الروض
الأنف ت الوكيل [كِفَايَةُ اللهِ أَمْرَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- عَلَى أَمْرِ اللهِ تَعَالَى صَابِرًا مُحْتَسِبًا، مُؤَدّيًا
إلَى قَوْمِهِ النّصِيحَةَ عَلَى مَا يَلْقَى مِنْهُمْ مِنْ التّكْذِيبِ
وَالْأَذَى وَالِاسْتِهْزَاءِ. وَكَانَ عُظَمَاءُ الْمُسْتَهْزِئِينَ-
كَمَا حَدّثَنِي يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ
خَمْسَةَ نَفَرٍ مِنْ قَوْمِهِمْ، وَكَانُوا ذوى أسنان وشرف فى قومهم.
مِنْ بَنِي أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزّى بْنِ قُصَيّ بْنِ كِلَابٍ:
الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ بْنِ أَسَدِ أَبُو زَمَعَةَ، وَكَانَ رَسُولُ
اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِيمَا بَلَغَنِي- قَدْ دَعَا
عَلَيْهِ لِمَا كَانَ يَبْلُغُهُ مِنْ أَذَاهُ وَاسْتِهْزَائِهِ بِهِ،
فَقَالَ: اللهُمّ أَعْمِ بَصَرَهُ وَأَثْكِلْهُ وَلَدَهُ.
وَمِنْ بَنِي زُهْرَةَ بْنِ كِلَابٍ: الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ يَغُوثَ بْنِ
وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ ابن زُهْرَةَ.
وَمِنْ بَنِي مَخْزُومِ بْنِ يَقَظَةَ بْنِ مُرّةَ: الْوَلِيدُ بْنِ
الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ابن مخزوم.
ومن بني سَهْمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ هُصَيْصِ بْنِ كَعْبِ: الْعَاصُ بْنُ
وَائِلِ بْنِ هِشَامٍ.
قال ابن هشام: الْعَاصِ بْنِ وَائِلِ بْنِ هَاشِمِ بْنِ سُعَيْد بن سهم.
وَمِنْ بَنِي خُزَاعَةَ: الْحَارِثُ بْنُ الطّلَاطِلَةِ بْنِ عمرو بن
الحارث بن عبد عمرو ابن لُؤَيّ بْنِ مَلَكَانَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/7)
فَلَمّا تَمَادَوْا فِي الشّرّ،
وَأَكْثَرُوا بِرَسُولِ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ-
الِاسْتِهْزَاءَ، أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ: فَاصْدَعْ بِما
تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ
إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ الحجر: 93- 95.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ فحدَّثنى يَزِيدُ بْنُ رُومَانَ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزّبَيْرِ، أَوْ غَيْرِهِ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنّ جِبْرِيلَ أَتَى رَسُولِ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ،
فَقَامَ، وَقَامَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- إلَى
جَنْبِهِ فَمَرّ بَهْ الْأَسْوَدُ بْنُ الْمُطّلِبِ، فَرَمَى فِي وَجْهِهِ
بِوَرَقَةِ خَضْرَاءَ، فَعَمِيَ، وَمَرّ بَهْ الْأَسْوَدُ بْنُ عَبْدِ
يَغُوثَ، فَأَشَارَ إلَى بطنه، فاستسقى فَمَاتَ مِنْهُ حَبَنًا. وَمَرّ
بِهِ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ فَأَشَارَ إلَى أَثَرِ جُرْحٍ
بِأَسْفَلِ كَعْبِ رِجْلِهِ، كَانَ أَصَابَهُ قَبْلَ ذَلِك بِسِنِينَ،
وَهُوَ يَجُرّ سَبَلَهُ، وَذَلِكَ أَنّهُ مَرّ بِرَجُلِ مِنْ خُزَاعَةَ
وَهُوَ يَرِيشُ نَبْلًا لَهُ، فَتَعَلّقَ سَهْمٌ مِنْ نَبْلِهِ
بِإِزَارِهِ، فَخَدَشَ فِي رِجْلِهِ ذَلِك الْخَدْشَ، وَلَيْسَ بِشَيْءِ،
فَانْتَقَضَ بِهِ، فَقَتَلَهُ. وَمَرّ بَهْ الْعَاصُ بْنُ وَائِلٍ،
فَأَشَارَ إلَى أَخْمَصِ رِجْلِهِ، وَخَرَجَ عَلَى حِمَارٍ لَهُ يُرِيدُ
الطّائِفَ، فَرَبَضَ بِهِ عَلَى شُبَارِقَةٍ، فَدَخَلَتْ فِي أَخْمَصِ رجله
شوكة، فقتلته ومرّ به الحارث ابن الطّلَاطِلَةِ، فَأَشَارَ إلَى رَأْسِهِ،
فَامْتَخَضَ قَيْحًا فَقَتَلَهُ.
[الوليد وأبو أزيهر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا حَضَرَتْ الْوَلِيدَ الْوَفَاةُ دَعَا
بَنِيهِ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً:
هِشَامَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَالْوَلِيدَ بْنَ الْوَلِيدِ، وَخَالِدَ بْنَ
الْوَلِيدِ، فَقَالَ لَهُمْ: أَيْ بَنِيّ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/8)
أُوصِيكُمْ بِثَلَاثِ، فَلَا تُضَيّعُوا
فِيهِنّ: دَمِي فِي خُزَاعَةَ، فَلَا تَطُلّنّهُ، وَاَللهِ إنّي لَأَعْلَمُ
أَنّهُمْ منه برآء، ولكنى أَخْشَى أَنْ تُسَبّوا بِهِ بَعْدَ الْيَوْمِ،
وَرِبَايَ فِي ثَقِيفٍ، فَلَا تَدَعُوهُ حَتّى تَأْخُذُوهُ، وَعُقْرِي
عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِرٍ، فَلَا يَفُوتَنّكُمْ بِهِ. وَكَانَ أَبُو
أُزَيْهِرٍ قَدْ زَوّجَهُ بِنْتًا، ثُمّ أَمْسَكَهَا عنه فلم يدخلها عليه
حتى مات.
فَلَمّا هَلَكَ الْوَلِيدُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، وَثَبَتْ بَنُو مَخْزُومٍ
عَلَى خُزَاعَةَ يَطْلُبُونَ مِنْهُمْ عَقْلَ الْوَلِيدِ، وَقَالُوا:
إنّمَا قَتَلَهُ سَهْمُ صَاحِبِكُمْ- وَكَانَ لِبَنِي كَعْبٍ حِلْفٌ مِنْ
بَنِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ بْنِ هَاشِمٍ- فَأَبَتْ عَلَيْهِمْ خُزَاعَةُ
ذَلِكَ، حَتّى تَقَاوَلُوا أَشْعَارًا، وَغَلُظَ بَيْنَهُمْ الْأَمْرُ-
وَكَانَ الّذِي أَصَابَ الْوَلِيدَ سَهْمُهُ رَجُلًا مِنْ بَنِي كَعْبِ
بْنِ عَمْرٍو مِنْ خُزَاعَةَ- فَقَالَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ
بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بن عمر ابن مَخْزُومٍ:
إنّي زَعِيمٌ أَنْ تَسِيرُوا، فَتَهْرُبُوا ... وَأَنْ تَتْرُكُوا
الظَّهران تَعْوِي ثَعَالِبُهُ
وَأَنْ تَتْرُكُوا مَاءً بِجِزْعَةِ أَطْرِقَا ... وَأَنْ تَسْأَلُوا: أَيّ
الْأَرَاكِ أَطَايِبُهُ؟
فَإِنّا أَنَاسٌ لَا تُطَلّ دِمَاؤُنَا ... وَلَا يَتَعَالَى صَاعِدًا مَنْ
نُحَارِبُهُ
وَكَانَتْ الظّهْرَانُ وَالْأَرَاكُ مَنَازِلَ بنى كعب، من خزاعة. فأجابه
الجون ابن أَبِي الْجَوْنِ، أَخُو بَنِي كَعْبِ بْنِ عَمْرِو الخزاعىّ،
فقال:
والله لا نؤتى الوليد ظلامة ... ولمّا قروا يَوْمًا تَزُولُ كَواكِبُهْ
وَيُصْرَعُ مِنْكُمْ مُسْمِنٌ بَعْدَ مُسْمِنٍ ... وَتُفْتَحُ بَعْدَ
الْمَوْتِ قَسْرًا مَشَارِبُهْ
إذَا مَا أَكَلْتُمْ خُبْزَكُمْ وَخَزِيرَكُمْ ... فَكُلّكُمْ بَاكِي
الْوَلِيدِ ونادبه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/9)
ثُمّ إنّ النّاسَ تَرَادّوا وَعَرَفُوا
أَنّمَا يَخْشَى الْقَوْمُ السّبّةَ، فَأَعْطَتْهُمْ خُزَاعَةُ بَعْضَ
الْعَقْلِ، وَانْصَرَفُوا عَنْ بَعْضٍ. فَلَمّا اصْطَلَحَ الْقَوْمُ قَالَ
الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ:
وَقَائِلَةٍ لَمّا اصْطَلَحْنَا تَعَجّبًا ... لِمَا قَدْ حَمَلْنَا
لِلْوَلِيدِ وَقَائِلِ
أَلَمْ تُقْسِمُوا تُؤْتُوا الْوَلِيدَ ظُلَامَةً ... وَلَمّا تَرَوْا
يَوْمًا كَثِيرَ الْبَلَابِلِ
فَنَحْنُ خَلَطْنَا الْحَرْبَ بِالسّلْمِ فَاسْتَوَتْ ... فَأَمّ هَوَاهُ
آمِنًا كُلّ رَاحِلِ
ثُمّ لَمْ يَنْتَهِ الْجَوْنُ بْنُ أَبِي الْجَوْنِ حَتّى افْتَخَرَ
بِقَتْلِ الْوَلِيدِ، وَذَكَرَ أَنّهُمْ أَصَابُوهُ، وَكَانَ ذَلِكَ
بَاطِلًا. فلحق بالوليد وبولده وَقَوْمِهِ مِنْ ذَلِكَ مَا حَذّرَهُ،
فَقَالَ الْجَوْنُ بن أبى الجون:
أَلَا زَعَمَ الْمُغِيرَةُ أَنّ كَعْبًا ... بِمَكّةَ مِنْهُمْ قَدْرٌ
كَثِيرُ
فَلَا تَفْخَرْ مُغِيرَةُ أَنْ تَرَاهَا ... بِهَا يَمْشِي الْمُعَلْهَجُ
وَالْمَهِيرُ
بِهَا آبَاؤُنَا، وَبِهَا وُلِدْنَا ... كَمَا أَرْسَى بِمَثْبَتِهِ
ثَبِيرُ
وَمَا قَالَ المغيرة ذلك إلّا ... لِيَعْلَمَ شَأْنَنَا أَوْ يَسْتَثِيرُ
فَإِنّ دَمَ الْوَلِيدِ يُطَلّ إنّا ... نَطُلّ دِمَاءً أَنْتَ بِهَا خبير
كساه الفاتك المميمون سمهما ... زعافا وهو ممتلىء بَهِيرُ
فَخَرّ بِبَطْنِ مَكّةَ مُسْلَحِبّا ... كَأَنّهُ عِنْدَ وَجْبَتِهِ
بَعِيرُ
سَيَكْفِينِي مِطَالَ أَبِي هِشَامٍ ... صِغَارٌ جَعْدَةُ الْأَوْبَارِ
خُورُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا منها بيتا واحدا أقذع فيه
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/10)
[ثورة لمقتل
أبى أزيهر]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ عَدَا هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ عَلَى أَبِي
أُزَيْهِرٍ، وَهُوَ بِسُوقِ ذِي الْمَجَازِ، وَكَانَتْ عِنْدَ أَبِي
سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ بنت أُزَيْهِرٍ، وَكَانَ أَبُو أُزَيْهِرٍ رَجُلًا
شَرِيفًا فِي قَوْمِهِ- فَقَتَلَهُ بِعُقْرِ الْوَلِيدِ الّذِي كَانَ
عِنْدَهُ، لِوَصِيّةِ أَبِيهِ إيّاهُ، وَذَلِكَ بَعْدَ أَنْ هَاجَرَ
رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- إلى الْمَدِينَةِ وَمَضَى
بَدْرٌ، وَأُصِيبَ بَهْ مَنْ أُصِيبَ مِنْ أَشْرَافِ قُرَيْشٍ مِنْ
الْمُشْرِكِينَ؛ فَخَرَجَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ، فَجَمَعَ بَنِي
عَبْدِ مَنَافٍ، وأبو سفيان بذى المجاز، فقال الناس:
أخفر أَبُو سُفْيَانَ فِي صِهْرِهِ، فَهُوَ ثَائِرٌ بِهِ، فَلَمّا سَمِعَ
أَبُو سُفْيَانَ بِاَلّذِي صَنَعَ ابْنُهُ يَزِيدُ- وَكَانَ أَبُو
سُفْيَانَ رَجُلًا حَلِيمًا مُنْكَرًا، يُحِبّ قَوْمَهُ حُبّا شَدِيدًا-
انْحَطّ سَرِيعًا إلَى مَكّةَ، وَخَشِيَ أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قُرَيْشٍ
حَدَثٌ فِي أَبِي أُزَيْهِرٍ، فَأَتَى ابْنَهُ وَهُوَ فِي الْحَدِيدِ، فِي
قَوْمِهِ مِنْ بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ وَالْمُطَيّبِينَ، فَأَخَذَ الرّمْحَ
مِنْ يَدِهِ، ثُمّ ضَرَبَ بِهِ عَلَى رَأْسِهِ ضَرْبَةً هَدّهُ مِنْهَا،
ثُمّ قَالَ لَهُ؛ قَبّحَك اللهُ! أَتُرِيدُ أَنْ تَضْرِبَ قُرَيْشًا
بَعْضَهُمْ بِبَعْضِ فِي رَجُلٍ مِنْ دَوْسٍ. سَنُؤْتِيهِمْ الْعَقْلَ إنْ
قَبِلُوهُ، وَأَطْفَأَ ذَلِك الْأَمْرَ.
فَانْبَعَثَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يُحَرّضُ فِي دَمِ أَبِي أُزَيْهِرٍ،
وَيُعَيّرُ أَبَا سُفْيَانَ خُفْرَتَهُ وَيُجْبِنُهُ، فقال:
غَدَا أَهْلُ ضَوْجَيْ ذِي الْمَجَازِ كِلَيْهِمَا ... وَجَارَ ابن حرب
بالغمّس مَا يَغْدُو
وَلَمْ يَمْنَعْ الْعَيْرُ الضّرُوطُ ذِمَارَهُ ... وَمَا مَنَعَتْ
مَخْزَاةَ وَالِدِهَا هِنْدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/11)
كَسَاكَ هِشَامُ بْنُ الْوَلِيدِ ثِيَابَهُ
... فَأَبْلِ وَأَخْلِفْ مِثْلَهَا جُدُدًا بَعْدُ
قَضَى وَطَرًا مِنْهُ فَأَصْبَحَ مَاجِدًا ... وَأَصْبَحْتَ رَخْوًا مَا
تُخِبّ وَمَا تَعْدُو
فَلَوْ أَنّ أَشْيَاخًا بِبَدْرٍ تَشَاهَدُوا ... لَبَلّ نِعَالَ الْقَوْمِ
مُعْتَبِطٌ وَرْدُ
فَلَمّا بَلَغَ أَبَا سُفْيَانَ قَوْلُ حَسّانَ قَالَ: يُرِيدُ حَسّانُ
أَنْ يَضْرِبَ بَعْضَنَا بِبَعْضِ فِي رَجُلٍ مِنْ دَوْسٍ! بِئْسَ والله ما
ظنّ!
[آية الربا من البقرة]
وَلَمّا أَسْلَمَ أَهْلُ الطّائِفِ كَلّمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَالِدَ بن الوليد فِي رِبَا الْوَلِيدِ، الّذِي كَانَ
فِي ثَقِيفٍ، لِمَا كَانَ أَبُوهُ أَوْصَاهُ بِهِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَذَكَرَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ أَنّ
هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا بَقِيَ مِنْ الرّبَا بِأَيْدِي
النّاسِ نَزَلْنَ فِي ذَلِكَ مِنْ طلب خالد الرّبا: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ، وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ
مُؤْمِنِينَ) البقرة: 278 إلى آخر القصة فيها.
[الهمّ بأخذ ثأر أبى أزيهر]
وَلَمْ يَكُنْ فِي أَبِي أُزَيْهِرٍ ثَأْرٌ نَعْلَمُهُ، حَتّى حَجَزَ
الْإِسْلَامُ بَيْنَ النّاسِ، إلّا أَنّ ضِرَارَ بْنَ الْخَطّابِ بْنِ
مِرْدَاسٍ الْفِهْرِيّ خَرَجَ فِي نَفَرٍ مِنْ قُرَيْشٍ إلَى أَرْضِ
دَوْسٍ، فَنَزَلُوا عَلَى امْرَأَةٍ يُقَالُ لَهَا أُمّ غَيْلَانَ،
مَوْلَاةٌ لِدَوْسٍ، وَكَانَتْ تَمْشُطُ النّسَاءَ، وَتُجَهّزُ
الْعَرَائِسَ، فَأَرَادَتْ دَوْسٌ قَتْلَهُمْ بِأَبِي أُزَيْهِرٍ،
فَقَامَتْ دُونَهُمْ أُمّ غَيْلَانَ وَنِسْوَةٌ مَعَهَا، حَتّى
مَنَعَتْهُمْ، فَقَالَ ضرار بن الخطاب فى ذلك:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/12)
جَزَى اللهُ عَنّا أُمّ غَيْلَانَ صَالِحًا
... وَنِسْوَتَهَا إذْ هُنّ شُعْثٌ عَوَاطِلُ
فَهُنّ دَفَعْنَ الْمَوْتَ بَعْدَ اقْتِرَابِهِ ... وَقَدْ بَرَزَتْ
لِلثّائِرِينَ الْمَقَاتِلُ
دَعَتْ دَعْوَةً دَوْسًا فَسَالَتْ شِعَابُهَا ... بعزّ وأدّتها الشّرَاج
الْقَوَابِل
وَعَمْرًا جًزًاهُ اللهُ خَيْرًا فَمَا وَنَى ... وَمَا بَردَتْ مِنْهُ
لَدَيّ الْمَفَاصِل
فَجَرّدْتُ سَيْفِي ثُمّ قُمْتُ بِنَصْلِهِ ... وَعَنْ أَيّ نَفْس بَعْدَ
نفسى أقاتل
[عمل أم غيلان]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنّ الّتِي قَامَتْ
دُونَ ضِرَارٍ أُمّ جَمِيلٍ، وَيُقَال: أُمّ غَيْلَانَ، قَالَ: وَيَجُوزُ
أَنْ تَكُونَ أُمّ غيلان قامت مع أمّ حميل فيمن قام دونه.
فَلَمّا قَامَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ أَتَتْهُ أُمّ جَمِيلٍ، وَهِيَ تُرَى
أَنّهُ أَخُوهُ: فَلَمّا انْتَسَبَتْ لَهُ عَرَفَ الْقِصّةَ، فَقَالَ: إنّي
لَسْتُ بِأَخِيهِ إلّا فِي الْإِسْلَامِ، وَهُوَ غَازٍ، وَقَدْ عَرَفْتُ
مِنّتَك عَلَيْه، فَأَعْطَاهَا عَلَى أَنّهَا ابْنَةُ سَبِيلٍ.
قَالَ الرّاوِي: قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ ضِرَارٌ لَحِقَ عُمَرَ بْنَ
الْخَطّابِ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ يضر به بعرض الرمح، ويقول: انج يابن
الْخَطّابِ لَا أَقْتُلُك، فَكَانَ عُمَرُ يَعْرِفُهَا لَهُ بعد إسلامه.
[من المؤذين لرسول الله]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ النّفَرُ الّذِينَ يُؤْذُونَ رسول الله صلى
الله عليه وسلم في بيته أَبَا لَهَبٍ، وَالْحَكَمَ بْنَ الْعَاصِ بْنِ
أُمَيّةَ، وعقبة بن أبى معيط، وعدىّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/13)
ابن حَمْرَاءَ الثّقَفِيّ، وَابْنَ
الْأَصْدَاءِ الْهُذَلِيّ، وَكَانُوا جِيرَانَهُ لَمْ يُسْلِمْ مِنْهُمْ
أَحَدٌ إلّا الْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ، فَكَانَ أَحَدُهُمْ- فِيمَا
ذُكِرَ لِي- يَطْرَحُ عَلَيْهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ رَحِمَ
الشّاةِ وَهُوَ يُصَلّي، وَكَانَ أَحَدُهُمْ يَطْرَحُهَا فِي بُرْمَتِهِ
إذَا نُصِبَتْ لَهُ. حَتّى اتّخَذَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- حِجْرًا يَسْتَتِرُ بِهِ مِنْهُمْ إذَا صَلّى، فَكَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا طَرَحُوا عَلَيْهِ ذَلِكَ
الْأَذَى، كَمَا حَدّثَنِي عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الله بن عروة ابن
الزّبَيْرِ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، يَخْرُجُ بِهِ رسول الله صلى
الله عليه وسلم على الْعُودِ، فَيَقِفُ بِهِ عَلَى بَابِهِ، ثُمّ يَقُولُ:
يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَيّ جِوَارٍ هَذَا! ثم يلقيه فى الطريق.
[ما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم بَعْدَ وَفَاةِ أَبِي طَالِبٍ
وَخَدِيجَةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ خَدِيجَةَ بِنْتَ خُوَيْلِدٍ وَأَبَا
طَالِبٍ هَلَكَا فِي عَامٍ وَاحِدٍ، فَتَتَابَعَتْ عَلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَصَائِبُ بِهُلْكِ خَدِيجَةَ،
وَكَانَتْ لَهُ وَزِيرَ صِدْقٍ عَلَى الْإِسْلَامِ، يَشْكُو إلَيْهَا،
وَبِهُلْكِ عَمّهِ أَبِي طَالِبٍ، وَكَانَ لَهُ عَضُدًا وَحِرْزًا فِي
أَمْرِهِ، وَمَنَعَةً وَنَاصِرًا عَلَى قَوْمِهِ، وَذَلِكَ قَبْلَ
مُهَاجَرِهِ إلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ. فَلَمّا هَلَكَ أَبُو
طَالِبٍ، نَالَتْ قُرَيْشٌ مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ مِنْ الْأَذَى مَا لَمْ تَكُنْ تَطْمَعُ بِهِ فِي حَيَاةِ أَبِي
طَالِبٍ، حَتّى اعْتَرَضَهُ سَفِيهٌ مِنْ سُفَهَاءِ قُرَيْشٍ، فَنَثَرَ
عَلَى رَأْسِهِ تُرَابًا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي هِشَامُ بْنُ عُرْوَةَ، عَنْ أَبِيهِ
عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، قَالَ:
لَمّا نَثَرَ ذَلِك السّفِيهُ عَلَى رَأْسَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ذلك التراب
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/14)
دَخَلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْتَهُ وَالتّرَابُ عَلَى رَأْسِهِ، فَقَامَتْ
إلَيْهِ إحْدَى بَنَاتِهِ، فَجَعَلَتْ تَغْسِلُ عَنْهُ التّرَابَ وَهِيَ
تَبْكِي، ورسول الله صلى عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَقُولُ لَهَا: لَا تَبْكِي يَا
بُنَيّةِ، فَإِنّ اللهَ مَانِعٌ أَبَاك. قَالَ: وَيَقُولُ بَيْنَ ذَلِكَ:
مَا نَالَتْ مِنّي قُرَيْشٌ شَيْئًا أكرهه، حتى مات أبو طالب.
[ما حدث بين النبى صلى الله عليه وسلم وبين أبى
طالب والمشركين]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَمّا اشْتَكَى أَبُو طَالِبٍ، وَبَلَغَ قُرَيْشًا
ثِقَلُهُ، قَالَتْ قُرَيْشٌ بَعْضُهَا لِبَعْضِ: إنّ حَمْزَةَ وَعُمَرَ،
قَدْ أَسْلَمَا وَقَدْ فَشَا أَمْرُ مُحَمّدٍ فِي قَبَائِلِ قُرَيْشٍ
كُلّهَا، فَانْطَلِقُوا بِنَا إلَى أَبِي طَالِبٍ، فَلْيَأْخُذْ لَنَا
عَلَى ابْنِ أَخِيهِ، وَلْيُعْطِهِ مِنّا، وَاَللهِ مَا نَأْمَنُ أَنْ
يَبْتَزّونَا أَمْرَنَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي الْعَبّاسُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ
مَعْبَدٍ عَنْ بَعْضِ أَهْلِهِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: مَشَوْا إلَى
أَبِي طَالِبٍ فَكَلّمُوهُ، وَهُمْ أَشْرَافُ قَوْمِهِ: عتبة ابن
رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَأَبُو جَهْلِ بْنُ هِشَامٍ،
وَأُمَيّةُ بْنُ خَلَفٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، فِي رِجَالٍ مِنْ
أَشْرَافِهِمْ، فَقَالُوا: يَا أَبَا طَالِبٍ، إنّك مِنّا حَيْثُ قَدْ
عَلِمْتَ، وَقَدْ حَضَرَك مَا تَرَى، وَتَخَوّفْنَا عَلَيْك، وَقَدْ
عَلِمْتَ الّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَ ابْنِ أَخِيك، فادعُه، فَخُذْ لَهُ
مِنّا، وَخُذْ لَنَا مِنْهُ، لِيَكُفّ عَنّا، وَنَكُفّ عَنْهُ،
وَلِيَدَعَنَا وَدِينَنَا، وَنَدَعَهُ وَدِينَهُ، فبعث إليه أبو طالب،
فجاءه فقال: يابن أَخِي: هَؤُلَاءِ أَشْرَافُ قَوْمِك، قَدْ اجْتَمَعُوا
لَك، ليعطوك،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/15)
وَلِيَأْخُذُوا مِنْك. قَالَ: فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَعَمْ، كَلِمَةٌ
وَاحِدَةٌ تُعْطُونِيهَا تَمْلِكُونَ بِهَا الْعَرَبَ، وَتَدِينُ لَكُمْ
بِهَا الْعَجَمُ. قَالَ: فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: نَعَمْ وَأَبِيك، وَعَشْرَ
كَلِمَاتٍ، قَالَ: تَقُولُونَ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ، وَتَخْلَعُونَ مَا
تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ. قَالَ: فَصَفّقُوا بِأَيْدِيهِمْ، ثُمّ قَالُوا:
أَتُرِيدُ يَا مُحَمّدُ أَنْ تَجْعَلَ الْآلِهَةَ إلَهًا وَاحِدًا، إنّ
أَمْرَك لَعَجَبٌ: ثُمّ قَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ:
إنّهُ وَاَللهِ مَا هَذَا الرّجُلُ بِمُعْطِيكُمْ شَيْئًا مِمّا تُرِيدُونَ
فَانْطَلِقُوا، وَامْضُوا عَلَى دِينِ آبَائِكُمْ، حَتّى يَحْكُمَ اللهُ
بينكم وبينه. قال: ثم تفرّقوا.
[الرسول يرجو أن يسلم أبو طالب]
فَقَالَ أَبُو طَالِبٍ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:
وَاَللهِ يَا ابْنَ أَخِي، مَا رأيتك سألتهم شططا؛ فَلَمّا قَالَهَا أَبُو
طَالِبٍ طَمِعَ رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- فِي
إسْلَامِهِ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَيْ عَمّ، فَأَنْتَ فَقُلْهَا،
أَسْتَحِلّ لَك بِهَا الشّفَاعَةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. قَالَ: فَلَمّا
رَأَى حِرْصَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم، قال:
يابن أَخِي، وَاَللهِ لَوْلَا مَخَافَةُ السّبّةِ عَلَيْك، وَعَلَى بَنِي
أَبِيك مِنْ بَعْدِي، وَأَنْ تَظُنّ قُرَيْشٌ إنى قلتها جزعا من الموت
لقتلها، لَا أَقُولُهَا إلّا لِأَسُرّك بِهَا. قَالَ:
فَلَمّا تَقَارَبَ مِنْ أَبِي طَالِبٍ الْمَوْتُ، قَالَ: نَظَرَ الْعَبّاسُ
إلَيْهِ يُحَرّكُ شَفَتَيْهِ، قَالَ:
فَأَصْغَى إلَيْهِ بأذنه، قال: فقال يابن أَخِي، وَاَللهِ لَقَدْ قَالَ
أَخِي الْكَلِمَةَ الّتِي أَمَرْته أَنْ يَقُولَهَا، قَالَ: فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَمْ أَسْمَع.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(4/16)
[مَا نَزَلَ فِيمَنْ طَلَبُوا الْعَهْدَ
عَلَى الرّسُولِ عند أبى طالب]
قَالَ: وَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي الرّهْطِ الّذِينَ كَانُوا
اجْتَمَعُوا إلَيْهِ، وَقَالَ لهم ما قال، وردّوا عليه ما وردّوا: «ص.
وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ، بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ
وَشِقاقٍ) ... إلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً
واحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجابٌ. وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ
امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ. إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرادُ. مَا
سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ) يَعْنُونَ النّصَارَى،
لِقَوْلِهِمْ: (إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ) - (إِنْ هَذَا إِلَّا
اخْتِلاقٌ) ثُمّ هَلَكَ أَبُو طالب.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَنْ الْمُسْتَهْزِئِينَ وَمِلْكَانَ فَصْلٌ: وَذَكَرَ حَدِيثَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ الّذِينَ أَنْزَلَ اللهُ فِيهِمْ: إِنَّا كَفَيْناكَ
الْمُسْتَهْزِئِينَ الحجر: 95 وذكر فيهم الحارث بن الطّلاطلة «1» ،
والطّلاطلة: أمّه، قاله أَبُو الْوَلِيدِ الْوَقَشِيّ، وَالطّلَاطِلَةُ فِي
اللّغَةِ: الدّاهِيَةُ، قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: كُلّ دَاءٍ عُضَالٍ فَهُوَ:
طُلَاطِلَةٌ، وَذُكِرَ فِي نَسَبِهِ عَبْدُ عَمْرٍو بْنُ مِلْكَانَ
بِالضّبْطَيْنِ جَمِيعًا، وَفِي حَاشِيَةِ كِتَابِ الشّيْخِ الْحَافِظِ
أَبِي بَحْرٍ، قَالَ: قَدْ تَقَدّمَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ حَبِيبٍ النّحْوِيّ
أَنّ النّاسَ لَيْسَ فيهم ملكان بفتح الميم واللام إلّا مَلَكَانُ بْنُ
جَرْمِ بْنِ زَبّانَ بْنِ حُلْوَانِ عِمْرَانَ بْنِ الْحَافّ بْنِ
قُضَاعَةَ، وَمَلَكَانُ بن عباد بن عياض ابن عُقْبَةَ بْنِ السّكُونِ بْنِ
أَشْرَسَ، وَإِخْوَةُ عَدِيّ هم: تجيب عرفوا بأمهم
__________
(1) هو فى تفسير ابن كثير: ابن غيطلة، وغيطلة أمه
(4/17)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تُجِيبَ بِنْتِ دُهْمِ بْنِ ثَوْبَانَ، وَهُمْ مِنْ كِنْدَةَ، وَكُلّ مَنْ
فِي النّاسِ وَغَيْرِهِمَا مِلْكَانُ مَكْسُورُ الْمِيمِ سَاكِنُ اللّامِ،
وَقَالَ مَشَايِخُ خُزَاعَةَ: فِي خُزَاعَةَ مَلَكَانُ «1» بِفَتْحِ
الْمِيمِ، قَالَ الْقَاضِي: يَعْنِي ابْنَ حَبِيبٍ: مَلَكَانُ بْنُ أَفْصَى
بْنِ حارثة بن ثعلبة ابن عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَقَالَ غَيْرُ ابْنِ
حَبِيبٍ كَاَلّذِي يَخْرُجُ مِنْ عِبَارَتِهِ: أَنّ الّذِي فِي خُزَاعَةَ
إنّمَا هُوَ مِلْكَانُ بْنُ أَفْصَى مِثْلُ مِلْكَانَ بْنِ عَدِيّ بْنِ
عَبْدِ مَنَاةَ مِنْ الرّبَابِ الّذِينَ مِنْهُمْ ذُو الرّمّةِ الشّاعِرُ،
وَمِثْلُ مِلْكَانَ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ مِنْ الرّبَابِ أَيْضًا رَهْطُ
سُفْيَانَ بْنِ سَعِيدٍ الثَّورى. وَذَكَرَ فِي الْمُسْتَهْزِئِينَ
الْأَسْوَدَ بْنَ عَبْدِ يَغُوثَ الزّهْرِيّ رَوَى أَنّهُ لَمّا أَنْزَلَ
اللهُ تَعَالَى: إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ نَزَلَ جِبْرِيلُ
عَلَيْهِ السّلَامُ فَحَنَا ظَهْرَ الْأَسْوَدِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: خَالِي خَالِي «2» ، فَقَالَ لَهُ
جِبْرِيلُ: خَلّ عَنْك، ثم حناه حتى قتله، ذكره الدّارقطنى:
__________
(1) ضبط أبو على القالى نقلا عن ابن الأنبارى ملكان بن حزم بن زبان بفتح
الميم وسكون اللام فى ص 190 ح 2 وفى ص 209 ح 3 قال: كل ما فى العرب: ملكان
«بكسر الميم مع سكون اللام، إلا ملكان «بفتح الميم وسكون اللام» بن جرم بن
ربان بالجيم والراء فى جرم وبالراء فى ربان. وقال البكرى فى التنبيه على
أوهام القالى فى أماليه: «الذى فى جرم بن ربان هو: ملكان بفتح اللام
والميم، وليس هو بإسكان اللام كما أورده، وكذلك ملكان بن عباد ابن عياض بن
عقبة بن السكون، وهذا باب واسع، والذى ذكر منه أبو على برض «قليل» من عد،
وغيض من فيض» ص 116 التنبيه ط 2
(2) هو ابن خال النبى صلى الله عليه وسلم لا خاله، وقد اضطربت الروايات فى
مصيره، وحداهن ما ذكر ابن إسحاق فى السيرة، والثانية هذه التى نقلها
السهيلى عن الدارقطنى، وهى عند ابن أبى حاتم والبلاذرى عن عكرمة، وأنه حنا
ظهره حتى احقوقف صدره، أى انحنى، وأخرى أنه خرج من عند أهله حتى فأصابته-
(4/18)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَدِيثُ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ وَفَاةَ الْوَلِيدِ بْنِ الْمُغِيرَةِ، وَقَوْلَهُ
لِبَنِيهِ: وَعُقْرِى عِنْدَ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدّوْسِيّ لَا تَدَعُوهُ
«1» الْعُقْرُ: دِيَةُ الْفَرْجِ الْمَغْصُوبِ، وَأَصْلُهُ فِي الْبِكْرِ
مِنْ أَجْلِ التّدْمِيَةِ، وَمِنْهُ عَقَرَ السّرْجُ الْفَرَسَ: إذَا
أَدْمَاهُ، وَبَيْضَةُ الْعُقْرِ مِنْهُ؛ لِأَنّهُمْ كَانُوا يَقِيسُونَ
الْبِكْرَ بِالْبَيْضَةِ «2» ، لِيَعْرِفُوا بُكُورَتَهَا، وَقِيلَ:
عُقْرٌ بِضَمّ الْعَيْنِ، لِأَنّهُ بِمَعْنَى بُضْعٍ.
عَنْ مَقْتَلِ أَبِي أُزَيْهِرٍ وَمَوْقِفِ دَوْسٍ:
وَذَكَرَ قَتْلَ هِشَامِ بْنِ الْوَلِيدِ لِأَبِي أُزَيْهِرٍ وَخَبَرَ أُمّ
غَيْلَانَ مَعَ ضِرَارٍ حِينَ أَجَارَتْهُ، وَمِنْ تَمَامِ الْخَبَرِ: أَنّ
دَوْسًا لَمّا بَلَغَهَا مَقْتَلُ أَبِي أُزَيْهِرٍ الدّوْسِيّ، وَثَبَتْ
عَلَى رِجَالٍ مِنْ قُرَيْشٍ كَانُوا عِنْدَهُمْ، فَقَتَلُوا مِنْهُمْ
بُجَيْرَ بْنَ الْعَوّامِ أَخَا الزّبَيْرِ، وَأَرَادُوا قَتْلَ ضِرَارِ
بْنِ الْخَطّابِ، فَأَجَارَتْهُ أُمّ غَيْلَانَ وَابْنُهَا عَوْفٌ، قَالَ
ضِرَارٌ:
لَقَدْ أَدْخَلَتْنِي بَيْنَ دِرْعِهَا وَبَدَنِهَا، حَتّى إنّي لَأَجِدُ
تَسْبِيدَ رُكَبِهَا، وَالتّسْبِيدُ:
مَوْضِعُ الحلْق مِنْ الشّعْرِ، وَكَانَ الّذِي قَتَلَ بُجَيْرًا صَبِيحُ
بْنُ سَعْدٍ أَوْ مَلِيحُ ابن سَعْدٍ جَدّ أَبِي هُرَيْرَةَ لِأُمّهِ؛
لِأَنّ أُمّهُ أميمة بنت مليح أو صبيح.
__________
- السموم، حتى صار حبشيا، فلم يعرفه أهله، فصار يطوف بشعاب مكة، حتى مات
عطشا، وأخرى أنه عطش، فشرب حتى انشق بطنه، وأخرى. وأخرى. فهل يسكن قلب إلى
مثل هذه المضطربات؟
(1) الذى فى السيرة: فلا يفوتنكم.
(2) فى القاموس عن العقر أنه استبراء المرأة، لينظر أبكر هى أم غير بكر.
(4/19)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عن أطرقا ومن أحكامه أن:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ شِعْرَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ
الْمُغِيرَةِ وَفِيهِ:
وَأَنْ تَتْرُكُوا مَاءً بِجِزْعَةِ أَطْرِقَا
وَالْجِزْعَةُ وَالْجَزْعُ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَهُوَ مُعْظَمُ الْوَادِي،
وَقَالَ ابْنُ الْأَعْرَابِيّ:
هُوَ مَا انْثَنَى؟؟؟ مِنْهُ، وَأَطْرِقَا اسْمُ عَلَمٍ لِمَوْضِعِ سُمّيَ
بِفِعْلِ الْأَمْرِ لِلِاثْنَيْنِ، فَهُوَ مَحْكِيّ لَا يُعْرَبُ، وَقِيلَ:
إنّ أَصْلَ تَسْمِيَتِهِ بِذَلِكَ أَنّ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ مَرّوا بِهَا
خَائِفِينَ، فَسَمِعَ أَحَدُهُمْ صَوْتًا، فَقَالَ لِصَاحِبَيْهِ:
أَطْرِقَا، أَيْ: أَنْصِتَا، حَتّى نَرَى مَا هَذَا الصّوْتُ، فَسُمّيَ
الْمَكَانُ بِأَطْرِقَا «1» ، وَاَللهُ أَعْلَمُ. وَذَكَرَ شِعْرَ
الْجَوْنِ بْنِ أَبِي الْجَوْنِ، وَفِيهِ:
أَلَمْ تُقْسِمُوا تُؤْتُوا الْوَلِيدَ ظُلَامَةً
أَرَادَ: أن تؤتوا، ومعناه: أن لا توتوا كَمَا جَاءَ فِي التّنْزِيلِ:
يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا) النّسَاءَ: 176 فِي قَوْلِ
طَائِفَةٍ، وَمَعْنَاهُ عِنْدِي: كَرِهَ لَكُمْ أَنْ تَضِلّوا «2» ، وَقَدْ
قَدّمْنَا فى الجزء قبل هذا كلام على أن، ومقتضاها وشيئا من
__________
(1) هو كما ذكر فى مراصد الاطلاع، وفيه أن أطرقا موضع بنواحى مكة من منازل
خزاعة وهذيل.
(2) يقول البيضاوى فى تفسير الآية: «أى يبين الله لكم ضلالكم الذى من شأنكم
إذا خليتم وطباعكم لتحترزوا عنه، وتتحروا خلافه، أو يبين لكم الحق والصواب
كراهة أن تضلوا، وقيل: لئلا تضلوا، فحذف لا، وهو قول الكوفيين»
(4/20)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَسْرَارِهَا فِيهِ غُنْيَةٌ، وَإِذَا كَانَ الْكَلَامُ مَحْمُولًا على
معناها فَالنّصْبُ جَائِزٌ، وَالرّفْعُ جَائِزٌ أَيْضًا، كَمَا أَنْشَدُوا:
أَلَا أَيّهَذَا الزّاجِرِي أَحْضُرَ الْوَغَى «1»
بِنَصْبِ: أحضُرَ وَرَفْعِهِ، وَأَنْشَدَ سِيبَوْيه:
وَنَهْنَهَتْ نَفْسِي بَعْدَمَا كِدْت أَفْعَلَهُ «2»
يُرِيدُ: أَنْ أفعلَه، وَإِذَا رَفَعْت فِي هَذَا الْمَوْضِعِ لَمْ
يُذْهِبْ الرّفْعُ مَعْنَى أَنْ فقد
__________
(1) البيت من معلقة طرفة بن العبد البكرى، وبقيته:
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدى
وبعده:
فإن كنت لا تسطيع دفع منيتى ... فذرنى أبادرها بما ملكت يدى
والبيت من شواهد سيبويه فى الكتاب ص 452 ج 1، ويستدل به الكوفيون على أن أن
الناصبة تعمل فى غير المواضع المعدودة، ودليلهم: أن الشاعر عطف عليه قوله:
وأن أشهد. ومنع البصريون ذلك بأن عوامل الأفعال ضعيفة لا تعمل مع الحذف،
وإذا حذفت ارتفع الفعل. وقالوا: إن رواية البيت عندهم إنما هى بالرفع. انظر
ص 83 ج 1 خزانة الأدب ص 338 شرح شواهد ابن عقيل للشيخ عبد المنعم الجرجاوى
ط 1914، ص 452 ج 1 الكتاب لسيبويه
(2) هو من شواهد سيبويه. وقد نسبه إلى عامر بن جوين الطائى، وأوله: فلم ار
مثلها خباسة واحد وقد عقب عليه سيبويه بقوله: «حمله على أن؛ لأن الشعر قد
يستعملون أن ههنا مضطرين كثيرا» ص 155 ج 1 الكتاب لسيبويه، وقال عنه
اللسان: هو لعمرو بن جوين، أو امرىء القيس، وفيه: واجد بدلا من: واحد ونقل
عن سيبويه ما قاله. والخباسة: المغنم.
(4/21)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَكَى سِيبَوَيْهِ: مُرْهُ يَحْفِرُهَا «1» ، وَقَدّرَهُ تَقْدِيرَيْنِ،
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُرِيدَ الْحَالَ أَيْ:
مُرْهُ حَافِرًا لَهَا، وَالثّانِي: أَنْ يُرِيدَ: مُرْهُ أَنْ
يَحْفِرَهَا، وَارْتَفَعَ الْفِعْلُ لَمّا ذَهَبَتْ أَنْ مِنْ اللّفْظِ،
وَبَيّنَ اين جِنّيّ الْفَرْقَ بَيْنَ التّقْدِيرَيْنِ، وَقَالَ: إذَا
نَوَيْت أَنْ فَالْفِعْلُ مُسْتَقْبَلٌ، وَإِذَا لَمْ تَنْوِهَا
فَالْفِعْلُ حاضر، وههنا مَسْأَلَةٌ مِنْ الْعَرَبِ ذَكَرَهَا الطّبَرِيّ،
قَالَ: الْعَرَبُ تَقُولُ لِمَنْ تَوَجّهَ فِي أَمْرٍ: تَصْنَعُ مَاذَا
وَتَفْعَلُ؟ مَاذَا عَلَى تَقْدِيرِ: تُرِيدُ أَنْ تَصْنَعَ مَاذَا،
فَإِذَا قَالُوا: تُرِيدُ مَاذَا لَمْ يَكُنْ إلّا رَفْعًا، لِأَنّ
الْمَعْنَى الّذِي يَجْلِبُ مَعْنَى أَنْ النّاصِبَةِ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ:
تُرِيدُ؛ إذْ لَا يَسْتَقِيمُ أَنْ تَقُولَ: تُرِيدُ أَنْ تُرِيدَ مَاذَا،
يَعْنِي: أَنّ الْإِرَادَةَ لَا تُرَادُ.
شِعْرُ الْجَوْنِ:
وَذَكَرَ شِعْرَ الْجَوْنِ أَيْضًا، وَفِيهِ:
بِهَا يمشى المعلهج والمهير
المهير: ابن للهورة الْحُرّةِ وَالْمُعَلْهَجُ: الْمُتَرَدّدُ فِي
الْإِمَاءِ «2» كَأَنّهُ مَنْحُوتٌ من
__________
(1) ورد قوله هذا فى ص 451 وما بعدها ج 1 الكتاب لسيبويه، وهو من شواهده
المذكورة تحت باب: «هذا باب من الجزاء ينجزم فيه الفعل إذا كان جوابا لأمر
أو نهى أو استفهام أو تمن أو عرض»
(2) فى شرح السيرة لأبى ذر الخشنى: «المهير: الصحيح النسب، يريد أن أمه حرة
بمهر، والمعلهج: المطعون عليه فى فيه، وهو الأحمق أيضا، وفى اللسان:
المعلهج أن يؤخذ الجلد فيقدم إلى النار حتى يلين، فيمضغ، ويبلع، وكان ذلك
من مأكل القوم فى المجاعات.. والمعلهج: الذى ولدهن جنسين مختلفين، والذى
ليس بخالص النسب.
(4/22)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَصْلَيْنِ: مِنْ الْعِلْجِ لِأَنّ الْأَمَةَ: عِلْجَةٌ، وَمِنْ اللهج «1»
، كأن واطىء الْأَمَةِ قَدْ لَهِجَ بِهَا، فَنَحَتَ لَفْظَ الْمُعَلْهَجِ
مِنْ هَذَيْنِ اللّفْظَيْنِ.
وَفِيهِ:
كَمَا أَرْسَى بِمَثْبَتِهِ ثَبِيرُ
كَذَا صَحّتْ الرّوَايَةُ فِي أَرْسَى بِالتّخْفِيفِ وَهُوَ زِحَافٌ
دَاخِلٌ عَلَى زِحَافٍ؛ لِأَنّ تَسْكِينَ اللّامِ مِنْ مُفَاعَلَتَنْ فِي
الْوَافِرِ زِحَافٌ، وَلَكِنّهُ حَسَنٌ كَثِيرٌ، فَلَمّا كَثُرَ شَبّهَهُ
هَذَا الشّاعِرُ بِمَفَاعِيلَ؛ لِأَنّهُ عَلَى وَزْنِهِ، وَمَفَاعِيلُنْ
يَحْسُنُ حَذْفُ الْيَاءِ مِنْهَا فِي الطّوِيلِ، فَيَصِيرُ فَعُولُنْ
مَفَاعِلُنْ فَلِذَلِكَ أَدْخَلَ هَذَا الشّاعِرُ الزّحَافَ عَلَى
مُفَاعَلْتُنْ لأنه بعد السكون فى وزن مفاعلين الّتِي تُحْذَفُ يَاؤُهَا
حَذْفًا مُسْتَحْسَنًا، فَتَدَبّرْهُ، فَإِنّهُ مَلِيحٌ فِي عِلْمِ
الْعَرُوضِ «2» .
مِنْ أَسْوَاقِ الْعَرَبِ:
فصل: وأنشد لحسّان بن ثابت:
__________
(1) من معانى العلج: الرجل من كفار العجم. واللهج: الولوع بالشىء. ولهج به
إذا أغرى به، فثابر عليه، ومن معانى القصيدة كما ذكر الخشنى. أرسى: استقر
وثبت، والزعاف: الذى فيه السم، والبهير من البهر وهو انقطاع النفس،
والمسلحب: الممد؟؟؟ وبالهاء المهملة ذكره صاحب كتاب العين لا غير. وعند
وجبه: أى سقطته والخور: العزيزات اللبن
(2) سبق الكلام عن هذه المصطلحات.
(4/23)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَدَا أَهْلُ ضَوْجَيْ ذِي الْمَجَازِ بِسُحْرَةِ «1»
ضَوْجُ الْوَادِي: جَانِبُهُ، وَذُو الْمَجَازِ: سُوقٌ عِنْدَ عَرَفَةَ
كَانَتْ الْعَرَبُ إذَا حَجّتْ أَقَامَتْ بِسُوقِ عُكَاظٍ شَهْرَ شَوّالٍ،
ثُمّ تَنْتَقِلُ إلَى سُوقِ مِجَنّةَ «2» فَتُقِيمُ فِيهِ عِشْرِينَ
يَوْمًا مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمّ تَنْتَقِلُ إلَى سُوقِ ذِي الْمَجَازِ
«3» فَتُقِيمُ فِيهِ إلَى أَيّامِ الْحَجّ، وَكَانُوا يَتَفَاخَرُونَ فِي
سُوقِ عُكَاظٍ شَهْرَ شَوّالٍ إذَا اجْتَمَعُوا، وَيُقَالُ: عَكَظَ
الرّجُلُ صَاحِبَهُ إذَا فَاخَرَهُ وَغَلَبَهُ بِالْمُفَاخَرَةِ، فسميت
عكاظ لذلك «4» .
__________
(1) السحرة: السحر الأعلى. والبيت فى النسخ التى بين يدى، وفى شرح السيرة
للخشنى: غدا أهل ضوجى ذى المجاز كليهما.
(2) فى المراصد عن مجنة: اسم سوق للعرب كانت فى الجاهلية، قيل: بمر
الظهران. قرب جبل يقال له: الأصفر كانت به تقوم العشر الأواخر من ذى
القعدة، وقبلها من أوله عكاظ، وقيل مجنة: بلد على أميال من مكة، وقيل: جبيل
بجنب طفيل، وهو لبنى الديل. ويقول ياقوت فى معجمه: وإياه أراد بلال حين كان
يتمثل:
ألا ليت شعرى هل أبين ليلة ... بواد، وَحَوْلِي إذْخِرٌ وَجَلِيلُ
وَهَلْ أَرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مجنة ... وهل يبدون لى شامة وطفيل
(3) ذو المجاز: موضع سوق بعرفه على ناحية كبكب عن يمين الإمام على فرسخ.
كانت به تقوم فى الجاهلية ثمانية أيام، وقيل: هو ماء من أصل كبكب لهذيل خلف
عرفة. وكبكب جبل خلف عرفات مشرف عليه، قيل هو الجبل الأحمر الذى يجعله
الواقف بعرفة فى ظهره.
(4) فى القاموس. عكظه يعكظه: حبسه وعركه، وتهره ورد عليه فخره، وكغراب: سوق
بصحراء بين نخلة والطائف، كانت تقوم هلال ذى القعدة، وتستمر عشرين يوما.
وتجتمع قبائل العرب، فيتعاكظون، أى يتفاخرون ويتناشدون.
(4/24)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ:
لَبَلّ نِعَالَ الْقَوْمِ مُعْتَبِطٌ وَرْدُ
يَعْنِي: الدّمَ الْعَبِيطَ «1» .
مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي الرّبَا فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ فِي
الرّبَا الْآيَاتِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ، وَقَدْ قَدّمْنَا فِي حَدِيثِ
بُنْيَانِ الْكَعْبَةِ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَا تُنْفِقُوا فِيهَا رِبَا وَلَا
مَهْرَ بَغِيّ، وَأَنّ فِي ذَلِكَ دَلِيلًا عَلَى قِدَمِ تَحْرِيمِهِ
عَلَيْهِمْ فِي شرع إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السّلَامُ، أَوْ فِي غَيْرِهِ
مِنْ الْأَنْبِيَاءِ صَلَوَاتُ اللهِ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ «2» وَذَلِكَ
أَنّهُ مِنْ أَقْبَحِ الْأَعْمَالِ لِمَا فِيهِ مِنْ هَدْمِ جَانِبِ
الْمُرُوءَةِ، وَإِيثَارِ الْحِرْصِ مَعَ بُعْدِ الْأَمَلِ، وَنِسْيَانِ
بَغْتَةِ الْأَجَلِ، وَتَرْكِ التّوْسِعَةِ وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ،
وَمَنْ تَأَمّلَ أَبْوَابَ الرّبَا لَاحَ لَهُ شَرّ التّحْرِيمِ مِنْ
جِهَةِ الْجَشَعِ الْمَانِعِ مِنْ حُسْنِ الْمُعَاشَرَةِ وَالذّرِيعَةِ
إلَى تَرْكِ الْقَرْضِ، وَمَا فِيهِ، وَفِي التّوْسِعَةِ مِنْ مَكَارِمِ
الْأَخْلَاقِ، وَلِذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَهُ: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا
فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ «3» الْبَقَرَةَ: 279.
غَضَبًا مِنْهُ عَلَى أَهْلِهِ، ولهذه النّكتة
__________
(1) الخالص الطرى.
(2) ورد فى الإصحاح الثانى والعشرين من سفر الخروج أحد أسفار العهد القديم
الذى بيد اليهود والمسيحيين: «إن أقرضت فضة لشعبى الفقير الذى عندك فلا
تكون له كالمرابى لا تصنعوا عليه ربا» رقم 26.
(3) يقول الإمام ابن القيم حول هذه الآية: «لم يجىء هذا الوعيد فى كبيرة
سوى الربا، وقطع الطريق، والسعى فى الأرض بالفساد، لأن كل واحد منهما مفسد
فى الأرض، قاطع الطريق على الناس. هذا بقهره لهم؛ وتسلطه عليهم، -
(4/25)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَتْ عَائِشَةُ لِأَمّ مَحَبّةَ مَوْلَاةِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ:
أَبْلِغِي زَيْدًا تَعْنِي زَيْدَ بْنَ أَرْقَمَ أَنْ قَدْ أَبْطَلَ
جِهَادَهُ مَعَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ
ذَكَرَتْ لَهَا عَنْهُ مَسْأَلَةً مِنْ الْبُيُوعِ تُشْبِهُ الرّبَا،
فَقَالَتْ: أَبْطَلَ جِهَادَهُ، وَلَمْ تَقُلْ صَلَاتَهُ وَلَا صِيَامَهُ،
لِأَنّ السّيّئَاتِ لَا تُحْبِطُ الْحَسَنَاتِ، وَلَكِنْ خَصّتْ الْجِهَادَ
بِالْإِبْطَالِ، لِأَنّهُ حَرْبٌ لِأَعْدَاءِ اللهِ، وَآكِلُ الرّبَا قَدْ
أُذِنَ بِحَرْبِ مِنْ اللهِ، فَهُوَ ضِدّهُ، وَلَا يَجْتَمِعُ الضّدّانِ،
وَهَذَا مَعْنَى ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ فِي شَرْحِ
الْجَامِعِ، وَتِلْكَ الْمَسْأَلَةُ مَذْكُورَةٌ فِي الْمُدَوّنَةِ، لَكِنّ
إسْنَادَهَا إلَى عَائِشَةَ ضَعِيفٌ.
وَفَاةُ أَبِي طَالِبٍ وَوَصِيّتُهُ ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ وَفَاةَ أَبِي
طَالِبٍ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ، وَفِيهَا قَالَ الْعَبّاسُ:
وَاَللهِ لَقَدْ قَالَ أَخِي الْكَلِمَةَ الّتِي أَمَرْته بِهَا، فَقَالَ
رسول الله- صلى الله عليه وسلم: لم أسمع.
__________
- وهذا بامتناعه من تفريج كرباتهم إلا بتحميلهم كربات أشد منها، فأخبر عن
قطاع الطريق بأنهم يحاربون الله ورسوله، وآذن هؤلاء إن لم يتركوا الربا
بحربه وحرب رسوله» التفسير القيم لا بن القيم ص 172 ط السنة المحمدية 1368،
1949. وقد ورد حديث «لعن رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَكَلَ الربا، وموكله وشاهديه، وكاتبه الخ» وقد رواه أحمد وأبو
داود والترمذى وابن ماجة. جنبنا الله لعنته. من معانى قصيدة ضرار بن
الخطاب: الشعث: المتغيرات الشعور، العواطل: اللائى لا حلى لهن. الشعاب: جمع
شعبة، وهو مسيل الماء فى الحرة، والقوابل: التى تقابل بعضها بعضا، الشراج:
جمع شرج وهو مسيل الماء من الحرة إلى السهل. الونى: الضعف والفتور، ونصل
السيف: حده. «عن شرح السيرة لأبى ذر والقاموس» .
(4/26)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَ الْمُؤَلّفُ: شَهَادَةُ الْعَبّاسِ لِأَبِي طَالِبٍ لَوْ أداها بعد
ما أَسْلَمَ، لَكَانَتْ مَقْبُولَةً، وَلَمْ يُرَدّ بِقَوْلِهِ لَمْ
أَسْمَعْ، لِأَنّ الشّاهِدَ الْعَدْلَ إذَا قَالَ: سَمِعْت، وَقَالَ مَنْ
هُوَ أَعْدَلُ مِنْهُ: لَمْ أَسْمَعْ أُخِذَ بِقَوْلِ مَنْ أَثْبَتَ
السّمَاعَ، لِأَنّ عَدَمَ السّمَاعِ يَحْتَمِلُ أَسْبَابًا مَنَعَتْ
الشّاهِدَ مِنْ السّمْعِ، وَلَكِنّ الْعَبّاسَ شَهِدَ بِذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يُسْلِمَ مَعَ أَنّ الصّحِيحَ مِنْ الْأَثَرِ، قَدْ أَثْبَتَ لِأَبِي
طَالِبٍ الْوَفَاةَ عَلَى الْكُفْرِ وَالشّرْكِ «1» وَأَثْبَتَ نُزُولَ
هَذِهِ الْآيَةِ فِيهِ: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ
يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ التّوْبَةَ: 113 وَثَبَتَ فِي الصّحِيحِ
أَيْضًا أَنّ الْعَبّاسَ قَالَ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: إنّ أَبَا طَالِبٍ كَانَ يَحُوطُك وَيَنْصُرُك، وَيَغْضَبُ لَك،
فَهَلْ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ؟ قَالَ: «نَعَمْ وَجَدْته فِي غَمَرَاتٍ مِنْ
النّارِ، فَأَخْرَجْته إلَى ضَحْضَاحٍ» وَفِي الصّحِيحِ أَيْضًا مِنْ
طَرِيقِ أَبِي سَعِيدٍ، أَنّهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- قَالَ: لَعَلّهُ
تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ
النّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ» وَفِي رِوَايَةٍ
أُخْرَى: كَمَا يَغْلِي الْمِرْجَلُ بِالْقُمْقُمِ، وَهِيَ مُشْكِلَةٌ «2»
، وَقَالَ بَعْضُ أهل العلم:
__________
(1) أخرج الإمام أحمد بسنده عن ابن المسيب عن أبيه قال: «لما حضرت أبا طالب
الوفاة دخل عليه النبى- ص- وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ
أَبِي أمية. فقال: أى عَمّ، قُلْ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ كَلِمَةً أحاج لك
بها عند الله عز وجل. فقال أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي
أُمَيّةَ: يا أبا طالب أَتَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ؟
فَقَالَ: أَنَا على ملة عبد المطلب، فقال النبى- ص- لأستغفرن لك ما لم أنه
عنك، فنزلت: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا
لِلْمُشْرِكِينَ، وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ
لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ) قال: ونزلت فيه: إِنَّكَ لا تَهْدِي
مَنْ أَحْبَبْتَ، وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وقد أخرجه البخارى
ومسلم.
(2) لأن المرجل: قدر من نحاس، والقمقم أيضا: ما يسخن فيه الماء من تحاس
وغيره. ويكون ضيق الرأس، ويقول ابن الأثير فى النهاية تعليقا على هذه-
(4/27)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْقُمْقُمُ: هُوَ الْبُسْرُ الْأَخْضَرُ يُطْبَخُ فِي الْمِرْجَلِ
اسْتِعْجَالًا لِنُضْجِهِ، يَفْعَلُ ذَلِكَ أَهْلُ الْحَاجَةِ، وَفِي
رِوَايَةِ يُونُسَ عَنْ ابْنِ إسْحَاقَ زِيَادَةٌ، وَهِيَ أَنّهُ قَالَ:
يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ حَتّى يَسِيلَ عَلَى قَدَمَيْهِ، وَمِنْ بَابِ
النّظَرِ فِي حِكْمَةِ اللهِ، وَمُشَاكَلَةِ الْجَزَاءِ لِلْعَمَلِ أَنّ
أَبَا طَالِبٍ كان مع رسول الله بجملته متحزّبا لَهُ، إلّا أَنّهُ مُثَبّتٌ
لِقَدَمَيْهِ عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، حَتّى قَالَ عِنْدَ
الْمَوْتِ: أَنَا عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَسُلّطَ الْعَذَابُ
عَلَى قدميه خاصّة لتثبيته إياها عَلَى مِلّةِ آبَائِهِ، ثَبّتَنَا اللهُ
عَلَى الصّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ.
وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ تَعَالَى: مَا كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا
أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ التّوْبَةَ: 13 وَقَدْ اسْتَغْفَرَ
عَلَيْهِ السّلَامُ يَوْمَ أُحُدٍ فَقَالَ: اللهُمّ اغْفِرْ لِقَوْمِي،
فَإِنّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَذَلِكَ حِينَ جَرَحَ الْمُشْرِكُونَ
وَجْهَهُ وَقَتَلُوا عَمّهُ. وَكَثِيرًا مِنْ أَصْحَابِهِ، وَلَا يَصِحّ
أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ فِي عَمّهِ نَاسِخَةً لِاسْتِغْفَارِهِ
يَوْمَ أُحُدٍ، لِأَنّ وَفَاةَ عَمّهِ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ بِمَكّةَ،
وَلَا يَنْسَخُ الْمُتَقَدّمُ الْمُتَأَخّرَ، وَقَدْ أُجِيبَ عَنْ هَذَا
السّؤَالِ بِأَجْوِبَةِ: أَنْ قِيلَ: اسْتِغْفَارُهُ لِقَوْمِهِ مَشْرُوطٌ
بِتَوْبَتِهِمْ مِنْ الشّرْكِ، كَأَنّهُ أَرَادَ الدّعَاءَ لَهُمْ
بِالتّوْبَةِ حَتّى يُغْفَرَ لَهُمْ وَيُقَوّي هَذَا الْقَوْلَ رِوَايَةُ
مَنْ رَوَى: اللهُمّ اهْدِ قَوْمِي فَإِنّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ، وَقَدْ
ذَكَرَهَا ابْنُ إسْحَاقَ، رَوَاهَا عَنْهُ بَعْضُ رُوَاةِ الْكِتَابِ
بِهَذَا اللّفْظِ، وقيل مغفرة تصرف عنهم عقوبة الدنيا من المسخ والخسف،
ونحو ذلك، ووجه
__________
- الرواية: «هكذا روى، ورواه بعضهم: كما يغلى المرجل والقمقم وهو أبين إن
ساعدته صحة الرواية» .
(4/28)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ثَالِثٌ، وَهُوَ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَأَخّرَ نُزُولُهَا، فَنَزَلَتْ
بِالْمَدِينَةِ نَاسِخَةً لِلِاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ، فَيَكُونُ
سَبَبُ نُزُولِهَا مُتَقَدّمًا، وَنُزُولُهَا مُتَأَخّرًا لَا سِيّمَا،
وَهِيَ فِي سُورَةِ بَرَاءَةَ وَبَرَاءَةُ، مِنْ آخِرِ مَا نَزَلَ،
فَتَكُونُ عَلَى هَذَا نَاسِخَةً للاستغفارين جَمِيعًا، وَفِي الصّحِيحِ
أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- دَخَلَ عَلَى
أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ، وَعِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُ اللهِ
بْنُ أَبِي أُمَيّةَ، فَقَالَ: يَا عَمّ قُلْ: لَا إلَهَ إلّا اللهُ
كَلِمَةً أَشْهَدُ لَك بِهَا عِنْدَ اللهِ، فَقَالَ لَهُ أَبُو جَهْلٍ
وَابْنُ أَبِي أُمَيّةَ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ،
فَقَالَ: أَنَا عَلَى مِلّةِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ
يَقْتَضِي أَنّ عَبْدَ الْمُطّلِبِ مَاتَ عَلَى الشّرْكِ، وَوَجَدْت فِي
بَعْضِ كُتُبِ الْمَسْعُودِيّ اخْتِلَافًا فِي عَبْدِ الْمُطّلِبِ،
وَأَنّهُ قَدْ قَالَ فِيهِ: مَاتَ مُسْلِمًا لِمَا رَأَى مِنْ الدّلَائِلِ
عَلَى نُبُوّةِ مُحَمّدٍ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَعَلِمَ
أَنّهُ لَا يُبْعَثُ إلّا بِالتّوْحِيدِ «1» ، فَاَللهُ أَعْلَمُ، غَيْرَ
أَنّ فِي مُسْنَدِ الْبَزّارِ، وَفِي كِتَابِ النّسَوِيّ مِنْ حَدِيثِ
عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنّ رَسُولَ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم-
قَالَ لِفَاطِمَةَ، وَقَدْ عَزّتْ قَوْمًا مِنْ الْأَنْصَارِ عَنْ
مَيّتِهِمْ: لَعَلّك بَلَغْت مَعَهُمْ الْكُدَى، وَيُرْوَى الْكُرَى
بِالرّاءِ، يَعْنِي:
الْقُبُورَ، فَقَالَتْ: لَا، فَقَالَ: لَوْ كُنْت مَعَهُمْ الْكُدَى «2»
أَوْ كَمَا قَالَ، ما رأيت
__________
(1) النبى- صلى الله عليه وسلم- نفسه لم يكن يعلم شيئا عن نبوته قبل المبعث
ندبر قول ربنا سبحانه: (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) وقوله: (ما كُنْتَ
تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ) .
(2) الرواية لو بلغت معهم الكدى، أو: لو بلغتها معهم. وقد ورد تفسير الكدى
بالقبور عن ربيعة بن سيف من تابعى أهل مصر، وفيه مقال لا يقدح فى حسن
الإسناد، وفى الرواية أن الرسول «ص» حين سأل فاطمة عن ذلك أنها قالت له:
معاذ الله، وقد سمعتك تذكر فيها ما تذكر. رواه أبو داود والنسائى
(4/29)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْجَنّةَ، حَتّى يَرَاهَا جَدّ أَبِيك، وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ،
وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهِ حَتّى يَدْخُلَهَا جَدّ أَبِيك، وَكَذَلِكَ لَمْ
يَذْكُرْ فِيهِ: مَا دَخَلْت الْجَنّةَ، وَفِي قَوْلِهِ: جَدّ أَبِيك،
وَلَمْ يَقُلْ: جَدّك يَعْنِي: أَبَاهُ تَوْطِئَةً لِلْحَدِيثِ الضّعِيفِ
الّذِي قَدّمْنَا ذِكْرَهُ أَنّ اللهَ أَحْيَا أُمّهُ وَأَبَاهُ، وَآمَنَا
بِهِ، فَاَللهُ أَعْلَمُ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ أَرَادَ تَخْوِيفَهَا
بِقَوْلِهِ، حَتّى يَدْخُلَهَا جَدّ أَبِيك، فَتَتَوَهّمُ أَنّهُ الْجَدّ
الْكَافِرُ، وَمِنْ جُدُودِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ:
إسْمَاعِيلُ وَإِبْرَاهِيمُ، لِأَنّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ حَقّ،
وَبُلُوغُهَا مَعَهُمْ الْكُدَى لَا يُوجِبُ خُلُودًا فِي النّارِ، فَهَذَا
مِنْ لَطِيفِ الْكِنَايَةِ فافهمه، وحكى عن هشام ابن السّائِبِ أَوْ
ابْنِهِ أَنّهُ قَالَ: لَمّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَمَعَ
إلَيْهِ وُجُوهَ قُرَيْشٍ، فَأَوْصَاهُمْ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ،
أَنْتُمْ صَفْوَةُ اللهِ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَلْبُ الْعَرَبِ، فِيكُمْ
السّيّدُ الْمُطَاعُ، وَفِيكُمْ الْمُقَدّمُ الشّجَاعُ، وَالْوَاسِعُ
الْبَاعِ، وَاعْلَمُوا أَنّكُمْ لَمْ تَتْرُكُوا لِلْعَرَبِ فِي الْمَآثِرِ
نَصِيبًا إلّا أَحْرَزْتُمُوهُ، وَلَا شَرَفًا إلّا أَدْرَكْتُمُوهُ،
فَلَكُمْ بِذَلِكُمْ عَلَى النّاسِ الْفَضِيلَةُ وَلَهُمْ بِهِ إلَيْكُمْ
الْوَسِيلَةُ، وَالنّاسُ لَكُمْ حِزْبٌ، وَعَلَى حَرْبِكُمْ أَلْبٌ،
وَإِنّي أُوصِيكُمْ بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْبَنِيّةِ «1» ، فَإِنّ فِيهَا
مَرْضَاةً لِلرّبّ، وَقِوَامًا لِلْمَعَاشِ، وَثَبَاتًا لِلْوَطْأَةِ،
صِلُوا أَرْحَامَكُمْ وَلَا تَقْطَعُوهَا، فَإِنّ فِي صِلَةِ الرّحِمِ
مَنْسَأَةً فِي الْأَجَلِ، وَسَعَةً فِي الْعَدَدِ، وَاتْرُكُوا الْبَغْيَ
وَالْعُقُوقَ، فَفِيهِمَا هَلَكَةُ الْقُرُونِ قَبْلَكُمْ، أَجِيبُوا
الدّاعِيَ، وَأَعْطُوا السّائِلَ، فَإِنّ فِيهِمَا شَرَفَ الْحَيَاةِ
وللمات، عَلَيْكُمْ بِصِدْقِ الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ، فَإِنّ
فِيهِمَا مَحَبّةً فِي الْخَاصّ، وَمَكْرُمَةً فِي الْعَامّ، وَإِنّي
أوصيكم بمحمد خيرا، فإنه الأمين
__________
(1) البنية: الكعبة.
(4/30)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي قُرَيْشٍ، وَالصّدّيقُ فِي الْعَرَبِ، وَهُوَ الْجَامِعُ لِكُلّ مَا
أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ، وَقَدْ جَاءَ بِأَمْرِ قَبِلَهُ الْجَنَانُ،
وَأَنْكَرَهُ اللّسَانُ مَخَافَةَ الشّنَآنِ، وَأَيْمُ اللهِ كَأَنّي
أَنْظُرُ إلَى صَعَالِيكِ «1» الْعَرَبِ، وَأَهْلِ الْبِرّ فِي
الْأَطْرَافِ والمستضعفين مِنْ النّاسِ، قَدْ أَجَابُوا دَعْوَتَهُ،
وَصَدّقُوا كَلِمَتَهُ وَعَظّمُوا أَمْرَهُ، فَخَاضَ بِهِمْ غَمَرَاتِ
الْمَوْتِ، فَصَارَتْ رُؤَسَاءُ قُرَيْشٍ وَصَنَادِيدُهَا أَذْنَابًا
وَدُورُهَا خَرَابًا، وَضُعَفَاؤُهَا أَرْبَابًا، وَإِذَا أَعْظَمُهُمْ
عَلَيْهِ، أَحْوَجُهُمْ إلَيْهِ، وَأَبْعَدُهُمْ مِنْهُ، أَحْظَاهُمْ
عِنْدَهُ، قَدْ مَحَضَتْهُ الْعَرَبُ وِدَادَهَا، وَأَصْفَتْ لَهُ
فُؤَادَهَا، وَأَعْطَتْهُ قِيَادَهَا، دُونَكُمْ يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ
ابْنَ أَبِيكُمْ، كُونُوا لَهُ وُلَاةً وَلِحِزْبِهِ حُمَاةً، وَاَللهِ لَا
يَسْلُكُ أَحَدٌ مِنْكُمْ سَبِيلَهُ إلّا رَشَدَ، وَلَا يَأْخُذُ أَحَدٌ
بِهَدْيِهِ إلّا سَعِدَ، وَلَوْ كَانَ لِنَفْسِي مُدّةٌ، وَلِأَجَلِي
تَأْخِيرٌ، لَكَفَفْت عَنْهُ الهزاهز «2» ، ولدافعت غنه الدّوَاهِيَ، ثُمّ
هَلَكَ:
تَفْسِيرُ الْمَشْيِ فِي سُورَةِ ص:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِمْ: أَنِ
امْشُوا، وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ وَذَكَرَ بَعْضُ أَهْلِ التّفْسِيرِ
أَنّ قَوْلَهُمْ: امْشُوا مِنْ الْمَشَاءِ، لَا مِنْ الْمَشْيِ
وَالْمَشَاءُ: نَمَاءُ الْمَالِ وَزِيَادَتُهُ، يُقَالُ مَشَى الرّجُلُ،
وَأَمْشَى: إذَا نَمَا مَالُهُ قَالَ الشّاعِرُ:
وَكُلّ فَتَى وَإِنْ أمشى وأثرى ... ستخلجه عن الدّنيا منون «3»
__________
(1) جمع: صعلوك: الفقير.
(2) الهزاهز: الفتن يهتز فيها الناس. وفى الأصل: عند الهزاهز وهو خطأ
(3) البيت للنابغة الذبيانى، وبعده:
وكل فتى بما عملت يداه ... وما أجرت عوامله رهين
(4/31)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَالَ الرّاجِزُ:
وَالشّاةُ لَا تَمْشِي عَلَى الْهَمَلّعِ «1»
أَيْ: لَا تَكْثُرُ، وَالْهَمَلّعُ: الذّئْبُ، وَقَالَهُ الْخَطّابِيّ فِي
مَعْنَى الْآيَةِ، كَأَنّهُمْ أَرَادُوا أَنّ الْمَشَاءَ وَالْبَرَكَةَ فِي
صَبْرِهِمْ عَلَى آلِهَتِهِمْ، وَحَمْلِهَا عَلَى الْمَشْيِ أَظْهَرُ فِي
اللّغَةِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
تَتَابُعُ المصائب بموت خديجة:
وَذَكَرَ تَتَابُعَ الْمَصَائِبِ عَلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِمَوْتِ خَدِيجَةَ ثُمّ بِمَوْتِ عَمّهِ، وَذَكَرَ
الزّبَيْرُ فِي حَدِيثٍ أَسْنَدَهُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ، وَهِيَ فِي الْمَوْتِ،
فَقَالَ: تَكْرَهِينَ ما أرى منك يا خديجة،
__________
(1) الرجز غير منسوب فى اللسان إلى أحد فى مادتى هملع، ومادة مشى، وهو فى
هذه هكذا:
مثلى لا تحسن قولا فعفعى ... العير لا يمشى مع الهملع
لا تأمرينى ببنات أسفع
يعنى الغنم، وأسفع: اسم كبش وفى مادة هملع:
لا تأمرينى ببنات أسفع ... فالشاة لا تمشى مع الهملع
والهملع والسملع: الذئب الخفيف، وقوله لا تمشى مع الهملع، أى: لا تكثر مع
الذئب.
(4/32)
|