الروض
الأنف ت الوكيل [خَبَرُ الْإِفْكِ فِي غَزْوَةِ بَنِي
الْمُصْطَلِقِ سَنَةَ سِتّ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنَا الزّهْرِيّ، عَنْ علقمة بن وقّاص، وعن
سعيد ابن جُبَيْرٍ، وَعَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزّبَيْرِ، وَعَنْ عُبَيْدِ
اللهِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُتْبَةَ، قَالَ:
كُلّ قَدْ حَدّثَنِي بَعْضَ هَذَا الْحَدِيثِ، وَبَعْضُ الْقَوْمِ كَانَ
أَوْعَى لَهُ مِنْ بَعْضٍ، وَقَدْ جمعت لك الذى حدّثنى القوم.
[الهدى فى السفر مع الزوجات]
قَالَ مُحَمّدُ بْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي يَحْيَى بْنُ عَبّادِ بْنِ
عَبْدِ اللهِ بْنِ الزّبَيْرِ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَائِشَةَ، وَعَبْدُ
اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ، عَنْ عَمْرَةَ بِنْتِ عَبْدِ الرّحْمَنِ، عَنْ
عَائِشَةَ، عَنْ نَفْسِهَا، حِينَ قَالَ فِيهَا أَهْلُ الْإِفْكِ مَا
قَالُوا، فَكُلّ قَدْ دَخَلَ فِي حَدِيثِهَا عَنْ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا
يُحَدّثُ بَعْضُهُمْ مَا لَمْ يُحَدّثْ صَاحِبَهُ، وَكُلّ كَانَ عَنْهَا
ثِقَةً، فَكُلّهُمْ حَدّثَ عَنْهَا مَا سَمِعَ، قَالَتْ: كَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أَرَادَ سَفَرًا أَقْرَعَ
بَيْنَ نِسَائِهِ، فَأَيّتُهُنّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ،
فَلَمّا كَانَتْ غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ أَقْرَعَ بَيْنَ نِسَائِهِ،
كَمَا كَانَ يصنع، فخرج سمهى عَلَيْهِنّ مَعَهُ، فَخَرَجَ بِي رَسُولُ
اللهِ صَلّى الله عليه وسلم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/408)
[حديث الإفك]
قَالَتْ: وَكَانَ النّسَاءُ إذْ ذَاكَ إنّمَا يَأْكُلْنَ الْعُلَقَ لَمْ
يَهِجْهُنّ اللّحْمُ فَيَثْقُلْنَ وَكُنْت إذَا رَحَلَ لِي بَعِيرِي
جَلَسْتُ فِي هَوْدَجِي، ثُمّ يَأْتِي الْقَوْمُ الّذِينَ يُرَحّلُونَ لِي
وَيَحْمِلُونَنِي، فَيَأْخُذُونَ بِأَسْفَلَ الْهَوْدَجِ، فَيَرْفَعُونَهُ،
فَيَضَعُونَهُ عَلَى ظَهْرِ الْبَعِيرِ، فَيُشِدّونَهُ بِحِبَالِهِ، ثُمّ
يَأْخُذُونَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَيَنْطَلِقُونَ بِهِ. قَالَتْ: فَلَمّا
فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ سَفَرِهِ ذَلِكَ،
وَجّهَ قَافِلًا حَتّى إذَا كَانَ قَرِيبًا مِنْ الْمَدِينَةِ نزل منزلا،
فبات بِهِ بَعْضَ اللّيْلِ، ثُمّ أَذّنَ فِي النّاسِ بِالرّحِيلِ،
فَارْتَحَلَ النّاسُ، وَخَرَجْتُ لِبَعْضِ حَاجَتِي، وَفِي عنقى عقد لى،
فيه جزع ظفاره فَلَمّا فَرَغْت انْسَلّ مِنْ عُنُقِي وَلَا أَدْرِي،
فَلَمّا رَجَعْت إلَى الرّحْلِ ذَهَبْتُ أَلْتَمِسُهُ فِي عُنُقِي، فَلَمْ
أَجِدْهُ، وَقَدْ أَخَذَ النّاسُ فِي الرّحِيلِ، فَرَجَعْت إلَى مَكَانِي
الّذِي ذَهَبْت إلَيْهِ، فَالْتَمَسْته حَتّى وَجَدْته، وَجَاءَ الْقَوْمُ
خِلَافِي، الّذِينَ كَانُوا يُرَحّلُونَ لِي الْبَعِيرَ، وَقَدْ فَرَغُوا
مِنْ راحلته، فَأَخَذُوا الْهَوْدَجَ، وَهُمْ يَظُنّونَ أَنّي فِيهِ، كَمَا
كُنْت أَصْنَعُ، فَاحْتَمَلُوهُ، فَشَدّوهُ عَلَى الْبَعِيرِ، وَلَمْ
يَشُكّوا أَنّي فِيهِ، ثُمّ أَخَذُوا بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقُوا
بِهِ، فَرَجَعْتُ إلَى الْعَسْكَرِ وَمَا فِيهِ مِنْ دَاعٍ وَلَا مُجِيبٍ،
قَدْ انْطَلَقَ النّاسُ.
قَالَتْ: فَتَلَفّفْت بِجِلْبَابِي، ثُمّ اضْطَجَعْتُ فِي مَكَانِي،
وَعَرَفْت أَنْ لَوْ قَدْ اُفْتُقِدْت لَرُجِعَ إلَيّ. قَالَتْ: فَوَاَللهِ
إنّي لَمُضْطَجِعَةٌ إذْ مَرّ بِي صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ السّلَمِيّ،
وَقَدْ كَانَ تَخَلّفَ عَنْ الْعَسْكَرِ لِبَعْضِ حَاجَتِهِ، فَلَمْ يَبِتْ
مَعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/409)
النّاسِ، فَرَأَى سَوَادِي، فَأَقْبَلَ
حَتّى وَقَفَ عَلَيّ، وَقَدْ كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أَنْ يُضْرَبَ
عَلَيْنَا الْحِجَابُ، فَلَمّا رَآنِي قَالَ: إنّا لِلّهِ وَإِنّا إلَيْهِ
رَاجِعُونَ، ظَعِينَةُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!
وَأَنَا مُتَلَفّفَةٌ فِي ثِيَابِي، قَالَ: مَا خَلّفَك يَرْحَمُك اللهُ؟
قَالَتْ: فَمَا كَلّمَتْهُ، ثُمّ قَرّبَ الْبَعِيرَ، فَقَالَ: ارْكَبِي،
وَاسْتَأْخَرَ عَنّي.
قَالَتْ: فَرَكِبْتُ، وَأَخَذَ بِرَأْسِ الْبَعِيرِ، فَانْطَلَقَ سَرِيعًا،
يَطْلُبُ النّاسَ، فَوَاَللهِ مَا أَدْرَكْنَا النّاسَ، وَمَا افْتَقَدْت
حَتّى أَصْبَحْتُ، وَنَزَلَ النّاسُ، فَلَمّا اطْمَأَنّوا طَلَعَ الرّجُلُ
يَقُودُ بِي، فَقَالَ أَهْلُ الْإِفْكِ مَا قَالُوا، فَارْتَعَجَ
الْعَسْكَرُ، وَوَاللهِ مَا أَعْلَمُ بشىء من ذلك.
ثُمّ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، فَلَمْ أَلْبَثَ أَنْ اشْتَكَيْتُ شكوى
شديدة، ولا يبلغنى من ذلك شىء، وقد انتهى الحديث إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلَى أَبَوَيّ لَا يَذْكُرُونَ لِي مِنْهُ
قَلِيلًا وَلَا كَثِيرًا، إلّا أَنّي قَدْ أَنْكَرْتُ مِنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعض لُطْفِهِ بِي، كُنْت إذَا
اشْتَكَيْتُ رَحِمَنِي، وَلَطَفَ بِي، فَلَمْ يَفْعَلْ ذَلِكَ بِي فِي
شَكْوَايَ تِلْكَ، فَأَنْكَرْت ذَلِكَ مِنْهُ، كَانَ إذَا دَخَلَ عَلَيّ
وَعِنْدِي أُمّي تُمَرّضُنِي- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَهِيَ أُمّ رُومَانَ،
وَاسْمُهَا زَيْنَبُ بِنْتُ عَبْدِ دُهْمَانَ، أَحَدُ بَنِي فِرَاسِ بْنِ
غَنَمِ بْنِ مَالِكِ بْنِ كِنَانَةَ- قَالَ: كَيْفَ تِيكُمْ، لَا يزيد على
ذلك.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ: حَتّى وَجَدْتُ فِي نَفْسِي، فَقُلْت: يَا
رَسُولَ اللهِ، حِينَ رَأَيْتُ مَا رَأَيْت مِنْ جَفَائِهِ لِي: لَوْ
أَذِنْتَ لِي، فَانْتَقَلْت إلَى أُمّي، فَمَرّضْتنِي؟
قَالَ: لَا عَلَيْك. قَالَتْ: فَانْتَقَلْت إلَى أُمّي، وَلَا عِلْمَ لِي
بِشَيْءِ مِمّا كَانَ، حَتّى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/410)
نَقِهْت مِنْ وَجَعِي بَعْدَ بِضْعٍ
وَعَشْرَيْنِ لَيْلَةً، وَكُنّا قَوْمًا عَرَبًا، لَا نَتّخِذُ فِي
بُيُوتِنَا هَذِهِ الْكُنُفَ الّتِي تَتّخِذُهَا الْأَعَاجِمُ، نَعَافُهَا
وَنَكْرَهُهَا، إنّمَا كُنّا نَذْهَبُ فِي فُسَحِ الْمَدِينَةِ، وَإِنّمَا
كَانَتْ النّسَاءُ يَخْرُجْنَ كُلّ لَيْلَةٍ فِي حَوَائِجِهِنّ، فَخَرَجْتُ
لَيْلَةً لِبَعْضِ حَاجَتِي وَمَعِي أُمّ مِسْطَحٍ بِنْتُ أَبِي رُهْمِ
بْنِ الْمُطّلِبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافٍ، وَكَانَتْ أُمّهَا بِنْتَ صَخْرِ
بْنِ عَامِرِ بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بْنِ تَيْمٍ، خَالَةَ أبى بكر
الصدّيق رضى عَنْهُ؛ قَالَتْ: فَوَاَللهِ إنّهَا لَتَمْشِي مَعِي إذْ
عَثَرْت فِي مِرْطِهَا، فَقَالَتْ: تَعِسَ مِسْطَحٌ! وَمِسْطَحٌ لَقَبٌ
وَاسْمُهُ: عَوْفٌ؛ قَالَتْ: قُلْت: بِئْسَ لَعَمْرُ اللهِ مَا قُلْت
لِرَجُلٍ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ قَدْ شَهِدَ بَدْرًا، قَالَتْ: أَوْ مَا
بَلَغَك الْخَبَرُ يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ؟ قَالَتْ: قُلْت: وَمَا
الْخَبَرُ؟ فَأَخْبَرَتْنِي بِاَلّذِي كَانَ مِنْ قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ،
قَالَتْ: قُلْت: أَوَ قَدْ كَانَ هَذَا؟ قالت: نعم والله فقد كَانَ.
قَالَتْ:
فَوَاَللهِ مَا قَدَرْت عَلَى أَنْ أَقْضِيَ حَاجَتِي، وَرَجَعْت،
فَوَاَللهِ مَا زِلْت أَبْكِي حَتّى ظَنَنْت أَنّ الْبُكَاءَ سَيَصْدَعُ
كَبِدِي؛ قَالَتْ: وَقُلْت لِأُمّي: يَغْفِرُ اللهُ لَك، تَحَدّثَ النّاسُ
بِمَا تَحَدّثُوا بِهِ، وَلَا تَذْكُرِينَ لِي مِنْ ذلك شيئا! قالت: أى
بنيّة، خفّضى عليك الشأن، فوالله لقلّما كَانَتْ امْرَأَةٌ حَسْنَاءُ،
عِنْدَ رَجُلٍ يُحِبّهَا، لَهَا ضرائر، إلّا كثّرن وكثّر الناس عليها.
قَالَتْ: وَقَدْ: قَامَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي النّاسِ يَخْطُبُهُمْ وَلَا أَعْلَمُ بِذَلِكَ، فَحَمِدَ اللهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ: أَيّهَا النّاسُ، مَا بَالُ رِجَالٍ
يُؤْذُونَنِي فِي أَهْلِي، وَيَقُولُونَ عَلَيْهِمْ غَيْرَ الْحَقّ،
وَاَللهِ مَا عَلِمْت مِنْهُمْ إلّا خَيْرًا، وَيَقُولُونَ ذَلِكَ لِرَجُلِ
وَاَللهِ مَا عَلِمْت مِنْهُ إلّا خَيْرًا، وَمَا يَدْخُلُ بَيْتًا مِنْ
بُيُوتِي إلّا وَهُوَ مَعِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/411)
قَالَتْ: وَكَانَ كُبْر ذَلِكَ عِنْدِ
عَبْدِ اللهِ بن أبىّ بن سَلُولَ فِي رِجَالٍ مِنْ الْخَزْرَجِ مَعَ الّذِي
قَالَ مِسْطَحٌ وَحَمْنَةُ بِنْتُ جَحْشٍ، وَذَلِكَ أَنّ أُخْتَهَا
زَيْنَبَ بِنْتُ جَحْشٍ كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ تَكُنْ مِنْ نِسَائِهِ امْرَأَةٌ تُنَاصِينِي
فِي الْمَنْزِلَةِ عِنْدَهُ غَيْرُهَا، فَأَمّا زَيْنَبُ فَعَصَمَهَا اللهُ
تَعَالَى بِدِينِهَا فَلَمْ تَقُلْ إلّا خَيْرًا وَأَمّا حَمْنَةُ بِنْتُ
جَحْشٍ، فَأَشَاعَتْ مِنْ ذَلِكَ مَا أَشَاعَتْ، تُضَادّنِي لأختها، فشقيت
بذلك.
فَلَمّا قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تِلْكَ
الْمَقَالَةَ، قَالَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ:
يَا رَسُولَ اللهِ، إنْ يَكُونُوا مِنْ الْأَوْسِ نَكْفِكَهُمْ، وَإِنْ
يَكُونُوا مِنْ إخْوَانِنَا مِنْ الْخَزْرَجِ، فَمُرْنَا بِأَمْرِك،
فَوَاَللهِ إنّهُمْ لَأَهْلٌ أَنْ تُضْرَبَ أَعْنَاقُهُمْ، قَالَتْ:
فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ، وَكَانَ قَبْلَ ذَلِكَ يَرَى رَجُلًا
صَالِحًا، فَقَالَ: كَذَبْت لَعَمْرُ اللهِ، لَا نَضْرِبُ أَعْنَاقَهُمْ،
أَمَا وَاَللهِ مَا قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ إلّا أَنّك قَدْ عَرَفْت
أَنّهُمْ مِنْ الْخَزْرَجِ، وَلَوْ كَانُوا مِنْ قَوْمِك مَا قُلْتَ هَذَا،
فَقَالَ أُسَيْدٌ: كَذَبْت لَعَمْرُ اللهِ، وَلَكِنّك مُنَافِقٌ تُجَادِلُ
عَنْ الْمُنَافِقِينَ، قَالَتْ: وَتَسَاوَرَ النّاسُ، حَتّى كَادَ يَكُونُ
بَيْنَ هذين الحيّين من الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ شَرّ. وَنَزَلَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَدَخَلَ علىّ.
(قَالَتْ) فَدَعَا عَلِيّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رِضْوَانُ الله عليه، وأسامة
بن زيد فاستشارها، فَأَمّا أُسَامَةُ فَأَثْنَى عَلَيّ خَيْرًا وَقَالَهُ،
ثُمّ قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَهْلُك وَلَا نَعْلَمُ مِنْهُمْ إلّا
خَيْرًا، وَهَذَا الْكَذِبُ وَالْبَاطِلُ، وَأَمّا عَلِيّ فَإِنّهُ قَالَ
يَا رَسُولَ اللهِ إنّ النّسَاءَ لَكَثِيرٌ، وَإِنّك لَقَادِرٌ عَلَى أَنْ
تَسْتَخْلِفَ، وَسَلْ الْجَارِيَةَ، فَإِنّهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/412)
سَتُصْدِقُك. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَرِيرَةَ لِيَسْأَلَهَا، قَالَتْ: فَقَامَ
إلَيْهَا عَلِيّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَضَرَبَهَا ضَرْبًا شَدِيدًا،
وَيَقُولُ: اُصْدُقِي رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ،
قَالَتْ: فَتَقُولُ: وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ إلّا خَيْرًا، وَمَا كُنْت
أَعِيبُ عَلَى عَائِشَةَ شَيْئًا، إلّا أَنّي كُنْت أَعْجِنُ عَجِينِي،
فَآمُرُهَا أَنْ تَحْفَظَهُ، فتنام عنه فتأتى الشاة فتأكله.
[القرآن وبراءة عَائِشَةَ]
قَالَتْ: ثُمّ دَخَلَ عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، وَعِنْدِي أَبَوَايَ، وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ،
وَأَنَا أَبْكِي، وَهِيَ تَبْكِي مَعِي، فَجَلَسَ، فَحَمِدَ اللهَ
وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمّ قَالَ يَا عَائِشَةُ، إنّهُ قَدْ كَانَ مَا قَدْ
بَلَغَك مِنْ قَوْلِ النّاسِ، فَاتّقِي اللهَ، وإن كنت قد قارفت سوآ، مِمّا
يَقُولُ النّاسُ فَتُوبِي إلَى اللهِ، فَإِنّ اللهَ يَقْبَلُ التّوْبَةَ
عَنْ عِبَادِه، قَالَتْ: فَوَاَللهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ قَالَ لِي ذَلِكَ،
فَقَلَصَ دَمْعِي، حَتّى مَا أُحِسّ مِنْهُ شَيْئًا، وَانْتَظَرْت أَبَوَيّ
أَنْ يُجِيبَا عَنَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَلَمْ يَتَكَلّمَا. قَالَتْ: وَاَيْمُ اللهِ لَأَنَا كُنْت أَحْقَرَ فِي
نَفْسِي، وَأَصْغَرَ شَأْنًا مِنْ أَنْ يُنْزِلَ اللهُ فِيّ قُرْآنًا
يُقْرَأُ بِهِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَيُصَلّى بِهِ، وَلَكِنّي قَدْ كُنْت
أَرْجُو أَنْ يَرَى رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
نَوْمِهِ شَيْئًا يُكَذّبُ بِهِ اللهُ عَنّي، لِمَا يَعْلَمُ منى
بَرَاءَتِي، أَوْ يُخْبِرُ خَبَرًا، فَأَمّا قُرْآنٌ يَنْزِلُ فِيّ،
فَوَاَللهِ لَنَفْسِي كَانَتْ أَحْقَرَ عِنْدِي مِنْ ذَلِكَ. قَالَتْ:
فَلَمّا لَمْ أَرَ أَبَوَيّ يَتَكَلّمَانِ، قَالَتْ: قُلْت لَهُمَا: أَلَا
تُجِيبَانِ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟ قَالَتْ: فَقَالَا: وَاَللهِ
مَا نَدْرِي بِمَاذَا نُجِيبُهُ، قَالَتْ: وَوَاللهِ مَا أَعْلَمُ أَهْلَ
بَيْتٍ دَخَلَ عَلَيْهِمْ مَا دَخَلَ عَلَى آلِ أَبِي بَكْرٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/413)
فِي تِلْكَ الْأَيّامِ، قَالَتْ: فَلَمّا
أَنْ اسْتَعْجَمَا عَلَيّ، اسْتَعْبَرْتُ فَبَكَيْتُ، ثُمّ قُلْت:
وَاَللهِ لَا أَتُوبُ إلَى اللهِ مِمّا ذَكَرْت أَبَدًا. وَاَللهِ إنّي
لَأَعْلَمُ لَئِنْ أَقْرَرْتُ بِمَا يَقُولُ النّاسُ، وَاَللهُ يَعْلَمُ
أَنّي مِنْهُ بَرِيئَةٌ، لَأَقُولَن مَا لَمْ يَكُنْ، وَلَئِنْ أَنَا
أَنْكَرْت مَا يَقُولُونَ لَا تُصَدّقُونَنِي. قَالَتْ: ثُمّ الْتَمَسْت
اسْمَ يَعْقُوبَ فَمَا أَذْكُرُهُ، فَقُلْت:
وَلَكِنْ سَأَقُولُ كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ،
وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى مَا تَصِفُونَ. قَالَتْ: فَوَاَللهِ مَا
بَرِحَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مَجْلِسَهُ حَتّى
تَغَشّاهُ مِنْ اللهِ مَا كَانَ يَتَغَشّاهُ، فَسُجّيَ بِثَوْبِهِ
وَوُضِعَتْ لَهُ وِسَادَةُ مِنْ أَدَمٍ تَحْت رَأْسِهِ، فَأَمّا أَنَا
حِينَ رَأَيْت مِنْ ذَلِكَ مَا رَأَيْت، فَوَاَللهِ مَا فَزِعْت وَلَا
بَالَيْتُ، قَدْ عَرَفْت أَنّي بَرِيئَةٌ، وَأَنّ اللهَ عَزّ وَجَلّ غَيْرُ
ظَالِمِي، وَأَمّا أَبَوَايَ، فَوَاَلّذِي نَفْسُ عَائِشَةَ بِيَدِهِ، مَا
سُرّيَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتّى
ظَنَنْتُ لَتَخْرُجَن أَنَفْسُهُمَا، فَرَقًا مِنْ أَنْ يَأْتِيَ مِنْ
اللهِ تَحْقِيقُ مَا قَالَ النّاسُ، قَالَتْ: ثُمّ سُرّيَ عَنْ رَسُولِ
اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فجلس، وإنه ليتحذّر مِنْهُ
مِثْلُ الْجُمَانِ فِي يَوْمٍ شَاتٍ، فَجَعَلَ يَمْسَحُ الْعَرَقَ عَنْ
جَبِينِهِ، وَيَقُولُ: أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ، فَقَدْ أَنَزَلَ اللهُ
بَرَاءَتَك، قَالَتْ: قُلْت: بِحَمْدِ اللهِ، ثُمّ خَرَجَ إلَى النّاسِ،
فَخَطَبَهُمْ، وَتَلَا عَلَيْهِمْ مَا أَنَزَلَ اللهُ عَلَيْهِ مِنْ
الْقُرْآنِ فِي ذَلِكَ، ثُمّ أَمَرَ بِمِسْطَحِ بْنِ أُثَاثَةَ، وَحَسّانَ
بْنِ ثَابِتٍ، وَحَمْنَةَ بِنْتِ جَحْشٍ، وكانو ممن أفصح بالفاحشة، فضربوا
حدّهم.
قال ابن إسحاق: وحدثني أبي إسحاق بن يَسَارٍ عَنْ بَعْضِ رِجَالِ بَنِي
النّجّارِ: أَنّ أَبَا أَيّوبٍ خَالِدَ بْنَ زَيْدٍ، قَالَتْ لَهُ
امْرَأَتُهُ أُمّ أَيّوبَ: يَا أَبَا أَيّوبَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/414)
أَلَا تَسْمَعُ مَا يَقُولُ النّاسُ فِي
عَائِشَةَ؟ قَالَ: بَلَى، وَذَلِكَ الْكَذِبُ، أَكُنْت يَا أُمّ أَيّوبَ
فَاعِلَةٌ؟ قَالَتْ: لَا وَاَللهِ مَا كُنْتُ لأفعله؛ قال: فعائشة والله
خير منك.
قَالَتْ: فَلَمّا نَزَلَ الْقُرْآنُ بِذِكْرِ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ
الْفَاحِشَةِ مَا قَالَ مِنْ أَهْلِ الإفك، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ
جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ، لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ، بَلْ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ
الْإِثْمِ، وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ،
وَذَلِكَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَصْحَابُهُ الّذِينَ قَالُوا مَا
قَالُوا.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: وَذَلِكَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أُبَيّ
وَأَصْحَابُهُ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاَلّذِي تَوَلّى كِبْرَهُ عَبْد اللهِ بْنُ أُبَيّ،
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ قَبْلَ هَذَا.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ
وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً: أَيْ فَقَالُوا كَمَا قَالَ أَبُو
أَيّوبَ وَصَاحِبَتُهُ، ثُمّ قَالَ: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ،
وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ،
وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ.
فَلَمّا نَزَلَ هَذَا فِي عَائِشَةَ، وَفِيمَنْ قَالَ لَهَا مَا قَالَ،
قَالَ أَبُو بَكْرٍ، وَكَانَ يُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ لِقَرَابَتِهِ
وَحَاجَتِهِ: وَاَللهِ لَا أُنْفِقُ عَلَى مِسْطَحٍ شَيْئًا أَبَدًا، وَلَا
أَنْفَعُهُ بِنَفْعِ أَبَدًا بَعْدَ الّذِي قَالَ لِعَائِشَةَ، وَأَدْخَلَ
عَلَيْنَا، قَالَتْ: فَأَنْزَلَ اللهُ فِي ذَلِك وَلا يَأْتَلِ أُولُوا
الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/415)
وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي
سَبِيلِ اللَّهِ، وَلْيَعْفُوا، وَلْيَصْفَحُوا، أَلا تُحِبُّونَ أَنْ
يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ، وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ.
[تفسير ابن هشام لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: يُقَالُ: كِبْرُهُ وَكُبْرُهُ فِي الرّوَايَةِ، وَأَمّا
فِي الْقُرْآنِ فَكِبْرُهُ بِالْكَسْرِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ) وَلَا
يَأْلُ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ.
قَالَ امْرُؤُ الْقَيْسِ بْنُ حجر الكندى:
أَلَا رُبّ خَصْمٌ فِيك أَلْوَى رَدَدْتُهُ ... نَصِيحٌ عَلَى تَعْذَالِهِ
غَيْرُ مُؤْتَلِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قصيدة له، ويقال: (ولا يأتل أولو الْفَضْلِ) : وَلَا
يَحْلِفُ أُولُو الْفَضْلِ، وَهُوَ قَوْلُ الْحَسَنِ بْنِ أَبِي الْحَسَنِ
الْبَصْرِيّ، فِيمَا بَلَغْنَا عنه.
وفى كتاب الله تعالى: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ وَهُوَ مِنْ
الْأَلْيَةِ، وَالْأَلْيَةُ: الْيَمِينُ. قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ:
آلَيْتُ ما في جميع الناس مجتهدا ... مني ألية بِرّ غَيْرَ إفْنَادِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ، سَأَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللهُ فِي
مَوْضِعِهَا. فمعنى: أن يؤتوا فى هذا الذهب: أَنْ لَا يُؤْتَوْا، وَفِي
كِتَابِ اللهِ عَزّ وَجَلّ: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا
يُرِيدُ: أَنْ لَا تَضِلّوا، وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ يُرِيدُ أَنْ لَا تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، وَقَالَ ابْنُ
مُفَرّغٍ الْحِمْيَرِيّ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/416)
لَا ذَعَرْت السّوَامَ فِي وَضَحِ الصّبْحِ
... مُغِيرًا وَلَا دُعِيتُ يَزِيدَا
يَوْم أُعْطَى مَخَافَةَ الْمَوْتِ ضيما ... والمنايا يرصدننى أن أحيدا
بريد: أَنْ لَا أَحِيدَ، وَهَذَانِ الْبَيْتَانِ فِي أَبْيَاتٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَتْ: فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: بَلَى وَاَللهِ،
إنّي لَأُحِبّ أَنْ يَغْفِرَ اللهُ لِي، فَرَجّعَ إلَى مِسْطَحٍ نَفَقَتَهُ
الّتِي كَانَ يُنْفِقُ عَلَيْهِ، وَقَالَ: وَاَللهِ لَا أَنْزِعُهَا منه
أبدا.
[ابن المعطل يهمّ بِقَتْلِ حَسّانَ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ إنّ صَفْوَانَ بْنَ الْمُعَطّلِ اعْتَرَضَ
حَسّانَ بْنَ ثَابِتٍ بِالسّيْفِ، حِينَ بَلَغَهُ مَا كَانَ يَقُولُ فِيهِ،
وَقَدْ كَانَ حَسّانُ قَالَ شِعْرًا مَعَ ذَلِكَ يُعَرّضُ بِابْنِ
الْمُعَطّلِ فِيهِ وَبِمَنْ أَسْلَمَ مِنْ العرب من مضر، فقال:
أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ عَزّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ
الْفُرَيْعَةَ أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ
قَدْ ثَكِلَتْ أُمّهُ مَنْ كُنْتَ صَاحِبَهُ ... أَوْ كَانَ مُنْتَشِبًا
فِي برنن الْأَسَدِ
مَا لِقَتِيلِي الّذِي أَغْدُو فَآخُذُهُ ... مِنْ دِيَةٍ فِيهِ يُعْطَاهَا
وَلَا قَوَدِ
مَا الْبَحْرُ حِينَ تَهُبّ الرّيحُ شَامِيّةً ... فَيَغْطَئِلُ وَيَرْمِي
الْعِبْرَ بِالزّبَدِ
يَوْمًا بِأَغْلَبَ مِنّي حِينَ تُبْصِرُنِي ... مِلْغَيِظٍ أَفْرِي
كَفَرْيِ الْعَارِضِ الْبَرِدِ
أُمّا قُرَيْشٌ فَإِنّي لن أسالمهم ... حتى ينيبوا من الغيّات الرّشد
وَيَتْرُكُوا اللّاتَ وَالْعُزّى بِمَعْزِلَةٍ ... وَيَسْجُدُوا كُلّهُمْ
لِلْوَاحِدِ الصّمد
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/417)
وَيَشْهَدُوا أَنّ مَا قَالَ الرّسُولُ
لَهُمْ ... حَقّ وَيُوفُوا بِعَهْدِ اللهِ وَالْوُكُدِ
فَاعْتَرَضَهُ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ، فَضَرَبَهُ بِالسّيْفِ، ثُمّ
قَالَ: كَمَا حَدّثَنِي يَعْقُوبُ بْنُ عُتْبَةَ:
تَلَقّ ذُبَابُ السّيْفِ عَنّي فإنى ... غلام إذا هو جيت لَسْتُ بِشَاعِرٍ
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ بْنِ
الْحَارِثِ التّيْمِيّ: أَنّ ثَابِتَ ابن قَيْسِ بْنِ الشّمّاسِ وَثَبَ
عَلَى صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطّلِ، حِينَ ضَرَبَ حَسّانَ، فَجَمَعَ
يَدَيْهِ إلَى عُنُقِهِ بِحَبْلِ، ثُمّ انْطَلَقَ بِهِ إلَى دَارِ بَنِي
الْحَارِثِ بْنِ الْخَزْرَجِ، فَلَقِيَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ،
فَقَالَ: مَا هَذَا؟ قَالَ: أَمَا أَعْجَبَك ضَرْبُ حَسّانَ بِالسّيْفِ
وَاَللهِ مَا أَرَاهُ إلّا قَدْ قَتَلَهُ، قَالَ لَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ
رَوَاحَةَ: هَلْ عَلِمَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
بِشَيْءِ مِمّا صَنَعْت؟ قَالَ: لَا وَاَللهِ، قَالَ: لَقَدْ اجْتَرَأْت،
أَطْلِقْ الرّجُلَ، فَأَطْلَقَهُ، ثُمّ أَتَوْا رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ، فَدَعَا حَسّانَ وَصَفْوَانَ
بْنَ الْمُعَطّلِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُعَطّلِ: يَا رَسُولَ اللهِ: آذَانِي
وَهَجَانِي، فَاحْتَمَلَنِي الْغَضَبُ، فَضَرَبْته، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَسّانَ: أَحْسِنْ يَا حَسّانُ،
أَتَشَوّهْتَ عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمْ اللهُ لِلْإِسْلَامِ، ثُمّ
قَالَ:
أَحْسِنْ يَا حَسّانُ فِي الّذِي أَصَابَك، قَالَ: هِيَ لك يا رسول الله.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ: أَبَعْدَ أَنْ هُدَاكُمْ اللهُ
لِلْإِسْلَامِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي مُحَمّدُ بْنُ إبْرَاهِيمَ: أَنّ
رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَعْطَاهُ عِوَضًا مِنْهَا
بَيْرُحَاءَ، وَهِيَ قَصْرُ بَنِي حُدَيْلَةَ الْيَوْمَ بِالْمَدِينَةِ،
وَكَانَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/418)
مَالًا لِأَبِي طَلْحَةَ بْنِ سَهْلٍ
تَصَدّقَ بِهَا عَلَى آلِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ،
فَأَعْطَاهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ حَسّانَ فِي
ضَرْبَتِهِ، وَأَعْطَاهُ سِيرِينَ، أَمَةً قبطيّة، فولدت له عَبْدَ
الرّحْمَنِ بْنَ حَسّانَ، قَالَتْ: وَكَانَتْ عَائِشَةُ تَقُولُ:
لَقَدْ سُئِلَ عَنْ ابْنِ الْمُعَطّلِ، فَوَجَدُوهُ رَجُلًا حَصُورًا، مَا
يَأْتِي النّسَاءَ، ثُمّ قُتِلَ بَعْدَ ذَلِكَ شَهِيدًا.
قَالَ حَسّانُ بْنُ ثَابِتٍ يَعْتَذِرُ مِنْ الّذِي كَانَ قَالَ فِي شَأْنِ
عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تزنّ بريبة ... وتصبح غرنى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
عَقِيلَةُ حَيّ مِنْ لُؤَيّ بْنِ غَالِبٍ ... كِرَامِ الْمَسَاعِي
مَجْدُهُمْ غَيْرُ زَائِلِ
مُهَذّبَةٌ قَدْ طَيّبَ اللهُ خِيمَهَا ... وَطَهّرَهَا مِنْ كُلّ سُوءٍ
وَبَاطِلِ
فَإِنْ كُنْتُ قَدْ قُلْت الّذِي قَدْ زَعَمْتُمْ ... فَلَا رَفَعَتْ
سَوْطِي إلَيّ أَنَامِلِي
وَكَيْفَ وَوُدّي مَا حَيِيتُ وَنُصْرَتِي ... لِآلِ رَسُولِ اللهِ زَيْنُ
الْمَحَافِلِ
لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى النّاسِ كُلّهِمْ ... تَقَاصَرَ عَنْهُ سَوْرَةُ
الْمُتَطَاوِلِ
فَإِنّ الّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطٍ ... وَلَكِنّهُ قول امرىء بى
ماحل
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَيْتُهُ: «عَقِيلَةُ حَيّ» وَاَلّذِي بَعْدَهُ،
وَبَيْتُهُ: «لَهُ رَتَبٌ عَالٍ» عَنْ أَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنّ امْرَأَةً
مَدَحَتْ بِنْتَ حَسّانَ بْنِ ثَابِتٍ عِنْدَ عَائِشَةَ، فَقَالَتْ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/419)
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِرِيبَةِ ...
وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لَكِنْ أَبُوهَا.
[شِعْرٌ فِي هِجَاءِ حَسّانَ وَمِسْطَحٍ]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَالَ قَائِلٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ فِي ضَرْبِ
حَسّانَ وَأَصْحَابِهِ فِي فِرْيَتِهِمْ عَلَى عَائِشَةَ- قَالَ ابْنُ
هِشَامٍ: فِي ضَرْبِ حَسّانَ وَصَاحِبَيْهِ:
لَقَدْ ذَاقَ حَسّانُ الّذِي كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمْنَةُ إذْ قَالُوا
هَجِيرًا وَمِسْطَحُ
تَعَاطَوْا بِرَجْمِ الْغَيْبِ زَوْجَ نَبِيّهِمْ ... وَسَخْطَةَ ذِي
الْعَرْشِ الْكَرِيمِ فَأُتْرِحُوا
وَآذَوْا رَسُولَ اللهِ فِيهَا فَجُلّلُوا ... مَخَازِيَ تَبْقَى
عُمّمُوهَا وَفُضّحُوا
وَصُبّتْ عَلَيْهِمْ مُحْصَدَاتٌ كَأَنّهَا ... شَآبِيبُ قَطْرٍ من ذر
المزن تسفح
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَزْوَةُ ذِي قَرَد وَيُقَالُ فِيهِ: قُرُدٌ بِضَمّتَيْنِ هَكَذَا
أَلْفَيْته مُقَيّدًا عَنْ أَبِي عَلِيّ، وَالْقَرَدُ فِي اللّغَةِ الصّوفُ
الرّدِيءُ، يُقَالُ فِي مِثْلِ: عَثَرْت عَلَى الْغَزْلِ بِأُخْرَةٍ فَلَمْ
تَدَعْ بِنَجْدِ قَرَدَةً «1» .
أَسْمَاءُ أَفْرَاسِ الْمُسْلِمِينَ:
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذِهِ الْغَزْوَةِ أَسْمَاءَ خَيْلِ
جَمَاعَةٍ مِمّنْ حضرها،
__________
(1) مثل لمن ترك الحاجة ممكنة، وطلبها فائتة، وأصله أن تترك المرأة الغزل،
وهى تجد ما تغزله، حتى إذا فاتها تتبعت القرد فى القمامات.
(6/420)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
فَذَكَرَ بَعْزَجَةَ فَرَسَ الْمِقْدَادِ، وَالْبَعْزَجَةُ: شِدّةُ جَرْيٍ
فِي مُغَالَبَةٍ كَأَنّهُ مَنْحُوتٌ مِنْ بَعَجَ إذَا شَقّ، وَعَزّ، أَيْ:
غَلَبَ. وَأَمّا سُبْحَةُ فَمِنْ سَبَحَ إذَا عَلَا عُلُوّا فِي اتّسَاعٍ،
وَمِنْهُ: سُبْحَانَ اللهِ، وَسُبُحَاتُ اللهِ: عَظَمَتُهُ وَعُلُوّهُ،
لِأَنّ النّاظِرَ الْمُفَكّرَ فِي [اللهِ] سُبْحَانَهُ يَسْبَحُ فِي بَحْرٍ
لَا سَاحِلَ لَهُ، وَقَدْ ذَكَرْنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْكَلِمَةِ
حَقَائِقَ وَدَقَائِقَ أَسْرَارٍ فِي شَرْحِ: سُبْحَانَ اللهِ
وَبِحَمْدِهِ. وَأَمّا حَزْوَةُ، فَمِنْ حَزَوْت الطّيْرَ إذَا زَجَرْتهَا،
أَوْ مِنْ حَزَوْت الشّيْءَ إذَا أَظْهَرْته.
قَالَ الشّاعِرُ:
تَرَى الْأَمْعَزَ الْمَحْزُوّ فِيهِ كَأَنّهُ ... مِنْ الْحَرّ
وَاسْتِقْبَالِهِ الشّمْسَ مَسْطَحُ «1»
وَجُلْوَةُ مِنْ جَلَوْت السّيْفَ، وَجَلَوْت الْعَرُوسَ، كأنها تجلو الغمّ
عَنْ قَلْبِ صَاحِبِهَا. وَمَسْنُونٌ مِنْ سَنَنْت الْحَدِيدَةَ إذَا
صَقَلْتهَا.
سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ:
وَذَكَرَ سَلَمَةَ بْنَ الْأَكْوَعِ، وَاسْمُ الْأَكْوَعِ: سِنَانٌ،
وَخَبَرُ سَلَمَةَ فِي ذَلِك الْيَوْمِ أَطْوَلُ مِمّا ذَكَرَهُ ابْنُ
إسْحَاقَ، وَأَعْجَبُ، فَإِنّهُ اسْتَلَبَ وَحْدَهُ فِي ذَلِك الْيَوْمِ
مِنْ الْعَدُوّ وَهُوَ رَاجِلٌ قَبْلَ أَنْ تَلْحَقَ بَهْ الْخَيْلُ
ثَلَاثِينَ بُرْدَةً وَثَلَاثِينَ دَرَقَةً، وَقَتَلَ مِنْهُمْ بِالنّبْلِ
كَثِيرًا، فَكُلّمَا هَرَبُوا أَدْرَكَهُمْ، وكلما
__________
(1) المسطح: حصير يسف من خوص الدوم، والبيت لتميم بن مقبل وروايته فى
اللسان هكذا:
إذا الأمعز المحزو أجن كأنه ... من الحر فى حد الظهيرة مسطح
والأمعز: أرض صلبة.
(6/421)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
راموه أنلت مِنْهُمْ، وَشُهْرَةُ حَدِيثِهِ تُغْنِي عَنْ سَرْدِهِ،
فَإِنّهُ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ الْمَشْهُورَةِ «1» ، وَقِيلَ إنّ سَلَمَةَ
هَذَا هُوَ الّذِي كَلّمَهُ الذّئْبُ، وَقِيلَ: إنّ الّذِي كَلّمَهُ
الذّئْبُ هُوَ أُهْبَانُ بْنُ صَيْفِيّ «2» وَهُوَ حَدِيثٌ مَشْهُورٌ.
شَرْحُ الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ:
وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ، يُرِيدُ يَوْمَ اللّئَامِ، أَيْ
يَوْمُ جُبْنِهِمْ، وَفِي قَوْلِهِمْ:
لَئِيمٌ رَاضِعٌ أَقْوَالٌ، ذَكَرَهَا ابْنُ الْأَنْبَارِيّ. قِيلَ:
الرّاضِعُ هُوَ الّذِي رَضَعَ اللّؤْمَ فِي ثَدْيَيْ أُمّهِ أَيْ: غدى
بِهِ، وَقِيلَ هُوَ الّذِي يَرْضِعُ مَا بَيْنَ أَسْنَانِهِ يَسْتَكْثِرُ
مِنْ الْجَشَعِ بِذَلِك. وَشَاهِدُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُ امْرَأَةٍ مِنْ
الْعَرَبِ تَذُمّ رَجُلًا:
إنّهُ لَأُكُلَةٌ ثُكُلَةٌ يَأْكُلُ مِنْ جَشَعِهِ خِلَلَهُ، أَيْ: مَا
يَتَخَلّلُ بَيْنَ أَسْنَانِهِ. قَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: وَلَمْ أَسْمَعْ
فِي الْجَشَعِ، وَالْحِرْصِ أَبْلَغَ مِنْ هَذَا، وَمِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ
يُثِيرُ الْكِلَابَ من مربضها، أَيْ يَلْتَمِسُ تَحْتَهَا عَظْمًا
يَتَعَرّقُهُ، وَقِيلَ فِي اللّئِيمِ الرّاضِعِ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ
مِمّا هُوَ معروف عند الناس ومذكور فى كتبهم.
__________
(1) ورد فى حديث رواه البخارى ومسلم «فحملت أرميهم بنبلى، وكنت راميا،
وأقول: أنا ابن الأكوع واليوم يوم الرضع وأرتجز حتى استنقذت اللقاح منهم،
واستلبت ثلاثين بردة» وللقاح الإبل الحوامل ذرات الألبان، وقد رواه الإمام
أحمد. مطر لا وفيه: ثم لم أزل أرميهم حتى ألقوا أكثر من ثلاثين رمحا وأكثر
من ثلاثين بردة يستخفون منها» وسلمة هو ابن عمرو بن الأكوع وهو ممن بايع
الرسول تحت الشجرة على الموت، مات وسنه أربع وسبعون سنة.
(2) وقيل اسمه: أهبهان، أو. وهبان. ولقد علم سليمان النبى منطق الطير، فهل
علم احد غيره منطق السبع والوحش؟.
(6/422)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: الْيَوْمَ يَوْمُ الرّضّعِ بِالرّفْعِ فِيهِمَا، وَبِنَصْبِ
الْأَوّلِ، وَرَفْعِ الثّانِي، حَكَى سِيبَوَيْهِ: الْيَوْمَ يَوْمُك،
عَلَى أَنْ تَجْعَلَ الْيَوْمَ ظَرْفًا فِي مَوْضِعِ خَبَرٍ لِلثّانِي،
لِأَنّ ظُرُوفَ الزّمَانِ يُخْبَرُ بِهَا عَنْ زَمَانٍ مِثْلِهَا إذَا
كَانَ الظّرْفُ يَتّسِعُ، وَلَا يَضِيقُ عَلَى الثّانِي، مِثْلُ أَنْ
تَقُولَ: السّاعَةَ يَوْمُك، وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَذلِكَ
يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ الْمُدّثّرُ 90 أَنّ يَوْمَئِذٍ ظَرْفٌ لِيَوْمٌ
عَسِيرٌ، وَذَلِك أَنّ ظُرُوفَ الزّمَانِ أَحْدَاثٌ، وَلَيْسَتْ بِجُثَثِ
فَلَا يَمْتَنِعُ فِيهَا مِثْلُ هَذَا، كَمَا لَا يَمْتَنِعُ فِي سَائِرِ
الْأَحْدَاثِ.
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِلْغِفَارِيّةِ، وَاسْمُهَا لَيْلَى،
وَيُقَالُ هِيَ امْرَأَةُ أَبِي ذَرّ حِينَ أَخْبَرَتْهُ أَنّهَا نَذَرَتْ
إنْ اللهُ نَجّاهَا، عَلَيْهَا أَنْ تَنْحَرَهَا، قَالَ: فَتَبَسّمَ
رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثُمّ قَالَ: بِئْسَ مَا
جَزَيْتهَا أَنْ حَمَلَك اللهُ عَلَيْهَا وَنَحّاك بِهَا، ثُمّ
تَنْحَرِينَهَا إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ، وَلَا فِي مَا لَا
تَمْلِكِينَ، فِيهِ حُجّةٌ لِلشّافِعِيّ، وَمَنْ قَالَ بِقَوْلِهِ: إنّ مَا
أَحْرَزَهُ الْعَدُوّ مِنْ مَالٍ إنّهُ لَهُمْ بِلَا ثَمَنٍ قَبْلَ
الْقَسْمِ وَبَعْدَهُ، لِأَنّهُ لَا يُخْرِجُهُ مِنْ مِلْكِهِ حَوْزُ
الْعَدُوّ لَهُ، وَقَالَ مَالِكٌ: هُوَ أَوْلَى بِهِ قَبْلَ الْقَسْمِ
وَصَاحِبُهُ بَعْدَ الْقَسْمِ أَوْلَى بِهِ بِالثّمَنِ، وَفِيهِ قَوْلَانِ
آخَرَانِ لِأَهْلِ الْعِرَاقِ.
حَوْلَ النّذْرِ وَالطّلَاقِ وَالْعِتْقِ:
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: إنّهُ لَا نَذْرَ فِي مَعْصِيَةِ اللهِ،
وَلَا فِيمَا لَا تَمْلِكِينَ، وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَا نَذْرَ
لِأَحَدِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، وَلَا طَلَاقَ لِأَحَدِ فِيمَا لَا
يَمْلِكُ، وَلَا عِتْقَ
(6/423)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِأَحَدِ فِيمَا لَا يَمْلِكُ، حَدِيثٌ مَرْوِيّ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللهِ
بْنِ عَمْرٍو، وَمِنْ طَرِيقِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَلَكِنّهُ لَمْ يُخَرّجْ
فِي الصّحِيحَيْنِ لِعِلَلِ فِي أَسَانِيدِهِ، وَقَدْ قَالَ بِهَذَا
الْحَدِيثِ أَنْ لَا طَلَاقَ قَبْلَ الْمِلْكِ جَمَاعَةٌ مِنْ الصّحَابَةِ
وَفُقَهَاءِ التّابِعِينَ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، وَسَوَاءٌ عِنْدَهُمْ
عَيّنَ امْرَأَةً، أَوْ لَمْ يُعَيّنْ، وَإِلَيْهِ مَالَ الْبُخَارِيّ
رَحِمَهُ اللهُ، وَرَوَاهُ ابْنُ كِنَانَةَ عَنْ مَالِكٍ، وَابْنِ وَهْبٍ،
وَاحْتَجّ ابْنُ عَبّاسٍ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى
إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ الْأَحْزَابُ: 49
قَالَ:
فَإِذًا لَا طَلَاقَ إلّا بَعْدَ نِكَاحٍ، وَقَالَ شَرِيكٌ الْقَاضِي:
النّكَاحُ عَقْدٌ وَالطّلَاقُ حَلّ، فَلَا يَكُونُ الْحَلّ إلّا بَعْدَ
الْعَقْدِ.
مِنْ شَرْحِ شِعْرِ حَسّانَ أَعْضَاءَ الْخَيْلِ:
وَذَكَرَ شِعْرَ حَسّانَ:
لَوْلَا الّذِي لَاقَتْ وَمَسّ نُسُورَهَا
يَعْنِي: الْخَيْلَ، وَالنّسْرَ كَالنّوَاةِ فِي بَاطِنِ الْحَافِرِ، وَفِي
الْفَرَسِ عِشْرُونَ عُضْوًا، كُلّ عُضْوٍ مِنْهَا يُسَمّى بِاسْمِ
طَائِرٍ، فَمِنْهَا النّسْرُ وَالنّعَامَةُ وَالْهَامَةُ وَالسّمَامَةُ
وَالسّعْدَانَةُ وَهِيَ الْحَمَامَةُ وَالْقَطَاةُ الذّبَاب وَالْعُصْفُورُ
وَالْغُرَابُ وَالصّرَدُ وَالصّقْرُ وَالْخَرَبُ وَالنّاهِضُ، وَهُوَ
فَرْخُ «1» الْعُقَابِ وَالْخُطّابِ، ذَكَرَهَا وَبَقِيّتَهَا
الْأَصْمَعِيّ»
، وَرَوَى فِيهَا شِعْرًا لِأَبِي حَزْرَةَ جَرِيرٍ، وَهُوَ:
__________
(1) فى الأصل: فرج.
(2) أنظر ص 193 من ذيل الأمالى والنوادر للقالى ط 2 فثم أكثر مما ذكر-
(6/424)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَقَبّ كَالسّرْحَانِ تَمّ لَهُ ... مَا بَيْنَ هَامَتِهِ إلَى النّسْرِ
رَحِبَتْ نَعَامَتُهُ وَوُفّرَ فَرْخُهُ ... وَتَمَكّنَ الصّرْدَانُ فِي
النّحْرِ
وَأَنَافَ بِالْعُصْفُورِ فِي سَعَفٍ ... هَامٍ أَشَمّ مُوَثّقُ الْجِذْرِ
وَازْدَانَ بِالدّيكَيْنِ صَلْصَلُهُ ... وَنَبَتْ دَجَاجَتُهُ عَنْ
الصّدْرِ
وَالنّاهِضَانِ أُمِرّ جَلْزُهُمَا ... فَكَأَنّمَا عُثِمَا عَلَى كَسْرِ
مُسْحَنْفِرُ الْجَنْبَيْنِ مُلْتَئِمٌ ... مَا بَيْنَ شِيمَتِهِ إلَى
الْغُرّ
وَصَفَتْ سُمَانَاهُ وَحَافِرُهُ ... وَأَدِيمُهُ وَمَنَابِتُ الشّعْرِ «1»
وَسَمَا الْغُرَابُ لِمَوْقِعَيْهِ مَعًا ... فَأَبَيْنَ بَيْنَهُمَا عَلَى
قَدْرِ
وَاكْتَنّ دُونَ قَبِيحِهِ خُطّافُهُ ... وَنَأْتِ سَمَامَتُهُ «2» عَلَى
الصّقْرِ
وَتَقَدّمَتْ عَنْهُ الْقَطَاةُ لَهُ ... فَنَأْتِ بِمَوْقِعِهَا عَنْ
الْحُرّ «3»
وَسَمَا عَلَى نِقْوَيْهِ دُونَ حِدَاتِهِ ... خَرَبَانُ بَيْنَهُمَا مَدَى
الشّبْرِ
يَدَعُ الرّضِيمَ إذَا جَرَى فِلَقًا ... بتوائم كمواسم سمر
__________
- السهيلى. ويذكرون أن الرشيد قال للأصمعى: قيل إن فى الفرس عشرين اسما من
أسماء الطير، فقال: نعم، وأنشده شعرا جامعا لها من قول جرير، فأمر له بعشرة
آلاف درهم.
(1) فى الأصل. وأديمة والشفر.
(2) فى الأصل: سمانته.
(3) فى الأصل: فبانت.
(6/425)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رُكّبْنَ فِي مَحْضِ الشّوَى سَبِطٍ ... كَفْتِ الْوُثُوبِ مُشَدّدِ
الْأَسْرِ «1»
بَدَادٌ وَفِجَارٌ:
وَقَوْلُهُ: فَشَكّوا بِالرّمَاحِ بَدَادِ. بَدَادُ مِنْ التّبَدّدِ،
وَهُوَ التّفَرّقُ، وَهُوَ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ غَيْرَ أَنّهُ مَبْنِيّ
وَنَصْبُهُ كَانْتِصَابِ الْمَصْدَرِ، إذَا قُلْت: مَشَيْت الْقَهْقَرَى،
وَقَعَدْت الْقُرْفُصَاءَ، وَكَأَنّهُ قَالَ: طَعَنُوا الطّعْنَةُ الّتِي
يُقَالُ لَهَا بَدَادِ، وَبَدَادُ مِثْلُ فَجَارِ مِنْ قَوْلِهِ:
احْتَمَلْت فَجَارِ «2» جَعَلُوهُ اسْمًا عَلَمًا لِلْمَصْدَرِ، كَمَا
قَالُوا: فَحَمَلْت بَرّةَ، فَجُعِلَ بَرّةُ عَلَمًا لِلْبِرّ، وَسِرّ
هَذِهِ الْعَلَمِيّةِ فِي هَذَا الْمَوْطِنِ أَنّهُمْ أَرَادُوا الْفِعْلَ
الْأَتَمّ الّذِي يُسَمّى بِاسْمِ ذَلِكَ الْفِعْلِ حَقِيقَةً، فَقَدْ
يَقُولُ الْإِنْسَانُ بَرّ فُلَانٌ وَفَجَرَ أَيْ قَارَبَ أَنْ يَفْعَلَ
ذَلِك، أَوْ فَعَلَ مِنْهُ بَعْضَهُ، فَإِذَا قَالَ: فَعَلْت بَرّةَ،
فَإِنّمَا يُرِيدُ الْبِرّ الّذِي يُسَمّى بِرّا عَلَى الْحَقِيقَةِ،
فَجَاءَ بِالِاسْمِ الْعَلَمِ الّذِي هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مُسَمّاهُ
حَقِيقَةً، إذْ لَا يُتَصَوّرُ هَذَا الضّرْبُ مِنْ الْمَجَازِ فِي
الْأَعْلَامِ، وَكَذَلِكَ إذَا أَرَادَ الْفُجُورَ عَلَى الْحَقِيقَةِ،
وَأَرَادَ رَفْعَ الْمَجَازِ سَمّاهُ، فَجَازَ تَحْقِيقًا لِلْمَعْنَى،
أَيْ: مِثْلَ هَذِهِ الْفَعْلَةِ يَنْبَغِي أَنْ تُسَمّى بِاسْمِ
الْفُجُورِ حَقِيقَةً، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي النّدَاءِ: يَا فَسَاقِ
وَيَا فسق فجاؤا بِالصّيغَةِ الْمَعْرُوفَةِ الْعَلَمِيّةِ الْمَعْرُوفَةِ
مَعَ النّدَاءِ خَاصّةً، أَيْ: إنّ هَذَا الِاسْمَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ
__________
(1) انظر القصيدة وشرحها وقصة الأصمعى مع الرشيد فى نهاية الأرب ص 23 لسفر
العاشر وانظر أيضا العقد الفريد لابن عبد ربه ح 1 ص 61 ط بولاق وص 91 ح 3
سمط اللآلى للبكرى.
(2) يعنى قول النابغة:
إنا اقتسمنا خطئينا بيننا ... فحملت برة، واحتملت فجار.
(6/426)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
اسْمَهُ الّذِي يُدْعَى بِهِ، إذْ الِاسْمُ الْعَلَمُ أَلْزَمُ لِمُسَمّاهُ
مِنْ اسْمٍ مُشْتَقّ مِنْ فِعْلٍ فَعَلَهُ، لِأَنّ الْفِعْلَ لَا يَثْبُتُ،
وَالِاسْمَ الْعَلَمَ يَثْبُتُ، فَهَذَا هُوَ مَعْزَاهُمْ فِي هَذِهِ
الْأَسْمَاءِ الّتِي هِيَ عَلَى صِيَغِ الْأَعْلَامِ فِي هَذِهِ المواطن،
فتأملها، وقد بسطنا هذا الْغُرُضَ بَسْطًا شَافِيًا فِي أَسْرَارِ مَا
يَنْصَرِفُ، وَمَا لَا يَنْصَرِفُ، فَلْتُنْظَرْ هُنَالِكَ، فَثَمّ تَرَى
سِرّ بِنَائِهَا عَلَى الْكَسْرِ مَعَ مَا يَتّصِلُ بِمَعَانِيهَا إنْ
شَاءَ اللهُ، وَأَلْفَيْت فِي حَاشِيَةِ الشّيْخِ رَحِمَهُ اللهُ عَلَى
قَوْلِهِ: فَشُكّوا بِالرّمَاحِ فَشُلّوا «1» بِاللّامِ الرّوَايَةُ
الصّحِيحَةُ، وَحَقِيقَةُ الْمَعْنَى، وَوَقَعَ فِي الْأَصْلَيْنِ:
فَشُكّوا بِالْكَافِ كَمَا فِي هَذَا الْأَصْلِ. إلَى هَاهُنَا انْتَهَى
كَلَامُ الشّيْخِ، وَالشّلّ بِاللّامِ: الطّرْدُ، وَالشّكّ بِالْكَافِ:
الطّعْنُ كَمَا قَالَ:
شَكّ الْفَرِيصَةَ بِالْمِدْرَى فَأَنْفَذَهَا «2» ... [شَكّ الْمُبَيْطَرِ
إذْ يَشْفِي مِنْ الْعَضَدِ]
عَوْدٌ إلَى شَرْحِ شِعْرِ حَسّانَ:
وَقَوْلُهُ: رَهْوًا أَيْ: مَشْيًا بِسُكُونِ، وَيُقَالُ لِمُسْتَنْقَعِ
الْمَاءِ أَيْضًا رَهْوٌ وَالرّهْوُ أَسْمَاءُ الْكُرْكِيّ، والرّهو المرآة
الواسعة.
__________
(1) أنظر مادة بدد وفجر وفسق فى للسان. وشلوا هى رواية للسان. وضبط لجبا
بضم اللام والجيم.
(2) البيت للنابغة وتمامه: شك المبيطر إذ يشفى من العضد. والمدرى والمدراة
شىء يعمل من حديد أو خشب على شكل سن من أسنان المنط والفريصة: لحمة عن نفض
الكف فى وسط الحنب عند منبض القلب.
(6/427)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ: رَوَادِي، أَيْ تَرْدِي بِفُرْسَانِهَا، أَيْ: تُسْرِعُ «1» .
قَصِيدَةٌ أُخْرَى لِحَسّانَ:
وَقَوْلُ حَسّانَ فِي خَيْلِ عيينة:
فولّوا سراعا كشدّ النّعا ... م لم يَكْشِفُوا عَنْ مُلِطّ حَصِيرَا
أَيْ: لَمْ يَغْنَمُوا بَعِيرًا، وَلَا كَشَفُوا عَنْهُ حَصِيرًا، يَعْنِي:
بِالْحَصِيرِ مَا يُكَنّفُ بِهِ حَوْلَ الْإِبِلِ مِنْ عِيدَانِ
الْحَظِيرَةِ، وَالْمُلِطّ مِنْ قَوْلِهِمْ: لَطّتْ النّاقَةُ، وَأَلَطّتْ
بِذَنَبِهَا إذَا أَدْخَلَتْهُ بَيْنَ رِجْلَيْهَا «2» .
غَزْوَةُ بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ بَنُو جُذَيْمَةَ بْنِ كَعْبٍ مِنْ
خُزَاعَةَ، فَجُذَيْمَةُ هُوَ الْمُصْطَلِقُ وَهُوَ مُفْتَعِلٌ مِنْ
الصّلْقِ، وَهُوَ رَفْعُ الصّوْتِ «3» .
وَذَكَرَ الْمُرَيْسِيعَ، وَهُوَ مَاءٌ لِخُزَاعَةَ، وَهُوَ مِنْ
قَوْلِهِمْ: رَسَعَتْ عَيْنُ الرجل: إذا دمعت من فساد.
__________
(1) يقول الخشنى: ومن رواه بكسر الراء. فهو من المشى الرويد، وهو الذى فيه
فتور ص 331.
(2) يقول أبو ذر: الملط بالطاء المهملة اللاصق بالأرض هنا. والحصير: وجه
الأرض هنا ص 332.
(3) يقول ابن دريد فى الاشتقاق «سمى المصطلق لحسن صوته كأنه مفتعل من
الصلق، والصلق شدة الصوت وحدته» ص 476 وقد ضبط الزرقانى جذيمة بضم الجيم
وفتح الذال. والقاموس يضبطها بالضبطين.
(6/428)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَذَكَرَ سِنَانَ بْنَ وَبْرَةَ «1» وَقَالَ غَيْرُهُ: هُوَ سِنَانُ بْنُ
تَمِيمٍ مِنْ جُهَيْنَةَ بْنِ سَوْدِ بْنِ أَسْلَمَ حَلِيفُ الْأَنْصَارِ.
تَحْرِيمُ دَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ:
وَذَكَرَ أَنّهُ نَادَى: يَا لَلْأَنْصَارِ، وَنَادَى جَهْجَاهٌ الغفارىّ
يا للماجرين، وَلَمْ يَذْكُرْ مَا قَالَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حِينَ سَمِعَهُمَا، وَفِي الصّحِيحِ «2» أَنّهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ حِينَ سَمِعَهُمَا مِنْهُمَا، قَالَ: دَعُوهَا فَإِنّهَا
مُنْتِنَةٌ، يَعْنِي: إنّهَا كَلِمَةٌ خَبِيثَةٌ، لِأَنّهَا مِنْ دَعْوَى
الْجَاهِلِيّةِ، وَجَعَلَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ إخْوَةً وَحِزْبًا
وَاحِدًا، فَإِنّمَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ الدّعْوَةُ يَا
لَلْمُسْلِمِينَ، فَمَنْ دَعَا فِي الْإِسْلَامِ بِدَعْوَى الْجَاهِلِيّةِ
فَيَتَوَجّهُ لِلْفُقَهَاءِ فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ
يُجْلَدَ مَنْ اسْتَجَابَ لَهَا بِالسّلَاحِ خَمْسِينَ سَوْطًا اقْتِدَاءً
بِأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ فِي جَلْدِهِ النّابِغَةَ الْجَعْدِيّ
خَمْسِينَ سَوْطًا، حِينَ سَمِعَ: يَا لَعَامِرٍ، فَأَقْبَلَ يَشْتَدّ
بِعُصْبَةِ لَهُ. وَالْقَوْلُ الثّانِي: أَنّ فِيهَا الْجَلْدَ دُونَ
الْعَشْرَةِ لِنَهْيِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ أَنْ يُجْلَدَ أَحَدٌ فَوْقَ
الْعَشْرَةِ إلّا فِي حَدّ، وَالْقَوْلُ الثّالِثُ: اجْتِهَادُ الْإِمَامِ
فِي ذَلِكَ عَلَى حَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنْ سَدّ الذّرِيعَةِ وَإِغْلَاقِ
بَابِ الشّرّ، إمّا بِالْوَعِيدِ، وَإِمّا بِالسّجْنِ، وَإِمّا
بِالْجَلْدِ.
فَإِنْ قِيلَ: إنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ
يُعَاقِبْ الرّجُلَيْنِ حِينَ دَعَوْا بِهَا قُلْنَا: قَدْ قَالَ: دَعُوهَا
فَإِنّهَا مُنْتِنَةٌ، فَقَدْ أَكّدَ النّهْيَ، فَمَنْ عَادَ إلَيْهَا
بَعْدَ هَذَا النّهْيِ، وَبَعْدَ وَصْفِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَهَا بِالْإِنْتَانِ وَجَبَ أن يؤدّب،
__________
(1) فى السيرة: وبر.
(2) هو فى صحيح البخارى.
(6/429)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَتّى يَشُمّ نَتْنَهَا، كَمَا فَعَلَ أَبُو مُوسَى رَحِمَهُ اللهُ
بِالْجَعْدِيّ، فَلَا مَعْنَى لِنَتْنِهَا إلّا سُوءُ الْعَاقِبَةِ فِيهَا
وَالْعُقُوبَةُ عَلَيْهَا.
جَهْجَاهٌ:
وَأَمّا جَهْجَاهٌ فَهُوَ ابْنُ مَسْعُودِ «1» بْنِ سَعْدِ بْنِ حَرَامٍ،
وَهُوَ الّذِي رَوَى عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
الْمُؤْمِنُ يَأْكُلُ فِي مِعًى وَاحِدٍ، وَالْكَافِرُ يَأْكُلُ فِي
سَبْعَةِ أَمْعَاءٍ، وَهُوَ كَانَ صَاحِبَ هَذِهِ الْقِصّةِ فِيمَا رَوَى
ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَالْبَزّارُ، وَقَدْ قِيلَ أَيْضًا: إنّ الرّجُلَ
الّذِي قَالَ فِيهِ عَلَيْهِ السّلَامُ هَذِهِ المقالة، هو نمامة بْنُ
أُثَالٍ الْحَنَفِيّ، ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ، وَقِيلَ: بَلْ هُوَ أَبُو
بَصْرَةَ [جَمِيلُ بْن بَصْرَةَ] الْغِفَارِيّ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ،
وَمَاتَ جَهْجَاهٌ هَذَا بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ رَحِمَهُ اللهُ،
أَخَذَتْهُ الْأَكِلَةُ فِي رُكْبَتِهِ فَمَاتَ مِنْهَا، وَكَانَ قَدْ
كَسَرَ بِرُكْبَتِهِ عَصَا رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- الّتِي كَانَ يَخْطُبُ بِهَا، وَذَلِكَ أَنّهُ انْتَزَعَهَا
مِنْ عُثْمَانَ حِينَ أُخْرِجَ مِنْ الْمَسْجِدِ، وَمُنِعَ مِنْ الصّلَاةِ
فِيهِ، فَكَانَ هُوَ أَحَدَ الْمُعِينِينَ عَلَيْهِ، حَتّى كَسَرَ الْعَصَا
عَلَى رُكْبَتِهِ، فِيمَا ذَكَرُوا، فَابْتُلِيَ بِمَا اُبْتُلِيَ بِهِ
مِنْ الْأَكِلَةِ، نَعُوذُ بِاَللهِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَنَسْتَجِيرُ بِهِ
مِنْ الْأَهْوَاءِ الْمُضِلّةِ «2» .
مَوْقِفُ عَبْدِ اللهِ الصّحَابِيّ مِنْ أَبِيهِ الْمُنَافِقِ
وَدِلَالَتُهُ:
وَذَكَرَ مَقَالَةَ عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ، وَأَنّ ابْنَهُ عَبْدَ اللهِ
بن عبد الله استأذن
__________
(1) فى الإصابة: ابن سعيد، وقيل: ابن قيس.
(2) أنظر ترجمته فى الإصابة.
(6/430)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَتْلِ أَبِيهِ مِنْ
أَجْلِ تِلْكَ الْمَقَالَةِ، وَفِي هَذَا الْعِلْمُ الْعَظِيمُ
وَالْبُرْهَانُ النّيّرُ مِنْ أَعْلَامِ النّبُوّةِ، فَإِنّ الْعَرَبَ
كَانَتْ أَشَدّ خَلْقِ اللهِ حَمِيّةً وَتَعَصّبًا، فَبَلَغَ الْإِيمَانُ
مِنْهُمْ وَنُورُ الْيَقِينِ مِنْ قُلُوبِهِمْ إلَى أَنْ يَرْغَبَ الرّجُلُ
مِنْهُمْ فِي قَتْلِ أَبِيهِ وَوَلَدِهِ، تَقَرّبًا إلَى اللهِ،
وَتَزَلّفًا إلَى رَسُولِهِ، مَعَ أَنّ الرّسُولَ- عَلَيْهِ السّلَامُ-
أَبْعَدُ النّاسِ نَسَبًا مِنْهُمْ، وَمَا تَأَخّرَ إسْلَامُ قَوْمِهِ
وَبَنِيّ عَمّهِ وَسَبَقَ إلَى الْإِيمَانِ بِهِ الْأَبَاعِدُ إلّا
لِحِكْمَةِ عَظِيمَةٍ، إذْ لَوْ بَادَرَ أَهْلُهُ وَأَقْرَبُوهُ إلَى
الْإِيمَانِ بِهِ، لَقِيلَ: قَوْمٌ أَرَادُوا الْفَخْرَ بِرَجُلِ مِنْهُمْ،
وَتَعَصّبُوا لَهُ، فَلَمّا بَادَرَ إلَيْهِ الْأَبَاعِدُ، وَقَاتَلُوا
عَلَى حُبّهِ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ أَوْ مِنْ غَيْرِهِمْ، عُلِمَ أَنّ ذلك
عن يصيرة صَادِقَةٍ وَيَقِينٍ قَدْ تَغَلْغَلَ فِي قُلُوبِهِمْ، وَرَهْبَةٍ
مِنْ اللهِ أَزَالَتْ صِفَةً، قَدْ كَانَتْ سَدِكَتْ «1» فِي نُفُوسِهِمْ
مِنْ أَخْلَاقِ الْجَاهِلِيّةِ لَا يَسْتَطِيعُ إزَالَتُهَا إلّا الّذِي
فَطَرَ الْفِطْرَةَ الْأُولَى، وَهُوَ الْقَادِرُ عَلَى مَا يَشَاءُ،
وَأَمّا عَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فَكَانَ مِنْ كُتّابِ النّبِيّ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَكَانَ اسْمُهُ حُبَابٌ، وَبِهِ كَانَ
يُكَنّى أَبُوهُ، فَسَمّاهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَبْدَ اللهِ، مَاتَ شَهِيدًا بِالْيَمَامَةِ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ، وَرَوَى الدّارَقُطْنِيّ مُسْنَدًا أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَرّ عَلَى جَمَاعَةٍ فِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ
أُبَيّ فَسَلّمَ عَلَيْهِمْ، ثُمّ وَلّى، فَقَالَ عَبْدُ اللهِ: لَقَدْ
عَنَا ابْنُ أَبِي كَبْشَةَ فِي هَذِهِ الْبِلَادِ، فَسَمِعَهَا ابْنُهُ
عَبْدُ اللهِ، فَاسْتَأْذَنَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فِي أَنْ يَأْتِيَهُ بِرَأْسِ أَبِيهِ، فَقَالَ: لَا، وَلَكِنْ بِرّ أَبَاك
وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ فِي هَذَا الْخَبَرِ أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ بلغته مقالة
__________
(1) لزمت.
(6/431)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَبْدِ اللهِ بْنِ أُبَيّ: مَتَنَ النّاسَ يَوْمَهُمْ ذَلِكَ، وَيُرْوَى
مَشَى، فَأَمّا مَتَنَ، فَقَالَ صَاحِبُ الْعَيْنِ: يُقَالُ: سَارُوا
سَيْرًا مُمَاتِنًا، أَيْ: بَعِيدًا.
حَوْلَ حَدِيثِ جُوَيْرِيَةَ «مُلّاحَةٌ وَمَلِيحٌ» :
فَصْلٌ: وَذَكَرَ جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَوُقُوعَهَا فِي
السّهْمِ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، أَوْ لِابْنِ عَمّ لَهُ، ثُمّ جَاءَتْ
تَسْتَعِينُ فِي كِتَابَتِهَا، قَالَتْ عَائِشَةُ: وَكَانَتْ امْرَأَةً
حُلْوَةً مُلّاحَةً. الْمُلّاحُ أَبْلَغُ مِنْ الْمَلِيحِ فِي كَلَامِ
الْعَرَبِ، وَكَذَلِكَ الْوَضّاءُ أَبْلَغُ مِنْ الْوَضِيءِ، وَالْكُبّارُ
كَذَلِكَ أَبْلَغُ مِنْ الْكَبِيرِ، غَيْرَ أَنّهُ لَا يُوصَفُ الْبَارِي
سُبْحَانَهُ بِهَذَا اللّفْظِ، فَيُقَالُ فِيهِ كُبّارٌ بِمَعْنَى كَبِيرٍ،
لِأَنّهُ عَلَى بِنْيَةِ الْجَمْعِ، نَحْوَ ضُرّابٍ وَشُهّادٍ، فَكَانَ
لَفْظُ الْكَبِيرِ وَنَحْوُهُ أَبْعَدَ مِنْ الِاشْتِرَاكِ، وَأَدَلّ عَلَى
الْوَحْدَانِيّةِ، وَاَللهُ أَعْلَمُ.
وَأَمّا مَعْنَى: الْمُلّاحَةِ، فَذَهَبَ قَوْمٌ إلَى أَنّهَا مِنْ
الْمُلْحَةِ وَهِيَ الْبَيَاضُ، تَقُولُ الْعَرَبُ: عِنَبٌ مُلّاحِيّ «1»
وَالصّحِيحُ فِي مَعْنَى الْمَلِيحِ، أَنّهُ مُسْتَعَارٌ مِنْ قَوْلِهِمْ:
طَعَامٌ مَلِيحٌ إذَا كَانَ فِيهِ مِنْ الْمِلْحِ بِقَدْرِ مَا يُصْلِحُهُ،
وَلِذَلِكَ إذَا بَالَغُوا فِي الْمَدْحِ قَالُوا: مَلِيحٌ قَزِيحٌ،
فَمَلِيحٌ مِنْ مَلَحْت الْقِدْرَ، وَقَزِيحٌ مِنْ قَزَحْتهَا إذَا طَيّبْت
نَكْهَتَهَا بِالْأَفَاوِيَةِ، وَهِيَ الأقزاح، ويدلك عَلَى بُعْدِ هَذَا
الْمَعْنَى مِنْ الْبَيَاضِ قَوْلُهُمْ: فِي الْأَسْوَدِ: مَلِيحٌ، وَفِي
الْعَيْنَيْنِ إذَا اشْتَدّ سَوَادُهُمَا وَحُسْنُهُمَا كَمَا جَاءَ فِي
تَفْسِيرِ قَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي
طَه: 29. أَنّهَا
__________
(1) وقد تشدد اللام.
(6/432)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مَلَاحَةٌ فِي الْعَيْنَيْنِ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيّ: الْحُسْنُ فِي
الْعَيْنَيْنِ، وَالْجَمَالُ فِي الْأَنْفِ، وَالْمَلَاحَةُ فِي الْفَمِ.
وَقَالَتْ امْرَأَةُ خَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ لِبَعْلِهَا: إنّك لَجَمِيلٌ
يَا أَبَا صَفْوَانَ، فَقَالَ: وَكَيْفَ وَلَيْسَ عِنْدِي رِدَاءُ
الْجَمَالِ وَلَا بُرْنُسُهُ وَلَا عَمُودُهُ؟ ثُمّ قَالَ: عَمُودُهُ
الطّولُ، وَأَنَا رَبْعَةٌ، وَبُرْنُسُهُ سَوَادُ الشّعْرِ، وَأَنَا
أَشْمَطُ، وَرِدَاؤُهُ الْبَيَاضُ، وَأَنَا آدَمُ، وَلَكِنْ قُولِي: إنّك
مَلِيحٌ ظَرِيفٌ.
فَعَلّمَهَا أن الملاحة قد تكون من صفة لآدم، فَهِيَ إذًا لَيْسَتْ مِنْ
مَعْنَى الْبَيَاضِ فِي شَيْءٍ، وَإِنّمَا هِيَ ضِدّ الْمَسَاسَةِ.
غَيْرَةُ نِسَاءِ النبى، وَالنّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ:
وَقَوْلُ عَائِشَةَ فِي جُوَيْرِيَةَ: فَوَاَللهِ مَا هُوَ إلّا أَنْ
رَأَيْتهَا عَلَى بَابِ حُجْرَتِي فَكَرِهْتهَا. فِيهِ مَا كَانَ عَلَيْهِ
أَزْوَاجُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ الْغَيْرَةِ
عَلَيْهِ، وَالْعِلْمِ بِمَوْقِعِ الْجَمَالِ مِنْهُ، كَمَا قَدْ رُوِيَ
أَنّهُ- عَلَيْهِ السّلَامُ- أَنّهُ خَطَبَ امْرَأَةً فَأَرْسَلَ عَائِشَةَ
لِتَنْظُرَ إلَيْهَا، فَلَمّا رَجَعَتْ إلَيْهِ قَالَتْ: مَا رَأَيْت
طَائِلًا، فَقَالَ: بَلَى لقد رأيت: خالا فى خَدّهَا اقْشَعَرّتْ مِنْهُ
كُلّ شَعْرَةٍ فِي جَسَدِك.
وَأَمّا نَظَرُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِجُوَيْرِيَةَ حَتّى عَرَفَ مِنْ
حُسْنِهَا مَا عَرَفَ، فَإِنّمَا ذَلِكَ لِأَنّهَا كَانَتْ امْرَأَةً
مَمْلُوكَةً، وَلَوْ كَانَتْ حُرّةً مَا مَلَأَ عَيْنَهُ مِنْهَا، لِأَنّهُ
لَا يُكْرَهُ النّظَرُ إلَى الْإِمَاءِ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ نَظَرَ
إلَيْهَا، لِأَنّهُ نَوَى نِكَاحَهَا، كَمَا نَظَرَ إلَى الْمَرْأَةِ
الّتِي قَالَتْ لَهُ: إنّي قَدْ وَهَبْت نَفْسِي لَك يَا رَسُولَ اللهِ،
فَصَعّدَ فِيهَا النّظَرَ ثُمّ صَوّبَ، ثُمّ أَنْكَحَهَا مِنْ غَيْرِهِ،
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ عَلَيْهِ السّلَامُ الرّخْصَةُ فِي النّظَرِ إلَى
الْمَرْأَةِ عِنْدَ إرَادَةِ نِكَاحِهَا، وَقَالَ لِلْمُغِيرَةِ حِينَ
شَاوَرَهُ فِي نِكَاحِ امْرَأَةٍ:
(6/433)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَوْ نَظَرْت إلَيْهَا، فَإِنّ ذَلِكَ أَحْرَى أَنْ يُؤْدَمَ بَيْنَكُمَا،
وَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ لِمُحَمّدِ بْنِ مَسْلَمَةَ حِينَ أَرَادَ نِكَاحَ
ثُبَيْتَةَ بِنْتَ الضّحّاكِ، وَقَدْ أَجَازَهُ مَالِكٌ فِي إحْدَى
الرّوَايَتَيْنِ عَنْهُ، ذَكَرَهَا ابْنُ أَبِي زَيْدٍ. وَفِي مُسْنَدِ
الْبَزّارِ مِنْ طَرِيقِ أَبِي بَكْرَةَ لَا حَرَجَ أَنْ يَنْظُرَ الرّجُلُ
إلَى الْمَرْأَةِ إذَا أَرَادَ تَزَوّجَهَا، وَهِيَ لَا تَشْعُرُ وَفِي
تَرَاجِمِ الْبُخَارِيّ: النّظَرُ إلَى الْمَرْأَةِ قَبْلَ التّزْوِيجِ،
وَأَوْرَدَ فِي الْبَابِ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ لِعَائِشَة أَرَيْتُك
فِي الْمَنَامِ يَجِيءُ بِك الْمَلَكُ فِي سَرَقَةٍ مِنْ حَرِيرٍ،
فَكُشِفَتْ عَنْ وَجْهِك، فَقَالَ: هَذِهِ امْرَأَتُك، فَقُلْت: إنْ يَكُنْ
مِنْ عِنْدِ اللهِ يَمْضِهِ. وَهَذَا اسْتِدْلَالٌ حَسَنٌ. وَفِي قَوْلِهِ:
إنْ يَكُنْ مِنْ عِنْدِ اللهِ سُؤَالٌ، لِأَنّ رُؤْيَاهُ وَحْيٌ، فَكَيْفَ
يُشَكّ فِي أَنّهَا مِنْ عِنْدِ اللهِ.
وَالْجَوَابُ: أَنّهُ لَمْ يَشُكّ فِي صِحّةِ الرّؤْيَا، وَلَكِنّ
الرّؤْيَا قَدْ تَكُونُ عَلَى ظَاهِرِهَا. وَقَدْ تَكُونُ لِمَنْ هُوَ
نَظِيرُ الْمَرْءِ أَوْ سَمِيّهُ، فَمِنْ هَاهُنَا تَطَرّقَ الشّكّ مَا
بَيْنَ أَنْ تَكُونَ عَلَى ظَاهِرِهَا، أَوْ لَهَا تَأْوِيلٌ كَذَلِكَ،
وَسَمِعْت شَيْخَنَا يَقُولُ فِي مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَلِغَيْرِهِ
فِيهِ قَوْلٌ لَا أَرْضَاهُ، فَلَا يَخْلُو نَظَرُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ
إلَيْهَا مِنْ أَحَدِ الْأَمْرَيْنِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ
يُضْرَبَ الْحِجَابُ، وَإِلّا فَقَدْ قَالَ الله تعالى له: قُلْ
لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَهُوَ إمَامُ الْمُتّقِينَ
وَقُدْوَةُ الورعين «1» صلى الله عليه وسلم.
__________
(1) هذا هو الحق، ولا يلتفت أبدا إلى سواه. وللأستاذ العقاد فصل ممتاز عن
زواج النبى صلى الله عليه وسلم نختار منه ما يأتى: «لا حجة المسلم على صدق
محمد عليه السلام فى رسالته أصدق من سيرته فى زواجه. وفى اختيار زوجاته،
وليس النبوة من آية أشرف من آيتها فى معيشة نبى الإسلام من مطلع حياته-
(6/434)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
جُوَيْرِيَةُ:
وَأَمّا جُوَيْرِيَةُ فَهِيَ بِنْتُ الْحَارِثِ بْنِ أَبِي ضِرَارِ بْنِ
حَبِيبِ بْنِ عَائِدِ بْنِ مالك ابن جذيمة، وجذيمة هو الْمُصْطَلِقِ مِنْ
خُزَاعَةَ، كَانَ اسْمُهَا بَرّةُ، فَسَمّاهَا
__________
- إلى يوم وفاته. ما الذى يفعله الرجل الشهوان الفاسق فى لذات الجسد إذا
بلغ من المكانة والسلطان ما بلغه محمد بين قومه؟ لم يكن عسيرا عليه أن يجمع
إليه أجمل بنات العرب، وأفتن جوارى الفرس والروم. ولم يكن عسيرا عليه أن
يوفر لنفسه، ولأهله من الطعام والكساء والزينة ما لم يتوفر لسيد من سادات
الجزيرة فى زمان. فهل فعل محمد «ص» ذلك بعد نجاحه؟ هل فعل محمد ذلك فى مطلع
حياته؟ كلا لم يفعله قط، بل فعل نقيضه، وكاد أن يفقد زوجاته لشكايتهن من
شظف العيش فى داره. ولم يحدث قط أن اختار زوجة واحدة، لأنها مليحة أو
وسيمة، ولم يبن بعذراء قط إلا العذراء التى علم قومه جميعا أنه اختارها،
لأنها بنت صديقه وصفيه، وخليفته من بعده أبى بكر الصديق رضى الله عنه ...
وما بنى- عليه السلام- بواحدة من أمهات المسلمين، لما وصفت به عنده من جمال
ونضارة، وإنما كانت صلة الرحم، والضن بها على المهانة هى الباعث الأكبر فى
نفسه الشريفة على التفكير فى الزواج منهن» ... ثم يتحدث عن كل زوجة من
أزواجه صلى الله عليه وسلم، ثم يقول: «والسيدة جويرية بنت الحارث سيد قومه
كانت بين السبايا فى غزوة بنى المصطلق، فأكرمها النبى- عليه السلام- أن تذل
ذلة السباء، فتزوجها، وأعتقها، وحض المسلمين على إعتاق سباياهم، فأسلموا
جميعا، وحسن إسلامهم، وخيرها أبوها بين العودة إليه، والبقاء عند رسول
الله، فاختارت البقاء فى حرم رسول الله، ص 190 وما بعدها حقائق الإسلام ط 1
(6/435)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
رَسُولُ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جُوَيْرِيَةَ «1» ،
وَقَدْ رُوِيَ مِثْلُ هَذَا فِي حَدِيثِ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ
وَكَذَلِكَ زَيْنَبُ بِنْتُ جَحْشٍ، كَانَ اسْمُهَا بَرّةَ أَيْضًا،
وَزَيْنَبُ بِنْتُ أَبِي سَلَمَةَ رَبِيبَتُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ، كَانَ
اسْمُهَا بَرّةُ فَسَمّاهُنّ جُمَعٌ بِغَيْرِ ذَلِكَ الِاسْمِ، تُوُفّيَتْ
جُوَيْرِيَةُ فِي شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوّلِ سَنَةَ سِتّ أَوْ خَمْسٍ
وَخَمْسِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَكَانَتْ قَبْلَ أَنْ تُسْبَى عِنْدَ
مُسَافِعِ بْنِ صَفْوَانَ الْخُزَاعِيّ.
حَدِيثُ الْإِفْكِ فِيهِ مِنْ الْغَرِيبِ قَوْلُ عَائِشَةَ: وَالنّسَاءُ
يَوْمَئِذٍ لم يهبّجهنّ «2» اللحم فيثقلن.
__________
(1) فى حديث رواه مسلم وأبو داود عن محمد بن عمرو بن عطاء أن زينب سألته:
ما سميت بنتك؟ فقال: سميتها: برة، فقالت زينت: كان اسم جويرية برة، فغيره
رَسُولُ اللهِ- صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ- بِاسْمِ جويرية» وفى حديث
رواه أبو داود «نهى رسول الله أن يسمى بهذا الاسم، فقال: لا تركوا أنفسكم،
والله أعلم بأهل البر منكم» .
(2) فى جميع النسخ المطبوعة: يهجهن أو يهيجهن. على حين ينقل المحققون
السيرة فى كل طبعة شرح الكلمة عن أبى ذر وعن الروض. وهى فى الروض يهجهن
أيضا، والسهيلى يشرحها بقوله: التهييج: انتفاخ فى الجسم، أما أبو ذر فيقول:
والتهييج كالورم فى الجسد، وفى الجمهرة: التهيج: انتفاخ الوجه وتقبضه. وما
قاله أبو ذر هو الصواب ولعله خطأ من الناسخ فى الروض ومن الطابع فى
السيرة!! وفى اللسان: هبجه بالباء تهبيجا فتهبج، أى ورمه فتورم. والتهبيج:
شبه الورم فى الجسد. والكلمة عدة روايات: لم يثقلهن اللحم، أو لم يغشهن
اللحم، وفى رواية: لم يهبلهن اللحم. وهبله اللحم وأهبله إذا أثقله وأصبح
فلان مهبلا أى كثير اللحم أو وارم الوجه، وفلان مهبل أى مهيج، كان به ورما.
(6/436)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التّهييج: انْتِفَاخٌ فِي الْجِسْمِ قَدْ يَكُونُ مِنْ سِمَنٍ، وَقَدْ
يَكُونُ مِنْ آفَةٍ، قَالَ الْأَصْمَعِيّ أَوْ غَيْرُهُ: هَجَمْت عَلَى
حَيّ مِنْ الْعَرَبِ بِوَادٍ خَصِيبٍ، وَإِذَا أَلْوَانُهُمْ مُصْفَرّةٌ
وَوُجُوهُهُمْ مُهَيّجَةٌ، فَقُلْت لَهُمْ: مَا بَالُكُمْ؟ وَادِيكُمْ
أَخْصَبُ واد، وأنتم لا تشبهون الْمَخَاصِبَ، فَقَالَ لِي شَيْخٌ مِنْهُمْ:
إنّ بَلَدَنَا لَيْسَتْ لَهُ رِيحٌ، يُرِيدُ: أَنّ الْجِبَالَ أَحَاطَتْ
بِهِ فَلَا تُذْهِبُ الرّيَاحُ وَبَاءَهُ وَلَا رَمَدَهُ.
صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطّلِ:
وَفِيهِ ذِكْرُ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطّلِ بْنِ رُبَيْضَةَ بْنِ خُزَاعِيّ
بْنِ مُحَارِبِ بْنِ مُرّةَ بْنِ فَالِجِ بْن ذَكُوَانُ بْنُ ثَعْلَبَةَ
بْنِ بُهْثَةَ بْنِ سُلَيْمٍ السّلَمِيّ، ثُمّ الذّكُوَانِيّ يُكَنّى أَبَا
عَمْرٍو، وَكَانَ يَكُونُ عَلَى سَاقَةِ الْعَسْكَرُ يَلْتَقِطُ مَا
يَسْقُطُ مِنْ مَتَاعِ الْمُسْلِمِينَ، حَتّى يَأْتِيَهُمْ بِهِ،
وَلِذَلِكَ تَخَلّفَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الّذِي قَالَ فِيهِ أَهْلُ
الْإِفْكِ مَا قَالُوا، وَقَدْ رُوِيَ فِي تَخَلّفِهِ سَبَبٌ آخِرُ، وَهُوَ
أَنّهُ كَانَ ثَقِيلُ النّوْمِ لَا يَسْتَيْقِظُ حَتّى يَرْتَحِلَ النّاسُ.
وَيَشْهَدُ لِصِحّةِ هَذَا حَدِيثُ أَبِي دَاوُدَ أَنّ امْرَأَةَ صَفْوَانَ
اشْتَكَتْ بِهِ إلَى النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وذكرت
أشياء منها أنه لا يصلى الصبخ، فقال صفوان: يا رسول الله إنى امرؤ ثَقِيلُ
الرّأْسِ لَا أَسْتَيْقِظُ حَتّى تَطْلُعَ الشّمْسُ، فَقَالَ لَهُ النّبِيّ
عَلَيْهِ السّلَامُ: فَإِذَا اسْتَيْقَظْت فَصَلّ وَقَدْ ضَعّفَ الْبَزّارُ
حَدِيثَ أَبِي دَاوُدَ «1» هذا فى مسنده. وقتل صفوان
__________
(1) يرويه أبو ذر فى سننه والبزار وابن سعد وابن حيان والحاكم من طريق
الأعمش عن أبى صالح عن أبى سعيد. وقد قال البزار: هذا الحديث كلامه منكر،
ولعل الأعمش أخذه من غير ثقة، فدلسه فصار ظاهر سنده الصحة، وليس للحديث
عندى أصل وقد رد الحافظ فى الفتح على البزار ردا مطولا فانظره ص 272 ح 8 ط
1 1348 عبد الرحمن محمد.
(6/437)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن الْمُعَطّلِ شَهِيدًا فِي خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ، وَانْدَقّتْ رِجْلُهُ
يَوْمَ قُتِلَ، فَطَاعَنَ بِهَا، وَهِيَ مُنْكَسِرَةٌ، حَتّى مات، وذلك
بالجزيرة بموضع لَهُ شِمْطَاطٌ.
تَفْسِيرُ أَسْقَطُوا:
وَفِيهِ مِنْ غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّهُمْ دَعَوْا
الْجَارِيَةَ، فَسَأَلُوهَا حَتّى أَسْقَطُوا لَهَا بِهِ، يُرِيدُ:
أَفْصَحُوا بِالْأَمْرِ، ونقرّوا عنه، يقال: ساقطته الحديث ساقطة
وَأَسْقَطُوا بِهِ، فِي هَذَا الْمَعْنَى قَالَ أَبُو حَيّةَ
[النّمَيْرِيّ] :
إذَا هُنّ سَاقَطْنَ الْحَدِيثَ كَأَنّهُ ... سقاط حصا الْمَرْجَانِ مِنْ
سِلْكٍ نَاظِمٍ «1»
كَذَا فَسّرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بَطّالٍ، وَفِيمَا ذَكَرَ ابْنُ
إسْحَاقَ مِنْ رِوَايَةِ الشّيْبَانِيّ عَنْهُ، أَنّهُمْ أَدَارُوا
الْجَارِيَةَ عَلَى الْحَدِيثِ، وَلَمْ يَصْرُخُوا لَهَا حَتّى فَطِنَتْ
بِمَا أَرَادُوا، فَقَالَتْ: مَا أَعْلَمُ عَلَيْهَا عَيْبًا، الْحَدِيثُ.
وَأَمّا ضَرْبُ عَلِيّ لِلْجَارِيَةِ وَهِيَ حُرّةٌ، وَلَمْ تَسْتَوْجِبْ
ضَرْبًا، وَلَا اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- فِي ضَرْبِهَا، فَأَرَى مَعْنَاهُ أَنّهُ أَغْلَظَ لَهَا
بِالْقَوْلِ، وَتَوَعّدَهَا بِالضّرْبِ، وَاتّهَمَهَا أَنْ تَكُونَ خَانَتْ
اللهَ وَرَسُولَهُ، فَكَتَمَتْ مِنْ الْحَدِيثِ مَا لَا يَسَعُهَا كَتْمُهُ
مَعَ إدْلَالِهِ، وَأَنّهُ كَانَ مِنْ أَهْلُ الْبَيْتِ، وَفِي غير حديث
ابن إسحاق
__________
(1) البيت من قصيدة طويلة ذكر منها القالى ثمانية أبيات منها هذا البيت
ورواية الشطرة الأولى هكذا: إذا هن ساقطن الأحاديث الفتى كما ذكرها البكرى
فى السمط وزاد فيها، وبين روايته ورواية القالى اختلاف يسير. ص 280 ح 2 ط 2
الأمالى، ص 925 سمط اللآلى.
(6/438)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَالَتْ الْجَارِيَةُ: وَاَللهِ مَا أَعْلَمُ عَلَيْهَا إلّا مَا يَعْلَمُ
الصّائِغُ عَلَى الذّهَبِ الْأَحْمَرِ.
بَرِيرَةُ:
وَأَمّا بَرِيرَةُ فَهِيَ مَوْلَاةُ عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا-
الّتِي اشْتَرَتْهَا مِنْ بَنِي كَاهِلٍ فَأَعْتَقَتْهَا، وَخُيّرَتْ فِي
زَوْجِهَا، وَكَانَ عَبْدًا لِبَنِي جَحْشٍ. هَذِهِ رِوَايَةُ أَهْلِ
الْمَدِينَةِ، وَفِي رِوَايَةِ أَهْلِ الْعِرَاقِ أَنّهُ كَانَ حُرّا،
وَهِيَ رِوَايَةُ الْأَسْوَدِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَائِشَةَ، وَالْأَوْلَى
رِوَايَةُ عُرْوَةَ وَالْقَاسِمِ، بْنِ مُحَمّدٍ عَنْ عَائِشَةَ،
وَكَذَلِكَ يَقُولُونَ بِتَخْيِيرِ الْأَمَةِ إذَا عَتَقَتْ، وَإِنْ كَانَ
بَعْلُهَا حُرّا، وَقَوْلُ أَهْلِ الْحِجَازِ عَلَى حَسَبِ رِوَايَتِهِمْ،
فَلَا يَرَوْنَ تَخْيِيرَهَا، إلّا إذَا كَانَ زَوْجُهَا عَبْدًا،
وَعَاشَتْ بَرِيرَةُ حَتّى رَوَى عَنْهَا الْحَدِيثَ بَعْضُ التّابِعِينَ.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ:
كُنْت أُجَالِسُ بَرِيرَةَ قَبْلَ أَنْ أَلِيَ هَذَا الْأَمْرَ، فَتَقُولُ
لِي: يَا أَبَا عَبْدِ الْمَلِكِ، إنّ فِيك خِصَالًا خَلِيقَةً بِهَذَا
الْأَمْرِ، فَإِنْ وُلّيت هَذَا الْأَمْرَ فَاتّقِ اللهَ فِي الدّمَاءِ،
فَإِنّي سَمِعْت رَسُولَ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
يَقُولُ: إنّ الرّجُلَ لَيُحَالُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنّةِ بَعْدَ أَنْ
يَنْظُرَ إلَيْهَا بِمِحْجَمَةِ دَمٍ أَرَاقَهَا مِنْ مُسْلِمٍ فِي غَيْرِ
حَقّ.
وَالْبَرِيرَةُ وَاحِدَةُ الْبَرِيرِ وَهُوَ ثَمَرُ الْأَرَاكِ.
أُمّ رُومَانَ:
وَأَمّا أُمّ رُومَانَ، وَهِيَ أُمّ عَائِشَةَ فَقَدْ مَرّ ذِكْرُهَا فِي
هَذَا الْحَدِيثِ، وَهِيَ زَيْنَبُ بِنْتُ عَامِرِ بْنِ عُوَيْمِرِ بْنِ
عَبْدِ شَمْسِ بْنِ دُهْمَانَ، وَهِيَ مِنْ كِنَانَةَ، وَاخْتُلِفَ فِي
عَمُودِ نَسَبِهَا، وُلِدَتْ لِأَبِي بَكْرٍ عَائِشَةُ وَعَبْدُ
الرّحْمَنِ، وَكَانَتْ قَبْلَ
(6/439)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَبِي بَكْرٍ عِنْدَ عَبْدِ اللهِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ سَخْبَرَةَ،
فَوَلَدَتْ لَهُ الطّفَيْلَ، وَتُوُفّيَتْ أُمّ رُومَانَ سَنَةَ سِتّ مِنْ
الْهِجْرَةِ، وَنَزَلَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي
قَبْرِهَا، وَقَالَ «اللهُمّ إنّهُ لَمْ يَخَفْ عَلَيْك مَا لَقِيَتْ أُمّ
رُومَانَ فِيك، وَفِي رَسُولِك» وَقَالَ: «مَنْ سَرّهُ أَنْ يَنْظُرَ إلَى
امْرَأَةٍ مِنْ الْحُورِ الْعِينِ، فَلْيَنْظُرْ إلَى أُمّ رُومَانَ «1» .
وَهْمٌ لِلْبُخَارِيّ:
وَرَوَى الْبُخَارِيّ حَدِيثًا عَنْ مَسْرُوقٍ، وَقَالَ فِيهِ: «سَأَلْت
أُمّ رُومَانَ وَهِيَ أُمّ عَائِشَةَ عَمّا قِيلَ فِيهَا» وَمَسْرُوقٌ
وُلِدَ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِلَا
خِلَافٍ، فَلَمْ يَرَ أُمّ رُومَانَ قَطّ «2» ، فَقِيلَ إنّهُ وَهِمَ فِي
الْحَدِيثِ، وَقِيلَ: بَلْ الْحَدِيثُ صَحِيحٌ، وَهُوَ مُقَدّمٌ عَلَى مَا
ذَكَرَهُ أَهْلُ السّيرَةِ مِنْ مَوْتِهَا فِي حَيَاةِ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ تَكَلّمَ شَيْخُنَا أَبُو بَكْرٍ-
رَحِمَهُ اللهُ- عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ، وَاعْتَنَى بِهِ لِإِشْكَالِهِ،
فَأَوْرَدَهُ مِنْ طُرُقٍ، فَفِي بَعْضِهَا: حَدّثَتْنِي أُمّ رُومَانَ،
وَفِي بَعْضِهَا عَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ أُمّ رومان معنعنا، قال رحمه الله:
والصنعنة أَصَحّ فِيهِ، وَإِذَا كَانَ الْحَدِيثُ مُعَنْعَنًا كَانَ
مُحْتَمَلًا، وَلَمْ يَلْزَمْ فِيهِ مَا يَلْزَمُ فِي حدّثنا،
__________
(1) الأول رواه أبو عمر، والآخر رواه ابن سعد. وانظر الإصابة.
(2) أنكر سماع مسروق من أم رومان جماعة من الحفاظ منهم الخطيب البغدادى،
وذلك لما ذكره أهل التاريخ أنها ماتت فى زمن النبى «ص» قال الخطيب: وقد كان
مسروق يرسله، فيقول: سئلت أم رومان، ويسوقه، فلعل بعضهم كتب سئلت بألف
فاعتقد الراوى أنها سألت، فظنه متصلا.
(6/440)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي سَأَلْت، لِأَنّ لِلرّاوِي أَنْ يَقُولَ: عَنْ فُلَانٍ، وَإِنْ لَمْ
يُدْرِكْهُ وَهُوَ كَثِيرٌ فِي الْحَدِيثِ.
تُنَاصِبُنِي أَوْ تُنَاصِينِي:
وَقَوْلُ عَائِشَةَ: لَمْ تَكُنْ امْرَأَةٌ تُنَاصِبُنِي فِي الْمَنْزِلَةِ
عِنْدَهُ غَيْرَهَا، هَكَذَا فِي الْأَصْلِ تُنَاصِبُنِي «1» ،
وَالْمَعْرُوفُ فِي الْحَدِيثِ: تُنَاصِينِي مِنْ الْمُنَاصَاةُ، وَهِيَ
الْمُسَاوَاةُ، وَأَصْلُهُ مِنْ النّاصِيَةِ.
شِعْرُ حَسّانَ فِي الْتعَرِيضِ بِابْنِ الْمُعَطّلِ:
وَذَكَرَ قَوْلَ حَسّانَ:
أَمْسَى الْجَلَابِيبُ قَدْ عَزّوا وَقَدْ كَثُرُوا ... وَابْنُ
الْفُرَيْعَةِ أَمْسَى بَيْضَةَ الْبَلَدِ
يَعْنِي بِالْجَلَابِيبِ الْغُرَبَاءَ، وَبَيْضَةُ الْبَلَدِ، يَعْنِي:
مُنْفَرِدًا، وَهِيَ كَلِمَةٌ يُتَكَلّمُ بِهَا فِي الْمَدْحِ تَارَةً
وَفِي مَعْنَى الْقِلّ أُخْرَى، يُقَالُ: فُلَانٌ بَيْضَةُ الْبَلَدِ،
أَيْ: أَنّهُ وَاحِدٌ فِي قَوْمِهِ، عَظِيمٌ فِيهِمْ، وَفُلَانٌ بَيْضَةُ
الْبَلَدِ، يُرِيدُ: أَنّهُ ذَلِيلٌ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ.
وَأَمّا قَوْلُهُ:
قَدْ ثَكِلَتْ أُمّهُ مَنْ كُنْت صَاحِبَهُ فَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
قَوْلُهُ: مَنْ مُبْتَدَأٌ، وَقَدْ ثَكِلَتْ أُمّهُ فى موضع الخبر
__________
(1) لعلها كانت كذلك فى نسخته، أما هى فى السيرة: تناصينى بالياء لا بالباء
(6/441)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُقَدّمِ عَلَيْهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَنْ مَفْعُولًا بِثَكِلَتْ،
وَأُضْمِرَ قَبْلَ الذّكْرِ مَعَ اتّصَالِ الضّمِيرِ بِالْفَاعِلِ،
فَيَكُونُ مِثْلَ قَوْلِهِ:
جَزَى رَبّهُ عَنّي عَدِيّ بْنَ حَاتِمٍ وَمِثْلُ قَوْلِهِ:
أَبْقَى الْيَوْمَ مَجْدُهُ مُطْعِمَا وَقَدْ تَقَدّمَ الْقَوْلُ فِيهِ «1»
.
وَقَوْلُهُ: فَيَغْطَئِلُ، يُرِيدُ: الْبَحْرَ أَيْ، يَهِيجُ وَيَعْتَلِمُ،
وَأَصْلُ هَذِهِ الْكَلِمَةِ مِنْ الْغَيْطَلَةِ، وَهِيَ الظّلْمَةُ،
وَأَصْلُهَا يَغْطَالّ مِثْلَ يَسْوَادّ، لَكِنّهُ هَمَزَ الْأَلِفَ
لِئَلّا يَجْتَمِعَ سَاكِنَانِ، وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُهُمَا فِي مِثْلِ
هَذَا الْمَوْضِعِ حَسَنًا كَقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَلَا
الضَّالِّينَ «2» ، وَلَكِنّهُمَا فِي الشّعْرِ لَا يَجْتَمِعَانِ إلّا فِي
عُرُوضٍ وَاحِدَةٍ، وَهِيَ الْمُتَقَارِبُ، وَمَعَ هَذَا فَقَدْ قَرَأَ
أَيّوبُ بْنُ أَبِي تَمِيمَةَ [كَيْسَانُ] السّخْتِيَانِيّ وَلَا
الضّالّينَ بِهَمْزَةِ مَفْتُوحَةٍ «3» وَقَرَأَ عَمْرُو
__________
(1) هو كما قال قد سبق القول فى هذا. والشطرة الأولى بقيتها: جزاء الكلاب
العاويات، وقد فعل. والبيت كما زعم ابن جنى وغيره للنابغة. وقيل لأبى
الأسود الديلى يهجو به عدى بن حاتم الطائى. وأبقى مجده مطعما. هى من بيت
شعر لحسان يرثى به جبير بن مطعم هو:
ولو أن مجدا أخلد الدهر واحدا ... من الناس أبقى مجده الدهر مطعما
(2) أصلها: الضالين فحذفت حركة اللام الأولى، ثم أدغمت اللام فى اللام،
فاجتمع ساكنان: مدة الألف واللام المدغمة.
(3) وغير ممدودة كأنه فر من التقاء الساكنين، وهى لغة.
(6/442)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ابن عُبَيْدٍ: إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ «1» الرّحْمَنُ: 56
وَأَنْشَدَ الْخَطّابِيّ:
سَقَى مُطْغِيَاتِ الْمَحْلِ سَكْبًا وَدِيمَةً ... عِظَامُ ابْنُ لَيْلَى
حَيْثُ كَانَ رَمِيمُهَا
فَأَصْبَحَ مِنْهَا كُلّ وَادٍ وَتَلْعَةٍ ... حَدَائِقَ خُضْرًا
مُزْهَئِرّا عَمِيمُهَا
أنشدأ:
خَاطِمَهَا زَأَمّهَا أَنْ تَهْرُبَا «2» فَإِنْ قِيلَ: الْهَمْزَةُ فِي
هَذَا كُلّهِ مَفْتُوحَةٌ، وَفِي قَوْلِهِ يَغْطَئِلّ مكسورة،
__________
(1) حكى أبو زيد قال: سمعت عمرو بن عبيد يقرأ (فيومئذ لا يسأل عن ذئبه إنس،
ولا جأن) فظننته قد لحن حتى سمعت من العرب دأبة، وشأبة. قال أبو الفتح:
وعلى هذه اللغة قول كثير: إذا ما الغوالى بالعبيط احمأرت وانظر ص 428 ح 4
من شرح الشافية المرضى وص 105، وما بعدها، ص 149 ح 1 وما بعدها شرح تصريف
المازنى لابن جنى وقد أفاض ابن جنى فى الكلام على هذا فى قراءة من قرأ ولا
الضألين بهمز الألف فى ص 22 وما بعدها من كتابه المحتسب.
(2) استعار بعض الرجاز الخطام فى الحشرات، فقال:
يا عجبا لقد رأيت عجبا ... حمار قبان يسوق أرنبا
عاقلها خاطمها أن تذهبا ... فقلت: أردفنى، فقال
أراد: لئلا تذهب، أو مخاقة أن تذهب. ورواه ابن جنى كما روى السهيلى: خاطمها
زأمها أن تذهبا. أراد: زأمها. وزممت البعير: خطمته، ويقول اللسان إنه حرك
الهمزة ضرورة لاجتماع الساكنين كما جاء فى الشعر: اسوأدت بمعنى: اسوادت.
أنظر مادة خطم وزمم فى اللسان. وزأمها فى الأصل: رامها.
(6/443)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وكذلك فى الحديث الصحيح: أسود مر بئدّ فِي رِوَايَةٍ.
قُلْنَا: إنّمَا كُسِرَتْ الْهَمْزَةُ فِي مزهئرّ ومر بئدّ وَيَغْطَئِلّ،
بَعْدَ أَنْ فُتِحَتْ فِي الْمَاضِي، فَقِيلَ: اغْطَأَلّ، وَازْهَأَرّ،
فَصَارَ عَلَى وَزْنِ اطْمَأَنّ، فَجَاءَ اسْمُ الْفَاعِلِ
وَالْمُسْتَقْبَلِ عَلَى ذَلِكَ الْقِيَاسِ مَكْسُورًا كَمَا يُكْسَرُ فِي
مُطْمَئِنّ
تَفْسِيرُ الْعَجَبِ:
وَقَوْلُ ثَابِتٍ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ رَوَاحَةَ: أَمَا أَعْجَبَك ضَرْبُ
حَسّانَ بِالسّيْفِ، مَعْنَاهُ: أَمَا جَعَلَك تَعْجَبُ، تَقُولُ: عَجِبْت
مِنْ الشّيْءِ وَأَعْجَبَنِي الشّيْءُ، إذَا كَانَ ذَلِكَ الْعَجَبُ مِنْ
مَكْرُوهٍ أَوْ مَحْبُوبٍ، وَهُوَ عِنْدَ النّاسِ بِمَعْنَى سَرّنِي لَا
غَيْرَ، وَفِي الْحَدِيثِ، وَكَلَام الْعَرَبِ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ عَلَى
هَذَا الْمَعْنَى مِنْهَا فِي الْكَامِل فَلَأَعْجَبَنِي أَنْ أَعْجَبَهُ
بُكَاءُ أَبِيهِ، وَفِي حَدِيثٍ ذَكَرَهُ عَنْ عبد الرحمن بن حسان «1» ،
وكذلك أنشد:
__________
(1) فى اللسان: ذكر أبو زيد خارجة بن زيد أن حسان بن ثابت أنشد قوله:
انظر خليلى ببطن جلق هل ... تؤنس دون البلقاء من أحد
فبكى حسان بذكر ما كان فيه من صحة البصر والشباب بعد ما كف بصره، وكان ابنه
عبد الرحمن حاضرا، فسر ببكاء أبيه، قال خارجه: يقول: عجبت من سروره ببكاء
أبيه. قال ومثله قوله:
فقالت لى ابن قيس ذا ... وبعض الشىء يعجبها
وفى مكان آخر من نفس المادة أنشد اللسان لابن قيس الرقيات:
رأت فى الرأس منى شيبة لست أغيبها ... فقالت لى: ابن قيس ذا
وبعض الشىء يعجبها
أى يكسبها التعجب، أو تتعجب منه وأراد: أبى قيس فترك الألف الأولى.
(6/444)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَلَا هُزِئَتْ بِنّا قُرَشِيّةٌ يَهْتَزّ مَنْكِبُهَا تَقُول لِي: ابْنُ
قَيْسٍ ذَا وَبَعْضُ الشّيْبِ يُعْجِبُهَا وَقَالَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ:
لَوْ كُنْت أَعْجَبُ مِنْ شَيْءٍ لَأَعْجَبَنِي ... سَعْيُ الْفَتَى،
وَهُوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقِدْرُ «1» لَهُ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: أَتَشَوّهْت عَلَى قَوْمِي أَنْ هَدَاهُمْ
اللهُ، مَعْنَاهُ: أَقَبّحْت ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِمْ حِينَ سَمّيْتهمْ
بِالْجَلَابِيبِ مِنْ أَجْلِ هِجْرَتِهِمْ إلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ؟
بِيرُحَاءٍ:
وَقَوْلُهُ: فَأَعْطَاهُ عِوَضًا مِنْهَا بِيرَحَاءٍ، وَذَكَرَ بَعْضُهُمْ
أَنّ هَذِهِ الْبِئْرَ سُمّيَتْ بِيرَحَاءٍ بِزَجْرِ الْإِبِلِ عَنْهَا،
وَذَلِكَ أَنّ الْإِبِلَ يُقَالُ لَهَا إذَا زجرت عن الماء، وقد رويت حاحا،
وَهَكَذَا كَانَ الْأَصِيلِيّ يُقَيّدُهُ بِرَفْعِ الرّاءِ إذَا كَانَ
الِاسْمُ مَرْفُوعًا، وَبِالْمَدّ، وَغَيْرُ الْأَصِيلِيّ يَقُولُ: بيرحاء
بالفتح على كل حال وبالقصر
__________
(1) وبعده:
يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا ... فَالنّفْسُ وَاحِدَةٌ،
وَالْهَمّ مُنْتَشِرُ
وَالْمَرْءُ- مَا عَاشَ- مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ ... لَا تَنْتَهِي
الْعَيْنُ حَتّى يَنْتَهِي الْأَثَرُ
أنظر الاستيعاب لابن عبد البر والإصابة لابن حجر. وقال ابن عبد البر: كان
كعب شاعرا مجودا كثير الشعر مقدما فى طبقته هو وأخوه يجير، وكعب أشعرهما،
وأبوه زهير فوقهما.
(6/445)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
يَجْعَلُهُ اسْمًا وَاحِدًا، وَقَدْ حُكِيَ عَنْ بَعْضِهِمْ فيه بيرحاء
بِفَتْحِ الْبَاء مَعَ الْقَصْرِ، وَفِي الصّحِيحِ أَنّ أَبَا طَلْحَةَ
دَفَعَ بِيرَحَاءٍ إلَى رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
وَجَعَلَهَا صَدَقَةً، فَأَمَرَهُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- أَنْ يَجْعَلَهَا فى الأقربين، فقسمها بين أتىّ وَحَسّانَ،
وَفَسّرَ الْبُخَارِيّ وَأَبُو دَاوُدَ الْقَرَابَةَ الّتِي بَيْنَ أَبِي
طَلْحَةَ وَبَيْنَهُمَا قَالَا: فَأَمّا حَسّانُ فَهُوَ ابْنُ الْمُنْذِرِ
بْنُ ثَابِتِ بْنِ حَرَامٍ، وَأَبُو طَلْحَةَ هُوَ زَيْدُ بْنُ سَهْلِ بْنِ
حَرَامٍ «1» ، فَهَذِهِ قَرَابَةٌ قَرِيبَةٌ، وَأَمّا أُبَيّ، فَيَجْتَمِعُ
مَعَهُ فِي الْأَبِ السّادِسِ، وَهُوَ عَمْرُو بْنُ مَالِكِ بْنِ
النّجّارِ، وَقَدْ كَانَ أُبَيّ غَنِيّا، فَكَيْفَ تَرَكَ مَنْ هُوَ
أَقْرَبُ مِنْهُ، وَخَصّهُ؟
وَالْوَجْهُ فِي ذَلِكَ أَنّ أُبَيّا كَانَ ابْنَ عَمّةِ أَبِي طَلْحَةَ،
وَهِيَ صُهَيْلَةُ بِنْتُ الْأَسْوَدِ بْنِ حَرَامٍ، وَهُوَ مَعْرُوفٌ
عِنْدَ أَهْلِ النّسَبِ، فمن أجل ذلك النسب خصّه بها، لامن أَجْلِ النّسَبِ
الّذِي ذَكَرْنَاهُ فَإِنّهُ بَعِيدٌ، وَإِنّمَا قَالَ لَهُ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اجعلها فى الأقربين.
حول براءة عائشة:
وَفِي الْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ أَنّهُ لَمّا أنزل الله يراءتها
قَامَ إلَيْهَا أَبُو بَكْرٍ، فَقَبّلَ رَأْسَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: هَلّا
كُنْت عَذَرْتنِي، فَقَالَ: أَيّ سَمَاءٍ تظلّنى، وأى
__________
(1) فى الجمهرة لابن حزم: ابن سهل بن الأسود بن حرام ص 227 فلعل الأسود سقط
من الناسخ، وقد استوفى السمهودى القول فى بيرحاء فانظره ص 133 ح 2 وفاء
الوفاء، وانظر معاجم أسماء الأماكن كمعجم البكرى وياقوت ومراصد الإطلاع.
(6/446)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أرض تقلّنى، إن قلت بمالا أَعْلَمُ، وَكَانَ نُزُولُ بَرَاءَةِ عَائِشَةَ-
رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- بَعْدَ قُدُومِهِمْ الْمَدِينَةَ بِسَبْعِ
وَثَلَاثِينَ لَيْلَةً فِي قَوْلِ بَعْضِ الْمُفَسّرِينَ.
شِعْرُ حَسّانَ فِي مَدْحِ عَائِشَةَ:
وَقَوْلُ حَسّانَ فِي عَائِشَةَ:
حَصَانٌ رَزَانٌ مَا تُزَنّ بِرِيبَةِ ... وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ
الْغَوَافِلِ
حَصَانٌ: فَعَالٌ بِفَتْحِ الْحَاءِ يَكْثُرُ فِي أَوْصَافِ الْمُؤَنّثِ،
وَفِي الْأَعْلَامِ مِنْهَا، كَأَنّهُمْ قَصَدُوا بِتَوَالِي الْفَتَحَاتِ
مُشَاكَلَةَ خِفّةِ اللّفْظِ لِخِفّةِ الْمَعْنَى، أَيْ الْمُسَمّى
بِهَذِهِ الصّفَاتِ خَفِيفٌ عَلَى النّفْسِ، وَحَصَانٌ مِنْ الْحِصْنِ
وَالتّحَصّنِ، وَهُوَ الِامْتِنَاعُ عَلَى الرّجَالِ مِنْ نَظَرِهِمْ
إلَيْهَا، وَقَالَتْ جَارِيَةٌ مِنْ الْعَرَبِ لِأُمّهَا:
يَا أُمّتَا أَبْصَرَنِي رَاكِبٌ ... يَسِيرُ فِي مُسْحَنْفَرٍ لَاحِبِ «1»
جَعَلْت أَحْثِي التّرَابَ فِي وَجْهِهِ ... حُصْنًا وَأَحْمِي حَوْزَةَ
الْغَائِبِ «2»
فَقَالَتْ لَهَا أُمّهَا:
الْحُصْنُ أَدْنَى لَوْ تَآبَيْتِهِ ... مِنْ حَثْيِك التّرَبَ عَلَى
الرّاكِبِ
ذَكَرَ هَذِهِ الْأَبْيَاتَ أَحْمَدُ بْنُ أَبِي سَعِيدٍ السّيرَافِيّ فِي
شَرْحِ أبيات الإيضاح
__________
(1) المسحنفر: الممتد. واللاحب: الطريق الواسع المنقاد.
(2) روايته فى اللسان هكذا:
فظلت أحثى التراب فى وجهه ... عنى وأحمى حوزة الغائب.
(6/447)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَالرّزَانُ وَالثّقَالُ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَهِيَ الْقَلِيلَةُ
الْحَرَكَةِ.
وَقَوْلُهُ: وَتُصْبِحُ غَرْثَى مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ، أَيْ خَمِيصَةَ
الْبَطْنِ مِنْ لُحُومِ النّاسِ، أَيْ اغْتِيَابِهِمْ وَضَرَبَ الْغَرْثَ
مَثَلًا، وَهُوَ عَدَمُ الطّعْمِ وَخُلُوّ الْجَوْفِ، وَفِي التّنْزِيلِ:
أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً الْحُجُرَاتُ:
12 ضَرَبَ الْمَثَلَ لِأَخْذِهِ فِي الْعِرْضِ بِأَكْلِ اللّحْمِ، لِأَنّ
اللّحْمَ سِتْرٌ عَلَى الْعَظْمِ، وَالشّاتِمُ لِأَخِيهِ كَأَنّهُ يُقَشّرُ
وَيَكْشِفُ مَا عَلَيْهِ مِنْ سِتْرٍ.
وَقَالَ: مَيْتًا، لِأَنّ الْمَيّتَ لَا يُحِسّ، وَكَذَلِكَ الْغَائِبُ لَا
يَسْمَعُ مَا يَقُولُ فِيهِ الْمُغْتَابُ، ثُمّ هُوَ فِي التّحْرِيمِ
كَأَكْلِ لَحْمِ الْمَيّتِ.
وَقَوْلُهُ: مِنْ لُحُومِ الْغَوَافِلِ، يُرِيدُ: الْعَفَائِفَ
الْغَافِلَةُ قُلُوبُهُنّ عَنْ الشّرّ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: إِنَّ
الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ النّورُ: 23
جَعَلَهُنّ غَافِلَاتٍ، لِأَنّ الّذِي رُمِينَ بِهِ مِنْ الشّرّ لَمْ
يَهْمُمْنَ بِهِ قَطّ وَلَا خَطَرَ عَلَى قُلُوبِهِنّ، فَهُنّ فِي غَفْلَةٍ
عَنْهُ، وَهَذَا أَبْلَغُ مَا يَكُونُ مِنْ الْوَصْفِ بِالْعَفَافِ.
وَقَوْلُهُ:
لَهُ رَتَبٌ عَالٍ عَلَى النّاسِ كُلّهِمْ الرّتَبُ: مَا ارْتَفَعَ مِنْ
الْأَرْضِ وَعَلَا، وَالرّتَبُ أَيْضًا: قُوّةٌ فِي الشّيْءِ وَغِلَظٌ
فِيهِ، وَالسّوْرَةُ رُتْبَةٌ رَفِيعَةٌ مِنْ الشّرَفِ مَأْخُوذَةُ
اللّفْظِ مِنْ سُورِ الْبِنَاءِ.
وَقَوْلُهُ: فَإِنّ الّذِي قَدْ قِيلَ لَيْسَ بِلَائِطِ، أَيْ: بِلَاصِقِ،
يُقَالُ: ما يليط
(6/448)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
ذَلِكَ بِفُلَانِ، أَيْ: مَا يُلْصَقُ بِهِ، وَمِنْهُ سُمّيَ الرّبَا:
لِيَاطًا، لِأَنّهُ أُلْصِقَ بِالْبَيْعِ، وَلَيْسَ بِبَيْعِ. وَفِي
الْكِتَابِ الّذِي كَتَبَ لِثَقِيفِ: وَمَا كَانَ مِنْ دَيْنٍ لَيْسَ فِيهِ
رَهْنٌ، فَإِنّهُ لِيَاطٌ مُبَرّأٌ مِنْ اللهِ. وَسَيَأْتِي حَدِيثُهُ
مُفَسّرًا إنْ شَاءَ اللهُ.
وَقَوْلُهُ فِي الشّعْرِ:
فَلَا رفعت سو على إلَيّ أَنَامِلِي دُعَاءٌ عَلَى نَفْسِهِ، وَفِيهِ
تَصْدِيقٌ لِمَنْ قَالَ: إنّ حَسّانَ لَمْ يُجْلَدْ فِي الْإِفْكِ، وَلَا
خَاضَ فِيهِ، وَأَنْشَدُوا الْبَيْتَ الّذِي ذَكَرَهُ ابْنُ إسْحَاقَ:
لَقَدْ ذَاقَ حَسّانُ الّذِي كَانَ أَهْلَهُ عَلَى خِلَافِ هَذَا اللّفْظِ:
لَقَدْ ذَاقَ عَبْدُ اللهِ مَا كَانَ أَهْلَهُ ... وَحَمْنَةُ إذْ قَالُوا:
هَجِيرًا وَمِسْطَحُ
مَا نَزَلَ فِي حول أَصْحَابِ الْإِفْكِ:
وَذَكَرَ مَا أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى فِي أَصْحَابِ الْإِفْكِ وَقَوْلَهُ
تَعَالَى: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ النّورُ: 15 وَكَانَتْ
عَائِشَةُ- رَضِيَ اللهُ عَنْهَا تَقْرَؤُهَا: إذْ تَلِقُونَهُ
بِأَلْسِنَتِكُمْ مِنْ الْوَلَقِ، وَهُوَ اسْتِمْرَارُ اللّسَانِ
بِالْكَذِبِ. وَأَمّا إقَامَةُ الْحَدّ عَلَيْهِمْ فَفِيهِ التّسْوِيَةُ
بَيْنَ أَفْضَلِ النّاسِ بَعْدَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- وَأَدْنَى النّاسِ دَرَجَةً فِي الْإِيمَانِ، لَا يُزَادُ
الْقَاذِفُ عَلَى الثّمَانِينَ، وَإِنْ شَتَمَ خَيْرَ النّاسِ بَعْدَ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَنْقُصُ مِنْهَا،
فَإِنْ قَذَفَ قَاذِفٌ الْيَوْمَ إحْدَى أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ سِوَى
عَائِشَةَ، فَيَتَوَجّهُ فِيهِ لِلْفُقَهَاءِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يُجْلَدَ ثَمَانِينَ كَمَا يَقْتَضِيهِ عُمُومُ
التّنْزِيلِ، وَكَمَا فَعَلَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
(6/449)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِاَلّذِينَ قَذَفُوا أَهْلَهُ قَبْلَ نُزُولِ
الْقُرْآنِ بِبَرَاءَتِهَا، وَأَمّا بَعْدَ نُزُولِ الْقُرْآنِ
بِبَرَاءَتِهَا فَيُقْتَلُ قَاذِفُهَا قَتْلَ كُفْرٍ، وَلَا يُصَلّى
عَلَيْهِ، وَلَا يُورَثُ، لِأَنّهُ كَذّبَ اللهَ تَعَالَى.
وَالْقَوْلُ الثّانِي فِي قَاذِفِ أُمّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرَ
عَائِشَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُنّ أَنْ يُقْتَلَ أَيْضًا، وَبِهِ كَانَ
يَأْخُذُ شَيْخُنَا- رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى- وَيَحْتَجّ بِقَوْلِهِ
تَعَالَى:
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي
الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ الْأَحْزَابُ:
57 الْآيَةُ، وَإِذَا قَذَفَ أَزْوَاجَ النّبِيّ عَلَيْهِ السّلَامُ،
فَقَدْ سَبّهُ فَمِنْ أَعْظَمِ الْإِذَايَةِ، أَنْ يُقَالَ عَنْ الرّجُلِ:
قَرْنَانٌ «1» وَإِذَا سُبّ نَبِيّ بِمِثْلِ هَذَا فَهُوَ كُفْرٌ صُرَاحٌ
وَقَدْ قَالَ الْمُفَسّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى (فَخَانَتَاهُمَا)
أَيْ: خَانَتَا فِي الطّاعَةِ لَهُمَا، وَالْإِيمَانِ، وَمَا بَغَتْ
امْرَأَةُ نَبِيّ قَطّ، أَيْ مَا زَنَتْ.
إهْدَاءُ سِيرِينَ إلَى حَسّانَ:
وَذَكَرَ أَنّ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَعْطَى
حَسّانَ جَارِيَتَهُ بِضَرْبِ صَفْوَانَ بْنِ الْمُعَطّلِ لَهُ، وَهَذِهِ
الْجَارِيَةُ اسْمُهَا سِيرِينُ بِنْتُ شَمْعُونَ أُخْتُ مَارِيَةَ
سُرّيّةُ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَهِيَ أُمّ عَبْدِ
الرّحْمَنِ بْنِ حَسّانَ الشّاعِرِ، وَكَانَ عَبْدُ الرّحْمَنِ يَفْخَرُ
بِأَنّهُ ابْنُ خالة إبْرَاهِيمَ بْنِ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ
__________
(1) القرنان هو الذى يشارك فى امرأته كأنه يقرن به غيره أو هو نعت سوء فى
الرجل الذى لا غيرة له. قال الأزهرى: هذا من كلام الحاضرة، ولم أر البوادى
لفظوا به ولا عرفوه.
(6/450)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَدْ رَوَتْ سِيرِينُ هَذِهِ عَنْ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ حَدِيثًا قَالَتْ: رَأَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ خَلَلًا فِي قَبْرِ إبْرَاهِيمَ ابْنِهِ فَأَصْلَحَهُ، وَقَالَ:
إنّ اللهَ يُحِبّ مِنْ الْعَبْدِ إذَا عَمِلَ عَمَلًا أَنْ يصلحه «1» .
__________
(1) أخرج البخارى ومسلم حديث قصة الإفك فى صحيحيهما من حديث الزهرى. وفى
روايتهما أن أمها قالت لها عقب تبشير الرسول «ص» لعائشة ببراءتها. «قومى
إليه، فقلت: والله لا أقوم إليه، ولا أحمد إلا الله عز وجل هو الذى أنزل
براءتى» . وفى رواية للبخارى قالت: «لا والله، لا أقوم إليه، ولا أحمده،
ولا أحدكما، ولكن أحمد الله الذى أنزل براءتى، لقد سمعتموه، فما أنكرتموه،
ولا غيرتموه» ويقول ابن كثير عن الذى تولى كبره: «قيل: المراد به حسان، وهو
قول غريب، ولولا أنه وقع فى صحيح البخارى ما قد يدل على إيراد ذلك لما كان
لإيراده كبير فائدة، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآثر، وأحسن
مآثره أنه كان يذب عن رسول الله «ص» بشعره، وهو الذى قال له رسول الله «ص»
: هاجهم، وجبريل معك» . هذا وفى رواية البخارى أن الرسول «ص» لبث شهرا لا
يوحى إليه فى شأن عائشة، وعند ابن حزم أن المدة كانت خمسين يوما أو أزيد،
ويجمع بأنها المدة التى كانت بين قدومهم المدينة ونزول القرآن فى قصة
الإفك، وأما التقييد بالشهر فهو المدة التى أولها إتيان عائشة بيت أبويها
حين بلغها الخبر. ويقول الزمخشرى: لم يقع فى القرآن من التغليظ فى معصية ما
وقع فى قصة الإفك بأوجز عبارة، وأشبعها، لاشتماله على الوعيد الشديد
والعقاب البليغ، والزجر العنيف، واستعظام القول فى ذلك واستثناعه بطريق
مختلفة، وأساليب متقنة، كل واحد منها كاف فى بابه، بل ما وقع منها من وعيد
عبدة الأوثان إلا بما هو دون ذاك، وما ذلك إلا لإظهار علو منزلة رسول الله
صلى الله عليه وسلم. وانظر القول فى العصبة الذين جاؤا بالإفك فى ص 373 ح 8
ط عبد الرحمن محمد فتح البارى. هذا وقد زاد الحاكم فى شعر حسان اللامى
بيتين من غير رواية ابن اسحاق-
(6/451)
|