا أَنْ يُنْفَى بِاللّعَانِ، فَإِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ
بِهَذَا، وَعَلِمَ
(3/463)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْوَلَدُ عِنْدَ بُلُوغِهِ خِلَافَ مَا حَكَمَ بِهِ الْحَاكِمُ لَمْ
يَحِلّ لَهُ بِهَذَا الْحُكْمِ مَا حَرّمَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ أَكْلِ
الْحَرَائِبِ وَالِاطّلَاعِ عَلَى الْعَوْرَاتِ، وَفِي هَذَا رَدّ
لِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ مِنْ قَوْلِهِ: إنّ حُكْمَ الْحَاكِمِ قَدْ
يُحِلّ مَا يَعْلَمُ أَنّهُ حَرَامٌ مِثْلُ أَنْ يَشْهَدَ شَاهِدَانِ عَلَى
رَجُلٍ أَنّهُ طَلّقَ، وَهُمَا يَعْلَمَانِ أَنّهُ لَمْ يُطَلّقْ
فَيَقْبَلَ الْقَاضِي شَهَادَتَهُمَا فَيُطَلّقَ الْمَرْأَةَ عَلَى
الرّجُلِ، فَإِذَا بَانَتْ مِنْهُ كَانَ لِأَحَدِ الشّاهِدَيْنِ أَنْ
يَنْكِحَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِأَنّهُ قَدْ شَهِدَ زُورًا، لَمْ يَقُلْ أَبُو
حَنِيفَةَ بِهَذَا الْقَوْلِ فِي الْأَمْوَالِ لِقَوْلِ النّبِيّ عَلَيْهِ
السّلَامُ «إنّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيّ، وَلَعَلّ
أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجّتِهِ مِنْ صَاحِبِهِ، فَأَقْضِيَ
لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ، فَمَنْ قَضَيْت لَهُ بِشَيْءِ مِنْ حَقّ
أَخِيهِ، فَلَا يَأْخُذْهُ، فَإِنّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنْ النّارِ
«1» » فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ مَعَ الّذِي تَقَدّمَ رَدّ لِمَذْهَبِهِ،
وَلَا حُجّةَ لَهُ فِي أَنْ يَقُولَ ذَلِكَ مَخْصُوصٌ بِالْأَمْوَالِ مِنْ
وَجْهَيْنِ: أحدهما: أن أَنّ الْقِيَاسَ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِهِ، وَقِيَاسُ
الْمَسْأَلَتَيْنِ وَاحِدٌ، الثّانِي: أَنّهُ قَالَ مِنْ حَقّ أَخِيهِ،
وَلَمْ يَقُلْ مِنْ مَالِ أَخِيهِ، وَهَذَا لَفْظٌ يَعُمّ الْحُقُوقَ
كُلّهَا قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَعِنْدِي أَنّ أَبَا حَنِيفَةَ رَحِمَهُ
اللهُ: إنّمَا بَنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ عَلَى أَصْلِهِ فِي طَلَاقِ
الْمُكْرَهِ، فَإِنّهُ
__________
(1) رواه الجماعة. ومعنى ألحن: أبلغ كما وقع فى الصحيحين أى: أحسن إيرادا
للكلام، ولابد من تقدير محذوف لتصحيح معناه. وهو أى وهو كاذب، ويسمى هذا
عند علماء الأصول: دلالة اقتضاء، لأن اللفظ الظاهر المذكور يقتضى هذا
المحذوف، وقد يكون معناه: أعرف بالحجة، وأقطن لها من غيره ويقال: لحنت
لفلان إذا قلت له قولا يفهمه، ويخفى على غيره لأنك تميله بالتورية عن
الواضح المفهوم، فاللحن: الميل عن جهة الاستقامة، يقال: لحن فلان فى كلامه:
إذا مال عن صحيح المنطق. وفى رواية «ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض،
فأقضى بنحو مما أسمع»
(3/464)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عِنْدَهُ لَازِمٌ فَإِذَا أُكْرِهَ الرّجُلُ عَلَى الطّلَاقِ، وَقُلْنَا
يَلْزَمُ الطّلَاقُ لَهُ، فَقَدْ حُرّمَتْ الْمَرْأَةُ عَلَيْهِ، وَإِذَا
حُرّمَتْ عَلَيْهِ جَازَ أَنْ يَنْكِحَهَا مَنْ شَاءَ فَالْإِثْمُ إنّمَا
تَعَلّقَ فِي هَذَا الْمَذْهَبِ بِالشّهَادَةِ دُونَ النّكَاحِ، وَقَدْ
خَالَفَهُ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ فِي طَلَاقِ الْمُكْرَهِ، وَقَوْلُهُمْ
يُعَضّدُهُ الْأَثَرُ، وَقَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ يُعَضّدُهُ النّظَرُ،
وَالْخَوْضُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَصُدّنَا عَمّا نَحْنُ بِسَبِيلِهِ.
مَكَانُ إدْرِيسَ فَصْلٌ: وَذِكْرُهُ لِإِدْرِيسَ فِي السّمَاءِ
الرّابِعَةِ مَعَ قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا)
مَرْيَمَ، مَعَ أَنّهُ قَدْ رَأَى مُوسَى وَإِبْرَاهِيمَ فِي مَكَانٍ
أَعْلَى مِنْ مَكَانِ إدْرِيسَ فَذَلِكَ وَاَللهُ أَعْلَمُ لِمَا ذُكِرَ
عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ أَنّ إدْرِيسَ خُصّ مِنْ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ
أَنْ رُفِعَ قَبْلَ وَفَاتِهِ إلَى السّمَاءِ الرّابِعَةِ، وَرَفَعَهُ
مَلَكٌ كَانَ صَدِيقًا لَهُ، وَهُوَ الْمَلَكُ الْمُوَكّلُ بِالشّمْسِ
فِيمَا ذُكِرَ، وَكَانَ إدْرِيسُ سَأَلَهُ أَنْ يُرِيَهُ الْجَنّةَ،
فَأَذِنَ لَهُ اللهُ فِي ذَلِكَ، فَلَمّا كَانَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ
رَآهُ هُنَالِكَ مَلَكُ الْمَوْتِ، فَعَجِبَ، وَقَالَ أُمِرْت أَنْ
أَقْبِضَ رُوحَ أَدَرِيسَ السّاعَةَ فِي السّمَاءِ الرّابِعَةِ، فَقَبَضَهُ
هُنَالِكَ، فَرَفْعُهُ حَيّا إلَى ذَلِكَ الْمَكَانِ الْعَلِيّ خَاصّ له
دون الأنبياء «1» .
__________
(1) يقول ابن كثير عن هذا: «وقد روى ابن جرير ههنا أثرا غريبا عجيبا» ثم
ذكر الأثر بطوله، بخرقه المشئوم، وكذبه الملعون، ثم قال بعده: «هذا من
أخبار كعب الأحبار الإسرائيليات، وفى بعضه نكارة والله أعلم» تفسير الاية
من سورة مريم. أما المكان العلى فقد ذكر الحسن وغيره أنه الجنة. ولنحذر من
موبقات كعب
(3/465)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُ الْأَنْبِيَاءِ فِي كُلّ سَمَاءٍ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مِنْ قَوْلِ الْأَنْبِيَاءِ لَهُ فِي كُلّ سَمَاءٍ: مرحبا
بالأخ الصالح، وقول آدم وابراهيم: بِالِابْنِ الصّالِحِ وَقَدْ ذَكَرْنَا
فِي أَوّلِ هَذَا الْكِتَابِ حُجّةً لِمَنْ قَالَ: إنّ إدْرِيسَ لَيْسَ
بِجَدّ لِنُوحِ، وَلَا هُوَ مِنْ آبَاءِ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَنّهُ قَالَ مَرْحَبًا بِالْأَخِ الصّالِحِ، وَلَمْ
يَقُلْ: بِالِابْنِ الصّالِحِ
خَرَافَةُ طَلَبِ مُوسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أُمّةِ أَحْمَدَ:
وَأَمّا اعْتِنَاءُ مُوسَى- عَلَيْهِ السّلَامُ- بِهَذِهِ الْأُمّةِ
وَإِلْحَاحُهُ عَلَى نَبِيّهَا أَنْ يَشْفَعَ لَهَا، وَيَسْأَلَ
التّخْفِيفَ عَنْهَا، فَلِقَوْلِهِ- وَاَللهُ أَعْلَمُ- حِينَ قُضِيَ
إلَيْهِ الْأَمْرُ بِجَانِبِ الْغَرْبِيّ، وَرَأَى صِفَاتِ أُمّةِ مُحَمّدٍ
عَلَيْهِ السّلَامُ فِي الْأَلْوَاحِ، وَجَعَلَ يَقُولُ: إنّي أَجِدُ فِي
الْأَلْوَاحِ أُمّةً صِفَتُهُمْ كَذَا، اللهُمّ اجْعَلْهُمْ أُمّتِي،
فَيُقَالُ لَهُ: تِلْكَ أُمّةُ أَحْمَدَ، وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ «1» ،
فَكَانَ إشْفَاقُهُ عَلَيْهِمْ وَاعْتِنَاؤُهُ بِأَمْرِهِمْ كَمَا
يُعْتِنِي بِالْقَوْمِ مَنْ هو منهم، لقوله: اللهم اجعلنى منهم، والله
أعلم.
__________
(1) هو مشهور، ولكن شهرة الباطل الماكر، والضلالة اللئيمة، وقد أخرجه أبو
نعيم فى الدلائل، ولم يخرجه أحد من أصحاب الصحيح. وكيف يطلب موسى من الله
أن تكون هذه الأمة التى ستأتى بعده بقرون أمة له؟ وكيف نصدق أو كيف يستقيم
القول بأنه أعطى خصلتى الرسالة والتكليم بعد هذه المناقشة، على حين كان هو
رسولا مكلما قبل أن تنزل الألواح عليه. فقد ورد فى ختام الحديث. أن موسى
قال: «يا رب فاجعلنى من أمة أحمد، فأعطى عند ذلك خصلتين، فقال: (يا مُوسى
إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي، فَخُذْ ما
آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) إنها خرافة ظاهرها ينزع إلى تمجيد
النبي «ص» وباطنها- بهته بالكذب والخرف الأحمق»
(3/466)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعْضُ مَا رَأَى:
وَمِمّا جَاءَ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِمّا لَمْ يَذْكُرْهُ ابْنُ
إسْحَاقَ فِي مسند الحارث ابن أَبِي أُسَامَةَ أَنّهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ-
نَادَاهُ مُنَادٍ، وَهُوَ عَلَى ظَهْرِ الْبُرَاقِ: يَا مُحَمّدُ، فَلَمْ
يَعْرُجْ عَلَيْهِ، ثُمّ نَادَاهُ آخَرُ: يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ
ثَلَاثًا، فَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيْهِ، ثُمّ لقيته لمرأة عَلَيْهَا مِنْ كُلّ
زِينَةٍ نَاشِرَةٌ يَدَيْهَا، تَقُولُ: يَا مُحَمّدُ يَا مُحَمّدُ، حَتّى
تَغَشّتْهُ، فَلَمْ يَعْرُجْ عَلَيْهَا، ثُمّ سَأَلَ جِبْرِيلَ عَمّا
رَأَى، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: أَمَا الْمُنَادِي الْأَوّلُ، فَدَاعِي
الْيَهُودِ لَوْ أَجَبْته لَتَهَوّدَتْ أُمّتُك، وَأَمّا الْآخَرُ فَدَاعِي
النّصَارَى، وَلَوْ أَجَبْته لَتَنَصّرَتْ أُمّتُك، وَأَمّا الْمَرْأَةُ
الّتِي كَانَ عَلَيْهَا مِنْ كُلّ زِينَةٍ، فَإِنّهَا الدّنْيَا لَوْ
أَجَبْتهَا لَآثَرْت الدّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ «1» .
__________
(1) وردت فى حديث رواه البيهقى فى الدلائل بسنده إلى أبى سعيد الخدرى وابن
جرير. ورواه ابن أبى حاتم بسياق طويل كما يقول ابن كثير- حسن أنيق أجود مما
ساقه غيره على غرابته وما فيه من النكارة.
(3/467)
تم بحمد الله الجزء الثالث ويليه الجزء
الرابع ان شاء الله وأوله: كفاية الله أمر المستهزئين
(3/469)
فهرس الجزء الثالث
من الروض الأنف
الرقم الموضوع
6 ابتداء فرض الصلاة «س»
7 أول من أسلم «س»
9 إسلام زيد بن حارثة «س»
10 إسلام أبى بكر
11 فرض الصلاة
12 لا نسخ فى القرآن «س»
13 الوضوء
14 جبريل يؤم الرسول «س»
15 أول من آمن
16 إسلام زيد
19 إسلام أبى بكر
22 من أسلموا على يد أبى بكر «س»
27 إسلام أبى عبيدة وسعيد بن زيد
29 إسلام سعد. وابن عوف
والنحام
31 ابن مسعود ومسعود القارى
33 تصحيح نسب أبى حذيفة
34 عميس
35 تصحيح فى نسب بنى عدى
37 إسلام عامر بن فهيرة
38 عامر بن الطفيل «ش»
الرقم الموضوع
39 تفسير ونحو: اصدع بما
تؤمر «ن، ل»
39 حول ما المصدرية والذى
ن، ل»
42 مبادأة رسول الله «ص» «س» 43 صلاة الرسول وصحبه فى
الشعاب «س»
43 عداوة الشرك للرسول «ص»
46 مناصرة أبى طالب للرسول «ص»
49 مباداة رسول الله
50 أبو البخترى
52 لو وضعوا الشمس فى يمينى
54 عرض قريش على أبى طالب
56 شرح شعر لأبى طالب
61 موقف الوليد بن المغيرة من
القرآن «س»
63 أبو طالب يفخر بأبن أخيه «س»
63 لامية أبى طالب «س»
69 شرح ابن هشام لبعض القصيدة «س»
70 ذكره صلى الله عليه وسلم بنتشر «س»
س- سيرة. ش- شرح. وما ليس أمامه شىء أو أمامه راء فهو من الروض و «ن ل»
مسائل نحوية ولغة
(3/471)
الرقم الموضوع
71 أبو قيس بن الأسلت ونسبه «س»
72 قصيدة ابن الأسلت «س»
74 داحس والغبراء «س»
76 حرب حاطب «س»
77 حكيم بن أمية ينهى عن عداوة الرسول «س»
77 موقف الوليد من القرآن «س»
80 ذرنى ومن خلقت وحيدا
82 شرح لامية أبى طالب
82 قلب الواو تاء «ن. ل»
84 وسوم الإبل
84 حول الصفة المشبهة «ن. ل»
87 حديث أم زرع «ش»
88 الودع والودع.
89 من شرح لامية أبى طالب
94 حسن ذا أدبا «ن. ل»
95 عود إلى شرح اللامية «ن. ل»
102 برىء وبراء وما يشبههما
103 الاستسقاء
107 ابن الأسلت وقصيدته
112 حرب داحس
116 حرب حاطب
116 مالقيه الرسول «س»
118 إسلام حمزة «س»
120 الرسول «ص» وعتبة «س»
122 بين النبى «ص» وبين قريش «س»
الرقم الموضوع
131 حول سورة الكهف «س»
143 أول من جهر بالقرآن «س»
144 ما لقى رسول الله «ص» «س»
145 المدثر والنذير والعريان
147 تقديم المفعول على الفعل
148 الرئى وعتبة بن ربيعة
150 إسلام حمزة
152 طلبهم الايات
154 عبد الله بن أبى أمية
154 هم أبى جهل بالقاء الحجر
156 أرأيت «ن. ل»
157 الأساطير وشىء عن الفرس
161 عن الكهف والفرقان
162 لم قدم الحمد على الكتاب؟
163 شرح شواهد شعرية
164 الرقيم وأهل الكهف
164 إعراب أحصى «ن. ل»
165 عن الكهف مرة أخرى
169 واو الثمانية «ن. ل»
171 آية الاستشقاء
172 ولبثوا فى كهفهم
174 السنة والعام «ن. ل»
177 ذو القرنين
181 حكم التسمى بأسماء النبيين
183 الروح والنفس
188 الروح سبب الحياة
(3/472)
191 الإنسان روح وجسد
191 النفس
192 ابن هرمة
194 خزنة جهنم
195 بهته «ص» بأن بشرا يعلمه
196 المستمعون لتلاوة النبى «س»
199 العدوان على المستضعفين «س»
199 تعذيب بلال وعتقه «س»
200 من عتقاء أبى بكر «س»
201 بين أبى بكر وأبيه «س»
201 تعذيب عمار «س»
202 فتنة المعذبين «س»
202 رفض تسليم الوليد بن الوليد «س»
203 الهجرة الأولى إلى الحبشة «س»
205 المهاجرون إلى الحبشة «س»
213 من شعر الهجرة الحبشية «س»
215 حول آيات من القرآن «س»
218 حكم المكره على الكفر والمعصية
220 آل ياسر
221 زنيرة وغيرها
221 أم عميس
222 عن بلال
222 عن الهجرة إلى الحبشة
222 النجاشى وعثمان ورقية
225 رؤيا ورقية ولدى العاص
226 أمة بنت خالد وأبوها
الرقم الموضوع
227 عبد شمس
228 عمار لم يهاجر إلى الحبشة
229 حول بنى الحارث بن قيس
229 حول بنى زهرة وطليب بن عبيد
230 عن شعر الهجرة الحبشية ونحوياته
«ن. ل»
232 حول أن المصدرية «ن. ل»
237 حول لام التعجب
238 من معانى شعر ابن مظعون
239 أنساب
241 أم سلمة
243 قريش تطلب المهاجرين «س»
243 النور الذى كان على قبر النجاشى
«س»
246 حوار بين النجاشى وبين المهاجرين
«س»
248 المهاجرون وانتصار النجاشى «س»
249 تملك النجاشى على الحبشة «س»
252 قريش تطلب المهاجرين
253 عمارة بن الوليد بن المغيرة
255 حول حديث المهاجرين مع
النجاشى
257 إضافة العين إلى الله
258 معنى ان عيسى كلمة الله وروحه
258 من هدى السلف فى الصفات «ش»
259 كلمة «حضرة» ونسبتها إلى الله «ش»
(3/473)
الرقم الموضوع
260 أصحمة النجاشى
261 من فقه حديث الهجرة الحبشية
261 الصلاة على النجاشى
262 حكم الصلاة على الغائب
264 إسلام عمر «س»
271 عن إسلام عمر وحديث خباب
«س»
282 خبر الصحيفة القرشية «س»
282 موقف أبى لهب «س»
283 بائية أبى طالب «س»
284 من جهالة أبى جهل «س»
285 مالقى رسول الله من قومه «س»
285 أبو لهب وامرأته «س»
287 أمية بن خلف «س»
288 العاص بن وائل «س»
288 أبو جهل «س»
289 النضر بن الحارث «س»
290 ابن الزهرى والأخنس «س»
292 ما نزل فى حق الوليد بن المغيرة
وأبى بن خلف وعقبة بن أبى
معيط «س»
294 ما نزل فى حق من اعترضوا
طواف الرسول «س»
294 ما قيل فى حق أبى جهل «س»
295 قصة ابن أم مكتوم «س»
296 حديث صحيفة قريش «س»
الرقم الموضوع
297 كمال المصحف وتمامه «ش»
298 بعض ما قيل عن الصحيفة «ش»
299 تفسير بائية أبى طالب
300 لا التى للنبرئة «ن. ل»
301 عود إلى شرح البائية
304 مسد أم جميل
308 عن الجيد والعنق «ن. ل»
309 غلو فى الوصف بالحسن
312 الفهر
313 حول خباب وقولهم مذمم
313 سد الذرائع
314 إنما الأعمال بالنيات «ش»
315 شرح ابن تيمية لسد
الذرائع «ش»
316 عن النضر ورستم
317 ابن الزبعرى وعزير «1»
319 حصب جهنم
320 عما نزل فى حق الأخنس
320 عن النسب على غير قياس «ش»
321 الزنيم «ر، ش»
322 تفسير سورة «الكافرون»
324 عن كلمة «ما» «ن. ل»
327 الزقوم
328 حديث ابن أم مكتوم
330 العائدون من الحبشة «س»
333 قصة ابن مظعون مع الوليد «س»
__________
(1) ذكرت خطأ فى العنوان (عزيز)
(3/474)
الرقم الموضوع
334 أبو سلمة فى جوار أبى طالب «س»
336 أبو بكر يرد جوار ابن الدغنة «س»
338 نقض الصحيفة «س»
344 قصة الغرانيق «ش ر»
349 كل شىء ما خلا الله باطل
352 أبو بكر وابن الدغنة
353 عن الشعب ونقض الصحيفة
356 شرح دالية أبى طالب
356 النسب على غير قياس «ش»
357 عود إلى الدالية «ر»
362 شعر حسان فى مطعم وهشام
364 إسلام الطفيل «س»
368 قصة الأعشى
370 ذلة أبى جهل والإراشى «س»
372 ركانة ومصارعته «س»
373 قدوم وفد النصارى من الحبشة «س»
376 حول حديث الطفيل الدوسى «ر»
377 خبء وخب «ش»
378 دالية الأعشى وحمزة والشرف «ر»
380 عود إلى دالية الأعشى
384 أغار وأنجد «ن. ل»
386 حول الوقف على النون الخفيفة
«ن. ل»
388 مصارعة ركانة
390 وفد نصارى الحبشة
الرقم الموضوع
391 عن غلام المبيعة وصهيب وأبى فكيهة
393 سبب نزول الكوثر «س»
393 الكوثر فى الشعر «س»
394 وقالوا لولا نزل عليه ملك «س»
395 ولقد استهزىء برسل من قبلك «س»
395 الإسراء والمعراج «س»
401 حديث أم هانئ عن الإسراء «س»
402 الأبتر والكوثر «ر»
409 استشهاد ابن هشام على معنى
الكوثر «ر»
410 ذكر حديث المستهزئين «ر»
412 شَرْحُ مَا فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مِنْ
الْمُشْكِلِ «ر»
415 أكان الإسراء يقظة أم مناما «ر»
417 أكان الإسراء مرتين «ر»
420 حول الإسراء والمعراج «ش»
422 رأى الشوكانى «ش»
423 رأى ابن القيم «ش»
425 موازنات بين الروايات «ش»
430 شماس البراق «ر»
422 قول الملائكة: من معك؟
433 باب الحفظة «ر»
434 آدَم فِي سَمَاءِ الدّنْيَا وَالْأَسْوِدَةُ
الّتِي رَآهَا «ر»
436 من حكم الماء (ر)
(3/475)
الرقم الموضوع
436 عن دخول بيت المقدس وصفة
الأنبياء «ر»
438 صفة النبى صلى الله عليه وسلم
440 قصة المعراج «س»
445 رؤية النبى ربه «ر»
450 لقاؤه للنبيين «ر»
453 البيت المعمور «ر»
454 فرض الصلاة «ر»
456 فرض الصلوات الخمس «ر»
الرقم الموضوع
459 أوصاف من الملائكة «ر»
460 أكلة الربا فى رؤيا المعراج «ر»
463 الولد لغير رشدة «ر»
463 حكم الحاكم لا يحل الحرام «ر»
465 مكان إدريس «ر»
466 قول الأنبياء فى كل سماء «ر»
466 خَرَافَةُ طَلَبِ مُوسَى أَنْ يَكُونَ مِنْ
أُمّةِ أحمد «ر»
467 بعض ما رأى
(3/476)
بعون الله وجميل توفيقه قد تم طبع الجزء
الثالث من
كتاب الروض الأنف
(3/477)
الجزء الرابع
مقدّمة
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالمين والصلاة
والسلام على خاتم النبيين محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله الأئمة
المهتدين.
«وبعد» فهذا هو الجزء الرابع من السيرة وشرحها «الروض الأنف» للامام
السهيلى والله وحده أسأل أن يعين على تمامه.
عبد الرحمن الوكيل
(4/5)
|