الروض
الأنف ت الوكيل الجزء السادس
مقدمة
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبّ العالمين،
والصلاة والسلام على خاتم النبيين، محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله
الأئمة المهتدين.
«وبعد» فهذا هو الجزء السادس من السيرة وشرحها «الروض الأنف» للإمام
السهيلى
والله وحده أسأل أن يعين على تمامه؟
عبد الرحمن الوكيل
(6/5)
[تتمة غزوة أحد]
[قَتْلُ الرّسُولِ لأبىّ بن خلف]
(قَالَ) : فَلَمّا أُسْنِدَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم في الشّعب
أدركه أبىّ ابن خَلَفٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَيْ مُحَمّدُ، لَا نَجَوْتُ إنْ
نَجَوْتَ، فَقَالَ الْقَوْمُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيَعْطِفُ عَلَيْهِ
رَجُلٌ مِنّا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
دَعُوهُ؛ فَلَمّا دَنَا، تَنَاوَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الْحَرْبَةَ مِنْ الْحَارِثِ بْنِ الصّمّةِ يَقُولُ بَعْضُ
الْقَوْمِ، فِيمَا ذُكِرَ لِي: فَلَمّا أُخِذَهَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ انْتَفَضَ بِهَا انْتِفَاضَةً،
تَطَايَرْنَا عَنْهُ، تَطَايُر الشّعْرَاءِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ إذَا
انْتَفَضَ بِهَا- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الشّعْرَاءُ: ذُبَابٌ لَهُ لَدْغٌ-
ثُمّ اسْتَقْبَلَهُ فَطَعَنَهُ فِي عُنُقِهِ طَعْنَةً تَدَأْدَأَ مِنْهَا
عَنْ فَرَسِهِ مِرَارًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَدَأْدَأَ، يَقُولُ: تَقَلّبَ عَنْ فَرَسِهِ،
فَجَعَلَ يَتَدَحْرَجُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ أُبَيّ بْنُ خَلَفٍ، كَمَا حَدّثَنِي
صَالِحُ بْنِ إبْرَاهِيمَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، يَلْقَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكّةَ، فَيَقُولُ:
يَا مُحَمّدُ إنّ عِنْدِي الْعَوْذَ، فَرَسًا أَعْلِفُهُ كُلّ يَوْمٍ
فَرَقًا مِنْ ذُرَةٍ، أَقْتُلُك عَلَيْهِ؛ فَيَقُولُ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: بَلْ أَنَا أَقْتُلُك إنْ شَاءَ اللهُ. فَلَمّا
رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ وَقَدْ خَدَشَهُ فِي عُنُقِهِ خَدْشًا غير كبير،
فاحتقن الدم، فقال: قتلى وَاَللهِ مُحَمّدٌ! قَالُوا لَهُ: ذَهَبَ وَاَللهِ
فُؤَادُك! وَاَللهِ إنْ بِك مِنْ بَأْسٍ؛ قَالَ: إنّهُ قَدْ كَانَ قَالَ
لِي بِمَكّةَ: أَنَا أَقْتُلُك، فَوَاَللهِ لَوْ بَصَقَ عَلَيّ
لَقَتَلَنِي. فَمَاتَ عَدُوّ الله؟؟ يشرف وَهُمْ قَافِلُونَ بِهِ إلَى
مَكّةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/7)
[شِعْرُ حَسّانَ فِي مَقْتَلِ أُبَيّ بْنِ
خَلَفٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ فى ذلك:
لَقَدْ وَرِثَ الضّلَالَةَ عَنْ أَبِيهِ ... أُبَيّ يَوْمَ بَارَزَهُ
الرّسُولُ
أَتَيْتَ إلَيْهِ تَحْمِلُ رِمّ عَظْمٍ ... وَتُوعِدُهُ وَأَنْتَ بِهِ
جَهُولُ
وَقَدْ قَتَلَتْ بَنُو النّجّارِ مِنْكُمْ ... أُمَيّةَ إذْ يُغَوّثُ: يَا
عَقِيلُ
وَتَبّ ابْنَا رَبِيعَةَ إذْ أَطَاعَا ... أَبَا جَهْلٍ، لِأُمّهِمَا
الْهَبُول
وَأَفْلَتْ حَارِثٌ لَمّا شَغَلْنَا ... بِأَسْرِ الْقَوْمِ، أُسْرَتُهُ
فَلَيْلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أُسْرَتُهُ: قَبِيلَتُهُ.
وَقَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ أَيْضًا فِي ذَلِكَ:
أَلَا مَنْ مُبْلِغٌ عَنّي أُبَيّا ... لَقَدْ أُلْقِيَتْ فِي سُحْقِ
السّعِيرِ
تَمَنّى بِالضّلَالَةِ مِنْ بَعِيدٍ ... وَتُقْسِمُ أَنْ قَدَرْت مَعَ
النّذُورِ
تَمَنّيك الْأَمَانِيّ مِنْ بَعِيدٍ ... وَقَوْلُ الْكُفْرِ يَرْجِعُ فِي
غُرُورِ
فَقَدْ لَاقَتْك طَعْنَةُ ذِي حِفَاظٍ ... كَرِيمِ الْبَيْتِ لَيْسَ بِذِي
فُجُورِ
لَهُ فَضْلٌ عَلَى الأحياء طرّا ... إذا فابت ملمّات الأمور
[انْتِهَاءُ الرّسُولِ إلَى الشّعْبِ]
(قَالَ) : فَلَمّا انْتَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى فَمِ
الشّعْبِ خَرَجَ عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، حتى ملأ دوقته مَاءً مِنْ
الْمِهْرَاسِ، فَجَاءَ بِهِ إلَى رَسُولِ اللهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/8)
صلّى الله عليه وسلم ليشرب منه، فوجده لَهُ
رِيحًا، فَعَافَهُ، فَلَمْ يَشْرَبْ مِنْهُ، وَغَسَلَ عَنْ وَجْهِهِ
الدّمَ، وَصَبّ عَلَى رَأْسِهِ وَهُوَ يَقُولُ: اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى
مَنْ دَمّى وجه نبيه.
[حِرْصُ ابْنِ أَبِي وَقّاصٍ عَلَى قَتْلِ عُتْبَة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ عَمّنْ حَدّثَهُ
عَنْ سَعْد بْنِ أَبِي وَقّاصٍ أَنّهُ كَانَ يَقُولُ: وَاَللهِ مَا حَرَصْت
عَلَى قَتْلِ رَجُلٍ قَطّ كَحِرْصِي عَلَى قَتْلِ عُتْبَة بْنِ أَبِي
وَقّاصٍ، وَإِنْ كَانَ مَا عَلِمْتُ لِسَيّئِ الْخَلْقِ مُبْغَضًا فِي
قَوْمِهِ، وَلَقَدْ كَفَانِي مِنْهُ قَوْلُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ: اشْتَدّ غَضَبُ اللهِ عَلَى مَنْ دَمّى وَجْهَ
رَسُولِهِ.
[صُعُودُ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ وَقِتَالُ عُمَرَ لهم]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِالشّعْبِ، مَعَهُ أُولَئِكَ النّفَرُ مِنْ أَصْحَابِهِ، إذْ
عَلَتْ عَالِيَةٌ مِنْ قُرَيْشٍ الْجَبَلَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: كَانَ عَلَى تِلْكَ الْخَيْلِ خَالِدُ بْنُ
الْوَلِيدِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اللهم إنّهُ لَا يَنْبَغِي لَهُمْ أَنْ يَعْلُونَا! فَقَاتَلَ
عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ وَرَهْطٌ مَعَهُ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ حَتّى
أَهْبَطُوهُمْ مِنْ الْجَبَلِ.
[ضَعْفُ الرّسُولِ عَنْ النّهُوضِ وَمُعَاوَنَةُ طَلْحَةَ لَهُ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَنَهَضَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ إلَى صَخْرَةٍ مِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/9)
الْجَبَلِ لِيَعْلُوَهَا، وَقَدْ كَانَ
بُدْنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَاهَرَ بَيْنَ
دِرْعَيْنِ، فَلَمّا ذَهَبَ لِيَنْهَضَ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ
يَسْتَطِعْ، فَجَلَسَ تَحْتَهُ طَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ، فَنَهَضَ
بِهِ، حَتّى اسْتَوَى عَلَيْهَا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما حَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ عَبْدِ اللهِ
بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ
الزّبَيْرِ، قَالَ: سَمِعْت رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَوْمئِذٍ يَقُولُ:
أَوْجَبَ طَلْحَةُ حِينَ صَنَعَ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مَا صَنَعَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لَمْ يَبْلُغْ الدّرَجَةَ الْمَبْنِيّةَ فِي
الشّعْبِ.
[صَلَاةُ الرسول قاعدا]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَذَكَرَ عُمَرُ مَوْلَى غُفْرَةَ: أَنّ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلّى الظّهْرَ يَوْمَ أُحُدٍ قَاعِدًا
مِنْ الْجِرَاحِ الّتِي أَصَابَتْهُ، وَصَلّى الْمُسْلِمُونَ خَلْفَهُ
قُعُودًا.
[مَقْتَلُ الْيَمَانِ وَابْنِ وَقْشٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ النّاسُ انْهَزَمُوا عَنْ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى انْتَهَى بَعْضُهُمْ إلَى
الْمُنَقّى، دُونَ الْأَعْوَصِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ،
عَنْ محمود بن لبيد، قَالَ: لَمّا خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ، رَفَعَ حُسَيْلُ بْنُ جابر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/10)
وَهُوَ الْيَمَانُ أَبُو حُذَيْفَةَ بْنُ
الْيَمَانِ، وَثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فِي الْآطَامِ مَعَ النّسَاءِ
وَالصّبْيَانِ، فقال أحدهما لصاحبه، وهما شيخان كبيران: لا أبالك، مَا
تَنْتَظِرُ؟
فَوَاَللهِ لَا بَقِيَ لِوَاحِدِ مِنّا مِنْ عُمْرِهِ إلّا ظِمْءُ حِمَارٍ،
إنّمَا نَحْنُ هَامَةُ الْيَوْمِ أَوْ غَد، أَفَلَا نَأْخُذُ أَسْيَافَنَا،
ثُمّ نَلْحَقُ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، لَعَلّ
اللهَ يَرْزُقُنَا شَهَادَةً مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ؟ فَأَخَذَا أَسْيَافَهُمَا ثُمّ خَرَجَا، حَتّى دَخَلَا فِي
النّاسِ، وَلَمْ يُعْلَمْ بِهِمَا، فَأَمّا ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ فَقَتَلَهُ
الْمُشْرِكُونَ، وَأَمّا حُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ
أَسْيَافُ الْمُسْلِمِينَ، فَقَتَلُوهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ، فَقَالَ
حُذَيْفَةُ: أَبِي، فَقَالُوا: وَاَللهِ إنْ عَرَفْنَاهُ، وَصَدَقُوا.
قَالَ حُذَيْفَةُ: يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرّاحِمِينَ،
فَأَرَادَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَنْ يَدِيَهُ؛
فَتَصَدّقَ حُذَيْفَةُ بِدِيَتِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ؛ فَزَادَهُ ذَلِكَ
عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ خَيْرًا.
[مَقْتَلُ حَاطِبٍ وَمَقَالَةُ أَبِيهِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وحدثني عاصم بن عمر بن قتادة: أن رَجُلًا مِنْهُمْ
كَانَ يُدْعَى حَاطِبَ بْنَ أُمّيّةَ بْنِ رَافِعٍ، وَكَانَ لَهُ ابْنٌ
يُقَال لَهُ يَزِيدُ بْنُ حَاطِبٍ، أَصَابَتْهُ جِرَاحَةٌ يَوْمَ أُحُدٍ،
فَأُتِيَ بِهِ إلَى دَارِ قَوْمِهِ وَهُوَ بِالْمَوْتِ، فَاجْتَمَعَ
إلَيْهِ أَهْلُ الدّارِ، فَجَعَلَ الْمُسْلِمُونَ يَقُولُونَ له من الرجال
والنساء: أبشر يابن حَاطِبٍ بِالْجَنّة؛ قَالَ: وَكَانَ حَاطِبٌ شَيْخًا
قَدْ عَسَا فِي الْجَاهِلِيّةِ، فَنَجَمَ يَوْمئِذٍ نِفَاقُهُ، فَقَالَ:
بِأَيّ شَيْءٍ تُبَشّرُونَهُ؟ بِجَنّةٍ مِنْ حَرْمَلٍ! غَرَرْتُمْ وَاَللهِ
هَذَا الْغُلَامَ مِنْ نَفْسِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/11)
[مقتل قزمان منافقا كما حدّث الرسول ذلك]
قال ابن إسحاق: وحدثني عاصم بن عمر بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: كَانَ فِينَا
رَجُلٌ أَتَى لَا يُدْرَى مِمّنْ هُوَ، يُقَالُ لَهُ قُزْمَانُ، وكان رسول
الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ، إذَا ذُكِرَ لَهُ: إنّهُ لَمِنْ أَهْلِ
النّارِ، قَالَ: فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ قَاتَلَ قِتَالًا شَدِيدًا،
فَقَتَلَ وَحْدَهُ ثَمَانِيَةً أَوْ سَبْعَةً مِنْ الْمُشْرِكِينَ، وَكَانَ
ذَا بَأْسٍ، فَأَثْبَتَتْهُ الْجِرَاحَةُ، فَاحْتُمِلَ إلَى دَارِ بَنِي
ظَفَرٍ، قَالَ: فَجَعَلَ رِجَالٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ يَقُولُونَ لَهُ:
وَاَللهِ لَقَدْ أبليت اليوم يا قزمان، فأبشر، قال: بماذ أَبْشِرُ؟
فَوَاَللهِ إنْ قَاتَلْتُ إلّا عَنْ أَحْسَابِ قَوْمِي، وَلَوْلَا ذَلِكَ
مَا قَاتَلْتُ. قَالَ: فَلَمّا اشْتَدّتْ عَلَيْهِ جِرَاحَتُهُ أَخَذَ
سَهْمًا مِنْ كِنَانَتِهِ، فقتل به نفسه.
[قَتْلُ مُخَيْرِيقٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ مِمّنْ قُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ مُخَيْرِيق،
وَكَانَ أَحَدَ بَنِي ثَعْلَبَةَ بْنِ الْفِطْيُونِ، قَالَ: لَمّا كَانَ
يَوْمُ أُحُدٍ، قَالَ: يَا مَعْشَرَ يَهُودَ، وَاَللهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ
أَنّ نَصْرَ مُحَمّدٍ عَلَيْكُمْ لَحَقّ، قَالُوا: إن اليوم يوم السبت، قال
لاسبت لكم.
فَأَخَذَ سَيْفَهُ وَعُدّتَهُ، وَقَالَ: إنْ أُصِبْت فَمَالِي لِمُحَمّدِ
يَصْنَعُ فِيهِ مَا شَاءَ، ثُمّ غَدَا إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَاتَلَ مَعَهُ حَتّى قُتِلَ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيمَا بَلَغَنَا- مُخَيْرِيق خير
يهود.
[أَمْرُ الْحَارِثِ بْنِ سُوَيْدٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ الْحَارِثُ بْنُ سُوَيْد بْنِ صَامَتْ
مُنَافِقًا، فخرج يوم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/12)
أُحُدٍ مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمّا
الْتَقَى النّاسُ، عَدَا على المجذّر بن ذياد البلوى، وقيس ابن زَيْدٍ،
أَحَدِ بَنِي ضُبَيْعَةَ، فَقَتَلَهُمَا، ثُمّ لَحِقَ بِمَكّةَ بِقُرَيْشٍ؛
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم- فيما يذكرون- قد أمر عمر بن
الخطاب بقتله إن هو ظفر به، فَفَاتَهُ، فَكَانَ بِمَكّةَ؛ ثُمّ بَعَثَ إلَى
أَخِيهِ الْجُلَاسِ بْنِ سُوَيْد يَطْلُبُ التّوْبَةَ، لِيَرْجِعَ إلَى
قَوْمِهِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِيهِ، فِيمَا بَلَغَنِي؛ عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ:
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ، وَشَهِدُوا
أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ، وَاللَّهُ لَا يَهْدِي
الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ.
[تَحْقِيقُ ابْنِ هِشَامٍ فِيمَنْ قَتَلَ الْمُجَذّرَ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ:
أَنّ الْحَارِثَ بْنَ سُوَيْد قَتَلَ الْمُجَذّرَ بْنَ ذِيَادٍ، وَلَمْ
يَقْتُلْ قِيسَ بْنَ زَيْدٍ، وَالدّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ: أَنّ ابْنَ
إسْحَاقَ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي قَتْلَى أُحُدٍ؛ وَإِنّمَا قَتَلَ
الْمُجَذّرَ لِأَنّ الْمُجَذّرَ بْنَ ذِيَادٍ كَانَ قَتَلَ أَبَاهُ
سُوَيْدًا فِي بَعْضِ الْحُرُوبِ الّتِي كَانَتْ بَيْنَ الْأَوْسِ
وَالْخَزْرَجِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِيمَا مَضَى مِنْ هَذَا
الْكِتَابِ.
فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فِي نَفَرٍ مِنْ
أصحابه، إذ خرج الحارث ابن سُوَيْد مِنْ بَعْضِ حَوَائِطِ الْمَدِينَةِ،
وَعَلَيْهِ ثَوْبَانِ مضرّ جان، فَأَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ، فَضَرَبَ عُنُقَهُ، وَيُقَالُ:
بَعْضُ الْأَنْصَارِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَتَلَ سُوَيْدَ بْنَ الصّامِتِ مَعَاذُ بْنُ
عَفْرَاءَ غِيلَةً، فِي غَيْرِ حَرْبٍ رَمَاهُ بِسَهْمٍ فَقَتَلَهُ قَبْلَ
يَوْمِ بعاث.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/13)
[أَمْرُ أُصَيْرِم]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي الْحُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرّحْمَنِ
بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مَعَاذٍ عَنْ أَبِي سُفْيَانَ، مَوْلَى
ابْنِ أَبِي أَحْمَدَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: كَانَ يَقُولُ:
حَدّثُونِي عَنْ رَجُلٍ دَخَلَ الْجَنّةَ لَمْ يُصَلّ قَطّ، فَإِذَا لَمْ
يَعْرِفْهُ النّاسُ سَأَلُوهُ: مَنْ هُوَ؟ فَيَقُولُ: أُصَيْرِم، بَنِي
عَبْدِ الْأَشْهَلِ، عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ. قَالَ الْحُصَيْنُ:
فَقُلْت لِمَحْمُودِ بْنِ أَسَدٍ: كَيْفَ كَانَ شَأْنُ الْأُصَيْرِمِ؟
قَالَ: كَانَ يَأْبَى الْإِسْلَامَ عَلَى قَوْمِهِ. فَلَمّا كَانَ يَوْمُ
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى أُحُدٍ،
بَدَا لَهُ فِي الْإِسْلَامِ فَأَسْلَمَ، ثُمّ أَخَذَ سَيْفَهُ، فَعَدَا
حَتّى دَخَلَ فِي عُرْضِ النّاسِ، فَقَاتَلَ حَتّى أَثْبَتَتْهُ
الْجِرَاحَةُ. قَالَ: فَبَيْنَا رِجَالٌ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ
يَلْتَمِسُونَ قَتَلَاهُمْ فِي الْمَعْرَكَةِ إذَا هُمْ بِهِ، فَقَالُوا:
وَاَللهِ إنّ هَذَا لَلْأُصَيْرِمُ، مَا جَاءَ بِهِ؟ لَقَدْ تَرَكْنَاهُ
وَإِنّهُ لِمُنْكِرٍ لِهَذَا الْحَدِيثَ، فَسَأَلُوهُ مَا جَاءَ بِهِ،
فَقَالُوا: مَا جَاءَ بِك يَا عَمْرُو؟ أَحَدَبٌ عَلَى قَوْمِك أَمْ
رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ،؟ قَالَ: بَلْ رَغْبَةً فِي الْإِسْلَامِ،
آمَنْت بِاَللهِ وَبِرَسُولِهِ وَأَسْلَمْتُ، ثُمّ أَخَذْت سَيْفِي،
فَغَدَوْتُ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمّ
قَاتَلْت حَتّى أَصَابَنِي مَا أَصَابَنِي، ثُمّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ
فِي أَيْدِيهِمْ. فَذَكَرُوهُ لِرَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَقَالَ: إنّهُ لَمِنْ أَهْلِ الجنة.
[مَقْتَلُ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وحدثثى أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ أَشْيَاخٍ
مِنْ بنى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/14)
سلمة: أَنّ عَمْرَو بْنَ الْجَمُوحِ كَانَ
رَجُلًا أَعْرَجَ شَدِيدَ الْعَرَجِ، وَكَانَ لَهُ بَنُونَ أَرْبَعَةٌ
مِثْلَ الْأُسْدِ، يَشْهَدُونَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ الْمَشَاهِدَ، فَلَمّا كَانَ يَوْمُ أُحُد أَرَادُوا حَبْسَهُ،
وَقَالُوا لَهُ: إنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ: قَدْ عَذَرَك، فَأَتَى رَسُولَ
اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَقَالَ: إنّ بَنِيّ يُرِيدُونَ أَنْ
يَحْبِسُونِي عَنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَالْخُرُوجِ مَعَك فِيهِ، فَوَاَللهِ
إنّي لَأَرْجُو أَنْ أَطَأَ بِعَرْجَتِي هَذِهِ فِي الْجَنّةِ، فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمّا أَنْتَ فَقَدْ
عَذَرَك اللهُ فَلَا جِهَادَ عَلَيْك، وَقَالَ لِبَنِيهِ: مَا عَلَيْكُمْ
أَنْ لَا تَمْنَعُوهُ، لَعَلّ اللهَ أَنْ يَرْزُقَهُ الشّهَادَةَ، فَخَرَجَ
مَعَهُ فَقُتِلَ يَوْمَ أُحُدٍ.
[هِنْدُ وَتَمْثِيلُهَا بِحَمْزَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَوَقَعَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَة، كَمَا حَدّثَنِي
صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ، وَالنّسْوَةُ اللّاتِي مَعَهَا، يُمَثّلْنَ
بِالْقَتْلَى مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم،
يجدّعن الآذان والأنف، حتى اتخذت هِنْدُ مِنْ آذَانِ الرّجَالِ وَآنُفِهِمْ
خَدَمًا وَقَلَائِدَ، وَأَعْطَتْ خَدَمَهَا وَقَلَائِدَهَا وَقِرَطَتَهَا
وَحْشِيّا، غُلَامَ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ، وَبَقَرَتْ عَنْ كَبِدِ
حَمْزَةَ، فَلَاكَتْهَا، فَلَمْ تَسْتَطِعْ أَنْ تُسِيغَهَا،
فَلَفَظَتْهَا، ثُمّ عَلَتْ عَلَى صَخْرَةٍ مُشْرِفَةٍ، فَصَرَخَتْ
بِأَعْلَى صَوْتِهَا فَقَالَتْ:
نَحْنُ جَزَيْنَاكُمْ بِيَوْمِ بَدْرٍ ... وَالْحَرْبُ بَعْدَ الْحَرْبِ
ذَاتِ سُعْرِ
مَا كَانَ عَنْ عُتْبَة لِي مِنْ صَبْرِ ... وَلَا أَخِي وَعَمّهِ
وَبَكْرِي
شَفَيْتُ نَفْسِي وَقَضَيْتُ نَذْرِي ... شَفَيْتَ وَحْشِيّ غَلِيلَ
صَدْرِي
فَشُكْرُ وَحْشِيّ عَلَيّ عُمْرِي ... حَتّى تَرُمّ أَعْظُمِي فى قبرى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/15)
[شِعْرُ هِنْدَ بِنْتِ أُثَاثَةَ فِي
الرّدّ عَلَى هند بنت عتبة]
فأجابتها هِنْدُ بِنْتُ أُثَاثَةَ بْنِ عَبّادِ بْنِ الْمُطّلِبِ، فقالت:
خَزِيت فِي بَدْرٍ وَبَعْدَ بَدْرٍ ... يَا بِنْتَ وَقّاعٍ عَظِيمِ
الْكُفْرِ
صَبّحَك اللهُ غَدَاةَ الْفَجْرِ ... ملهاشميّين الطّوال الزّهر
ببكلّ قَطّاعٍ حُسَامٍ يَفْرِي ... حَمْزَةُ لَيْثِيّ وَعَلِيّ صَقْرِيّ
إذا رَامَ شَيْبٌ وَأَبُوك غَدْرِي ... فَخَضّبَا مِنْهُ ضَوَاحِي النّحْرِ
وَنَذْرُك السّوءَ فَشَرّ نَذْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: تَرَكْنَا مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَبْيَاتٍ أَقْذَعَتْ
فِيهَا.
[شِعْرُ لِهِنْدِ بِنْتِ عُتْبَة أَيْضًا]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَتْ هِنْدُ بِنْتُ عُتْبَة أَيْضًا:
شَفَيْتُ مِنْ حَمْزَةَ نَفْسِي بِأُحُدٍ ... حَتّى بَقَرْتُ بَطْنَهُ عَنْ
الْكَبِدِ
أَذْهَبَ عَنّي ذَاكَ مَا كُنْتُ أَجِدُ ... مِنْ لَذْعَةِ الْحُزْنِ
الشّدِيدِ الْمُعْتَمِدِ
وَالْحَرْبُ تَعْلُوكُمْ بِشَؤْبُوب بَرِدٍ ... تُقْدِمُ إقْدَامًا
عَلَيْكُمْ كَالْأَسَدِ
[تَحْرِيضُ عُمَرَ لِحَسّانَ عَلَى هَجْوِ هِنْدَ بِنْتِ عُتْبَة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي صَالِحُ بْنُ كَيْسَانَ أَنّهُ حُدّثَ:
أَنّ عُمْرَ بْنَ الْخَطّابِ قال لحسّان بن ثابت: يابن الْفُرَيْعَةِ-
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْفُرَيْعَةُ بِنْتُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/16)
خَالِدِ بْنِ خُنَيْسٍ، وَيُقَال:
خُنَيْسٌ: ابْنُ حَارِثَةَ بْنِ لَوْذَانَ بْنِ عَبْدِ وُدّ بْنِ زَيْدِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ الْخَزْرَجِ بْنِ سَاعِدَةَ بْنِ كَعْبِ بْنِ
الْخَزْرَجِ- لَوْ سَمِعْتَ مَا تَقُولُ هند، وأريت أَشْرَهَا قَائِمَةً
عَلَى صَخْرَةٍ تَرْتَجِزُ بِنَا، وَتَذْكُرُ مَا صَنَعَتْ بِحَمْزَةِ؟
قَالَ لَهُ حَسّانُ: وَاَللهِ إنّي لَأَنْظُرُ إلَى الْحَرْبَةِ تَهْوِي
وَأَنَا عَلَى رَأْسِ فَارِعٍ- يَعْنِي أُطُمَهُ- فَقُلْت: وَاَللهِ إنّ
هَذِهِ لَسِلَاحٌ مَا هِيَ بِسِلَاحِ الْعَرَبِ، وَكَأَنّهَا إنّمَا
تَهْوِي إلَى حَمْزَةَ وَلَا أَدْرِي، لَكِنْ أسمعنى بعض قولها أكفكموها؛
قَالَ: فَأَنْشَدَهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ بَعْضَ مَا قَالَتْ؛ فَقَالَ
حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
أَشْرَتْ لَكَاعُ وَكَانَ عَادَتُهَا ... لُؤْمًا إذَا أَشْرَتْ مَعَ
الْكُفْرِ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ تَرَكْنَاهَا،
وَأَبْيَاتًا أَيْضًا لَهُ عَلَى الدّالِ. وَأَبْيَاتًا أُخَرَ عَلَى
الذّالِ، لِأَنّهُ أَقْذَعَ فِيهَا.
[اسْتِنْكَارُ الْحُلَيْسِ عَلَى أَبِي سُفْيَانَ تَمْثِيلَهُ بِحَمْزَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ كَانَ الْحُلَيْسُ بْنُ زبّان، أخو بنى
الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ، وَهُوَ يَوْمئِذٍ سَيّدُ الْأُبَيْشِ،
قَدْ مَرّ بِأَبِي سُفْيَانَ، وَهُوَ يَضْرِبُ فى فِي شَدْقِ حَمْزَةَ بْنِ
عَبْدِ الْمُطّلِبِ بِزُجّ الرّمْحِ وَيَقُولُ: ذُقْ عُقَقُ؛ فَقَالَ
الْحُلَيْسُ: يَا بَنِي كِنَانَةَ، هَذَا سَيّدُ قُرَيْشٍ يَصْنَعُ بِابْنِ
عَمّهِ مَا تَرَوْنَ لَحْمًا؟ فَقَالَ: وَيْحَك! اُكْتُمْهَا عَنّي،
فَإِنّهَا كَانَتْ زَلّةً.
[شَمَاتَةُ أَبِي سُفْيَانَ بِالْمُسْلِمِينَ بَعْدَ أُحُدٍ وَحَدِيثُهُ
مَعَ عُمَرَ]
ثُمّ إنّ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ، حِينَ أَرَادَ الِانْصِرَافَ،
أَشْرَفَ عَلَى الْجَبَلِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/17)
ثُمّ صَرَخَ بِأَعْلَى صَوْتِهِ فَقَالَ:
أَنْعَمْتَ فَعَالِ، وَإِنّ الْحَرْبَ سِجَالٌ يَوْمٌ بِيَوْمِ، أُعْلُ
هُبَلُ، أَيْ: أَظْهِرْ دِينَك، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُمْ يَا عُمَرُ فَأَجِبْهُ، فَقُلْ: اللهُ أَعَلَى
وَأَجَلّ، لَا سَوَاءَ، قَتَلَانَا فى الجنّة، وقتلاكم فى النّار. فَلَمّا
أَجَابَ عُمَرُ أَبَا سُفْيَانَ، قَالَ لَهُ أَبُو سُفْيَانَ: هَلُمّ إلَيّ
يَا عُمَرُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِعُمَرِ: ائْتِهِ فَانْظُرْ مَا شَأْنُهُ؛ فَجَاءَهُ، فَقَالَ لَهُ أَبُو
سُفْيَانَ: أَنْشُدُك اللهَ يَا عُمَرُ، أَقَتَلْنَا مُحَمّدًا؟ قَالَ
عُمَرُ: اللهُمّ لَا، وَإِنّهُ لَيَسْمَعُ كَلَامَك الْآنَ، قَالَ: أَنْتَ
أَصْدَقُ عِنْدِي مِنْ ابْنِ قَمِئَةَ وَأَبَرّ؛ لِقَوْلِ ابْنِ قَمِئَةَ
لَهُمْ: إنّي قَدْ قَتَلْت مُحَمّدًا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاسْمُ ابْنِ قَمِئَةَ عَبْدُ اللهِ.
[تَوَعّدُ أَبِي سُفْيَانَ الْمُسْلِمِينَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ نَادَى أَبُو سُفْيَانَ: إنّهُ قَدْ كَانَ فِي
قَتْلَاكُمْ مُثُلٌ، وَاَللهِ مَا رَضِيت، وَمَا سَخِطْت، وَمَا نَهَيْتُ،
وَمَا أَمَرْت.
وَلَمّا انْصَرَفَ أَبُو سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ، نَادَى: إنّ
مَوْعِدَكُمْ بَدْرٌ لِلْعَامِ الْقَابِلِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَجُلِ مِنْ أَصْحَابِهِ: قُلْ: نَعَمْ، هُوَ
بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ مَوْعِدٌ.
[خُرُوجُ عَلِيّ فِي آثَارِ الْمُشْرِكِينَ]
ثُمّ بَعَثَ رسول الله صلى الله عليه وسلم على بْنَ أَبِي طَالِبٍ،
فَقَالَ: اُخْرُجْ فِي آثَارِ الْقَوْمِ، فَانْظُرْ مَاذَا يَصْنَعُونَ
وَمَا يُرِيدُونَ، فَإِنْ كَانُوا قَدْ جَنّبُوا الْخَيْلَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/18)
وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، فَإِنّهُمْ
يُرِيدُونَ مَكّةَ، وَإِنْ رَكِبُوا الْخَيْلَ وَسَاقُوا الْإِبِلَ،
فَإِنّهُمْ يُرِيدُونَ الْمَدِينَةَ، وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَئِنْ
أَرَادُوهَا لَأَسِيرَنّ إلَيْهِمْ فِيهَا، ثُمّ لَأُنَاجِزَنّهُمْ. قَالَ
عَلِيّ: فَخَرَجْت فِي آثَارِهِمْ أَنْظُرُ مَاذَا يَصْنَعُونَ؛ فَجَنّبُوا
الْخَيْلَ، وَامْتَطَوْا الْإِبِلَ، ووجّهوا إلى مكة.
[أَمْرُ الْقَتْلَى بِأُحُدِ]
وَفَرَغَ النّاسُ لِقَتْلَاهُمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما حَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ الْمَازِنِيّ، أَخُو بَنِي النّجّار:
مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ؟ أَفِي
الْأَحْيَاءِ هُوَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ
الْأَنْصَارِ: أَنَا أَنْظُرُ لَك يَا رَسُولَ اللهِ مَا فَعَلَ سَعْدٌ،
فَنَظَرَ فَوَجَدَهُ جَرِيحًا فِي الْقَتْلَى وَبِهِ رَمَقٌ. قَالَ:
فَقُلْت لَهُ: إنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَمَرَنِي
أَنْ أَنْظُرَ، أَفِي الْأَحْيَاءِ أَنْتَ أَمْ فِي الْأَمْوَاتِ؟ قَالَ:
أَنَا فِي الْأَمْوَاتِ، فَأَبْلِغْ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَنّي السّلَامَ، وَقُلْ لَهُ: إنّ سَعْدَ بْنَ الرّبِيعِ يَقُولُ
لَك: جَزَاك اللهُ عَنّا خَيْرَ مَا جَزَى نَبِيّا عَنْ أُمّتِهِ،
وَأَبْلِغْ قَوْمَك عَنّي السّلَامَ وَقُلْ لَهُمْ: إنّ سَعْدَ بْنَ
الرّبِيعِ يَقُولُ لَكُمْ: إنّهُ لَا عُذْرَ لَكُمْ عِنْدَ اللهِ إنْ
خَلُصَ إلَى نَبِيّكُمْ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَمِنْكُمْ عَيْنٌ
تَطْرِفُ. قَالَ: ثُمّ لَمْ أَبْرَحْ حَتّى مَاتَ؛ قال: فجئت رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبَرْته خَبَرَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي أَبُو بَكْرٍ الزّبَيْرِيّ: أَنّ رَجُلًا
دَخَلَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ الصّدّيقِ وَبِنْتٌ لِسَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ
جَارِيَةٌ صَغِيرَةٌ عَلَى صَدْرِهِ يَرْشُفُهَا وَيُقَبّلُهَا؛
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/19)
فَقَالَ لَهَ الرّجُلُ: مَنْ هَذِهِ؟
قَالَ: هَذِهِ بِنْتُ رَجُلٍ خَيْرٍ مِنّي، سَعْدِ بْنِ الرّبِيعِ، كَانَ
مِنْ النّقَبَاءِ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، وَشَهِدَ بَدْرًا، وَاسْتُشْهِدَ
يَوْمَ أُحُدٍ.
[حُزْنُ الرّسُولِ عَلَى حَمْزَةَ وَتَوَعّدُهُ الْمُشْرِكِينَ
بِالْمُثْلَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى الله عليه وسلم، فيما
بلغنى، يتلمس حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، فَوَجَدَهُ بِبَطْنِ
الْوَادِي قَدْ بُقِرَ بَطْنُهُ عَنْ كَبِدِهِ، وَمُثّلَ بِهِ، فَجُدِعَ
أَنْفُهُ وَأُذُنَاهُ.
فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ جَعْفَرِ بن الزبير: أن رسول الله صلى الله
عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ حِينَ رَأَى مَا رَأَى: لَوْلَا أَنْ تَحْزَنَ
صَفِيّةُ، وَيَكُونُ سُنّةً مِنْ بَعْدِي لَتَرَكْته، حَتّى يَكُونَ فِي
بِطُونِ السّبَاعِ، وَحَوَاصِلِ الطّيْرِ، وَلَئِنْ أَظْهَرنِي اللهُ عَلَى
قُرَيْشٍ فى موطن من المواطن لأمثلنّ بثلاثين رجلا منهم. فلما رأى المسلمون
حُزْنَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَغَيْظَهُ عَلَى مَنْ
فَعَلَ بِعَمّهِ مَا فَعَلَ، قَالُوا: وَاَللهِ لَئِنْ أَظْفَرَنَا اللهُ
بِهِمْ يَوْمًا من الدهر لنمثّان بِهِمْ مُثْلَةً لَمْ يُمَثّلْهَا أَحَدٌ
مِنْ الْعَرَبِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَلَمّا وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى حَمْزَةَ قَالَ:
لَنْ أُصَابَ بِمِثْلِك أَبَدًا! مَا وَقَفْتُ مَوْقِفًا قَطّ أَغْيَظَ
إلَيّ مِنْ هَذَا! ثُمّ قَالَ:
جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنّ حَمْزَةَ بْنَ عَبْدِ المطلب مكتوب
فى أهل السماوات السبع: حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، أَسَدُ اللهِ،
وَأَسَدُ رَسُولِه.
وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَحَمْزَةُ وَأَبُو
سَلَمَةَ بْنَ عَبْدِ الْأَسَدِ، إخْوَةٌ مِنْ الرّضَاعَةِ، أَرْضَعَتْهُمْ
مَوْلَاةٌ لِأَبِي لَهَبٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/20)
[مَا نَزَلَ فِي النّهْيِ عَنْ
الْمُثْلَةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بُرَيْدَةُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ
فَرْوَةَ الْأَسْلَمِيّ، عَنْ مُحَمّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيّ،
وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: أَنّ اللهَ عَزّ
وَجَلّ أَنْزَلَ فِي ذَلِكَ، مِنْ قَوْلِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَقَوْلِ أَصْحَابِهِ: وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا
بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ، وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ
لِلصَّابِرِينَ. وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ، وَلا تَحْزَنْ
عَلَيْهِمْ، وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ، فَعَفَا رَسُولُ
اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَصَبَرَ وَنَهَى عَنْ الْمُثْلَةِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي حُمَيْد الطّوِيلُ، عَنْ الْحَسَنِ،
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ، قَالَ: مَا قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَقَامٍ قَطّ فَفَارَقَهُ، حَتّى
يَأْمُرَنَا بِالصّدَقَةِ، وَيَنْهَانَا عَنْ المثلة.
[صلاة الرسول على حمزة والقتلى]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ،
مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: أَمَرَ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِحَمْزَةِ فَسُجّيَ
بِبُرْدَةِ ثُمّ صَلّى عَلَيْهِ، فَكَبّرَ سَبْعَ تَكْبِيرَاتٍ، ثُمّ
أُتِيَ بِالْقَتْلَى فَيُوضَعُونَ إلَى حَمْزَةَ، فَصَلّى عَلَيْهِمْ
وعليهم مَعَهُمْ، حَتّى صَلّى عَلَيْهِ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ صَلَاةً.
[صَفِيّةُ وَحُزْنُهَا عَلَى حَمْزَةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ أَقْبَلَتْ فِيمَا بَلَغَنِي، صَفِيّةُ
بِنْتُ عَبْدِ المطلّب لتنظر
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/21)
إلَيْهِ وَكَانَ أَخَاهَا لِأَبِيهَا
وَأُمّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِابْنِهَا الزّبَيْرِ بْنِ الْعَوّامِ: الْقَهَا فَأَرْجِعْهَا، لَا تَرَى
مَا بِأَخِيهَا، فَقَالَ لَهَا: يَا أُمّهُ، إنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَأْمُرُك أَنْ تَرْجِعِي، قَالَتْ: وَلِمَ؟ وَقَدْ
بَلَغَنِي أَنْ قَدْ مُثّلَ بِأَخِي، وَذَلِك فِي اللهِ، فَمَا أَرْضَانَا
بِمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ! لَأَحْتَسِبَن وَلَأَصْبِرَن إنْ شَاءَ اللهُ.
فَلَمّا جَاءَ الزّبَيْرُ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ، قَالَ: خَلّ سَبِيلَهَا، فَأَتَتْهُ،
فَنَظَرَتْ إلَيْهِ، فَصَلّتْ عَلَيْهِ، وَاسْتَرْجَعَتْ، وَاسْتَغْفَرَتْ
لَهُ، ثُمّ أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
فَدُفِنَ.
[دَفْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ مَعَ حَمْزَةَ]
قَالَ: فَزَعَمَ لِي آلُ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ- وَكَانَ لِأُمَيْمَةِ
بِنْتِ عَبْدِ الْمُطّلِبِ، حَمْزَةُ خَالُهُ، وَقَدْ كَانَ مُثّلَ بِهِ
كَمَا مُثّلَ بِحَمْزَةِ، إلّا أَنّهُ لَمْ يُبْقَرْ عَنْ كَبِدِهِ- أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم دَفَنَهُ مَعَ حَمْزَةَ فِي قَبْرِهِ، وَلَمْ
أَسْمَعْ ذلك إلا عن أهله.
[دفن الشهداء]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ قَدْ احْتَمَلَ نَاسٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
قَتْلَاهُمْ إلَى الْمَدِينَةِ، فَدَفَنُوهُمْ بِهَا، ثُمّ نَهَى رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ:
ادْفِنُوهُمْ حَيْثُ صُرِعُوا.
قال ابن إسحاق: وحدثني محمد بن مسلم الزّهرىّ، عن عبد الله بن ثعلبة
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/22)
ابن صُعَيْرٍ الْعُذْرِيّ، حَلِيفِ بَنِي
زُهْرَةَ: أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا
أَشْرَفَ عَلَى الْقَتْلَى يَوْمَ أُحُدٍ، قَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى
هَؤُلَاءِ، إنّهُ مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللهِ، إلّا وَاَللهُ
يَبْعَثُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى جُرْحُهُ، اللّوْنُ لَوْنُ دَمٍ
وَالرّيحُ رِيحُ مسك، وانظروا أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ جَمْعًا لِلْقُرْآنِ،
فَاجْعَلُوهُ أَمَامَ أَصْحَابِهِ فِي الْقَبْرِ- وَكَانُوا يَدْفِنُونَ
الِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَةَ فِي الْقَبْرِ الْوَاحِدِ.
قَالَ: وَحَدّثَنِي عَمّي مُوسَى بْنُ يَسَارٍ، أَنّهُ سَمِعَ أَبَا
هُرَيْرَةَ يَقُولُ: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ: مَا مِنْ جَرِيحٍ يُجْرَحُ فِي اللهِ إلّا وَاَللهُ يَبْعَثُهُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يَدْمَى، اللّوْنُ لَوْنُ دَمٍ، وَالرّيحُ
رِيحُ مِسْكٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي أَبِي إسْحَاقُ بْنُ يَسَارٍ، عَنْ
أَشْيَاخٍ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ: أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، قَالَ يَوْمَئِذٍ، حِينَ أَمَرَ بِدَفْنِ الْقَتْلَى: اُنْظُرُوا
إلَى عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ، وَعَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ،
فَإِنّهُمَا كانا متضافيين فِي الدّنْيَا، فَاجْعَلُوهُمَا فِي قَبْرٍ
وَاحِدٍ.
[حُزْنُ حَمْنَةَ عَلَى حَمْزَةَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ رَاجِعًا إلَى الْمَدِينَةِ، فَلَقِيَتْهُ حَمْنَةُ بِنْتُ
جَحْشٍ، كَمَا ذُكِرَ لِي، فَلَمّا لَقِيَتْ النّاسَ نُعِيَ إلَيْهَا
أَخُوهَا عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ، فَاسْتَرْجَعَتْ وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ،
ثُمّ نُعِيَ لَهَا خَالُهَا حمزة ابن عَبْدِ الْمُطّلِبِ فَاسْتَرْجَعَتْ
وَاسْتَغْفَرَتْ لَهُ، ثُمّ نُعِيَ لَهَا زَوْجُهَا مُصْعَبُ بْنُ
عُمَيْرٍ، فَصَاحَتْ وَوَلْوَلَتْ! فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إن زوج المرأة منها
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/23)
لمكان! لِمَا رَأَى مِنْ تَثَبّتِهَا
عِنْدَ أَخِيهَا وَخَالِهَا، وَصِيَاحِهَا عَلَى زَوْجِهَا
[بُكَاءُ نِسَاءِ الْأَنْصَارِ عَلَى حمزة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَمَرّ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِدَارِ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ وَظَفَرٍ،
فَسَمِعَ الْبُكَاءَ وَالنّوَائِحَ عَلَى قَتْلَاهُمْ، فَذَرَفَتْ عَيْنَا
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَكَى، ثُمّ قَالَ:
لَكِنّ حَمْزَةَ لَا بَوَاكِيَ لَهُ! فَلَمّا رَجَعَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ
وَأُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ إلَى دَارِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أَمَرَا
نِسَاءَهُمْ أَنْ يتحزّ من، ثُمّ يَذْهَبْنَ فَيَبْكِينَ عَلَى عَمّ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن إسحاق: حَدّثَنِي حَكِيمُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ عَبّادِ بْنِ
حُنَيْفٍ، عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، قَالَ: لَمّا
سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بُكَاءَهُنّ عَلَى
حَمْزَةَ خَرَجَ عَلَيْهِنّ وَهُنّ عَلَى بَابِ مَسْجِدِهِ يَبْكِينَ
عَلَيْهِ، فَقَالَ: ارْجِعْنَ يَرْحَمْكُنّ اللهُ، فَقَدْ آسَيْتُنّ
بِأَنْفُسِكُنّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَنُهِيَ يَوْمَئِذٍ عَنْ النّوْحِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنّ رَسُولَ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمّا سَمِعَ بُكَاءَهُنّ، قَالَ: رَحِمَ
اللهُ الْأَنْصَارَ! فَإِنّ الْمُوَاسَاةَ مِنْهُمْ مَا عَتّمَتْ
لَقَدِيمَةٌ، مُرُوهُنّ فَلْيَنْصَرِفْنَ.
[شَأْنُ الْمَرْأَةِ الدّينَارِيّةِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي عَبْدُ الْوَاحِدِ بْنُ أَبِي عَوْنٍ،
عَنْ إسْمَاعِيلَ بن،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/24)
مُحَمّدٍ، عَنْ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقّاصٍ،
قَالَ: مَرّ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِامْرَأَةِ مِنْ
بَنِي دِينَارٍ، وَقَدْ أُصِيبَ زَوْجُهَا وَأَخُوهَا وَأَبُوهَا مَعَ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأُحُدٍ، فَلَمّا نُعُوا
لَهَا، قَالَتْ: فَمَا فَعَلَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ؟
قَالُوا: خَيْرًا يَا أُمّ فُلَانٍ، هُوَ بِحَمْدِ اللهِ كَمَا تُحِبّينَ،
قَالَتْ: أَرُونِيهِ حَتّى أَنْظُرَ إلَيْهِ، قَالَ: فَأُشِيرَ لَهَا
إلَيْهِ، حَتّى إذَا رَأَتْهُ قَالَتْ: كُلّ مُصِيبَةٍ بَعْدَك جَلَلٌ!
تُرِيدُ صَغِيرَةً.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: الْجَلَلُ: يَكُونُ مِنْ الْقَلِيلِ، وَمِنْ
الْكَثِيرِ، وَهُوَ هَاهُنَا مِنْ الْقَلِيلِ. قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ فِي
الْجَلَلِ الْقَلِيلِ:
لَقَتْلُ بَنِي أَسَدٍ رَبّهُمْ ... أَلَا كُلّ شَيْءٍ سِوَاهُ جَلَلُ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَمّا قَوْلُ الشّاعِرِ، وَهُوَ الْحَارِثُ بْنُ
وَعْلَةَ الْجَرْمِيّ:
وَلَئِنْ عَفَوْتُ لَأَعْفُوَن جَلَلًا ... وَلَئِنْ سَطَوْت لَأُوْهِنَنْ
عَظْمِي
(فهو من الكثير) .
[غَسْلُ السّيُوفِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا انْتَهَى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
أَهْلِهِ نَاوَلَ سَيْفَهُ ابْنَتَهُ فَاطِمَةَ، فَقَالَ: اغْسِلِي عن هذا
دمه يا بنيّة، فو الله لَقَدْ صَدَقَنِي الْيَوْمَ؛ وَنَاوَلَهَا عَلِيّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ سَيْفَهُ، فَقَالَ: وَهَذَا أَيْضًا، فَاغْسِلِي عَنْهُ
دَمَهُ، فَوَاَللهِ لَقَدْ صَدَقَنِي الْيَوْمَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَئِنْ كُنْت صَدَقْتَ الْقِتَالَ
لَقَدْ صَدَقَ مَعَك سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ وَأَبُو دُجَانَةَ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/25)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَكَانَ يُقَالُ
لِسَيْفِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ:
ذُو الْفَقَارِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ، أَنّ ابْنَ
أَبِي نَجِيحٍ قَالَ: نَادَى مُنَادٍ يوم أحد:
لَا سَيْفَ إلّا ذُو الْفَقَارِ ... وَلَا فَتَى إلّا عَلِيّ
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنّ رَسُولَ
اللهِ- صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- قَالَ لِعَلِيّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ: لَا يُصِيبُ الْمُشْرِكُونَ مِنّا مِثْلَهَا حَتّى يَفْتَحَ اللهُ
عَلَيْنَا.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ السّبْتِ لِلنّصْفِ
مِنْ شَوّالٍ.
[خُرُوجُ الرسول فى أثر العدو ليرهبه]
قَالَ: فَلَمّا كَانَ الْغَدُ (مِنْ) يَوْمِ الْأَحَدِ لِسِتّ عَشْرَةَ
لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَوّالٍ، أَذّنَ مُؤَذّنُ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي النّاسِ بِطَلَبِ الْعَدُوّ، فَأَذّنَ مُؤَذّنُهُ
أَنْ لَا يَخْرُجَنّ مَعَنَا أَحَدٌ إلّا أَحَدٌ حَضَرَ يومنا بالأمس.
فكلّمه جابر ابن عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ حَرَامٍ، فَقَالَ: يَا
رَسُولَ اللهِ، إنّ أَبِي كَانَ خَلّفَنِي عَلَى أَخَوَاتٍ لِي سَبْعٍ،
وَقَالَ: يَا بُنَيّ، إنّهُ لَا يَنْبَغِي لِي وَلَا لَك أَنْ نَتْرُكَ
هَؤُلَاءِ النّسْوَةَ لَا رَجُلَ فِيهِنّ، وَلَسْت بِاَلّذِي أُوثِرُكَ
بِالْجِهَادِ مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى
نَفْسِي، فَتَخَلّفْ عَلَى أخوانك، فَتَخَلّفْتُ عَلَيْهِنّ، فَأَذِنَ لَهُ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَخَرَجَ مَعَهُ. وَإِنّمَا
خَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/26)
مُرْهِبًا لِلْعَدُوّ، وَلِيُبَلّغَهُمْ
أَنّهُ خَرَجَ فِي طَلَبِهِمْ، لِيَظُنّوا بِهِ قُوّةً، وَأَنّ الّذِي
أَصَابَهُمْ لَمْ يُوهِنْهُمْ عَنْ عَدُوّهِمْ.
[مَثَلٌ مِنْ اسْتِمَاتَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي نُصْرَةِ الرّسُولِ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ خَارِجَةَ بْنِ
زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ أَبِي السّائِبِ مَوْلَى عَائِشَةَ بِنْتِ
عُثْمَانَ: أَنّ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، مِنْ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ، كَانَ شَهِدَ أُحُدًا
مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: شَهِدْتُ
أُحُدًا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَا
وَأَخٌ لِي، فَرَجَعْنَا جَرِيحَيْنِ، فَلَمّا أَذّنَ مُؤَذّنُ رَسُولِ
اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِالْخُرُوجِ فِي طَلَبِ الْعَدُوّ،
قُلْت لِأَخِي أَوْ قَالَ لِي: أَتَفُوتُنَا غَزْوَةٌ مَعَ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ وَاَللهِ مَا لَنَا مِنْ دَابّةٍ
نَرْكَبُهَا وَمَا مِنّا إلّا جَرِيحٌ ثَقِيلٌ، فَخَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكُنْت أَيْسَرَ جُرْحًا،
فَكَانَ إذَا غُلِبَ حَمَلْته عُقْبَةً، وَمَشَى عُقْبَةً، حَتّى
انْتَهَيْنَا إلَى مَا انْتَهَى إلَيْهِ الْمُسْلِمُون.
[اسْتِعْمَالُ ابْنِ أُمّ مَكْتُومٍ عَلَى الْمَدِينَةِ]
قال ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
حَتّى انْتَهَى إلَى حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، وهى من الْمَدِينَةِ عَلَى
ثَمَانِيَةِ أَمْيَالٍ، وَاسْتَعْمَلَ عَلَى الْمَدِينَةِ ابْنَ أُمّ
مَكْتُومٍ، فِيمَا قَالَ ابْنُ هِشَامٍ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَأَقَامَ بِهَا الِاثْنَيْنِ وَالثّلَاثَاءَ
وَالْأَرْبِعَاءَ، ثُمّ رَجَعَ إلَى الْمَدِينَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/27)
[شَأْنُ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ]
قَالَ: وَقَدْ مَرّ بِهِ كَمَا حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ،
مبعد بْنُ أَبِي مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ، وَكَانَتْ خُزَاعَةُ، مُسْلِمُهُمْ
وَمُشْرِكُهُمْ عَيْبَةَ نُصْحٍ لِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، بِتِهَامَةَ، صَفْقَتُهُمْ مَعَهُ، لَا يُخْفُونَ عَنْهُ شَيْئًا
كَانَ بِهَا، وَمَعْبَدٌ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، فَقَالَ: يَا مُحَمّدُ،
أَمَا وَاَللهِ لَقَدْ عَزّ عَلَيْنَا مَا أَصَابَك، وَلَوَدِدْنَا أَنّ
اللهَ عَافَاك فِيهِمْ، ثُمّ خَرَجَ وَرَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، حَتّى لَقِيَ أَبَا سفيان بن حرب وَمَنْ
مَعَهُ بِالرّوْحَاءِ، وَقَدْ أَجْمَعُوا الرّجْعَةَ إلَى رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، وَقَالُوا: أَصَبْنَا حَدّ
أَصْحَابِهِ وَأَشْرَافَهُمْ وَقَادَتَهُمْ، ثُمّ نَرْجِعُ قَبْلَ أَنْ
نَسْتَأْصِلَهُمْ! لَنَكُرَنّ عَلَى بَقِيّتِهِمْ، فلنفرغنّ منهم.
فلما رأى أبو سفيان مَعْبَدًا، قَالَ: مَا وَرَاءَك يَا مَعْبَدُ؟ قَالَ:
مُحَمّدٌ قَدْ خَرَجَ فِي أَصْحَابِهِ يَطْلُبُكُمْ فِي جمع لم أر مثله
قطّ، يتحرّفون عليكم تحرّفا، قَدْ اجْتَمَعَ مَعَهُ مَنْ كَانَ تَخَلّفَ
عَنْهُ فِي يَوْمِكُمْ، وَنَدِمُوا عَلَى مَا صَنَعُوا، فِيهِمْ مِنْ
الْحَنَقِ عَلَيْكُمْ شَيْءٌ لَمْ أَرَ مِثْلَهُ قَطّ، قَالَ: وَيْحك! مَا
تَقُولُ؟ قَالَ: وَاَللهِ مَا أَرَى أَنْ تَرْتَحِلَ حَتّى أَرَى نَوَاصِيَ
الْخَيْلِ، قَالَ: فَوَاَللهِ لَقَدْ أَجْمَعْنَا الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ،
لِنَسْتَأْصِلَ بَقِيّتَهُمْ: قَالَ: فَإِنّي أَنْهَاك عَنْ ذَلِكَ، قَالَ:
وَاَللهِ لَقَدْ حَمَلَنِي مَا رَأَيْتُ عَلَى أَنْ قُلْتُ فِيهِمْ
أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ، قَالَ: وما قلت؟ قال: قلت:
كادت تهدّمن الْأَصْوَاتِ رَاحِلَتِي ... إذْ سَالَتْ الْأَرْضُ
بِالْجُرْدِ الْأَبَابِيلِ
تَرْدِى بِأُسْدٍ كَرَامٍ لَا تَنَابِلَةٍ ... عِنْدَ اللّقَاءِ وَلَا
مِيلٍ مَعَازِيلِ
فَظَلْتُ عَدْوًا أَظُنّ الْأَرْضَ مَائِلَةً ... لَمّا سَمَوْا بِرَئِيسٍ
غَيْرِ مَخْذُولِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/28)
فَقُلْت: وَيْلَ ابْنِ حَرْبٍ مِنْ
لِقَائِكُمْ ... إذَا تغطمطت البطحاء بالخيل
إنّي نَذِيرٌ لِأَهْلِ الْبَسْلِ ضَاحِيَةً ... لِكُلّ ذِي إربة منهم
ومعقول
من جيش أحمد لاوخش تَنَابِلَةٍ ... وَلَيْسَ يُوصَفُ مَا أَنْذَرْتُ
بِالْقِيلِ
فَثَنَى ذَلِكَ أَبَا سُفْيَانَ وَمَنْ مَعَهُ.
[رِسَالَةُ أَبِي سُفْيَانَ إلَى الرّسُولِ عَلَى لِسَانِ رَكْبٍ]
وَمَرّ بِهِ رَكْبٌ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُونَ؟
قَالُوا: نُرِيدُ الْمَدِينَةَ؟
قَالَ: وَلِمَ؟ قَالُوا: نُرِيدُ الْمِيرَةَ؛ قَالَ: فَهَلْ أَنْتُمْ
مُبَلّغُونَ عَنّي مُحَمّدًا رِسَالَةً أُرْسِلُكُمْ بِهَا إلَيْهِ،
وَأُحَمّلُ لَكُمْ هَذِهِ غَدًا زَبِيبًا بِعُكَاظٍ إذَا وَافَيْتُمُوهَا؟
قَالُوا نَعَمْ؛ قَالَ: فَإِذَا وَافَيْتُمُوهُ فَأَخْبِرُوهُ أَنّا قَدْ
أَجْمَعْنَا السّيْرَ إلَيْهِ وَإِلَى أَصْحَابِهِ لِنَسْتَأْصِلَ
بَقِيّتَهُمْ، فَمَرّ الرّكْبُ بِرَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ، فَأَخْبَرُوهُ بِاَلّذِي قَالَ
أَبُو سُفْيَانَ؛ فَقَالَ: حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ.
[كَفّ صَفْوَانَ لِأَبِي سُفْيَانَ عَنْ مُعَاوَدَةِ الْكَرّةِ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنّ أبا سفيان بن حرب
لَمّا انْصَرَفَ يَوْمَ أُحُدٍ، أَرَادَ الرّجُوعَ إلَى الْمَدِينَةِ،
لِيَسْتَأْصِلَ بَقِيّةَ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، فَقَالَ لَهُمْ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيّةَ بْنِ خَلَفٍ: لَا
تَفْعَلُوا، فَإِنّ الْقَوْمَ قَدْ حَرِبُوا، وَقَدْ خَشِينَا أَنْ يَكُونَ
لَهُمْ قِتَالٌ غَيْرُ الّذِي كَانَ، فَارْجِعُوا، فَرَجَعُوا. فَقَالَ
النّبِيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَهُوَ بِحَمْرَاءِ الْأَسَدِ،
حِينَ بَلَغَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/29)
أَنّهُمْ هَمّوا بِالرّجْعَةِ: وَاَلّذِي
نَفْسِي بِيَدِهِ، لَقَدْ سُوّمَتْ لَهُمْ حِجَارَةٌ، لَوْ صُبّحُوا بِهَا
لَكَانُوا كَأَمْسِ الذّاهِبِ.
[مَقْتَلُ أَبِي عَزّةَ وَمُعَاوِيَةَ بْنِ المغيرة]
قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: وَأَخَذَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ فِي جِهَةِ ذَلِكَ، قَبْلَ رُجُوعِهِ إلى المدينة، معاوية بن
المغيرة بْنِ الْعَاصِ بْنِ أُمَيّةَ بْنِ عَبْدِ شَمْسٍ، وَهُوَ جَدّ
عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، أَبُو أُمّهِ عَائِشَةَ بِنْتِ
مُعَاوِيَةَ، وَأَبَا عَزّة الْجُمَحِيّ، وكان رسول الله صلى الله عليه
وسلم أَسَرَهُ بِبَدْرِ، ثُمّ مَنّ عَلَيْهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
أَقِلْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
وَاَللهِ لَا تَمْسَحْ عَارِضَيْك بِمَكّةَ بَعْدَهَا وَتَقُول: خَدَعْت
مُحَمّدًا مَرّتَيْنِ، اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا زُبَيْرُ. فَضَرَبَ عُنُقَهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيّبِ أَنّهُ
قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ: إنّ
الْمُؤْمِنَ لَا يُلْدَغُ مِنْ جُحْرٍ مَرّتَيْنِ، اضْرِبْ عُنُقَهُ يَا
عَاصِمُ بْنُ ثَابِتٍ، فضرب عنقه.
[مَقْتَلُ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ويقال: إنّ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ وَعَمّارَ بْنَ
يَاسِرٍ قتلا معاوية ابن المغيرة بَعْدَ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ، كَانَ لَجَأَ
إلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفّانَ فَاسْتَأْمَنَ لَهُ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ فَأَمّنَهُ، عَلَى أَنّهُ إنْ وُجِدَ بَعْدَ ثَلَاثٍ
قُتِلَ، فَأَقَامَ بَعْدَ ثَلَاثٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/30)
وَتَوَارَى، فَبَعَثَهُمَا النّبِيّ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَقَالَ: إنّكُمَا سَتَجِدَانِهِ بِمَوْضِعِ
كَذَا وَكَذَا، فَوَجَدَاهُ فقاتلاه.
[شَأْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ بَعْدَ ذَلِكَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ عَبْدُ الله بن أبىّ بن سَلُولَ،
كَمَا حَدّثَنِي ابْنُ شِهَابٍ الزّهْرِيّ، لَهُ مَقَامٌ يَقُومُهُ كُلّ
جُمُعَةٍ لَا يُنْكَرُ، شَرَفًا لَهُ فِي نَفْسِهِ وَفِي قَوْمِهِ، وَكَانَ
فِيهِمْ شَرِيفًا، إذَا جَلَسَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَهُوَ يَخْطُبُ النّاسَ، قَامَ فَقَالَ:
أَيّهَا النّاسُ، هَذَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ، أَكْرَمَكُمْ اللهُ وَأَعَزّكُمْ بِهِ، فَانْصُرُوهُ
وَعَزّرُوهُ، وَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا ثُمّ يَجْلِسُ، حَتّى إذَا
صَنَعَ يَوْمَ أُحُدٍ مَا صَنَعَ، وَرَجَعَ بِالنّاسِ، قَامَ يَفْعَلُ
ذَلِكَ كَمَا كَانَ يَفْعَلُهُ، فَأَخَذَ الْمُسْلِمُونَ بِثِيَابِهِ مِنْ
نَوَاحِيهِ، وَقَالُوا: اجْلِسْ، أَيْ عَدُوّ اللهِ، لَسْت لِذَلِكَ
بِأَهْلِ، وَقَدْ صَنَعْتَ مَا صَنَعْتَ، فَخَرَجَ يَتَخَطّى رِقَابَ
النّاسِ وَهُوَ يَقُولُ: وَاَللهِ لَكَأَنّمَا قُلْت بَجْرًا أَنْ قُمْت
أُشَدّدُ أَمْرَهُ. فَلَقِيَهُ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِبَابِ
الْمَسْجِدِ، فَقَالَ مالك؟ وَيْلَك! قَالَ: قُمْتُ أُشَدّدُ أَمْرَهُ،
فَوَثَبَ عَلَيّ رِجَالٌ مِنْ أَصْحَابِهِ يَجْذِبُونَنِي
وَيُعَنّفُونَنِي، لَكَأَنّمَا قُلْت بَجْرًا أَنْ قُمْت أُشَدّدُ
أَمْرَهُ، قَالَ وَيْلَك! ارْجِعْ يَسْتَغْفِرْ لَك رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قَالَ: وَاَللهِ مَا أَبْتَغِي أَنْ يَسْتَغْفِرَ
لِي.
[كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ مِحْنَةٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ يَوْمَ بَلَاءٍ وَمُصِيبَةٍ
وَتَمْحِيصٍ، اخْتَبَرَ اللهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، وَمَحَنَ بِهِ
الْمُنَافِقِينَ مِمّنْ كَانَ يُظْهِرُ الْإِيمَانَ بِلِسَانِهِ، وَهُوَ
مُسْتَخْفٍ بِالْكُفْرِ فِي قَلْبِهِ، وَيَوْمًا أَكْرَمَ اللهُ فِيهِ مَنْ
أَرَادَ كَرَامَتَهُ بِالشّهَادَةِ مِنْ أَهْلِ ولايته
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/31)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَتْلُ الرّسُولِ لِأُبَيّ بْنِ خَلَفٍ فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَتْلَ رَسُولِ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُبَيّ، وَفِيهِ: تَطَايَرْنَا
عَنْهُ تَطَايُر الشّعْرَاءِ عَنْ ظَهْرِ الْبَعِيرِ. الشّعْرَاءُ: ذُبَابٌ
صَغِيرٌ لَهُ لَدْغٌ، تَقُولُ الْعَرَبُ فِي أَمْثَالِهَا: قِيلَ
لِلذّئْبِ: مَا تَقُولُ فِي غَنِيمَةٍ تَحْرُسُهَا جُوَيْرِيَةُ؟ قَالَ:
شُحَيْمَةُ فِي حَلْقِي، قِيلَ: فَمَا تَقُولُ فِي غَنِيمَةٍ يحرسها
غُلَيْمٌ؟ قَالَ: شَعْرَاءُ فِي إبْطِي أَخْشَى خُطُوَاتِهِ الْخُطُوَاتُ:
سِهَامٌ مِنْ قُضْبَانٍ لَيّنَةٍ يَتَعَلّمُ بِهَا الْغِلْمَانُ الرّمْيَ
وَهِيَ الْجُمّاحُ أَيْضًا قَالَ الشّاعِرُ:
أَصَابَتْ حَبّةَ الْقَلْبِ ... بِسَهْمِ غَيْرَ جُمّاحِ «1»
مِنْ كِتَابِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَرَوَاهُ الْقُتَبِيّ: تَطَايُرَ الشّعَرِ،
وَقَالَ: هِيَ جَمْعُ شَعْرَاءَ، وَهِيَ ذُبَابٌ أَصْغَرُ مِنْ الْقَمَعِ
«2» ، وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ فَزَجَلَهُ
بِالْحَرْبَةِ، أَيْ رَمَاهُ بِهَا.
حَوْلَ عَيْنِ قَتَادَةَ:
وَذَكَرَ قَتَادَةَ بْنُ النّعْمَانِ بْنِ زَيْدٍ، وَهُوَ أَخُو أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ لِأُمّهِ، وَهُوَ الرّجُلُ الّذِي سَمِعَهُ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ الله أحد،
__________
(1) رواية الشطرة الثانية فى اللسان: فلم تخطىء بجماح. ويقال له: جباح
أيضا.
(2) القمع مفردة قمعة بفتح القاف والميم ذباب يركب الإبل والظباء إذا اشتد
الحر ويجمع على مقامع أيضا كمشابه وملامح. وفى رواية: تطاير الشعارير، وهى
بمعنى الشعر وقياس واحدها: شعرور.
(6/32)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يُرَدّدُهَا، فَقَالَ وَجَبَتْ، وَحَدِيثُهُ فِي الْمُوَطّأِ، وَذَكَرَ
أَنّ عَيْنَهُ أُصِيبَتْ يَوْمَ أُحُدٍ. رَوَى عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ
اللهِ، قَالَ: أُصِيبَتْ عَيْنُ رَجُلٍ مِنّا يَوْمَ أُحُدٍ، وَهُوَ
قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، حَتّى وَقَعَتْ عَلَى وَجْنَتِهِ، فَأَتَيْنَا
بِهِ رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إنّ لِي امْرَأَةً أُحِبّهَا،
وَأَخْشَى إنْ رَأَتْنِي أَنْ تَقْذَرَنِي، فَأَخَذَهَا رَسُولُ اللهِ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِيَدِهِ، وَرَدّهَا إلَى مَوْضِعِهَا،
وَقَالَ: اللهُمّ اكْسِبْهُ جَمَالًا، فَكَانَتْ أَحَسَنَ عَيْنَيْهِ،
وَأَحَدّهُمَا نَظَرًا، وَكَانَتْ لَا تَرْمَدُ إذَا رَمِدَتْ الْأُخْرَى،
وَقَدْ وَفَدَ عَلَى عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ- رَحِمَهُ اللهُ-
رَجُلٌ مِنْ ذُرّيّتِهِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ مَنْ أَنْتَ؟ فَقَالَ:
أَنَا ابْنُ الّذِي سَالَتْ عَلَى الْخَدّ عَيْنُهُ ... فَرُدّتْ بِكَفّ
الْمُصْطَفَى أَيّمَا رَدّ
فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ لِأَوّلِ أَمْرِهَا ... فَيَا حُسْنَ مَا عَيْنٍ
وَيَا حُسْنَ مَا خَدّ
فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ «1» مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءِ
فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
فَوَصَلَهُ عُمَرُ، وَأَحْسَنَ جَائِزَتَهُ، وَقَدْ رُوِيَ أَنّ عَيْنَيْهِ
جَمِيعًا سَقَطَتَا، فَرَدّهُمَا النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- رَوَاهُ مُحَمّدُ بْنُ أَبِي عُثْمَانَ [أَبُو مَرْوَانَ
الْأُمَوِيّ] عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ
بْنِ أَبِي صَعْصَعَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ عَنْ أَخِيهِ
قَتَادَةَ بْنِ النّعْمَانِ قَالَ: أُصِيبَتْ عَيْنَايَ يَوْمَ أُحُدٍ،
فَسَقَطَتَا عَلَى وَجْنَتِي، فَأَتَيْت بِهِمَا النّبِيّ- صَلَّى الله
عليه وسلم- فأعادهما النبىّ-
__________
(1) القعب: قدح ضخم جاف.
(6/33)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَكَانَهُمَا، وَبَصَقَ فِيهِمَا،
فمادتا تَبْرُقَانِ. قَالَ. الدّارَقُطْنِيّ:
هَذَا الْحَدِيثُ غَرِيبٌ عَنْ مالك، تفرد به عمّار بن نصر، وَهُوَ ثِقَةٌ
«1» وَرَوَاهُ الدّارَقُطْنِيّ عَنْ إبْرَاهِيمَ الْحَرْبِيّ عَنْ عَمّارِ
«2» بْنِ نَصْرٍ [السّعْدِيّ أَبُو يَاسِرٍ الْمَرْوَزِيّ] .
حَوْلَ نَسَبِ حُذَيْفَةَ الْيَمَانِيّ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ثَابِتُ بْنُ وَقْشٍ، وَالْوَقْشُ: الْحَرَكَةُ،
وَحُسَيْلُ بْنُ جَابِرٍ وَالِدُ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ، وَسُمّيَ
حُسَيْلَ بْنَ جَابِرٍ الْيَمَانِيّ، لِأَنّهُ مِنْ وَلَدِ جِرْوَةِ ابن
مَازِنِ بْنِ قُطَيْعَةَ بْنِ عَبْسِ [بْنِ بَغِيضٍ] وَكَانَ جِرْوَةُ قَدْ
بَعُدَ عَنْ أَهْلِهِ فِي اليمن زمنا طويلا، ثم ارجع إلَيْهِمْ فَسَمّوْهُ
الْيَمَانِيّ، وَحُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ يُكَنّى أَبَا عَبْدِ اللهِ
حَلِيفُ بَنِي عَبْدِ الْأَشْهَلِ أُمّهُ الرّبَابُ بِنْتُ كَعْبٍ. قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ:
فَاخْتَلَفَتْ عَلَيْهِ: يَعْنِي الْيَمَانِيّ أَسْيَافُ الْمُسْلِمِينَ.
وَفِي تَفْسِيرِ ابْنِ عَبّاسٍ: إنّ الّذِي قَتَلَهُ مِنْهُمْ خَطَأً هُوَ
عُتْبَةُ بْنُ مَسْعُودٍ أَخُو عَبْدِ الله بن مسعود، وجدّ
__________
(1) لكن قال النووى: قال أبو نعيم: سالت عيناه، وغلطوه.
(2) بهذا حصل لمحمد بن أبى عثمان متابع. فى روايته عن عمار بن نصر، لكن لم
يحصل متابع لعمار فى روايته عن مالك. انظر تفصيل هذا فى المواهب ص 186 وما
بعدها. والله يختص برحمته من يشاء ولا أحد يبرىء أحدا. وتدبر قوله سبحانه
فيما يقص عن خليله إبراهيم (وإذا مرضت فهو يشفين) وتدبر كل آيات القرآن
التى ذكر الله فيها آياته التى من بها على عيسى تجد فيها النص المؤكد على
أنها بإذن الله وحده.
(6/34)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُبَيْدِ اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ بْنِ مَسْعُودٍ
الْفَقِيهِ، ذَكَرَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ فِي التّفْسِيرِ، وَعُتْبَةُ
هُوَ أَوّلُ مَنْ سَمّى الْمُصْحَفَ مُصْحَفًا، فِيمَا رَوَى ابْنُ وَهْبٍ
فِي الْجَامِعِ.
الْهَامَةُ وَالظّمْءُ:
وَقَوْلُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ وَحُسَيْلٍ: إنّمَا نَحْنُ هَامَةُ الْيَوْمَ
أَوْ غَد، يُرِيد:
الْمَوْتَ، وَكَانَ مِنْ مَذْهَبِ الْعَرَبِ فِي الْمَيّتِ أَنّ رُوحَهُ
تَصِيرُ هَامَةً «1» ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْآخَرُ:
وَكَيْفَ حَيَاةُ أَصْدَاءٍ وَهَامِ وَقَوْلُهُ: لَمْ يَبْقَ مِنْ
عُمُرِنَا إلّا ظِمْءُ «2» حِمَارٍ. إنّمَا قال ذلك، لأن الحمار
__________
(1) الصدى- كما يقول ابن دريد فى الاشتقاق طائر معروف، وتزعم العرب أنه إذا
قتل رجل خرج من هامته طائر يسمى: الصدى، فينادى الليل كله: اسقونى، حتى
يقتل قاتله، وهذا باطل، ويسمونه أيضا: هامة. ص 233 الاشتقاق. والصدى أصلا-
كما فى القاموس- طائر يصر بالليل يقفز قفزانا ويطفز والناس- كما يقول
العديس العبدى- يرونه الجندب، وإنما هو الصدى، فأما الجندب، فانه أصغر من
الصدى، والصدى ذكر اليوم. والهامة أصلا رأس كل شىء وجمعه هام، والهامة: طير
الليل وهو الصدى. وسمى الصدى لما تعتقده الأعراب من كونه عطشان ولا يزال
يقول اسقونى. والصدى: العطش. وقد سمى الدماغ هامة لأنه يشبه رأس الصدى،
وتسميته الطائر بالهامة يحتمل أن تكون المعنى الذى لأجله سمى صدى وهو
العطش، ويجوز أن يكون قد اشتق من الهيام، وهو داء يصيب الإبل فتشرب ولا
تروى. القاموس، وحياة الحيوان للدميرى ح 2 ص 59، 374.
(2) والظمء ما بين الشربتين والوردين وما بين سقوط الولد إلى حين موته؛
فيكون المعنى: لم يبق لنا إلا يسير.
(6/35)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَقْصَرُ الدّوَابّ ظِمْئًا، وَالْإِبِلُ أَطْوَلُهَا إظْمَاءً.
حَوْلَ بَعْضِ رِجَالِ أُحُدٍ:
وَذَكَرَ قُزْمَانَ، وَهُوَ اسْمٌ مَأْخُوذٌ مِنْ الْقَزَمِ، وَهُوَ
رُذَالُ الْمَالِ، وَيُقَالُ:
الْقُزْمَانُ «1» : الرّدِيءُ مِنْ كُلّ شَيْءٍ.
وَذَكَرَ الْأُصَيْرِمَ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ ثَابِتِ بْنِ وَقْشٍ،
وَيُقَالُ فِيهِ وَقَشٌ بِتَحْرِيكِ الْقَافِ.
وَقَوْلُ حَاطِبٍ الْمُنَافِقِ: الْجَنّةُ مِنْ حَرْمَلٍ، يُرِيدُ
الْأَرْضَ الّتِي دُفِنَ فِيهَا، وَكَانَتْ تُنْبِتُ الْحَرْمَلَ «2» أَيْ:
لَيْسَ لَهُ جَنّةٌ إلّا ذَاكَ.
ابْنُ الْجَمُوحِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ خَبَرَ عَمْرِو بْنِ الْجَمُوحِ حِينَ أَرَادَ بَنُوهُ
أَنْ يَمْنَعُوهُ مِنْ الْخُرُوجِ إلَى آخِرِ الْقِصّةِ، وَزَادَ غَيْرُ
ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُ لَمّا خَرَجَ قَالَ: اللهُمّ لَا تَرُدّنِي،
فَاسْتُشْهِدَ، فَجَعَلُوهُ بَنُوهُ عَلَى بَعِيرٍ، لِيَحْمِلُوهُ إلَى
الْمَدِينَةِ، فَاسْتَصْعَبَ عَلَيْهِمْ الْبَعِيرُ، فَكَانَ إذَا
وَجّهُوهُ إلَى كُلّ جِهَةٍ سَارَعَ إلّا جِهَةِ الْمَدِينَةِ، فَكَانَ
يَأْبَى الرّجُوعَ إلَيْهَا، فَلَمّا لَمْ يَقْدِرُوا عَلَيْهِ ذَكَرُوا
قَوْلَهُ: اللهُمّ لَا تَرُدّنِي إلَيْهَا، فَدَفَنُوهُ فِي مَصْرَعِهِ «3»
.
__________
(1) لا يوجد لا فى اللسان ولا فى القاموس سوى أنه اسم أو اسم موضع.
(2) نبت له حب أسود، وحب هذا النبات.
(3) قصة البعير خرافة، والشهيد يدفن فى مصرعه كشهداء بدر.
(6/36)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حكم (ص) وَالسّاكِنُ بَعْدَهَا:
فَصْلٌ: وَقَوْلُ هِنْدَ بِنْتِ أُثَاثَةَ:
مِلْ هَاشِمِيّيْنِ الطّوّالِ الزّهْرِ بِحَذْفِ النّونِ مِنْ حَرْفِ مِنْ
لِالْتِقَاءِ السّاكِنَيْنِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ إلّا فِي مِنْ وَحْدَهَا
لِكَثْرَةِ اسْتِعْمَالِهَا، كَمَا خُصّتْ نُونُهَا بِالْفَتْحِ إذَا
الْتَقَتْ مَعَ لَامِ التّعْرِيفِ، وَلَا يَجُوزُ ذَلِكَ فِي نُونٍ
سَاكِنَةٍ غَيْرِهَا، كَرِهُوا تُوَالِي الْكَسْرَتَيْنِ مَعَ تَوَالِي
الِاسْتِعْمَالِ، فَإِنْ الْتَقَتْ مَعَ سَاكِنٍ غَيْرِ لَامِ التّعْرِيفِ
نَحْوُ مَنْ ابْنُك، وَمَنْ اسْمُك، كَسَرْت عَلَى الْأَصْلِ، وَالْقِيَاسِ
الْمُسْتَتِبّ. قَالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَدْ فَتَحَهَا قَوْمٌ فُصَحَاءُ
يَعْنِي مَعَ غَيْرِ لَامِ التّعْرِيفِ.
لَكَاعُ وَلُكَعُ:
وَقَوْلُ حَسّانَ فِي هِنْدٍ: أَشِرَتْ لَكَاعُ، جَعَلَهُ اسْمًا لَهَا فِي
غَيْرِ النّدَاءِ، وَذَلِكَ جَائِزٌ، وَإِنْ كَانَ فِي النّدَاءِ أَكْثَرُ،
نَحْوُ يَا غَدَارِ وَيَا فَسَاقِ، وَكَذَلِكَ لُكَعٌ، قَدْ اُسْتُعْمِلَ
فِي غَيْرِ النّدَاءِ، نَحْوُ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَيْنَ لُكَعُ
يَعْنِي:
الْحَسَنَ أَوْ الْحُسَيْنَ مُمَازِحًا لَهُمَا «1» . فَإِنْ قِيلَ: إنّ
النّبِيّ- صلّى الله عليه وسلم-
__________
(1) يقال فى النداء للثيم يا لكع، وللأنثى: يا لكاع، لأنه موضع معرفة، فان
لم ترد أن تعدله عن جهته قلت للرجل: يا ألكع، وللأنثى: يا لكعاء، وقد
استعمل الحطيئة لكاع فى غير النداء، فقال يهجر امرأته
أطوف ما أطوف ثم آوى ... إلى بيت قعيدته لكاع
ويقال: إنه لأبى الغريب البصرى. كما جاء فى اللسان. -
(6/37)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَانَ يَمْزَحُ، وَلَا يَقُولُ إلّا حَقّا، فَكَيْفَ يَقُولُ: أَيْنَ
لُكَعُ وَقَدْ سَمّاهُ سَيّدًا فِي حَدِيثٍ آخَرَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنّهُ
أَرَادَ التّشْبِيهَ بِاللّكَعِ الّذِي هُوَ الْفَلُوّ أَوْ الْمُهْرُ
لِأَنّهُ طِفْلٌ كَمَا أَنّ الْفَلُوّ وَالْمُهْرُ «1» كَذَلِكَ، وَإِذَا
قَصَدَ بِالْكَلَامِ قَصْدَ التّشْبِيهِ، لَمْ يَكُنْ كَذِبًا، وَنَحْوُهُ
قَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَا تَقُومُ السّاعَةُ حَتّى يَكُونَ
أَسْعَدَ النّاسِ فِي الدّنْيَا لُكَعُ بْنُ لُكَعٍ، وَاللّكَعُ فِي
اللّغَةِ: وَسَخُ الْغُرْلَةِ، وَهُوَ أَيْضًا الْفَلُوّ الصّغِيرُ، فَمِنْ
أَجْلِ هَذَا جَازَ أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِي غَيْرِ النّدَاءِ، لِأَنّهُ
عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مَعْدُولٍ كَمَا عُدِلَ خُبَثُ عَنْ خَبِيثٍ،
وَفُسَقُ عَنْ فَاسِقٍ، وَقَالَ ابْنُ الأنبارىّ فى الزّاهر: استقاقه مِنْ
الْمَلَاكِعِ، وَهُوَ مَا يَخْرُجُ مَعَ الْمَوْلُودِ مِنْ مَاءِ الرّحِمِ
وَدَمِهَا، وَأَنْشَدَ:
رَمَتْ الْفَلَاةُ بِمَعْجَلٍ مُتَسَرْبِلٍ ... غِرْسَ السّلَى وَمَلَاكِعَ
الْأَمْشَاجِ
قَالَ: وَيُقَالُ فِي الْوَاحِدِ يَا لُكَعُ، وَفِي الِاثْنَيْنِ يَا ذَوِي
لَكِيعَةَ، وَلَكَاعَةٍ، وَلَا تُصْرَفُ لَكِيعَةَ، وَلَكِنْ تُصْرَفُ
لَكَاعَةُ لِأَنّهُ مَصْدَرٌ وَفِي الْجَمِيعِ،
__________
- ولكاع مبنية على الكسر. واللكع عند العرب: العبد، ثم استعمل فى الحمق
والذم، وقد لكع الرجل بوزن فرح يلكع لكعا فهو ألكع، وقد يطلق على الصغير،
فان أطلق على الكبير أريد به الصغير العلم والعقل. وقد ورد فى حديث سعد بن
عبادة أرأيت إذ دخل رجل بيته، فرأى لكاعا قد تفخذ امرأته ... الخ فجعل لكاع
صفة لرجل. ويقال: لعله أراد لكعا فحرف. «خزانة الأدب والنهاية لابن الأثير»
.
(1) فلو: المهر الصغير، وقيل هو الفطم من أولاد ذوات الحافر، وفى اللسان من
معانى اللكع: المهر والجحش.
(6/38)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَا ذَوِي لَكِيعَةَ وَلَكَاعَةٍ «1» وَفِي الْمُؤَنّثِ عَلَى هَذَا
الْقِيَاسِ.
قَالَ الْمُؤَلّفُ: وَلَا يُقَالُ يَا لُكَاعَانِ، وَلَا فُسَقَانِ، لِسِرّ
شَرَحْنَاهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ. وَتَلْخِيصُ مَعْنَاهُ: أَنّ
الْعَرَبَ قَصَدَتْ بهذا النّبأ فى النّدَاءِ قَصْدَ الْعَلَمِ، لِأَنّ
الِاسْمَ الْعَلَمَ أَلْزَمُ لِلْمُسَمّى مِنْ الْوَصْفِ الْمُشْتَقّ مِنْ
الْفِعْلِ نَحْوُ فَاسِقٍ وَغَادِرٍ، كَمَا قَالُوا عُمَرُ، وَعَدَلُوا
عَنْ عَامِرٍ الّذِي هُوَ وَصْفٌ فِي الْأَصْلِ تَحْقِيقًا مِنْهُمْ
لِلْعَلَمِيّةِ، ثُمّ إنّ الِاسْمَ الْعَلَمَ لَا يُثَنّى وَلَا يُجْمَعُ
وَهُوَ عَلَمٌ، فَإِذَا ثُنّيَ زَالَ عَنْهُ تَعْرِيفُ الْعَلَمِيّةِ،
فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لَمْ يُثَنّوا يَا فُسَقُ وَيَا غُدَرُ، لِأَنّ فِي
ذَلِكَ نَقْضًا لِمَا قَصْدُوهُ مِنْ تَنْزِيلِهِ مَنْزِلَةَ الِاسْمِ
الْعَلَمِ، أَيْ: إنّهُ مُسْتَحِقّ لِأَنْ يُسَمّى بِهَذَا الِاسْمِ،
فَهَذَا أَبْلَغُ مِنْ أَنْ يَقُولُوا: يَا فَاسِقُ، فَيَجِيئُوا
بِالِاسْمِ، الّذِي يَجْرِي مَجْرَى الْفِعْلِ وَالْفِعْلُ غَيْرُ لَازِمٍ،
وَالْعَلَمُ أُلْزِمَ منه، وَالتّثْنِيَةُ وَالْجَمْعُ تُبْطِلُ
الْعَلَمِيّةَ كَمَا ذَكَرْنَا فَافْهَمْهُ، وَوَقَعَ فِي الْمُوَطّإِ مِنْ
رِوَايَةِ يَحْيَى فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ أَنّهُ قَالَ
لمولاة له: اقعدى لكع، وقد عِيبَتْ هَذِهِ الرّوَايَةُ عَلَى يَحْيَى،
لِأَنّ الْمَرْأَةَ إنّمَا يُقَالُ لَهَا: لَكَاعِ، وَقَدْ وَجَدْت
الْحَدِيثَ كَمَا رَوَاهُ يَحْيَى فِي كِتَابِ الدّارَقُطْنِيّ، وَوَجْهُهُ
فِي الْعَرَبِيّةِ أَنّهُ مَنْقُولٌ غَيْرُ مَعْدُولٍ فَجَائِزٌ أَنْ
يُقَالَ لِلْأَمَةِ يَا لُكَعُ كَمَا يُقَالُ لها إذا سبت: يا زيل وَيَا
وُسَخُ إذْ اللّكَعُ ضَرْبٌ مِنْ الْوَسَخِ، كما قدمناه وهو فى كتاب العين.
__________
(1) قال الفراء: ثنية لكاع أن تقول: يا ذواتى لكيعة أقبلا، ويا ذوات لكيعة
أقبلن وقالوا فى النداء للرجل: يا لكع، وللمرأة يا لكاع، وللاثنين: يا ذوى
لكع.
(6/39)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الرّسُولُ يَسْأَلُ عَنْ ابْنِ الرّبِيعِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قول النبي صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَجُلٌ يَنْظُرُ لِي
مَا فَعَلَ سَعْدُ بْنُ الرّبِيعِ؟ فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ:
أَنَا، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. الرّجُلُ: هُوَ مُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ،
ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيّ، وَذَكَرَ أَنّهُ نَادَى فِي الْقَتْلَى: يَا سَعْدُ
بْنَ الرّبِيعِ مَرّةً بَعْدَ مَرّةٍ، فَلَمْ يُجِبْهُ أَحَدٌ، حَتّى قَالَ
يَا سَعْدُ أن رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
أَرْسَلَنِي أَنْظُرُ مَا صَنَعْت، فَأَجَابَهُ حِينَئِذٍ بِصَوْتِ
ضَعِيفٍ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ، وَهَذَا خِلَافُ مَا ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ
فِي كِتَابِ الصّحَابَةِ، فَإِنّهُ ذَكَرَ فِيهِ مِنْ طَرِيقِ رُبَيْحِ
بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ
جَدّهِ أَنّ الرّجُلَ الّذِي الْتَمَسَ سَعْدًا فِي الْقَتْلَى هُوَ أُبَيّ
بْنُ كَعْبٍ.
حَمِيدٌ الطّوِيلُ وَطَلْحَةُ الطّلَحَات:
وَذَكَرَ عَنْ حُمَيْدٍ الطّوِيلِ عَنْ الْحَسَنِ عَنْ سَمُرَةَ عَنْ
النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النّهْيِ عَنْ
الْمُثْلَةِ، وَحُمَيْدٌ الطّوِيلُ هُوَ حُمَيْدُ بْنُ تِيرَوَيْهِ،
وَيُقَالُ:
ابْنُ تِيرِي «1» يُكَنّى أَبَا حُمَيْدَةَ مَوْلَى طَلْحَةَ الطّلَحَاتِ
«2» ، وَهُوَ حديث صحيح
__________
(1) فى القاموس: تير بكسر التاء وبدون ياء وكذلك فى تهذيب الأسماء واللغات،
وقال: هو أبو عبيدة، وقيل: أبو عبيد حميد بن أبى حميد، واسم أبى حميد
تيرويه، وقيل: تير، وقيل ذاذويه، وقيل طرخان، وقيل: مهران، ويقال: عبد
الرحمن، ويقال. داود. قال الأصمعى: رأيت حميدا، لم يكن طويلا، ولكن طويل
اليدين مات سنة 143 هـ ص 170 ح 1.
(2) هو طلحة بن عبيد الله بن خلف الخزاعى ويقول صاحب اللسان: ورأيت فى بعض
حواشى نسخ الصحاح بخط من يوثق به الصواب: طلحة-
(6/40)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فِي النّهْيِ عَنْ الْمُثْلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ مَثّلَ رَسُولُ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالْعُرَنِيّينَ «1» فَقَطَعَ
أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلَ أَعَيْنَهُمْ، وَتَرَكَهُمْ بالحرّة.
__________
- ابن عبد الله: وسمى طلحة الطلحات بسبب أمه، وهى صفية بنت الحارث ابن طلحة
بن أبى طلحة وزاد الأزهرى ابن عبد مناف وأخوها: طلحة ابن الحارث فقد تكنفه
هؤلاء الطلحات كما ترى، وقبره بسجستان، وفيه يقول ابن الرقيات:
رحم الله أعظما دفنوها ... بسجستان طلحة الطلحات
وعند ابن الأثير: عن طلحة الطلحات قيل: إنه جمع بين مائة عربى وعربية
بالمهر والعطاء الواسعين فولد لكل واحد منهم ولد فسمى طلحة، فأضيف إليهم
وفى القاموس: القول الأول.
(1) عن قتادة عن أنس أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبى «ص» وتكلموا
بالإسلام، فاستوخموا المدينة، فأمر لهم النبى «ص» بذود وراع وأمرهم أن
يخرجوا، فليشربوا من أبوالها وألبانها، فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية
الحرة كفروا بعد إسلامهم، وقتلوا راعى النبى «ص» واستاقوا الذود، فبلغ ذلك
النبى «ص» فبعث الطلب فى آثارهم، فأمر بهم، فسمروا أعينهم، وقطعوا أيديهم،
وتركوا فى ناحية الحرة حتى ماتوا على حالهم» رواه الجماعة، وزاد البخارى،
قال: قتادة: بلغنا أن النبى «ص» بعد ذلك كان يحث على الصدقة، وينهى عن
المثلة، وفى رواية لأحمد والبخارى وأبو داود قال قتادة فحدثنى ابن سيرين أن
ذلك كان قبل أن تنزل الحدود، وللبخارى وأبى داود فى هذا الحديث، فأمر
بمسامير فأحميت، فكحلهم، وقطع أيديهم وأرجلهم، وما حسمهم، ثم ألقوا فى
الحرة، يستسقون فما سقوا حتى ماتوا. وعند البخارى، قال أبو قلابة: فهؤلاء
سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله. وعند سليمان التيمى
عن أنس قال: إنما سمل النبى أعين أولئك، لأنهم-
(6/41)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قُلْنَا: فِي ذَلِكَ جَوَابَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنّهُ فَعَلَ ذَلِكَ
قِصَاصًا لِأَنّهُمْ قَطَعُوا أَيْدِي الرّعَاءِ وَأَرْجُلَهُمْ وَسَمَلُوا
أَعْيُنَهُمْ «1» ، رُوِيَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ، وَقِيلَ: إنّ ذَلِكَ
قَبْلَ تَحْرِيمِ الْمُثْلَةِ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ تَرَكَهُمْ
يَسْتَسْقُونَ، فَلَا يُسْقَوْنَ، حَتّى مَاتُوا عَطَشًا، قُلْنَا
عَطّشَهُمْ لِأَنّهُمْ عَطّشُوا أَهْلَ بَيْتِ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- تِلْكَ اللّيْلَةَ، رُوِيَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ
أَنّهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لَمّا بَقِيَ وَأَهْلُهُ تِلْكَ اللّيْلَةَ
بِلَا لَبَنٍ، قَالَ: اللهُمّ عَطّشْ مَنْ عَطّشَ أَهْلَ بَيْتِ نَبِيّك.
وَقَعَ هَذَا فِي شَرْحِ ابْنِ بَطّالٍ، وَقَدْ خَرّجَهُ النّسَوِيّ.
الصّلَاةُ عَلَى الشّهَدَاءِ:
وَرَوَى ابْنُ إسْحَاقَ عَمّنْ لَا يَتّهِمُ عَنْ مِقْسَمٍ عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَلّى عَلَى
حَمْزَةَ، وَعَلَى شُهَدَاءِ يَوْمِ أُحُد، وَلَمْ يَأْخُذْ بِهَذَا
الْحَدِيثِ
__________
- سلموا أعين الرعاة» رواه مسلم والنسائى والترمذى استوخموا المدينة: كرهوا
المقام فيها. الذود: قيل ما بين الثنتين إلى التسع من الإبل، وقيل: ما بين
الثلاث إلى العشر. والحرة: أرض ذات حجارة سود معروفة بالمدينة. وقد وفى
الإمام الشوكانى الموضوع حقه فى نيل الأوطار فانظره تحت باب المحاربين
وقطاع الطريق.
(1) صرح ببعض هذا فى حديث مسلم والنسائى والترمذى. والذى يعرف خلق النبى
«ص» ويتدبر وصف الله له بأنه على خلق عظيم، وأنه ليس فظا ولا غليظ القلب،
وأنه محمد وأحمد يوقن- ولا ريب- بأن ما فعله بهؤلاء إنما كان قصاصا لأمة
طيبة أذلة على المؤمنين من قوم غلاظ الأكباد غلف القلوب فاضطرم نفوسهم غلا
وحقدا وجحودا.
(6/42)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فُقَهَاءُ الْحِجَازِ، وَلَا الْأَوْزَاعِيّ لِوَجْهَيْنِ، أَحَدُهُمَا
ضَعْفُ إسْنَادِ هَذَا الْحَدِيثِ، فَإِنّ ابْنَ إسْحَاقَ قَالَ: حَدّثَنِي
مَنْ لَا أَتّهِمُ، يَعْنِي: الْحَسَنَ بْنَ عُمَارَةَ- فِيمَا ذَكَرُوا-
وَلَا خِلَافَ فِي ضَعْفِ الْحَسَنِ بْنِ عُمَارَةَ عِنْدَ أَهْلِ
الْحَدِيثِ، وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَرَوْنَهُ شَيْئًا، وَإِنْ كَانَ الّذِي
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ غَيْرَ الْحَسَنِ،
فَهُوَ مَجْهُولٌ، وَالْجَهْلُ يُوبِقُهُ.
وَالْوَجْهُ الثّانِي: أَنّهُ حَدِيثٌ لَمْ يَصْحَبْهُ الْعَمَلُ، وَلَا
يُرْوَى عَنْ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنّهُ
صَلّى عَلَى شَهِيدٍ فِي شَيْءٍ مِنْ مَغَازِيهِ إلّا هَذِهِ الرّوَايَةَ
فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَكَذَلِكَ فِي مُدّةِ الْخَلِيفَتَيْنِ إلّا أَنْ
يَكُونَ الشّهِيدُ مُرْتَثّا «1» مِنْ الْمَعْرَكَةِ، وَأَمّا تَرْكُ
غَسْلِهِ، فَقَدْ أَجَمَعُوا عَلَيْهِ، وَإِنْ اخْتَلَفُوا فِي الصّلَاةِ
إلّا رِوَايَةً شَاذّةً عِنْدَ بَعْضِ التّابِعِينَ، وَالْمَعْنَى فِي
ذَلِكَ- وَاَللهُ أَعْلَمُ- تَحْقِيقُ حَيَاةِ الشّهَدَاءِ وَتَصْدِيقُ
قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ
اللَّهِ أَمْواتاً الْآيَةَ مَعَ أَنّ فِي تَرْكِ غُسْلِهِ مَعْنًى آخَرُ،
وَهُوَ أَنّ دَمَهُ أَثَرُ عِبَادَةٍ «2» ، وَهُوَ يجىء
__________
(1) ارتث على البناء للمجهول: حمل من المعركة رثيثا أى جريحا وبه رمق.
(2) عن جابر قال: «كان رسول الله «ص» يجمع بين الرجلين من قتلى أحد فى
الثوب الواحد، ثم يقول: أيهم أكثر أخذا للقرآن، فاذا أشير إلى أحدهما قدمه
فى اللحد، وأمر يدفنهم فى دمائهم، ولم يغسلوا ولم يصل عليهم» البخارى
والنسائى وابن ماجه والترمذى وصححه. وهناك خلاف كبير حول الصلاة عليهم، وقد
رد الشافعى على من قال بالصلاة عليهم بأن الأخبار جاءت كأنها عيان من وجوه
متواترة أن النبى «ص» لم يصل على قتلى أحد.. قال وما روى من أنه «ص» صلى
عليهم وكبر على حمزة سبعين تكبيرة لا يصح، وقد كان ينبغى لمن عارض بذلك هذه
الأحاديث أن يستحى على نفسه. ويقول الأمام-
(6/43)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَجُرْحُهُ يُثْعَبُ دَمًا، وَرِيحُهُ رِيحُ
الْمِسْكِ، فَكَيْفَ يَطْهُرُ مِنْهُ وَهُوَ طَيّبٌ وَأَثَرُ عِبَادَةٍ،
وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ انْتَزَعَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ كَرَاهِيَةَ
تَجْفِيفِ الْوَجْهِ مِنْ مَاءِ الْوُضُوءِ، وَهُوَ قَوْلُ الزّهْرِيّ،
قَالَ الزّهْرِيّ: وَبَلَغَنِي أَنّهُ يُوزَنُ، وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ
انْتَزَعَ كَرَاهِيَةَ السّوَاكِ بِالْعَشِيّ لِلصّائِمِ لِئَلّا يَذْهَبُ
خُلُوفُ فَمِهِ، وَهُوَ أَثَرُ عِبَادَةٍ، وَجَاءَ فِيهِ مَا جَاءَ فِي
دَمِ الشّهَدَاءِ أَنّهُ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ،
وَيُرْوَى أَطْيَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ. رَوَاهُ
مُسْلِمٌ بِاللّفْظَيْنِ جَمِيعًا، وَالْمَعْنَى وَاحِدٌ، وَجَاءَتْ
الْكَرَاهِيَةُ لِلسّوَاكِ بِالْعَشِيّ لِلصّائِمِ «1» عَنْ عَلِيّ وَأَبِي
هُرَيْرَةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ الدّارَقُطْنِيّ.
عَبْدُ اللهِ بْنُ جَحْشٍ الْمُجْدَعُ:
وَذَكَرَ عَبْدَ اللهِ بْنَ جحش بن أُخْت حَمْزَةَ، وَأَنّهُ مُثّلَ بِهِ
كَمَا مُثّلَ بحمزة، وعبد اللهِ هَذَا يُعْرَفُ بِالْمُجْدَعِ فِي اللهِ،
لِأَنّهُ جُدِعَ أَنْفُهُ وَاذُنَاه يَوْمئِذٍ، وَكَانَ سَعْدُ بْنُ أَبِي
وَقّاصٍ يُحَدّثُ أَنّهُ لَقِيَهُ يَوْمَ أُحُدٍ أَوّلَ النّهَارِ، فَخَلَا
بِهِ، وَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ: يَا سَعْدُ هَلُمّ فَلْنَدْعُ اللهَ
وَلِيَذْكُرَ كُلّ وَاحِدٍ مِنّا حَاجَتَهُ فِي دُعَائِهِ، وَلَيُؤَمّنّ
الْآخَرُ، قَالَ سَعْدٌ: فَدَعَوْت اللهَ أَنْ أَلْقَى فَارِسًا شَدِيدًا
بَأْسُهُ شَدِيدًا حَرْدُهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، فأقتله، وآخذ سلبه، فقال
عبد الله آمين، ثم استقبل
__________
- الشوكانى: «فائدة: لم يرد فى شىء من الأحاديث أنه «ص» صلى على شهداء بدر:
ولا أنه لم يصل عليهم، وكذلك فى شهداء سائر المشاهد النبوية إلا ما ذكرناه
فى هذا البحث، فليعلم ذلك» . وقد عرض الشوكانى كل ما روى من أحاديث.
(1) لا يصح هذا.
(6/44)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَبْدُ اللهِ الْقِبْلَةَ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ إلَى السّمَاءِ، وَقَالَ
اللهُمّ لَقّنِي الْيَوْمَ فَارِسًا شَدِيدًا بَأْسُهُ شَدِيدًا حَرْدُهُ
«1» ، يَقْتُلُنِي وَيَجْدَعُ أَنْفِي وَأُذُنِي، فَإِذَا لَقِيتُك غَدًا
تَقُولُ لِي: يَا عَبْدِي: فِيمَ جُدِعَ أَنْفُك وَأُذُنَاك، فَأَقُولُ:
فِيك يَا رَبّ، وَفِي رَسُولِك، فَتَقُولُ لِي: صَدَقْت، قُلْ يَا سعد:
آمِينَ، قَالَ فَقُلْت: آمِينَ، ثُمّ مَرَرْت بِهِ آخِرَ النّهَارِ
قَتِيلًا مَجْدُوع الْأَنْفِ وَالْأُذُنَيْنِ، وَأَنّ أُذُنَيْهِ
وَأَنْفَهُ مُعَلّقَانِ بِخَيْطِ، وَلَقِيت أَنَا فُلَانًا مِنْ
الْمُشْرِكِينَ، فَقَتَلْته، وَأَخَذْت سَلَبَهُ «2» ، وَذَكَرَ الزّبَيْرُ
أَنّ سَيْفَ عَبْدِ اللهِ بْنِ جَحْشٍ انْقَطَعَ يَوْمَ أُحُدٍ فَأَعْطَاهُ
رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عُرْجُونًا، فَعَادَ
فِي يَدِهِ سَيْفًا، فقاتل به، فَكَانَ يُسَمّى ذَلِكَ السّيْفُ
الْعُرْجُونَ «3» ، وَلَمْ يَزَلْ يتوارث حتى بيع من بغاء «4» التركى
بمائتى دِينَارٍ، وَهَذَا نَحْوٌ مِنْ حَدِيثِ عُكَاشَةَ الّذِي تقدم إلا
أنّ سَيْفَ عُكَاشَةَ، كَانَ يُسَمّى الْعَوْنَ، وَكَانَتْ قِصّةُ
عُكَاشَةَ يَوْمَ بَدْرٍ، وَكَانَ الّذِي قَتَلَ عَبْدَ اللهِ بْنَ جَحْشٍ
أَبُو الْحُكْم بْنُ الْأَخْنَسِ بن شريق «5» وكان عبد الله
__________
(1) حرد الرجل فهو حرد بكسر الراء إذا اغتاظ فتحرش بالذى غاظه، وهم به فهو
حارد، والحرد: الغضب والقصد والمنع.
(2) رواه البغوى من طريق إسحاق بن سعد. وابن شاهين من وجه آخر عن سعيد بن
المسيب. ولم يروه أحد من أصحاب الكتب الستة.
(3) لم يروه غير الزبير.
(4) فى الإصابة: بغا الكبير دون همزة فى آخر بغا. وهو مر أمراء المعتصم
بالله الخليفة العباسى إبراهيم بن هارون الرشيد.
(5) اسمه: ابى بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبِ بْنِ علاج بن أبى
سلمة ابن عبد العزى بن غيرة.
(6/45)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حِينَ قُتِلَ ابْنَ بِضْعٍ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً، فِيمَا ذَكَرُوا وَدُفِنَ
مَعَ حَمْزَةَ فِي قَبْرٍ وَاحِدٍ.
حَدِيث عُمَرَ وَأَبِي سُفْيَانَ:
فَصْلٌ: وَمِمّا وَقَعَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ مِنْ الْكَلِمِ الّذِي
يُسْأَلُ عَنْهُ قَوْلُ أَبِي سُفْيَانَ حِينَ قَالَ: اُعْلُ «1» هُبَلْ،
أَيْ زِدْ عُلُوّا، ثُمّ قَالَ: أَنْعَمَتْ، فَعَالِ، قَالُوا:
مَعْنَاهُ الْأَزْلَامُ، وَكَانَ اسْتَقْسَمَ بِهَا حِينَ خَرَجَ إلَى
أُحُد، فَخَرَجَ الّذِي يُحِبّ «2» وَقَوْلُهُ: فَعَالِ: أَمْرٌ أَيْ عَالِ
عَنْهَا وَأَقْصِرْ عَنْ لَوْمِهَا، تَقُولُ الْعَرَبُ: اُعْلُ عَنّي،
وَعَالِ عَنّي بِمَعْنَى: أَيْ ارْتَفِعْ عَنّي، وَدَعْنِي. وَيُرْوَى أن
الزّبير قال
__________
(1) فسرها ابن هشام بغير هذا فضبطت اعل فى السيرة بفتح الهمزة وسكون العين
وكسر اللام فالأمر من أعلى، وضبطتها فى الروض هكذا بهمزة وصل مع ضم اللام
كما ضبطت فى اللسان والنهاية لابن الأثير والمواهب للزرقانى ص 48 لأن الأمر
من علا كما فسرها السهيلى.
(2) كان الرجل من قريش إذا أراد ابتداء أمر عمد إلى سهمين، فكتب على
أحدهما: نعم، وعلى الآخر: لا، ثم يتقدم إلى الضم ويجيل سهامه، فإن خرج سهم
نعم، أقدم، وإن خرج سهم لا: امتنع، وكان أبو سفيان لما أراد الخروج إلى أحد
استفتى هبل، فخرج له سهم الإنعام، فذاك قوله لعمر أنعمت، فعال عنها أى تجاف
عنها، ولا تذكرها بسوء يعنى آلهتهم. «ابن الأثير مادة علا» وعنه نقل
اللسان.. وقد ذكر الخشنى: وقوله: أنعمت- بضم التاء- فعال، معناه: بالغت.
يقال: أنعم فى الشىء إذا بالغ فيه، وقوله: أنعمت يخاطب به نفسه ومن رواه:
أنعمت بفتح التاء فانه يعنى به الحرب أو الوقيعة.. وقد يجوز أن تكون معدولة
من الفعلة كما عدلوا فجار عن الفجرة، أى بالغت فى هذه الفعلة، ويعنى
بالفعلة: الوقيعة ص 230. وهبل اسم صنم.
(6/46)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَبِي سُفْيَانَ يَوْمَ الْفَتْحِ: أَيْنَ قَوْلُك: أَنْعَمَتْ، فَعَالِ؟
فَقَالَ: قَدْ صَنَعَ اللهُ خَيْرًا، وَذَهَبَ أَمْرُ الْجَاهِلِيّةِ.
وَقَوْلُ عُمَرَ لَا سَوَاءَ، أَيْ لَا نَحْنُ سَوَاءٌ، وَلَا يَجُوزُ
دُخُولُ لَا عَلَى اسْمٍ مُبْتَدَأٍ مَعْرِفَةٍ إلّا مَعَ التّكْرَارِ
نَحْوُ لَا زَيْدٌ قَائِمٌ، وَلَا عَمْرٌو خَارِجٌ، وَلَكِنّهُ جَازَ فِي
هَذَا الْمَوْضِعِ، لِأَنّ الْقَصْدَ فِيهِ إلَى نَفْيِ الْفِعْلِ، أَيْ
لَا يَسْتَوِي، كَمَا جَازَ لَا نُوَلّك، أَيْ: لَا يَنْبَغِي لَك، وَقَدْ
بَيّنّا هَذَا فِي أَوّلِ الْكِتَابِ حَيْثُ تَكَلّمْنَا عَلَى قَوْلِهِ:
فَشَتْتَنَا سَعْدٌ فَلَا نحن من سعد حديث محيريق وَأَوّلُ وَقْفٍ فِي
الْإِسْلَامِ:
وَمِمّا يَلِيقُ ذِكْرُهُ بهذه الغزاة حديث محيريق، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي
النّضِيرِ، وَقَوْلُهُ: إنْ أُصِبْت فَمَالِي لِمُحَمّدِ يَصْنَعُ فِيهِ
مَا شَاءَ، فَأُصِيبَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَجَعَلَ رَسُولُ اللهِ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حِينَ انْصَرَفَ مَالُهُ أَوْقَافًا، وَهُوَ
أَوّلُ حَبْسٍ حُبِسَ فِي الْإِسْلَامِ، رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ مُحَمّدِ بْنِ
كَعْبٍ الْقُرَظِيّ، وَقَالَ الزّهْرِيّ: كَانَتْ سَبْعَ حَوَائِطَ،
وَأَسْمَاؤُهَا: الْأَعْرَافُ، وَالْأَعْوَافُ وَالصّافِيَةُ والدّلال
وَبُرْقَةُ، وَحُسْنَى وَمَشْرَبَةُ أُمّ إبْرَاهِيمَ، وَإِنّمَا سُمّيَتْ
مُشْرَبَةَ أُمّ إبْرَاهِيمَ، لِأَنّهَا كَانَتْ تَسْكُنُهَا، وَقَدْ
ذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ حَدِيثَ مُخَيْرِيقٍ، وَهَذَا الّذِي ذكرناه تكلمة
لَهُ، وَزِيَادَةُ فَائِدَةٍ فِيهِ.
وَذَكَرَ: لَا سَيْفَ إلّا ذُو الْفَقَارِ، بِفَتْحِ الْفَاءِ جَمْعُ
فَقَارَةٍ، وَإِنْ قِيلَ ذُو الْفِقَارِ بِالْكَسْرِ، فَهُوَ جَمْعُ
فِقْرَةٍ، وَقَدْ تَقَدّمَ شَرْحُهُ. وَوَقَعَ فِي غَيْرِ هَذِهِ
الرّوَايَةِ أَنّ
(6/47)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رِيحًا هَبّتْ يَوْمَ أُحُدٍ، فَسَمِعُوا قَائِلًا يَقُولُ:
لَا سَيْفَ إلّا ذُو الْفَقَارِ ... وَلَا فَتَى إلّا عَلِيّ «1»
فِي أَبْيَاتٍ ذَكَرَهَا، وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ أَيْضًا مِنْ غَيْرِ
رِوَايَةِ الْبَكّائِيّ قَوْلَ عَلِيّ لِفَاطِمَةَ حِينَ غَسَلَتْ سَيْفَهُ
مِنْ الدّمِ:
أَفَاطِمُ هَاتِي السّيْفَ غَيْرَ ذَمِيمِ ... فَلَسْت بِرِعْدِيدِ وَلَا
بِلَئِيمِ
غَزْوَةُ حَمْرَاءِ الْأَسَدِ «2» شَرْحُ قَصِيدَةِ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ:
ذَكَرَ شِعْرَ مَعْبَدٍ الْخُزَاعِيّ وَفِيهِ:
إذَا تَغَطْمَطَتْ الْبَطْحَاءُ بِالْخَيْلِ
لَفْظٌ مُسْتَعَارٌ مِنْ الغطمة «3» ، وَهُوَ صَوْتُ غَلَيَانِ الْقِدْرِ.
قَوْلُهُ بِالْخَيْلِ جَعَلَ الرّدْفَ حَرْفَ لِينٍ، وَالْأَبْيَاتُ
كُلّهَا مُرْدَفَةُ الرّوىّ
__________
(1) يقول الشيبانى فى التمييز: يروى فى أثرواه عند الحسن بن عرفة من حديث
أبى جعفر محمد بن على الباقر.
(2) موضع على ثمانية أميال أو عشرة من المدينة عن يسار الطريق إذا أردت ذا
الحليفة.
(3) تغطمطت: اهتزت وارتجت، ومنه يقال: بحر غطامط بضم الغين وفتح الطاء إذا
علت أمواجه. والجيل: الصنف من الناس ولكنها فى السيرة: الخيل.
(6/48)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِحَرْفِ مَدّ وَلِينٍ «1» ، وَهَذَا هُوَ السّنَادُ الّذِي بَيّنّاهُ فِي
أَوّلِ الْكِتَابِ عِنْدَ قَوْلِ ابْنِ إسْحَاقَ فَسُونِدَ بَيْنَ
الْقَبَائِلِ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُ [عَمْرِو] بن كلثوم:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
ثم قَالَ:
تُصَفّقُهَا الرّيَاحُ إذَا جَرَيْنَا
وَتَسْمِيَةُ هَذَا سِنَادٌ عَرَبِيّةٌ لَا صِنَاعِيّةٌ، قَالَ عَدِيّ بْنُ
الرّفاع:
وَقَصِيدَةٍ قَدْ بِتّ أَجْمَعُ بَيْنَهَا ... حَتّى أُقَوّمَ مِيلَهَا
وَسِنَادَهَا
نَظَرَ الْمُثَقّفِ فِي كُعُوبِ قَنَاتِهِ ... كَيْمَا يُقِيمُ ثِقَافُهُ
مُنْآدَهَا «2»
وَقَوْلُهُ: لَا تَنَابِلَةٍ. التّنَابِلَةُ: الْقِصَارُ، وَأَحَدُهُمْ:
تِنْبَالٌ، تِفْعَالٌ مِنْ النّبْلِ، وهى صغار الحصى «3» .
__________
(1) الردف: الألف والياء والواو التى قبل الروى، سمى بذلك لأنه ملحق فى
التزامه وتحمل مراعاته بالروى، فجرى مجرى الردف للراكب، أى يليه، لأنه ملحق
به، مثل الألف فى كتاب، والياء فى بليد، والواو فى قتول وانظر اللسان مادة
ردف.
(2) سبق هذا وانظر اللسان فى مادة سند، والخصائص لابن جنى ط 2 ص 323 ح 1.
(3) تنبال وتنبل والتنبالة بفتح التاء وكسرها، وفتح الباء: الرجل القصير،
وهو رباعى على مذهب سيبويه وعند ثعلب ثلاثى. وحكم بزيادة التاء، ويشتقه من
النبل كما قال السهيلى، وذكره الأزهرى فى الثلاثى، وجمعه أيضا: التنابيل.
(6/49)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبُو عَزّةَ الْجُمَحِيّ:
وَذَكَرَ أَبَا عَزّةَ «1» ، وَكَانَ الّذِي أَسَرَهُ عُمَيْرُ بْنُ عَبْدِ
اللهِ، كَذَا ذَكَرَ بَعْضُهُمْ، وَأَحْسَبُهُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَيْرٍ
أَحَدَ بَنِي خُدَارَةَ، أَوْ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَيْرٍ الْخَطْمِيّ
وَمِنْ خَبَرِ أَبِي عَزّةَ مَا ذَكَرَ الزّبَيْرُ عَنْ ابْنِ جُعْدُبَةَ
وَالضّحّاكِ بْنِ عُثْمَانَ.
وَالْجُعْدُبَةُ فِي اللّغَةِ وَاحِدَةٌ الْجِعَادِبِ، وَهِيَ النّفّاخَاتُ
الّتِي تَكُونُ فِي الْمَاءِ.
قَالَا: بَرِصَ أَبُو عَزّةَ الْجُمَحِيّ، فَكَانَتْ قُرَيْشٌ لَا
تُؤَاكِلُهُ وَلَا تجالسه فقال الموت خَيْرٌ مِنْ هَذَا، فَأَخَذَ
حَدِيدَةً، وَدَخَلَ بَعْضَ شِعَابِ مَكّةَ فَطَعَنَ بِهَا فِي مَعَدّهِ،
وَالْمَعَدّ مَوْضِعٌ عَقِبَ الرّاكِبِ مِنْ الدّابّةِ، وَقَالَ ابْنُ
جُعْدُبَةَ:
فَمَارَتْ الْحَدِيدَةُ، وَقَالَ الضّحّاكُ: بَيْنَ الْجِلْدِ وَالصّفَاقِ
فَسَالَ مِنْهُ أصفر فبرىء، فَقَالَ:
اللهُمّ رَبّ وَائِلٍ وَنَهْدِ ... وَالتّهِمَاتِ وَالْجِبَالِ الْجُرْدِ
وَرَبّ مَنْ يَرْعَى بِأَرْضِ نَجِدْ ... أَصْبَحْت عَبْدًا لَك وَابْنَ
عَبْدِ
أَبَرّأَتْنِي مِنْ وَضَحٍ بِجِلْدِ ... مِنْ بَعْدَ مَا طَعَنْت فِي
مَعَدّي
مُوصِلُ مَقَالَةِ أَبِي سُفْيَانَ:
وَذَكَرَ إرْسَالَ أَبِي سُفْيَانَ مَعَ الرّكْبِ بِالْوَعِيدِ، وَكَانَ
الْمُوَصّلُ مَقَالَتَهُ لِلْمُؤْمِنَيْنِ نُعَيْمُ بْنُ مَسْعُودٍ،
فَقَالُوا: حَسْبُنَا اللهُ ونعم الوكيل، كذلك جاء فى التفسير.
__________
(1) فى حديثه لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. وقد ذكر السيوطى عن هذا أن
رواته: البخارى ومسلم وأحمد فى مسنده وأبو داود وابن ماجة.
(6/50)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ وَذَكَرَ قَوْلَ عَبْدِ اللهِ بْنِ
أُبَيّ حِينَ أُخْرِجَ مِنْ الْمَسْجِدِ: لَكَأَنّمَا قُلْت بَجْرًا.
الْبَجْرُ: الْأَمْرُ الْعَظِيمُ وَالْبَجَارِي: الدّوَاهِي، وَفِي
وَصِيّةِ أَبِي بَكْرٍ:
يَا هادى الطريق جرت، إنما هو الفجر والبجر «1» قَالَ الْخَطّابِيّ:
مَعْنَاهُ الدّاهِيَةُ.
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الرّوَايَةِ قَوْلَ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلَى أُحُدٍ: يَا لَيْتَنِي
غُودِرْت مَعَ أَصْحَابٍ نُحْصِ الْجَبَلَ. نُحْصُ الجبل:
أسفله، قاله صاحب العين «2» .
__________
(1) ضبط القاموس البجر بالضم، وابن الأثير بالفتح، وفى اللسان أنها بالفتح
والضم وهى الداهية والأمر العظيم. ومعنى قول أبى بكر: إن انتظرت حتى يضىء
الفجر أبصرت الطريق، وإن خبطت الظلماء أفضت بك إلى المكروه، ويروى البحر
يريد غمرات الدنيا شبهها بالبحر لتحير أهلها فيها.
(2) فى الأصل: نحض بالضاد والتصويب من النهاية واللسان، والمعنى تمنى أن
يكون استشهد معهم يوم أحد، أراد باليتنى غودرت شهيدا مع شهداء أحد. وفى
البخارى ومسلم وغيرهما عن عائشة: لما انصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا،
فقال: من يذهب فى أثرهم، فانتدب منهم سبعون رجلا فيهم: أبو بكر والزبير
وزاد الطبرانى آخرين. وعن هذا يقول الحافظ ابن كثير: هذا سياق غريب جدا،
فالمشهور عند أصحاب المغازى أن الذين خرجوا إلى حمراء الأسد كل من شهد
أحدا، وكانوا سبعمائة، قتل منهم سبعون، وبقى الباقون. وقيل إنه لا تخالف
بين قول عائشة وأصحاب المغازى لأن معنى قولها فانتدب منهم سبعون أنهم سبقوا
غيرهم، ثم تلاحق الباقون. وقد أقام عليه السلام بحمراء الأسد كما روى
الاثنين والثلاثاء والأربعاء، وقال ابن سعد: كان المسلمون يوقدون تلك
الليالى خمسائة نار حتى ترى من المكان البعيد، وذهب صوت معسكرهم ونيرانهم
فى كل وجه. ثم رجع إلى المدينة صلى الله عليه وسلم.
(6/51)
|