الروض
الأنف ت الوكيل [أَمْرُ الْحُدَيْبِيَةِ فِي آخِرِ سَنَةِ
سِتّ، وَذِكْرُ بَيْعَةِ الرّضْوَانِ وَالصّلْحِ بَيْنَ رَسُولِ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَبَيْنَ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ أَقَامَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ شَهْرَ رَمَضَانَ وَشَوّالًا، وَخَرَجَ فِي ذِي
الْقَعْدَةِ مُعْتَمِرًا، لَا يريد حربا.
قال ابن هشام: واستعمل على المدينة نميلة بن عبد الله اللّيثى.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَاسْتَنْفَرَ الْعَرَبَ وَمَنْ حَوْلَهُ مِنْ
أَهْلِ الْبَوَادِي مِنْ الْأَعْرَابِ لِيَخْرُجُوا مَعَهُ، وَهُوَ يَخْشَى
مِنْ قُرَيْشٍ الّذِي صَنَعُوا، أَنْ يَعْرِضُوا لَهُ بِحَرْبِ أَوْ
يَصُدّوهُ عَنْ الْبَيْتِ، فَأَبْطَأَ عَلَيْهِ كَثِيرٌ مِنْ الْأَعْرَابِ،
وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِمَنْ مَعَهُ مِنْ
الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَمَنْ لَحِقَ بِهِ مِنْ الْعَرَبِ،
وَسَاقَ مَعَهُ الْهَدْيَ، وَأَحْرَمَ بِالْعُمْرَةِ لِيَأْمَنَ النّاسُ
مِنْ حَرْبِهِ، وَلِيَعْلَمَ النّاسُ أَنّهُ إنّمَا خرج زائرا لهذا البيت
ومعظّما له.
قال ابن إسحاق: حدثني محمد بن مسلم بْنِ شِهَابٍ الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ
بْنِ الزّبَيْرِ عَنْ مِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ وَمَرْوَانَ بْنِ الْحَكَمِ
أنهما حدّثاه قالا: خرج
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
__________
-
حليلة خير الخلق دينا ومنصبا ... نبى الهدى والمكرمات الفواضل
رأيتك وليغفر لك الله حرة ... من المحصنات غير ذات الغوائل
وقد روى من طريق صالح بن كيسان عن الزهرى. قال عروة: كانت عائشة تكره أن
يسب عندها حسان وتقول: إنه الذى قال
فإن أتى ووالده وعرضى ... لعرض محمد منكم وفاء
(6/452)
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عَامَ الحديبية يُرِيدُ زِيَارَةَ الْبَيْتِ، لَا يُرِيدُ
قِتَالًا، وَسَاقَ معه الهدى سبعين بدنة، وكان الناس سبع مائة رَجُلٍ،
فَكَانَتْ كُلّ بَدَنَةٍ عَنْ عَشَرَةِ نَفَرٍ.
وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، فِيمَا بَلَغَنِي، يقول: كنّا أصحاب
الحديبية أربع عشرة مائة.
قَالَ الزّهْرِيّ: وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ،
حَتّى إذَا كَانَ بِعُسْفَانَ لَقِيَهُ بِشْرُ بْنُ سُفْيَانَ الْكَعْبِيّ-
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: ويقال بشر- فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ هَذِهِ قُرَيْشٌ، قَدْ سَمِعْت بِمَسِيرِك، فَخَرَجُوا
مَعَهُمْ الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ، قَدْ لَبِسُوا جُلُودَ النّمُورِ، وَقَدْ
نَزَلُوا بِذِي طُوًى، يُعَاهِدُونَ اللهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ
أَبَدًا، وَهَذَا خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ فِي خَيْلِهِمْ قَدْ قَدّمُوهَا
إلَى كُرَاعِ الْغَمِيمِ، قَالَ:
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا وَيْحَ
قُرَيْشٍ! لَقَدْ أَكَلَتْهُمْ الْحَرْبُ، مَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ خَلّوْا
بَيْنِي وَبَيْنَ سَائِرِ الْعَرَبِ، فَإِنْ هُمْ أَصَابُونِي كَانَ الّذِي
أَرَادُوا، وَإِنْ أَظْهَرَنِي اللهُ عَلَيْهِمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ
وَافِرِينَ، وَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قَاتَلُوا وَبِهِمْ قُوّةٌ، فَمَا
تَظُنّ قُرَيْشٌ، فَوَاَللهِ لَا أَزَالُ أُجَاهِدُ عَلَى الّذِي بَعَثَنِي
اللهُ بِهِ حَتّى يُظْهِرَهُ اللهُ أَوْ تَنْفَرِدَ هَذِهِ السّالفة.
[الرسول صلى الله عليه وسلم يسلك طريقا غير
طريق قريش]
ثُمّ قَالَ: مَنْ رَجُلٌ يَخْرَجُ بِنَا عَلَى طريق غير طريقهم التى هم
بها؟
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنّ
رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/453)
أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ: فَسَلَكَ
بِهِمْ طَرِيقًا وَعْرًا أَجْرَلَ بَيْنَ شِعَابٍ، فَلَمّا خَرَجُوا
مِنْهُ، وَقَدْ شَقّ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَأَفْضَوْا إلى أرض سهلة
عند منقطع الوادى؛ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِلنّاسِ: قُولُوا: نَسْتَغْفِرُ اللهَ وَنَتُوبُ إلَيْهِ؛ فَقَالُوا
ذَلِكَ، فَقَالَ: وَاَللهِ إنّهَا لَلْحِطّةُ الّتِي عُرِضَتْ عَلَى بَنِي
إسْرَائِيلَ فَلَمْ يَقُولُوهَا.
قَالَ ابْنُ شِهَابٍ: فَأَمَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ النّاسَ فَقَالَ:
اُسْلُكُوا ذَاتَ الْيَمِينِ بَيْنَ ظَهْرَيْ الْحَمْشِ، فِي طَرِيقٍ
تُخْرِجُهُ عَلَى ثَنِيّةِ الْمُرَارِ مَهْبِطِ الْحُدَيْبِيَةِ مِنْ
أَسْفَلِ مَكّةَ؛ قَالَ: فَسَلَكَ الْجَيْشُ ذَلِكَ الطّرِيقَ، فَلَمّا
رَأَتْ خَيْلُ قُرَيْشٍ قَتَرَةَ الْجَيْشِ قَدْ خَالَفُوا عَنْ
طَرِيقِهِمْ، رَجَعُوا رَاكِضِينَ إلَى قُرَيْشٍ، وَخَرَجَ رَسُولُ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، حَتّى إذَا سَلَكَ، فِي ثَنِيّةِ
الْمُرَارِ بَرَكَتْ نَاقَتُهُ، فَقَالَتْ النّاسُ: خَلَأَتْ النّاقَةُ،
قَالَ: مَا خَلَأَتْ وَمَا هُوَ لَهَا بِخُلُقٍ، وَلَكِنْ حَبَسَهَا
حَابِسُ الْفِيلِ عَنْ مَكّةَ. لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ إلَى
خُطّةٍ يَسْأَلُونَنِي فِيهَا صِلَةَ الرّحَمِ إلّا أَعْطَيْتُهُمْ
إيّاهَا. ثُمّ قَالَ لِلنّاسِ: انْزِلُوا، قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللهِ:
مَا بِالْوَادِي مَاءٌ نَنْزِلُ عَلَيْهِ، فَأَخْرَجَ سَهْمًا مِنْ
كِنَانَتِهِ، فَأَعْطَاهُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِهِ، فَنَزَلَ بِهِ فِي
قَلِيبٍ مِنْ تِلْكَ الْقُلُبِ. فَغَرّزَهُ فِي جَوْفِهِ، فَجَاشَ
بِالرّوّاءِ حَتّى ضرب الناس عنه بعطن.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ عَنْ رِجَالٍ
مِنْ أَسْلَمَ: أَنّ الّذِي نَزَلَ فِي الْقَلِيبِ بِسَهْمِ رَسُولِ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبِ بْنِ عُمَيْرِ ابن
يَعْمُرَ بْنِ دَارِمِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَائِلَةَ بْنِ سَهْمِ بْنِ
مَازِنِ بْنِ سَلَامَانِ بْنِ أسلم بن أفصى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/454)
ابن أَبِي حَارِثَةَ، وَهُوَ سَائِقُ
بُدْنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال ابن هشام: أَفْصَى بْنُ حَارِثَةَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ زَعَمَ لِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنّ
الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ كَانَ يَقُولُ: أَنَا الّذِي نَزَلْت بِسَهْمِ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَاَللهُ أعلم أى ذلك
كان.
وَقَدْ أَنْشَدَتْ أَسْلَمُ أَبْيَاتًا مِنْ شِعْرٍ قَالَهَا نَاجِيَةُ،
قَدْ ظَنَنّا أَنّهُ هُوَ الّذِي نَزَلَ بِالسّهْمِ، فَزَعَمَتْ أَسْلَمُ
أَنّ جَارِيَةً مِنْ الْأَنْصَارِ أَقْبَلَتْ بِدَلْوِهَا، وَنَاجِيَةُ فِي
الْقَلِيبِ يَمِيحُ عَلَى النّاسِ، فَقَالَتْ:
يَا أَيّهَا الْمَائِحُ دَلْوَى دُونَكَا ... إنى رأيت الناس يحمدنكا
يُثْنُونَ خَيْرًا وَيُمَجّدُونَكَا
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُرْوَى:
إنّي رَأَيْت النّاسَ يَمْدَحُونَكَا
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَقَالَ نَاجِيَةُ، وَهُوَ فِي الْقَلِيبِ يَمِيحُ
عَلَى النّاسِ:
قَدْ عَلِمَتْ جَارِيَةٌ يَمَانِيَهْ ... أَنّي أَنَا الْمَائِحُ وَاسْمِي
نَاجِيَهْ
وَطَعْنَةٍ ذَاتِ رَشَاشٍ وَاهِيَهْ ... طعنتها عند صدور العاديه
فَقَالَ الزّهْرِيّ فِي حَدِيثِهِ: فَلَمّا اطْمَأَنّ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَتَاهُ بُدَيْلُ بْنُ وَرْقَاءَ الْخُزَاعِيّ،
فِي رِجَالٍ مِنْ خُزَاعَةَ، فكلّموه وسألوه: ما الذ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/455)
جَاءَ بِهِ؟ فَأَخْبَرَهُمْ أَنّهُ لَمْ
يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا، وَإِنّمَا جَاءَ زَائِرًا لِلْبَيْتِ، وَمُعَظّمًا
لِحُرْمَتِهِ، ثُمّ قَالَ لَهُمْ نَحْوًا مِمّا قَالَ لِبِشْرِ بْنِ
سُفْيَانَ، فَرَجَعُوا إلَى قُرَيْشٍ فَقَالُوا:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، إنّكُمْ تَعْجَلُونَ عَلَى مُحَمّدٍ، إنّ مُحَمّدًا
لَمْ يَأْتِ لِقِتَالِ، وَإِنّمَا جَاءَ زَائِرًا هذا البيت، قاتهموهم
وَجَبَهُوهُمْ وَقَالُوا: وَإِنْ كَانَ جَاءَ وَلَا يُرِيدُ قتالا، فوالله
لَا يَدْخُلُهَا عَلَيْنَا عَنْوَةً أَبَدًا، وَلَا تَحَدّثَ بذلك عنّا
العرب.
قَالَ الزّهْرِيّ: وَكَانَتْ خُزَاعَةُ عَيْبَةَ نُصْحِ رَسُولِ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، مُسْلِمُهَا وَمُشْرِكُهَا، لا يخفون عنه
شيئا كان بمكة.
قَالَ: ثُمّ بَعَثُوا إلَيْهِ مِكْرَزَ بْنَ حَفْصِ بْنِ الْأَخْيَفِ،
أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقْبِلًا قَالَ: هَذَا رَجُلٌ غَادِرٌ، فَلَمّا
انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَكَلّمَهُ، قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
نَحْوًا مِمّا قَالَ لِبُدَيْلٍ وَأَصْحَابِهِ، فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ
فَأَخْبَرَهُمْ بِمَا قَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وسلم.
ثُمّ بَعَثُوا إلَيْهِ الْحُلَيْسَ بْنَ عَلْقَمَةَ أَوْ ابن زيّان،
وَكَانَ يَوْمَئِذٍ سَيّدَ الْأَحَابِيشِ، وَهُوَ أَحَدُ بَنِي الْحَارِثِ
بْنِ عَبْدِ مَنَاةَ بْنِ كِنَانَةَ؛ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَالَ: إنّ هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهُونَ،
فَابْعَثُوا الهدى فى وجهه حتى براه، فَلَمّا رَأَى الْهَدْيَ يَسِيلُ
عَلَيْهِ مِنْ عُرْضِ الْوَادِي فِي قَلَائِدِهِ، وَقَدْ أَكَلَ
أَوْبَارَهُ مِنْ طُولِ الْحَبْسِ عَنْ مَحِلّهِ، رَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ،
وَلَمْ يَصِلْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إعْظَامًا لَمَا رَأَى، فَقَالَ لَهُمْ ذلك. قال: فقالوا له: جلس،
فَإِنّمَا أَنْتَ أَعْرَابِيّ لَا عِلْمَ لَك.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/456)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ
اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنّ الْحُلَيْسَ غَضِبَ عِنْدَ ذَلِكَ وَقَالَ:
يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، وَاَللهِ مَا عَلَى هَذَا حَالَفْنَاكُمْ، وَلَا
عَلَى هَذَا عَاقَدْنَاكُمْ.
أَيُصَدّ عَنْ بَيْتِ اللهِ مَنْ جَاءَ مُعَظّمًا لَهُ! والذى نفس الحنيس
بِيَدِهِ، لَتُخَلّنّ بَيْنَ مُحَمّدٍ وَبَيْنَ مَا جَاءَ لَهُ، أَوْ
لَأَنْفِرَن بِالْأَحَابِيشِ نَفْرَةَ رَجُلٍ وَاحِدٍ. قَالَ: فَقَالُوا
لَهُ: مَهْ، كُفّ عَنّا يَا حُلَيْسُ حَتّى نَأْخُذَ لِأَنْفُسِنَا مَا
نَرْضَى بِهِ.
قال الزهرىّ فى حديثه: ثم بعثو إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عُرْوَةَ بْنَ مَسْعُودٍ الثّقَفِيّ؛ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ
قُرَيْشٍ، إنّي قَدْ رَأَيْت مَا يَلْقَى مِنْكُمْ مَنْ بَعَثْتُمُوهُ إلَى
مُحَمّدٍ إذْ جَاءَكُمْ مِنْ التّعْنِيفِ وَسُوءِ اللّفْظِ، وَقَدْ
عَرَفْتُمْ أَنّكُمْ وَالِدٌ وَإِنّي وَلَدٌ- وَكَانَ عُرْوَةُ
لِسُبَيْعَةَ بِنْتِ عَبْدِ شَمْسٍ- وَقَدْ سَمِعْت بِاَلّذِي نَابَكُمْ،
فَجَمَعْتُ مَنْ أَطَاعَنِي مِنْ قَوْمِي، ثُمّ جِئْتُكُمْ حَتّى
آسَيْتُكُمْ بِنَفْسِي، قَالُوا: صَدَقْت، مَا أَنْتَ عِنْدَنَا
بِمُتّهَمٍ. فَخَرَجَ حَتّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، فَجَلَسَ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمّ قَالَ: يا محمد، أجمعت أو شاب
النّاسِ، ثُمّ جِئْتَ بِهِمْ إلَى بَيْضَتِك لِتَفُضّهَا بِهِمْ، إنّهَا
قُرَيْشٌ قَدْ خَرَجَتْ مَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ. قَدْ لَبِسُوا
جُلُودَ النّمُورِ، يُعَاهِدُونَ اللهَ لَا تَدْخُلُهَا عَلَيْهِمْ
عَنْوَةً أَبَدًا وَاَيْمُ اللهِ، لِكَأَنّي بِهَؤُلَاءِ قَدْ انْكَشَفُوا
عَنْك غَدًا. قَالَ: وَأَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَاعِدٌ؛ فَقَالَ: اُمْصُصْ بَظْرَ اللّات،
أَنَحْنُ نَنْكَشِفُ عَنْهُ؟
قَالَ: مَنْ هَذَا يَا مُحَمّدُ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ،
قَالَ: أَمَا وَاَللهِ لَوْلَا يَدٌ كَانَتْ لَك عِنْدِي لَكَافَأْتُك
بِهَا، وَلَكِنْ هَذِهِ بِهَا، قَالَ: ثُمّ جَعَلَ يَتَنَاوَلُ لِحْيَةَ
رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ يُكَلّمُهُ قَالَ:
وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ وَاقِفٌ عَلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/457)
رَأْسَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيدِ. قَالَ: فَجَعَلَ يَقْرَعُ يَدَهُ إذَا
تَنَاوَلَ لِحْيَةَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ،
وَيَقُولُ: اُكْفُفْ يَدَك عَنْ وَجْهِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ قَبْلَ أَنْ لَا تَصِلَ إلَيْك، قَالَ: فَيَقُولُ عُرْوَةُ:
وَيْحَك! مَا أَفَظّكَ وَأَغْلَظَك! قَالَ: فَتَبَسّمَ. رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: مَنْ هَذَا يَا
مُحَمّدُ؟ قَالَ: هَذَا ابْنُ أَخِيك الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، قَالَ:
أَيْ غُدَرُ، وهل غسلت سوء تك إلّا بِالْأَمْسِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: أَرَادَ عُرْوَةُ بِقَوْلِهِ هَذَا أَنّ الْمُغِيرَةَ
بْنَ شُعْبَةَ قَبْلَ إسلامه قتل ثلاثة عَشَرَ رَجُلًا مِنْ بَنِي مَالِكٍ،
مِنْ ثَقِيفٍ، فَتَهَايَجَ الْحَيّانِ مِنْ ثَقِيفٍ:
بَنُو مَالِكٍ رَهْطُ الْمَقْتُولِينَ، وَالْأَحْلَافُ رَهْطُ
الْمُغِيرَةِ، فَوَدَى عُرْوَةُ الْمَقْتُولِينَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ دِيَةً،
وَأَصْلَحَ ذَلِكَ الْأَمْرَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزّهْرِيّ: فَكَلّمَهُ رَسُولُ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بِنَحْوٍ مِمّا كَلّمَ بِهِ أَصْحَابَهُ،
وَأَخْبَرَهُ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ يُرِيدُ حَرْبًا.
فَقَامَ مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَقَدْ
رَأَى مَا يَصْنَعُ بِهِ أَصْحَابُهُ، لَا يَتَوَضّأُ إلّا ابْتَدَرُوا
وُضُوءَهُ، وَلَا يَبْصُقُ بُصَاقًا إلّا ابْتَدَرُوهُ. وَلَا يَسْقُطُ حين
شَعْرِهِ شَيْءٌ إلّا أَخَذُوهُ. فَرَجَعَ إلَى قُرَيْشٍ، فقال: يا مشعر
قُرَيْشٍ، إنّي قَدْ جِئْت كِسْرَى فِي مُلْكِهِ، وَقَيْصَرَ فِي مُلْكِهِ.
وَالنّجَاشِيّ فِي مُلْكِهِ. وَإِنّي وَاَللهِ مَا رَأَيْت مَلِكًا فِي
قَوْمٍ قَطّ مِثْلَ مُحَمّدٍ فِي أَصْحَابِهِ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ قَوْمًا
لا يسلمونه لشى أبدا، فروا رأيكم.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/458)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي بَعْضُ
أَهْلِ الْعِلْمِ: أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى الله عليه وسلم دَعَا خِرَاشَ
بْنَ أُمَيّةَ الْخُزَاعِيّ، فَبَعَثَهُ إلَى قُرَيْشٍ بِمَكّةَ،
وَحَمَلَهُ عَلَى بَعِيرٍ لَهُ يُقَالُ لَهُ الثّعْلَبُ، لِيُبَلّغَ
أَشْرَافَهُمْ عَنْهُ مَا جَاءَ لَهُ، فَعَقَرُوا بِهِ جَمْلَ رَسُولِ
اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَمَنَعَتْهُ
الْأَحَابِيشُ، فَخَلّوْا سَبِيلَهُ، حَتّى أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَقَدْ حَدّثَنِي بَعْضُ مَنْ لَا أَتّهِمُ عَنْ
عِكْرِمَةَ مَوْلَى ابْنِ عَبّاسٍ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ: أَنّ قُرَيْشًا
كَانُوا بَعَثُوا أَرْبَعِينَ رَجُلًا مِنْهُمْ أَوْ خَمْسِينَ رَجُلًا،
وَأَمَرُوهُمْ أَنْ يُطِيفُوا بِعَسْكَرِ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ، لِيُصِيبُوا لَهُمْ مِنْ أَصْحَابِهِ أَحَدًا،
فَأُخِذُوا أَخْذًا، فَأُتِيَ بِهِمْ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، فَعَفَا عنهم، وخلّى سبيلهم، وقد كَانُوا رَمَوْا فِي عَسْكَرِ
رَسُولِ اللهِ صَلّى الله عليه وسلم بالحجارة والنّبل.
ثم دَعَا عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ لِيَبْعَثَهُ إلَى مَكّةَ، فَيُبَلّغُ
عَنْهُ أَشْرَافَ قُرَيْشٍ مَا جَاءَ لَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ،
إنّي أَخَافُ قُرَيْشًا عَلَى نَفْسِي، وَلَيْسَ بِمَكّةَ مِنْ بَنِي
عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ أَحَدٌ يَمْنَعُنِي، وَقَدْ عَرَفَتْ قُرَيْشٌ
عَدَاوَتِي إيّاهَا، وَغِلْظَتِي عَلَيْهَا، وَلَكِنّي أَدُلّك عَلَى
رَجُلٍ أَعَزّ بِهَا مِنّي، عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ. فَدَعَا رَسُولُ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ عُثْمَانَ بْنَ عَفّانَ، فَبَعَثَهُ إلَى
أَبِي سُفْيَانَ وَأَشْرَافِ قُرَيْشٍ، يُخْبِرُهُمْ أَنّهُ لَمْ يَأْتِ
لِحَرْبِ، وَإِنّهُ إنّمَا جَاءَ زَائِرًا لِهَذَا الْبَيْتِ، وَمُعَظّمًا
لحرمته.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَخَرَجَ عُثْمَانُ إلَى مَكّةَ، فَلَقِيَهُ أَبَانُ
بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/459)
حِينَ دَخَلَ مَكّةَ، أَوْ قَبْلَ أَنْ
يَدْخُلَهَا، فَحَمَلَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، ثُمّ أَجَارَهُ حَتّى بَلّغَ
رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فَانْطَلَقَ عُثْمَانُ حَتّى أَتَى
أَبَا سُفْيَانَ وَعُظَمَاءَ قُرَيْشٍ، فَبَلّغَهُمْ عَنْ رَسُولِ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أَرْسَلَهُ بِهِ؛ فَقَالُوا
لِعُثْمَانِ حِينَ فَرَغَ مِنْ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم
إلَيْهِمْ: إنْ شِئْت أَنْ تَطُوفَ بِالْبَيْتِ فَطُفْ؛ فَقَالَ: مَا
كُنْتُ لِأَفْعَلَ حَتّى يَطُوفَ بِهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ. وَاحْتَبَسَتْهُ قُرَيْشٌ عِنْدَهَا، فَبَلَغَ رَسُولَ اللهِ
صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَالْمُسْلِمِينَ أَنّ عُثْمَانَ بْنَ
عَفّانَ قد قتل.
[بيعة الرضوان]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ: أَنّ
رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ، قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنّ
عُثْمَانَ قَدْ قُتِلَ: لَا نَبْرَحُ حَتّى نُنَاجِزَ الْقَوْمَ، فَدَعَا
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ إلَى
الْبَيْعَةِ. فَكَانَتْ بَيْعَةُ الرّضْوَانِ تَحْتَ الشّجَرَةِ، فَكَانَ
النّاسُ يَقُولُونَ: بَايَعَهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ عَلَى الْمَوْتِ، وَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ يَقُولُ: إنّ
رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ لَمْ يُبَايِعْنَا عَلَى
الْمَوْتِ، وَلَكِنْ بَايَعَنَا عَلَى أَنْ لَا نفرّ.
فبايع رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النّاسَ، وَلَمْ
يَتَخَلّفْ عَنْهُ أَحَدٌ مِنْ الْمُسْلِمِينَ حَضَرَهَا، إلّا الْجَدّ
بْنَ قَيْسٍ، أَخُو بَنِي سَلِمَةَ، فَكَانَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ
يَقُولُ: وَاَللهِ لَكَأَنّي أَنْظُرُ إلَيْهِ لَاصِقًا بِإِبْطِ
نَاقَتِهِ. قَدْ ضَبَأَ إلَيْهَا، يَسْتَتِرُ بِهَا مِنْ النّاسِ. ثُمّ أتي
رسول الله صلى الله عليه وسلم أَنّ الّذِي ذُكِرَ مِنْ أَمْرِ عُثْمَانَ
بَاطِلٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/460)
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَذَكَرَ وَكِيعٌ
عَنْ إسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ الشّعْبِيّ: أَنّ أَوّلَ مَنْ
بَايَعَ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَيْعَةَ الرّضْوَانِ
أَبُو سِنَانٍ الْأَسَدِيّ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَحَدّثَنِي مَنْ أَثِقُ بِهِ عَمّنْ حَدّثَهُ
بِأَسْنَادٍ لَهُ، عَنْ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ عَنْ ابْنِ أَبِي عُمَرَ:
أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ بَايَعَ لِعُثْمَانِ،
فَضَرَبَ بإحدى يديه على الأخرى.
[أمر الهدنة]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: قَالَ الزّهْرِيّ: ثُمّ بَعَثَتْ قُرَيْشٌ سُهَيْلَ
بْنَ عَمْرٍو، أَخَا بَنِي عَامِرِ بْنِ لُؤَيّ، إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَالُوا لَهُ: ائْتِ مُحَمّدًا فَصَالِحْهُ
وَلَا يَكُنْ فِي صُلْحِهِ إلّا أَنْ يَرْجِعَ عَنّا عَامَهُ هَذَا،
فَوَاَللهِ لَا تُحَدّثُ الْعَرَبُ عَنّا أَنّهُ دَخَلَهَا عَلَيْنَا
عَنْوَةً أَبَدًا. فَأَتَاهُ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو؛ فَلَمّا رَآهُ رَسُولُ
اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مُقْبِلًا، قَالَ: قَدْ أَرَادَ
الْقَوْمُ الصّلْحَ حِينَ بَعَثُوا هَذَا الرّجُل: فَلَمّا انْتَهَى
سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ تَكَلّمَ فَأَطَالَ الكلام، وتراجعا ثم جرى بينهما الصّلْحَ.
فَلَمّا الْتَأَمَ الْأَمْرُ وَلَمْ يَبْقَ إلّا الكتاب، وثب عمر بن
الخطّاب، فأتى أبابكر، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، أَلَيْسَ بِرَسُولِ
اللهِ؟ قال: بلى: قال أولسنا بالمسلمين؟
قال: بلى؛ قال: أوليسوا بِالْمُشْرِكِينَ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: فَعَلَامَ
نُعْطَى الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا؟ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا عُمَرُ، الْزَمْ
غَرْزَهُ، فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ؛ قَالَ عُمَرُ: وَأَنَا
أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ؛ ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/461)
يَا رَسُولَ اللهِ أَلَسْتَ بِرَسُولِ
اللهِ؟ قَالَ: بَلَى، قَالَ: أَوَ لَسْنَا بِالْمُسْلِمِينَ؟ قَالَ:
بَلَى، قال: أوليسوا بالمشركين؟ قال: بلى، قال: فغلام نُعْطَى الدّنِيّةَ
فِي دِينِنَا؟ قَالَ: أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ، لَنْ أُخَالِفَ
أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي! قَالَ:
فَكَانَ عُمَرُ يَقُولُ: مَا زِلْت أَتَصَدّقُ وَأَصُومُ وَأُصَلّي
وَأُعْتِقُ، مِنْ الّذِي صَنَعْتُ يَوْمَئِذٍ! مَخَافَةَ كَلَامِي الّذِي
تَكَلّمْت بِهِ، حَتّى رَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ خَيْرًا.
[عَلِيّ يَكْتُبُ شُرُوطَ الصّلْحِ]
قَالَ: ثُمّ دَعَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم على بن أبي
طالب رضوان الله عليه، فقال: اُكْتُبْ: بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ،
قَالَ: فَقَالَ سُهَيْلٌ:
لَا أَعْرِفُ هَذَا، وَلَكِنْ اُكْتُبْ بِاسْمِك اللهُمّ، فَقَالَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اُكْتُبْ بِاسْمِك اللهُمّ،
فَكَتَبَهَا، ثُمّ قَالَ: اُكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدٌ
رَسُولَ اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، قَالَ: فَقَالَ سُهَيْلٌ: لَوْ
شَهِدْت أَنّك رَسُولُ اللهِ لَمْ أُقَاتِلْك، وَلَكِنْ اُكْتُبْ اسْمَك
وَاسْمَ أَبِيك، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: اُكْتُبْ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ
اللهِ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو، اصْطَلَحَا عَلَى وَضْعِ الْحَرْبِ عَنْ
النّاسِ عَشْرَ سِنِينَ يَأْمَنُ فِيهِنّ النّاسُ، وَيَكُفّ بَعْضُهُمْ
عَنْ بَعْضٍ، عَلَى أَنّهُ مَنْ أَتَى مُحَمّدًا مِنْ قُرَيْشٍ بِغَيْرِ
إذْنِ وَلِيّهِ رَدّهُ عَلَيْهِمْ، وَمَنْ جَاءَ قُرَيْشًا مِمّنْ مَعَ
مُحَمّدٍ لَمْ يَرُدّوهُ عَلَيْهِ، وَإِنّ بَيْنَنَا عَيْبَةً مَكْفُوفَةً،
وَأَنّهُ لَا إسْلَالَ وَلَا إغْلَالَ، وَأَنّهُ مَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ
فِي عَقْدِ مُحَمّدٍ وَعَهْدِهِ دَخَلَ فِيهِ، وَمَنْ أَحَبّ أَنْ يَدْخُلَ
فِي عَقْدِ قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ دَخَلَ فِيهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/462)
[خزاعة فى عهد محمد، وبنو بَكْرٍ فِي
عَهْدِ قُرَيْشٍ]
فَتَوَاثَبَتْ خُزَاعَةُ فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ مُحَمّدٍ
وَعَهْدِهِ، وَتَوَاثَبَتْ بَنُو بَكْرٍ، فَقَالُوا: نَحْنُ فِي عَقْدِ
قُرَيْشٍ وَعَهْدِهِمْ، وَأَنّك تَرْجِعُ عَنّا عَامَك هَذَا، فَلَا
تَدْخُلُ عَلَيْنَا مَكّةَ، وَأَنّهُ إذَا كَانَ عَامُ قَابِلٍ، خَرَجْنَا
عَنْك فَدَخَلْتهَا بِأَصْحَابِك، فَأَقَمْتَ بِهَا ثَلَاثًا، مَعَك
سِلَاحُ الرّاكِبِ، السّيُوفُ فِي الْقُرُبِ، لَا تدخلها بغيرها.
[جندل بن سهيل]
فَبَيْنَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ يَكْتُبُ
الْكِتَابَ هُوَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، إذْ جَاءَ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ
سُهَيْلِ بْنِ عَمْرِو يَرْسُفَ فِي الْحَدِيدِ، قَدْ انْفَلَتَ إلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَابُ
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم خَرَجُوا وَهُمْ لَا يَشُكّونَ
فِي الْفَتْحِ، لِرُؤْيَا رَآهَا رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، فَلَمّا رَأَوْا مَا رَأَوْا مِنْ الصّلْحِ وَالرّجُوعِ، وَمَا
تَحَمّلَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ فِي
نَفْسِهِ دَخَلَ عَلَى النّاسِ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، حَتّى كَادُوا
يُهْلِكُونَ:
فَلَمّا رَأَى سُهَيْلٌ أَبَا جَنْدَلٍ قَامَ إلَيْهِ فَضَرَبَ وَجْهَهُ،
وَأَخَذَ بِتَلْبِيبِهِ؛ ثُمّ قَالَ:
يَا مُحَمّدُ؛ قَدْ لَجّتْ الْقَضِيّةُ بَيْنِي وَبَيْنَك قَبْل أَنْ
يَأْتِيَك هَذَا؛ قَالَ: صَدَقْتَ، فَجَعَلَ يَنْتُرُهُ بِتَلْبِيبِهِ،
وَيَجُرّهُ لِيَرُدّهُ إلَى قُرَيْشٍ، وَجَعَلَ أَبُو جَنْدَلٍ يَصْرُخُ
بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ، أَأُرَدّ إلَى
الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونِي فِي دِينِي؟ فَزَادَ ذَلِكَ النّاسَ إلَى مَا
بِهِمْ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا
أَبَا جَنْدَلٍ؛ اصْبِرْ وَاحْتَسِبْ فَإِنّ اللهَ جَاعِلٌ لَك وَلِمَنْ
مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرَجًا وَمَخْرَجًا، إنّا قَدْ عَقَدْنَا
بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ صُلْحًا، وَأَعْطَيْنَاهُمْ عَلَى ذَلِكَ،
وَأَعْطَوْنَا عَهْدَ اللهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/463)
وَإِنّا لَا نَغْدِرُ بِهِمْ؛ قَالَ:
فَوَثَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ مَعَ أَبِي جَنْدَلٍ يَمْشِي إلَى
جَنْبِهِ، وَيَقُولُ: اصْبِرْ يَا أَبَا جَنْدَلٍ، فَإِنّمَا هُمْ
الْمُشْرِكُونَ وَإِنّمَا دَمُ أَحَدِهِمْ دَمُ كَلْبٍ. قَالَ: وَيُدْنِي
قَائِمَ السّيْفِ مِنْهُ. قَالَ: يَقُولُ عمر: رجوت أن يأخذ السّيف فيضرب
به أَبَاهُ، قَالَ: فَضَنّ الرّجُلُ بِأَبِيهِ، وَنَفَذَتْ الْقَضِيّةُ.
[الذين شَهِدُوا عَلَى الصّلْحِ]
فَلَمّا فَرَغَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ
الْكِتَابِ أَشْهَدَ عَلَى الصّلْحِ رِجَالًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ
وَرِجَالًا مِنْ الْمُشْرِكِينَ: أَبُو بَكْرٍ الصّدّيقُ، وَعُمَرُ بْنُ
الْخَطّابِ، وَعَبْدُ الرّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ
سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، وَسَعْدُ بْنُ أَبِي وَقّاصٍ، وَمَحْمُودُ بْنُ
مَسْلَمَةَ، وَمِكْرَزُ بْنُ حَفْصٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ مُشْرِكٌ، وَعَلِيّ
بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَكَتَبَ، وكان هو كاتب الصحيفة.
[الإحلال]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَكَانَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ مُضْطَرَبًا فِي الْحِلّ، وَكَانَ يُصَلّي فِي الْحُرُمِ، فَلَمّا
فَرَغَ مِنْ الصّلْحِ قَدِمَ إلَى هَدْيِهِ فَنَحَرَهُ، ثُمّ جَلَسَ
فَحَلَقَ رَأْسَهُ، وَكَانَ الّذِي حَلَقَهُ، فِيمَا بَلَغَنِي، فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ بْنِ الْفَضْلِ الْخُزَاعِيّ، فَلَمّا
رَأَى النّاسُ أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ قَدْ
نَحَرَ وَحَلَقَ تواثبوا ينحرون ويحلقون.
[المحلّقون والمقصرون]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أبي نجيح، عن مجاهد،
عن ابن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/464)
عَبّاسٍ، قَالَ: حَلَقَ رِجَالٌ يَوْمَ
الْحُدَيْبِيَةِ، وَقَصّرَ آخَرُونَ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَرْحَمُ اللهُ الْمُحَلّقِينَ، قَالُوا:
وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ:
يَرْحَمُ اللهُ الْمُحَلّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصّرِينَ يَا رَسُولَ
اللهِ؟ قَالَ: يَرْحَمُ اللهُ الْمُحَلّقِينَ، قَالُوا: وَالْمُقَصّرِينَ
يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: وَالْمُقَصّرِينَ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ
اللهِ:
فَلِمَ: ظَاهَرْت التّرْحِيمَ لِلْمُحَلّقِينَ دُونَ الْمُقَصّرِينَ؟
قَالَ: لَمْ يَشُكّوا.
وَقَالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ: حَدّثَنِي مُجَاهِدٌ، عَنْ ابْنِ
عَبّاسٍ: أَنّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ أَهْدَى عَامَ
الْحُدَيْبِيَةِ فِي هَدَايَاهُ جَمَلًا لِأَبِي جَهْلٍ، فِي رَأْسِهِ
بَرّةٌ مِنْ فِضّةٍ، يَغِيظُ بِذَلِكَ الْمُشْرِكِينَ.
[نُزُولُ سُورَةِ الْفَتْحِ]
قَالَ الزّهْرِيّ فِي حَدِيثِهِ: ثُمّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلّمَ مِنْ وَجْهِهِ ذَلِكَ قَافِلًا، حَتّى إذَا كَانَ بَيْنَ
مَكّةَ وَالْمَدِينَةِ، نَزَلَتْ سُورَةُ الْفَتْحِ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَما تَأَخَّرَ، وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ، وَيَهْدِيَكَ صِراطاً
مُسْتَقِيماً.
[ذِكْرُ الْبَيْعَةِ]
ثُمّ كَانَتْ الْقِصّةُ فِيهِ وَفِي أَصْحَابِهِ، حَتّى انْتَهَى إلَى
ذِكْرِ الْبَيْعَةِ، فَقَالَ جَلّ ثَنَاؤُهُ: إِنَّ الَّذِينَ
يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ، يَدُ اللَّهِ فَوْقَ
أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ، وَمَنْ
أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ، فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/465)
[ذِكْرُ مَنْ تَخَلّفَ]
ثُمّ ذَكَرَ مَنْ تَخَلّفَ عَنْهُ مِنْ الْأَعْرَابِ، ثُمّ قَالَ: حِينَ
اسْتَفَزّهُمْ لِلْخُرُوجِ مَعَهُ فَأَبْطَئُوا عَلَيْهِ: سَيَقُولُ لَكَ
الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا. ثُمّ
الْقِصّةُ عَنْ خَبَرِهِمْ، حَتّى انْتَهَى إلَى قَوْلِهِ: سَيَقُولُ
الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا
نَتَّبِعْكُمْ، يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ، قُلْ لَنْ
تَتَّبِعُونا، كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ..
ثُمّ الْقِصّةُ عَنْ خَبَرِهِمْ وَمَا عَرَضَ عَلَيْهِمْ مِنْ جِهَادِ
الْقَوْمِ أُولِي الْبَأْسِ الشّدِيدِ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: حَدّثَنِي عَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ
عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ، قَالَ: فَارِسٌ. قَالَ
ابْنُ إسْحَاقَ: وَحَدّثَنِي مَنْ لَا أَتّهِمُ، عَنْ الزّهْرِيّ أَنّهُ
قَالَ: أُولُو الْبَأْسِ الشّدِيدِ: حَنِيفَةُ مَعَ الْكَذّابِ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ
يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ،
فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ، وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً.
وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها، وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً.
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ
هذِهِ، وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً
لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً. وَأُخْرى لَمْ
تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها، وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/466)
[ذِكْرُ كَفّ الرّسُولِ عَنْ الْقِتَالِ]
ثُمّ ذَكَرَ مَحْبِسَهُ وَكَفّهُ إيّاهُ عَنْ الْقِتَالِ، بَعْدَ الظّفَرِ
مِنْهُ بِهِمْ، يَعْنِي النّفَرَ الّذِينَ أَصَابَ مِنْهُمْ وَكَفّهُمْ
عَنْهُ، ثُمّ قَالَ تَعَالَى: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ
وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ
عَلَيْهِمْ، وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً ثُمّ قَالَ
تَعَالَى: هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ
الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ.
[تَفْسِيرُ ابْنِ هِشَامٍ لبعض الغريب]
قال ابن هِشَامٍ: الْمَعْكُوفُ: الْمَحْبُوسُ، قَالَ أَعْشَى بَنِي قَيْسِ
بْنِ ثَعْلَبَةَ:
وَكَأَنّ السّمُوطَ عَكّفَهُ السّلْكُ بِعِطْفِي جَيْدَاءَ أُمّ غَزَالِ
وَهَذَا الْبَيْتُ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ
لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ
بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَالْمَعَرّةُ: الْغُرْمُ، أَيْ أَنْ تُصِيبُوا مِنْهُمْ
(مَعَرّةً) بِغَيْرِ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوا دِيَتَهُ، فَإِمّا إثْمٌ فَلَمْ
يُخَشّهِ عَلَيْهِمْ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: بَلَغَنِي عَنْ مُجَاهِدٍ أَنّهُ قَالَ: نَزَلَتْ
هَذِهِ الْآيَةُ فِي الْوَلِيدِ بْنِ الوليد بن الْمُغِيرَةِ، وَسَلَمَةَ
بْنِ هِشَامٍ، وَعَيّاشِ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ، وَأَبِي جَنْدَلِ بْنِ
سُهَيْلٍ. وَأَشْبَاهِهِمْ.
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: ثُمّ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: إِذْ جَعَلَ
الَّذِينَ كَفَرُوا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
(6/467)
فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ، حَمِيَّةَ
الْجاهِلِيَّةِ يَعْنِي سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو حِينَ حَمِيَ أَنْ يَكْتُبَ
بِسْمِ اللهِ الرّحْمَنِ الرّحِيمِ، وَأَنّ مُحَمّدًا رَسُولُ اللهِ، ثُمّ
قَالَ تَعَالَى: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى
الْمُؤْمِنِينَ، وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى، وَكانُوا أَحَقَّ بِها
وَأَهْلَها: أَيْ التّوْحِيدُ، شَهَادَةُ أَنْ لَا إلَه إلّا اللهُ، وَأَنّ
مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.
ثُمّ قَالَ تَعَالَى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخافُونَ، فَعَلِمَ
مَا لَمْ تَعْلَمُوا: أَيْ لِرُؤْيَا رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ الّتِي رَأَى، أَنّهُ سَيَدْخُلُ مَكّةَ آمِنًا لا يخاف؛ يقول:
محلّقين رؤسكم، وَمُقَصّرِينَ مَعَهُ لَا تَخَافُونَ، فَعَلِمَ مِنْ ذَلِكَ
مَا لَمْ تَعْلَمُوا، فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا، صُلْحُ
الْحُدَيْبِيَةِ.
يَقُولُ الزّهْرِيّ: فَمَا فُتِحَ فِي الْإِسْلَامِ فَتْحٌ قَبْلَهُ كَانَ
أَعْظَمَ مِنْهُ، إنّمَا كَانَ الْقِتَالُ حَيْثُ الْتَقَى النّاسُ؛
فَلَمّا كَانَتْ الْهُدْنَةُ، وَوُضِعَتْ الْحَرْبُ، وَآمَنَ النّاسُ
بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَالْتَقَوْا، فَتَفَاوَضُوا فِي الْحَدِيثِ
وَالْمُنَازَعَةِ، فَلَمْ يُكَلّمْ أَحَدٌ بِالْإِسْلَامِ يَعْقِلُ شَيْئًا
إلّا دَخَلَ فِيهِ، وَلَقَدْ دَخَلَ فِي تِينِك السّنَتَيْنِ مِثْلُ مَنْ
كَانَ فِي الْإِسْلَامِ قَبْلَ ذَلِكَ أَوْ أَكْثَرَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَالدّلِيلُ عَلَى قَوْلِ الزّهْرِيّ أَنّ رَسُولَ
اللهِ صَلّى اللهُ عليه وسلم خرج إلى الحديبية فى ألف وأربع مائة، فِي
قَوْلِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، ثُمّ خَرَجَ عَامَ فَتْحِ مَكّةَ بَعْدَ
ذَلِكَ بِسَنَتَيْنِ فِي عَشَرَةِ آلَافٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/468)
[مَا جَرَى عَلَيْهِ أَمْرُ قَوْمٍ مِنْ
الْمُسْتَضْعَفِينَ بعد الصلح]
[مجىء أبى بصير إلى المدينة وطلب قريش له]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَلَمّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ أَتَاهُ أَبُو بَصِيرٍ عُتْبَةُ بْنُ
أُسَيْدِ بْنِ جَارِيَةَ، وَكَانَ مِمّنْ حُبِسَ بِمَكّةَ، فَلَمّا قَدِمَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَتَبَ فِيهِ أَزْهَرُ
بْنِ عَبْدِ عَوْفِ بْنِ عَبْدِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ زُهْرَةَ،
وَالْأَخْنَسُ بْنُ شَرِيقِ بْنِ عَمْرِو بْنِ وَهْبٍ الثّقَفِيّ إلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويعثا رجلا من بنى
لُؤَيّ، وَمَعَهُ مَوْلًى لَهُمْ، فَقَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكِتَابِ الْأَزْهَرِ وَالْأَخْنَسِ؛ فَقَالَ
رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
يَا أَبَا بِصَيْرِ إنّا قَدْ أَعْطَيْنَا هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ مَا قَدْ
عَلِمْتَ، وَلَا يَصْلُحُ لَنَا فِي دِينِنَا الْغَدْرُ، وَإِنّ اللهَ
جَاعِلٌ لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا، فَانْطَلِقْ إلَى قَوْمِك،
قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَتَرُدّنِي إلَى الْمُشْرِكِينَ يَفْتِنُونَنِي
فِي دِينِي؟ قَالَ: يَا أَبَا بِصَيْرِ، انْطَلِقْ، فَإِنّ اللهَ تَعَالَى
سَيَجْعَلُ لَك وَلِمَنْ مَعَك مِنْ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَرْجًا
وَمَخْرَجًا.
[قَتْلُ أَبِي بِصَيْرِ لِلْعَامِرِيّ، وَمَقَالَةُ الرّسُولِ فِي ذَلِكَ]
فَانْطَلَقَ مَعَهُمَا، حَتّى إذَا كَانَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، جَلَسَ إلَى
جِدَارٍ، وَجَلَسَ مَعَهُ صَاحِبَاهُ، فَقَالَ أَبُو بَصِيرٍ: أَصَارِمٌ
سَيْفُك هَذَا يَا أَخَا بَنِي عَامِرٍ؟ فَقَالَ: نَعَمْ؛ قَالَ: أَنَظَرَ
إلَيْهِ؟ قَالَ: اُنْظُرْ، إنْ شِئْت. قَالَ: فَاسْتَلّهُ أَبُو بَصِيرٍ،
ثُمّ عَلَاهُ بِهِ حَتّى قَتَلَهُ، وَخَرَجَ الْمَوْلَى سَرِيعًا حَتّى
أَتَى رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ وَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/469)
جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمّا رَآهُ
رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ طَالِعًا، قَالَ: إنّ هَذَا
الرّجُلَ قَدْ رَأَى فَزِعًا، فَلَمّا انْتَهَى إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال:
ويحك! مالك؟ قَالَ: قَتَلَ صَاحِبُكُمْ صَاحِبِي. فَوَاَللهِ مَا بَرِحَ
حَتّى طَلَعَ أَبُو بَصِيرٍ مُتَوَشّحًا بِالسّيْفِ، حَتّى وَقَفَ عَلَى
رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، وَفَتْ ذِمّتُك، وَأَدّى اللهُ عَنْك، أَسْلَمْتنِي
بِيَدِ الْقَوْمِ وَقَدْ امتنعت بدينى أن أفتن فيه، أو يبعث بِي. قَالَ:
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيْلُ أُمّهِ
مِحَشّ حَرْبٍ لَوْ كان معه رجال!
[أبو بصير وزملاؤه فى العيص]
ثُمّ خَرَجَ أَبُو بَصِيرٍ حَتّى نَزَلَ الْعِيصَ، مِنْ نَاحِيَةِ ذِي
الْمَرْوَةِ، عَلَى سَاحِلِ الْبَحْرِ، بِطَرِيقِ قُرَيْشٍ الّتِي كَانُوا
يَأْخُذُونَ عَلَيْهَا إلَى الشّامِ، وَبَلَغَ الْمُسْلِمِينَ الّذِينَ
كَانُوا اُحْتُبِسُوا بِمَكّةَ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم لِأَبِي
بِصَيْرِ:
«وَيْلُ أُمّهِ مِحَشّ حَرْبٍ لَوْ كَانَ مَعَهُ رِجَالٌ!» ، فَخَرَجُوا
إلَى أَبِي بِصَيْرِ بِالْعِيصِ، فَاجْتَمَعَ إلَيْهِ مِنْهُمْ قَرِيبٌ
مِنْ سَبْعِينَ رَجُلًا، وَكَانُوا قَدْ ضَيّقُوا عَلَى قُرَيْشٍ، لَا
يَظْفَرُونَ بِأَحَدِ مِنْهُمْ إلّا قَتَلُوهُ، وَلَا تَمُرّ بِهِمْ عِيرٌ
إلّا اقْتَطَعُوهَا، حَتّى كَتَبَتْ قُرَيْشٌ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَسْأَلُ بِأَرْحَامِهَا إلّا آوَاهُمْ، فَلَا
حَاجَةَ لَهُمْ بِهِمْ. فَآوَاهُمْ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ، فَقَدِمُوا عَلَيْهِ الْمَدِينَةَ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: فَلَمّا بَلَغَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو قَتْلُ أَبِي
بصير صاحبهم
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/470)
الْعَامِرِيّ، أَسْنَدَ ظَهْرَهُ إلَى
الْكَعْبَةِ، ثُمّ قَالَ: وَاَللهِ لَا أُؤَخّرُ ظَهْرِي عَنْ الْكَعْبَةِ
حَتّى يُودِيَ هَذَا الرّجُلُ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ:
وَاَللهِ إنّ هَذَا لَهُوَ السّفِهُ، وَاَللهِ لَا يُودَى ثَلَاثًا.
فَقَالَ فِي ذَلِكَ مَوْهِبُ بْنُ رِيَاحٍ أَبُو أُنَيْسٍ، حَلِيفُ بَنِي
زُهْرَةَ:
قال ابن هشام: أبو أنيس أشعرىّ.
[شعر موهب فى ودى أبى بصير]
أَتَانِي عَنْ سُهَيْلٍ ذَرْءُ قَوْلٍ ... فَأَيْقَظَنِي وَمَا بِي مِنْ
رُقَادِ
فَإِنْ تَكُنِ الْعِتَابَ تُرِيدُ مِنّي ... فَعَاتِبْنِي فَمَا بِكَ مِنْ
بِعَادِي
أَتُوعِدُنِي وَعَبْدُ مَنَافٍ حَوْلِي ... بِمَخْزُومٍ أَلَهْفًا مَنْ
تُعَادَى
فَإِنْ تَغْمِزْ قَنَاتِي لَا تَجِدْنِي ... ضَعِيفَ الْعُودِ فِي
الْكُرَبِ الشّدَادِ
أُسَامِي الْأَكْرَمِينَ أَبًا بِقَوْمِي ... إذا وطىء الضّعِيفُ بِهِمْ
أُرَادَى
هُمْ مَنَعُوا الظّوَاهِرَ غَيْرَ شَكّ ... إلَى حَيْثُ الْبَوَاطِنُ
فَالْعَوَادِي
بِكُلّ طِمِرّةٍ وَبِكُلّ نَهْدٍ ... سَوَاهِمَ قَدْ طُوِينَ مِنْ
الطّرَادِ
لَهُمْ بِالْخَيْفِ قَدْ عَلِمَتْ مَعَدّ ... رِوَاقِ الْمَجْدِ رفّع
بالعماد
[ابن الزبعرى يرد عَلَى مَوْهَبٍ]
فَأَجَابَهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ الزّبَعْرَى، فَقَالَ:
وَأَمْسَى مَوْهِبٌ كَحِمَارِ سَوْءٍ ... أَجَازَ بِبَلْدَةٍ فيها ينادى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/471)
فَإِنّ الْعَبْدَ مِثْلَك لَا يُنَاوِي ...
سُهَيْلًا ضَلّ سعيك من تعادى
فأقصر يابن قَيْنِ السّوءِ عَنْهُ ... وَعَدّ عَنْ الْمَقَالَةِ فِي
الْبِلَادِ
وَلَا تَذْكُرْ عِتَابَ أَبِي يَزِيدٍ ... فَهَيْهَاتَ الْبُحُورُ مِنْ
الثّمَادِ
[أَمْرُ الْمُهَاجِرَاتِ بَعْدَ الْهُدْنَةِ]
الرسول صلى الله عليه وسلم يأبى رد أم كلثوم (قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ) :
وَهَاجَرَتْ إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمّ
كُلْثُومٍ بِنْتُ عُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعِيطٍ فِي تِلْكَ الْمُدّةِ، فخرج
أخواها عمارة والوليد ابنا عقبة، حتى قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلَانِهِ أَنْ يَرُدّهَا عَلَيْهِمَا
بِالْعَهْدِ الّذِي بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ فِي الْحُدَيْبِيَةِ،
فَلَمْ يَفْعَلْ، أبى الله ذلك.
[حول آية المهاجرات المؤمنات]
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: فَحَدّثَنِي الزّهْرِيّ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ
الزّبَيْرِ، قَالَ: دَخَلْتُ عَلَيْهِ وَهُوَ يَكْتُبُ كِتَابًا إلَى ابْنِ
أَبِي هُنَيْدَةَ، صَاحِبِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، وَكَتَبَ
إلَيْهِ يَسْأَلُهُ عَنْ قَوْلِ اللهِ تَعَالَى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ،
اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ، فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا
تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ، لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ، وَلا هُمْ
يَحِلُّونَ لَهُنَّ، وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا، وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ
أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ، وَلا تُمْسِكُوا
بِعِصَمِ الْكَوافِرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/472)
- قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَاحِدَةُ
الْعِصَمِ: عِصْمَةٌ، وَهِيَ الحبل والسّبب. قال عشى بَنِي قَيْسِ بْنِ
ثَعْلَبَةَ:
إلَى الْمَرْءِ قَيْسٍ نُطِيلُ السّرَى ... وَنَأْخُذُ مِنْ كُلّ حَيّ
عِصَمِ
وهذا البيت فى قصيدة له.
وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ، وَلْيَسْئَلُوا مَا أَنْفَقُوا، ذلِكُمْ
حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ، وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.
قَالَ: فَكَتَبَ إلَيْهِ عُرْوَةُ بْنُ الزّبَيْرِ: إنّ رسول الله صلى الله
عليه وسلم كان صَالَحَ قُرَيْشًا يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى أَنْ يَرُدّ
عَلَيْهِمْ مَنْ جَاءَ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيّهِ، فَلَمّا هَاجَرَ النّسَاءُ
إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وإلى الإسلام أتى
اللهُ أَنْ يُرْدَدْنَ إلَى الْمُشْرِكِينَ إذَا هُنّ اُمْتُحِنّ
بِمِحْنَةِ الْإِسْلَامِ، فَعَرَفُوا أَنّهُنّ إنّمَا جِئْنَ رَغْبَةً فِي
الْإِسْلَامِ، وَأَمَرَ بِرَدّ صَدُقَاتِهِنّ إلَيْهِمْ إنْ احْتَبَسْنَ
عَنْهُمْ، إنْ هُمْ رَدّوا عَلَى الْمُسْلِمِينَ صَدَاقَ مَنْ حُبِسُوا
عَنْهُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ، ذلكم حكم الله يحكم بينكم، والله عليم حَكِيمٌ.
فَأَمْسَكَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وسلم النساء وردّ الرجال،
وسأل الذى أَمَرَهُ اللهُ بِهِ أَنْ يَسْأَلَ مِنْ صَدُقَاتِ نساء من مَنْ
حُبِسُوا مِنْهُنّ، وَأَنْ يَرُدّوا عَلَيْهِمْ مِثْلَ الّذِي يَرُدّونَ
عَلَيْهِمْ، إنْ هُمْ فَعَلُوا، وَلَوْلَا الّذِي حَكَمَ اللهُ بِهِ مِنْ
هَذَا الْحُكْمِ لَرَدّ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ
النّسَاءَ كَمَا رَدّ الرّجَالَ، وَلَوْلَا الْهُدْنَةُ وَالْعَهْدُ الّذِي
كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قُرَيْشٍ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ لَأَمْسَكَ
النّسَاءَ، وَلَمْ يَرْدُدْ لَهُنّ صَدَاقًا، وَكَذَلِكَ كَانَ يَصْنَعُ
بِمَنْ جَاءَهُ مِنْ الْمُسْلِمَاتِ قَبْلَ العهد.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/473)
قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ: وَسَأَلْت
الزّهْرِيّ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ، وَقَوْلِ اللهِ عَزّ وَجَلّ فِيهَا:
وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ،
فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا
اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فَقَالَ: يَقُولُ: إنْ فَاتَ
أَحَدًا مِنْكُمْ أَهْلُهُ إلَى الْكُفّارِ، وَلَمْ تَأْتِكُمْ امْرَأَةٌ
تَأْخُذُونَ بِهَا مِثْلَ الّذِي يَأْخُذُونَ مِنْكُمْ، فَعَوّضُوهُمْ مِنْ
فَيْءٍ إنْ أَصَبْتُمُوهُ، فَلَمّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ ...
إلَى قَوْلِ اللهِ عَزّ وَجَلّ: وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ،
كَانَ مِمّنْ طَلّقَ عُمَرُ بْنُ الْخَطّابِ، طَلّقَ امْرَأَتَهُ
قُرَيْبَةَ بِنْتَ أَبِي أُمَيّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، فَتَزَوّجَهَا
بَعْدَهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا
بِمَكّةَ، وَأُمّ كُلْثُومٍ بِنْتُ جَرْوَلَ أُمّ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ
عُمَرَ الْخُزَاعِيّةُ، فَتَزَوّجَهَا أَبُو جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ بْنِ
غَانِمٍ، رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهِ، وَهُمَا عَلَى شِرْكِهِمَا.
[بشرى فتح مكة وتعجيل بَعْضِ الْمُسْلِمِينَ]
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: حَدّثَنَا أَبُو عُبَيْدَةَ: أَنّ بَعْضَ مَنْ كَانَ
مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ لَمّا
قَدِمَ الْمَدِينَةَ: أَلَمْ تَقُلْ يَا رَسُولَ اللهِ إنّك تَدْخُلُ
مَكّةَ آمِنًا؟ قَالَ: بَلَى، أَفَقُلْت لَكُمْ مِنْ عَامِي هَذَا؟
قَالُوا: لَا، قَالَ: فَهُوَ كَمَا قَالَ لِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السلام.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
(6/474)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
غَزْوَةُ الْحُدَيْبِيَةِ يُقَالُ فِيهَا: الْحُدَيْبِيَةُ بِالتّخْفِيفِ،
وَهُوَ الْأَعْرَفُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيّةِ. قَالَ الْخَطّابِيّ:
أَهْلُ الْحَدِيثِ يَقُولُونَ: الْحُدَيْبِيَةُ بِالتّشْدِيدِ،
وَالْجِعْرَانَةُ كَذَلِكَ، وَأَهْلُ الْعَرَبِيّةِ يَقُولُونَهُمَا:
بِالتّخْفِيفِ، وَقَالَ الْبَكْرِيّ: أَهْلُ الْعِرَاقِ يُشَدّدُونَ
الرّاءَ وَالْيَاءَ فِي الْجِعْرَانَةِ وَالْحُدَيْبِيَةِ، وَأَهْلُ
الْحِجَازِ يُخَفّفُونَ، وَقَالَ أَبُو جَعْفَرٍ النّحّاسُ: سَأَلْت كُلّ
مَنْ لَقِيته مِمّنْ أَثِقُ بِعِلْمِهِ عَنْ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَمْ
يَخْتَلِفُوا عَلَى أَنّهَا بِالتّخْفِيفِ «1» .
الْمِيقَاتُ وَالْإِشْعَارُ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ خُرُوجَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-
مُعْتَمِرًا إلَى مَكّةَ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي حَدِيثِهِ: مِنْ أَيْنَ
أَحْرَمَ، وَفِي الصّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ الزّهْرِيّ أَنّهُ أَحْرَمَ مِنْ
ذِي الْحُلَيْفَةِ، وَهُوَ خِلَافُ مَا يُرْوَى عَنْ عَلِيّ رَحِمَهُ اللهُ
مِنْ قَوْلِهِ: إنّ تَمَامَ الْعُمْرَةِ أَنْ تُحْرِمَ بِهَا مِنْ
دُوَيْرَةِ أَهْلِك، وَهَذَا مِنْ قَوْلِ عَلِيّ مُتَأَوّلٌ فِيمَنْ كَانَ
مَنْزِلُهُ مِنْ وَرَاءِ الْمِيقَاتِ، فَهُوَ الّذِي يُحْرِمُ مِنْ
دُوَيْرَةِ أَهْلِهِ، كَمَا يُحْرِمُ أَهْلُ مَكّةَ مِنْ مَكّةَ فِي
الْحَجّ.
وَفِيهِ: أَنّهُ أَشْعَرَ الْهَدْيَ، وَهُوَ خِلَافُ قَوْلِ النّخَعِيّ
وَأَهْلِ الْكُوفَةِ فِي قَوْلِهِمْ إنّ الْإِشْعَارَ مَنْسُوخٌ بِنَهْيِهِ
عَنْ الْمُثْلَةِ، ويقال لهم: إن
__________
(1) وأهل الحديث يكسرون العين وأهل الأدب يخففون الراء.
(6/475)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّهْيَ عَنْ الْمُثْلَةِ كَانَ بِإِثْرِ غَزْوَةِ أُحُدٍ، فلا يكون
الناسخ متقدما على المنسوخ
فيه شَرْحِ حَدِيثِ الْحُدَيْبِيَةِ:
وَفِيهِ أَنّهُمْ مَرّوا بِطَرِيقِ أَجْرَدَ، وَمَعْنَاهُ: كَثِيرُ
الْحِجَارَةِ «1» ، وَالْجَرَدُ: الْحَجَرُ.
وَفِيهِ أَنّهُ بَعَثَ عَيْنًا لَهُ مِنْ خُزَاعَةَ إلَى مَكّةَ، فَدَلّ
عَلَى أَنّهُ يَجُوزُ لِلرّجُلِ أَنْ يُسَافِرَ وَحْدَهُ، إذَا مَسّتْ
الْحَاجَةُ إلَى ذَلِكَ، أَوْ كَانَ فِي ذَلِكَ صَلَاحٌ لِلْمُسْلِمَيْنِ.
وَفِي الْبُخَارِيّ وَالنّسَوِيّ أَنّ عَيْنَهُ الّذِي أَرْسَلَ جَاءَهُ
بِغَدِيرِ الْأَشْطَاطِ، وَالْأَشْطَاطُ: جَمْعُ شَطّ، وَهُوَ السّنَامُ،
قَالَ الرّاجِزُ «2» :
شَطّا رَمَيْت فَوْقَهُ بِشَطّ وَشَطّ الْوَادِي: أَيْضًا جَانِبُهُ،
وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ فِيهِ الْأَشْظَاظُ بِالظّاءِ الْمُعْجَمَةِ، وَاسْمُ
عَيْنِهِ ذَلِكَ بُسْرُ بْنُ سُفْيَانَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ
الْخُزَاعِيّ «3» ، وَهُوَ الذى
__________
(1) فى السيرة أجرل. والجرل: بالتحريك: الحجارة أو مع الشجر أو المكان
الصلب الغليظ، والجرد من الأرض ما لا ينبت، والفضاء لا نبت فيه وهذا الإسم
للفضاء، ومن هذا يتبين أن السهيلى وضع للجرد معنى الجرل، أو لعله خطأ من
الناسخ، إذ جعل اللام دالا.
(2) الرجز لأبى النجم، وهو الفضل بن قدامة بن عبيد الله عجلى من بنى عجل
ابن لُجَيْمِ بْنِ صَعْبِ بْنِ عَلِيّ بْنِ بَكْرِ بن وائل، والرجز هكذا.
علقت خودا من بنات الزط ... ذات جهاز مضغط ملط
كأن تحت درعها المنعط ... شطا رميت فوقه بشط
لم ينز فى الرفع ولم ينحط
(3) أوعو يمر الخزاعى.
(6/476)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ مع بديل بن أم
أصرم «1» وهو بديل ابن سَلَمَةَ «2» إلَى خُزَاعَةَ يَسْتَنْفِرُهُمْ إلَى
قِتَالِ أَهْلِ مَكّةَ عَامَ الْفَتْحِ.
وَفِيهِ أَنّ قُرَيْشًا خَرَجَتْ وَمَعَهَا الْعُوذُ الْمَطَافِيلُ.
الْعُوذُ: جَمْعُ عَائِذٍ، وَهِيَ النّاقَةُ الّتِي مَعَهَا وَلَدُهَا،
يُرِيدُ أَنّهُمْ خَرَجُوا بذوات الألبان من الإبل، ليتزوّدوا ألباسها،
وَلَا يَرْجِعُوا، حَتّى يُنَاجِزُوا مُحَمّدًا وَأَصْحَابَهُ فِي
زَعْمِهِمْ، وَإِنّمَا قِيلَ لِلنّاقَةِ: عَائِذٌ، وَإِنْ كَانَ الْوَلَدُ
هُوَ الّذِي يَعُوذُ بِهَا، لِأَنّهَا عَاطِفٌ عليه، كما قالوا نجارة
رَابِحَةٌ، وَإِنْ كَانَتْ مَرْبُوحًا فِيهَا، لِأَنّهَا فِي مَعْنَى
نَامِيَةٍ وَزَاكِيَةٍ، وَكَذَلِكَ عِيشَةٌ رَاضِيَةٌ لِأَنّهَا فِي
مَعْنَى صَالِحَةٍ، وَمِنْ نَحْوِ هَذَا قَوْلُهُ:
وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً الْفَتْحُ: 25 وَإِنْ كَانَ عَاكِفًا، لِأَنّهُ
مَحْبُوسٌ فِي الْمَعْنَى، فَتَحَوّلَ وَزْنُهُ فِي اللّفْظِ إلَى وَزْنِ
مَا هُوَ فِي مَعْنَاهُ، كَمَا قَالُوا فِي الْمَرْأَةِ: تُهْرَاقُ
الدّمَاءَ، وَقِيَاسُهُ: تُهْرِيقُ الدّمَاءَ، وَلَكِنّهُ فِي مَعْنَى:
تُسْتَحَاضُ، فَحُوّلَ إلَى وزن ما لم يسمّ فاعله وبقيت الدماء منصوبة على
المفعول كما كانت «3» .
__________
(1) فى الأصل: أصوم.
(2) فى القاموس: بديل بن ميسرة بن أم أصرم، وبديل بن سلمة. وفى الاشتقاق:
بديل بن أم أصرم.
(3) قد يكون منصوبا على التمييز، وإن كان معرفة، وله نظائر، أو يكون قد
أجرى تهراق مجرى: نفست المرأة غلاما، ونتج الفرس مهرا، ويجوز رفع الدم على
تقدير تهراق دماؤها، وتكون الألف واللام بدلا من الإضافة كقوله تعالى:
(أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ) أى عقدة نكاحه أو
نكاحها واللسان مادة هرق» .
(6/477)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَقَوْلُهُ فِي بِئْرِ الْحُدَيْبِيَةِ: إنّمَا يُتَبَرّضُ مَاؤُهَا تبرّضا
من البرض، وهو الماء الدى يَقْطُرُ قَلِيلًا قَلِيلًا، وَالْبَارِضُ مِنْ
النّبَاتِ الّذِي كأنه يقطر من مِنْ الرّيّ وَالنّعْمَةِ. قَالَ الشّاعِرُ:
رَعَى بَارِضَ الْبُهْمَى جَمِيمًا وَبُسْرَةً ... وَصَمْعَاءَ حَتّى
آنَفَتْهُ نِصَالُهَا «1»
يُقَالُ لِكُلّ شَيْءٍ فِي أَوّلِهِ: بُسْرَةٌ حَتّى لِلشّمْسِ عِنْدَ
طُلُوعِهَا، وَصَمْعَاءُ:
مُتّحِدَةٌ قَدْ شَوّكَتْ، قَالَهُ أَبُو حَنِيفَةَ.
وَذَكَرَ أَنْ رَجُلًا مِنْ أسلم سلك بهم طريقا وعرا أجول يُقَالُ: إنّ
ذَلِكَ الرّجُلُ هُوَ نَاجِيَةُ الْأَسْلَمِيّ، وَهُوَ سَائِقُ بُدْنِهِ،
وَهُوَ نَاجِيَةُ بْنُ جُنْدُبٍ، وَيُقَالُ فِيهِ ابْنُ عُمَيْرٍ، وَكَانَ
اسْمُهُ: ذَكْوَانُ، فَسَمّاهُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: نَاجِيَةَ حِينَ نَجَا مِنْ كُفّارِ قُرَيْشٍ، وَعَاشَ إلَى
زَمَنِ مُعَاوِيَةَ، وَأَمّا صَاحِبُ بُدْنِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَذْكُورُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ فِي الْمُوَطّإِ
وَغَيْرِهِ، فَاسْمُهُ: ذُؤَيْبُ بْنُ حَلْحَلَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ
كُلَيْبِ بْنِ أَصْرَمَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ قُمَيْرِ بْنِ حُبْشِيّةَ
بْنِ سَلُولَ بْنِ كَعْبِ بْنِ عَمْرِو بْنِ ربيعة، وهو لحىّ بن
__________
(1) البيت فى اللسان وروايته: رعت. وفى الأصل: حميما وآلفته والتصويب من
اللسان. وآنفته: جعلتها تشتكى- أنوفها بسفاها. ويروى حتى أنصاتها. والبهمى:
نبات تحبه الغنم حبا شديدا مادام أخضر. قال الأزهرى: البهمى أول ما يبدو
منها البارض، فاذا تحرك قليلا فهو جميم، فاذا أرتفع وتم قبل أن يتفقأ، فهو
الصمعاء. والبسرة: الغض من البهمى «انظر اللسان فى مادة يسر، وصمع، وبهم.
(6/478)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
حَارِثَةَ جَدّ خُزَاعَةَ، وَذُؤَيْبٌ هَذَا هُوَ وَالِدُ قَبِيصَةَ بْنِ
ذُؤَيْبٍ الْقَاضِي صَاحِبُ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ مَرْوَانَ، وَعَاشَ
ذُؤَيْبٌ إلَى خِلَافَةِ مُعَاوِيَةَ أَيْضًا.
وَذَكَرَ فِي نَسَبِ أَسْلَمَ بْنِ أَفْصَى بْنِ أَبِي حَارِثَةَ، وَهُوَ
وَهْمٌ، وَقَدْ أَصْلَحَهُ ابن هشام، فقال: هو حارثة يعنى بْنِ ثَعْلَبَةَ
بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرِ بْنِ مَاءِ السّماء ابن حارثة الغطريف بن امرىء
الْقَيْسِ بْنِ ثَعْلَبَةَ بْنِ مَازِنِ بْنِ الْأَسَدِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ
يَكُونَ ابْنُ إسْحَاقَ لَمْ يَهِمْ فِيهِ، وَلَكِنّهُ نَسَبَهُ إلَى أَبِي
حَارِثَةَ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَامِرٍ، وَهُوَ عَمّ حَارِثَةَ بْنِ
ثَعْلَبَةَ، وَحَارِثَةُ هُوَ أَبُو الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ «1» .
وَذَكَرَ قَوْلَهُ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ الْيَوْمَ
إلَى خُطّةٍ، الْحَدِيثُ، وَفِي غَيْرِ رِوَايَةُ ابْنِ إسْحَاقَ عَنْ
الزّهْرِيّ أَنّهُ قَالَ: وَاَلّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا تَدْعُونِي
قُرَيْش، وَلَمْ يَقُلْ فِي الْحَدِيثِ: إنْ شَاءَ اللهُ، وَقَدْ
تَكَلّمُوا فِي ذَلِكَ فَقِيلَ: إنّمَا أَسْقَطَ الِاسْتِثْنَاءَ، لِأَنّهُ
أَمْرٌ وَاجِبٌ كَانَ قَدْ أَمَرَ بِهِ، أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ فِي
الْحَدِيثِ: إنّمَا أَنَا عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ لَنْ أُخَالِفَ
أَمْرَهُ، وَلَنْ يُضَيّعَنِي «2» ، وَقِيلَ إنّ إسْقَاطَ الِاسْتِثْنَاءِ
إنّمَا هُوَ مِنْ الرّاوِي إمّا نَسِيَهُ وَإِمّا لَمْ يَحْفَظْهُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: أَوْ تَنْفَرِدُ هَذِهِ السّالِفَةُ. السّالِفَةُ:
صَفْحَةُ الْعُنُقِ، وانفرادها
__________
(1) هذا لأن حارثة ولد ربيعة، وولد ربيعة عمرا، وهو أبو خزاعة.
(2) رأى غير جيد، لأنه تعالى قال فى هذه القصة: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) مع تحقيق وقوع ذلك تعليما وإرشادا
«عن فتح البارى» .
(6/479)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عبارة عن القتل أو الذيح، وَفِي الرّجَزِ الّذِي أَنْشَدَهُ:
يَا أَيّهَا الْمَائِحُ دَلْوِي دُونَكَا لَوْ قَالَ دُونَك دَلْوِي
لَكَانَ الدّلْوُ فِي مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلَى الْإِغْرَاءِ، فَلَمّا
قَدّمَهَا عَلَى دُونَك، لَمْ يَجُزْ نَصْبُهَا بِدُونِك، وَلَكِنّهُ
بِفِعْلِ آخَرَ، كَأَنّهُ قَالَ:
امْلَأْ دَلْوِي، فَقَوْلُهُ: دُونَكَا أَمْرٌ بَعْدَ أَمْرٍ.
وَفِيهِ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فِي الْحُلَيْسِ: إنّ
هَذَا مِنْ قَوْمٍ يَتَأَلّهُونَ، أَيْ: يُعَظّمُونَ أَمْرَ الْإِلَهِ،
وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ:
سَبّحْنَ، وَاسْتَرْجَعْنَ مَنْ تَأَلّهَ «1» أَيْ: مِنْ تَنَسّكٍ
وَتَعْظِيمٍ لِلّهِ سُبْحَانَهُ.
وَصْفُ الْجَمْعِ بِالْمُفْرَدِ:
وَقَوْلُ عُرْوَةَ بْنِ مَسْعُودٍ لِقُرَيْشِ: قَدْ عَرَفْتُمْ أَنّكُمْ
وَالِدٌ: أَيْ كُلّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كَالْوَالِدِ، وَقِيلَ مَعْنَاهُ:
أَنْتُمْ حَيّ قَدْ وَلَدَنِي، لِأَنّهُ كَانَ لِسُبَيْعَةَ «2» بِنْتِ
عَبْدِ شَمْسٍ «3» ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْجَمَاعَةِ: هم لى
صديق وعدوّ. وفى
__________
(1) القصيدة فى ديوان رؤية والبيت هكذا:
لله در الغانيات المده ... سبحن واسترجعن من تألهى.
(2) فى الأصل: سفيعة، وهو خطأ.
(3) وعبد شمس هو ابن عبد مناف بن قصى.
(6/480)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التّنْزِيلِ: وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً النّسَاءُ: 69 فَيُفْرَدُ
لِأَنّهُ صِفَةٌ لِفَرِيقِ وَحِزْبٍ وَيَقْبُحُ أَنْ تَقُولَ: قَوْمُك
ضَاحِكٌ أَوْ بَاكٍ، وَإِنّمَا يَحْسُنُ هَذَا إذَا وَصَفْت بِصَدِيقِ
وَرَفِيقٍ وَعَدُوّ لِأَنّهَا صِفَةٌ تَصْلُحُ لِلْفَرِيقِ وَالْحِزْبِ،
لِأَنّ الْعَدَاوَةَ وَالصّدَاقَةَ صِفَتَانِ مُتَضَادّتَانِ، فَإِذَا
كَانَ عَلَى أَحَدِهِمَا الْفَرِيقُ الْوَاحِدُ، كَانَ الْآخَرُ عَلَى
ضِدّهَا، وَكَانَتْ قُلُوبُ أَحَدِ الْفَرِيقَيْنِ فِي تِلْكَ الصّفَةِ
عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ فِي عُرْفِ الْعَادَةِ، فَحَسُنَ
الْإِفْرَادُ، وَلَيْسَ يَلْزَمُ مِثْلُ هَذَا فِي الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ
وَنَحْوِهِ، حَتّى يُقَالَ: هُمْ قَاعِدٌ أَوْ قَائِمٌ كَمَا يُقَالُ: هُمْ
صَدِيقٌ لِمَا قَدّمْنَاهُ مِنْ الِاتّفَاقِ وَالِاخْتِلَافِ. وَأَمّا
قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا غَافِرٌ: 67، بِلَفْظِ
الْإِفْرَادِ، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ
مِنْكُمُ الْحُلُمَ النّورُ: 59 فَالْأَحْسَنُ فِي حُكْمِ الْبَلَاغَةِ
أَنْ يُعَبّرَ عَنْ الْأَطْفَالِ الرّضّعِ بِالطّفْلِ فِي الْوَاحِدِ
وَالْجَمِيعِ، لِأَنّهُمْ مَعَ حِدْثَانِ الْوِلَادَةِ كَالْجِنْسِ الّذِي
يَقَعُ عَلَى الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ بِلَفْظِ وَاحِدٍ، أَلَا تَرَى أَنّ
بَدْءَ الْخَلْقِ طِينٌ، ثُمّ مَنِيّ، وَالْمَنِيّ جِنْسٌ لَا يَتَمَيّزُ
بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ، فَلِذَلِكَ لَا يُجْمَعُ، وَكَذَلِكَ الطّينُ، ثُمّ
يَكُونُ الْخَلْقُ عَلَقًا، وَهُوَ الدّمُ، فَيَكُونُ ذَلِكَ جِنْسًا، ثُمّ
يُخْرِجُهُمْ اللهُ طِفْلًا، أَيْ: جِنْسًا تَالِيًا لِلْعَلَقِ
وَالْمَنِيّ لَا يَكَادُ يَتَمَيّزُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ إلّا عِنْدَ
آبَائِهِمْ، فَإِذَا كَبُرُوا وَخَالَطُوا النّاسَ، وَعَرَفَ النّاسُ
صُوَرَهُمْ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ فَصَارُوا كَالرّجَالِ وَالْفِتْيَانِ،
قِيلَ فِيهِمْ: حِينَئِذٍ أَطْفَالٌ، كَمَا يُقَالُ: رِجَالٌ وَفِتْيَانٌ،
وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ بِالْأَجِنّةِ أَنّهُمْ
مُغَيّبُونَ فِي الْبُطُونِ، فَلَمْ يَكُونُوا كَالْجِنْسِ الظّاهِرِ
لِلْعُيُونِ كَالْمَاءِ وَالطّينِ وَالْعَلَقِ، وَإِنّمَا جَمْعُ
الْجَنِينِ عَلَى أَجِنّةٍ، وَحَسُنَ ذَلِكَ فِيهِ، لِأَنّهُ تَبَعٌ
لِلْبَطْنِ الّذِي هُوَ فِيهِ، وَيُقَوّي هَذَا الْغَرَضَ الّذِي صمدنا
إليه فى الطّال
(6/481)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
قَوْلُ رَجُلٍ مِنْ بَنِي مَجَاعَةَ لِعُمَرِ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ،
وَقَدْ سَأَلَهُ: هَلْ بَقِيَ مِنْ كُهُولِ بَنِي مَجَاعَةَ أَحَدٌ؟ قَالَ:
نَعَمْ، وَشَكِيرٌ كَثِيرٌ، فَانْظُرْ كَيْفَ قَالَ: الْكُهُولُ وَجَمَعَ،
وَقَالَ فِي الصّغَارِ: شَكِيرٌ كَمَا تَقُولُ: حَشِيشٌ، وَنَبَاتٌ،
فَتُفْرَدُ، لِأَنّهُ جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَالطّفْلُ فِي مَعْنَى الشّكِيرِ
مَا دَامُوا رُضّعًا، حَتّى يَتَمَيّزُوا بِالْأَسْمَاءِ وَالصّوَرِ عِنْدَ
النّاسِ، فَهَذَا حُكْمُ الْبَلَاغَةِ، وَمَسَاقُ الفصاحة فافهمه.
وأما قول عروة: جمعت أو شاب النّاسِ، يُرِيدُ: أَخْلَاطًا، وَكَذَلِكَ
الْأَوْبَاشُ.
وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ: أَمّا الْمَالُ فَلَسْت مِنْهُ «1»
فِي شَيْء فِيهِ مِنْ الْفِقْهِ أَنّ أَمْوَالَ الْمُشْرِكِينَ حَرَامٌ
إذَا أَمّنُوك وَأَمّنْتهمْ، وَإِنّمَا يَحِلّ بِالْمُحَارَبَةِ والمبالغة
لَا عِنْدَ طُمَأْنِينَتِهِمْ إلَيْك وَأَمَنَتِهِمْ مِنْك، فَإِنّ ذلك هو
الغدر،
__________
(1) كان المغيرة قبل إسلامه صحب قوما فى الجاهلية ثلاثة عشر من ثقيف من بنى
مالك لما خرجوا المقوقس بمصر بهدايا، فأحسن إليهم، وأعطاهم، وقصر بالمغيرة،
لأنه ليس من القوم، بل من أحلافهم، فغار منهم ولم يواسه أحد منهم، فلما كان
ببعض الطريق شربوا الخمر، وناموا، فوثب المغيرة، فقتلهم كلهم، وأخذ
أموالهم، ثم جاء إلى المدينة، فأسلم فقال أبو بكر: ما فعل المالكيون الذين
كانوا معك؟ قال: قتلتهم، وجئت بأسلابهم إلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليحسن، أو ليرى رأيه فيها، فَقَالَ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَا الإسلام- بالنصب على المفعولية- فأقبل،
وأما المال فلست منه فى شىء «المواهب ص 191 ح 2» ورواية البخارى ومسلم «صحب
قوما فى الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم، ثم جاء فأسلم، فقال النبى «ص» أما
الإسلام فأقبل، وأما المال فلست منه فى شىء» .
(6/482)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَفِي هَذَا الْمَعْنَى آثَارٌ قَدْ مَضَى بَعْضُهَا، وَسَيَأْتِي
بَعْضُهَا فِي غَزْوَةِ خَيْبَرَ وَغَيْرِهَا.
وَفِيهِ: أَنّهُمْ كَانُوا يَتَدَلّكُونَ بِنُخَامَةِ النّبِيّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا تَنَخّمَ.
وَفِي ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى طَهَارَةِ النّخَامَةِ خِلَافًا لِلنّخَعِيّ،
وَمَا يُرْوَى فِي ذَلِكَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيّ. وَحَدِيثُ: إذَا
تَنَخّمَ أَحَدُكُمْ فِي الصّلَاة أَبْيَنُ فِي الْحُجّةِ، لِأَنّ حَدِيثَ
السّيرَةِ يَحْتَمِلُ الْخُصُوصَ بِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «1» .
حَوْلَ الْمُصَالَحَةِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ مُصَالَحَةَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- لِقُرَيْشِ وَشَرْطَهُمْ أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ
مِمّنْ هُوَ عَلَى دِينِهِ إلّا رَدّهُ عَلَيْهِمْ، وَفِي هذا الحديث
مصالحة
__________
(1) لا يعتبر عمل الصحابة هنا هدا يهتدى به أو أسوة يقتدى بها، أو عملا
يمكن أن يضاف إلى الإسلام كشعيرة أو سنة. فإنه عمل إن صح الحديث مرتبط بما
فعل من أجله، لا يتعداه، ولا يحتسب قاعدة. بدليل أن أحدا من الصحابة لم
يفعله بعد ذلك، وهى لمحة رئعة من لمحات صاحب الفتح أن يقول: «ولعل الصحابة
فعلوا ذلك بحضرة عروة بالغوا فى ذلك إشارة إلى الرد على ما حشيه من فرارهم،
فكانهم قالوا بلسان الحال: من نحبه هذه المحبة. ونعظمه هذا التعظيم، كيف
يظن به أن نفر عنه ونسلمه لعدو، بل هم أشد اعتباطا به وبدينه ونصره من هذه
القبائل التى تداعى بعضها بمجرد الرحم، ص 192 ح 2 المواهب. ولعل من دنس
الفهم وقذارته أن نتصور فى الإسلام أنه بمجد مثل هذا أو يفتح له بابا يدخل
منه إلى شريعته. أو يحث الناس على التدلك بنخامة شيوخهم كما يفترون!! هذا
وقد روى عن أبى هريرة وأبى سعيد أن رسول الله «ص» رأى تخامة فى جدار المسجد
فتناول حصاة. فحتها، وقال إذا تخم احدكم فلا يتنخمن قبل وجهه، ولا عن
يمينه، وليبصق عن يساره، أو تحت قدمه اليسرى «متفق عليه» وفى رواية
البخارى: فيدفها.
(6/483)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الْمُشْرِكِينَ عَلَى غَيْرِ مَالٍ يُؤْخَذُ مِنْهُمْ، وَذَلِكَ جَائِزٌ
إذَا كَانَ بِالْمُسْلِمِينَ ضَعْفٌ، وَقَدْ تَقَدّمَ مُصَالَحَتُهُمْ
عَلَى مَالٍ يُعْطُونَهُ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ، وَاخْتُلِفَ: هَلْ
يَجُوزُ صُلْحُهُمْ إلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ؟ فَقَالَ
بَعْضُهُمْ: يَجُوزُ ذَلِكَ إذَا رَآهُ الْإِمَامُ، وَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
لَا يَتَجَاوَزُ فِي صُلْحِهِمْ إلَى أَكْثَرَ مِنْ عَشْرِ سِنِينَ،
وَحُجّتُهُمْ أَنّ حَظْرَ الصّلْحِ هُوَ الْأَصْلُ بِدَلِيلِ آيَةِ
الْقِتَالِ، وَقَدْ وَرَدَ التّحْدِيدُ بِالْعَشْرِ فِي حَدِيثِ ابْنِ
إسْحَاقَ فَحَصَلَتْ الْإِبَاحَةُ فِي هَذَا الْمِقْدَارِ متحقّقة، وبقيت
الزيادة على الأصلى وَهُوَ الْحَظْرُ، وَفِيهِ الصّلْحُ عَلَى أَنْ يُرَدّ
الْمُسْلِمُ إلَى دَارِ الْكُفْرِ، وَهَذَا مَنْسُوخٌ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ سُرّيّةِ خَالِدٍ حِينَ وَجّهَهُ النّبِيّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى خَثْعَمٍ، وَفِيهِمْ نَاسٌ مُسْلِمُونَ
فَاعْتَصَمُوا بِالسّجُودِ فَقَتَلَهُمْ خَالِدٌ، فَوَدَاهُمْ النّبِيّ-
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- نِصْفَ الدّيَةِ، وَقَالَ: أَنَا
بَرِيءٌ مِنْ مُسْلِمٍ بَيْنَ مُشْرِكِين، وَقَالَ فُقَهَاءُ الْحِجَازِ:
هُوَ جَائِزٌ، وَلَكِنْ لِلْخَلِيفَةِ الْأَكْبَرِ لَا لِمَنْ دُونَهُ،
وَفِيهِ: نَسْخُ السّنّةِ بِالْقُرْآنِ عَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنّ
هَذَا الْعَهْدَ كَانَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَأْتِيَهُ مُسْلِمٌ إلّا
رَدّهُ، فَنَسَخَ اللهُ تَعَالَى ذَلِكَ فِي النّسَاءِ خَاصّةً، فَقَالَ
عَزّ وَجَلّ: فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ [فَلا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ] الْمُمْتَحَنَةُ: 10 هَذَا عَلَى رِوَايَةِ عُقَيْلِ
بْنِ خَالِدٍ عَنْ الزّهْرِيّ، فَإِنّهُ قَالَ فِي الْحَدِيثِ: أَنْ لَا
يَأْتِيَهُ أَحَدٌ، وَأَحَدٌ يَتَضَمّنُ الرّجَالَ وَالنّسَاءَ،
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ فِي مِثْلِ هَذَا تَخْصِيصُ عُمُومٍ لَا
نَسْخٌ، عَلَى أَنّ بَعْضَ حُذّاقِ الْأُصُولِيّينَ قَدْ قَالَ فِي
الْعُمُومِ: إذَا عُمِلَ بِمُقْتَضَاهُ فِي عَصْرِ النّبِيّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَاعْتُقِدَ فِيهِ الْعُمُومُ، ثُمّ وَرَدَ
التّخْصِيصُ فَهُوَ نَسْخٌ، وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ، وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى
أَنْ لَا يَأْتِيَهُ رَجُلٌ. فَهَذَا اللّفْظُ لَا يَتَنَاوَلُ
(6/484)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
النّسَاءَ وَقَالَتْ طَائِفَةٌ: إنّمَا اسْتَجَازَ النّبِيّ- صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَدّ الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمْ فِي هَذَا
الصّلْحِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السّلَامُ: لَا تَدْعُونِي قُرَيْشٌ إلَى
خُطّةٍ يُعَظّمُونَ فِيهَا الْحَرَمَ إلّا أَجَبْتهمْ إلَيْهَا، وَفِي رَدّ
الْمُسْلِمِ إلَى مَكّةَ عِمَارَةُ الْبَيْتِ، وَزِيَادَةُ خَيْرٍ لَهُ فِي
الصّلَاةِ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالطّوَافِ بِالْبَيْتِ، فَكَانَ
هَذَا مِنْ تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللهِ تَعَالَى، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ
يَكُونُ حُكْمًا مَخْصُوصًا بِمَكّةَ، وَبِالنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَكُونُ غَيْرَ جَائِزٍ لِمَنْ بَعْدَهُ كَمَا قَالَ
الْعِرَاقِيّونَ.
حُكْمُ الْمُهَاجِرَاتِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ اللهِ سُبْحَانَهُ: إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ
مُهاجِراتٍ، فَامْتَحِنُوهُنَّ الْمُمْتَحَنَةُ: 1. هَذَا عِنْدَ أَهْلِ
الْعِلْمِ مَخْصُوصٌ بِنِسَاءِ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالصّلْحِ، وَكَانَ
الِامْتِحَانُ أَنْ يَسْتَحْلِفَ الْمَرْأَةَ الْمُهَاجِرَةَ أَنّهَا مَا
خَرَجَتْ نَاشِزًا وَلَا هَاجَرَتْ إلّا لِلّهِ وَلِرَسُولِهِ «1» ،
فَإِذَا حَلَفَتْ لَمْ تُرَدّ وَرُدّ صَدَاقُهَا إلَى بَعْلِهَا، وَإِنْ
كَانَتْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْعَهْدِ لَمْ تُسْتَحْلَفْ، وَلَمْ يُرَدّ
صَدَاقُهَا.
وَفِيهِ: أَنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَحَا اسْمَهُ،
وَهُوَ رَسُولُ اللهِ، وَكَتَبَ:
هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمّدُ بْنُ عَبْدِ اللهِ، لِأَنّهُ قَوْلُ
حَقّ كُلّهُ، وَظَنّ بَعْضُ النّاسِ أَنّهُ كَتَبَ بِيَدِهِ، وَفِي
الْبُخَارِيّ أَنّهُ كَتَبَ، وَهُوَ لَا يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ، فَتَوَهّمَ
أَنّ اللهَ تَعَالَى أَطْلَقَ يَدَهُ بِالْكِتَابَةِ فِي تِلْكَ السّاعَةِ
خَاصّةً، وَقَالَ: هِيَ آيَةٌ، فَيُقَالُ لَهُ: كَانَتْ تَكُونُ آيَةً
لَوْلَا أَنّهَا مُنَاقِضَةٌ لِآيَةِ أُخْرَى، وَهُوَ كَوْنُهُ أُمّيّا لَا
يكتب،
__________
(1) اقرأ تفسير ابن كثير للآية فقد روى غير هذا.
(6/485)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَبِكَوْنِهِ أُمّيّا فِي أُمّةٍ أُمّيّةٍ قَامَتْ الْحُجّةُ، وَأُفْحِمَ
الْجَاحِدُ، وَانْحَسَمَتْ الشّبْهَةُ، فَكَيْفَ يُطْلِقُ اللهُ يَدَهُ،
لِتَكُونَ آيَةً؟ وَإِنّمَا الْآيَةُ أَنْ لَا يَكْتُبَ وَالْمُعْجِزَاتُ
«1» يَسْتَحِيلُ أَنْ يَدْفَعَ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَإِنّمَا مَعْنَى:
كَتَبَ أَيْ: أَمَرَ أَنْ يُكْتَبَ «2» وَكَانَ الْكَاتِبُ فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ عَلِيّ بْنَ أبى طالب، وقد كتب له عدّة
__________
(1) أذكر هنا بأن الله سبحانه سمى ما أعطاه لرسله آيات، لا معجزات.
(2) نص رواية البخارى والنسائى وأحمد «فأخذ الكتاب، وليس يحسن أن يكتب،
فكتب مكان رسول الله محمد بن عبد الله» ولهذا يتبين لنا ان تأويل السهيلى
غير جيد. ولأن هذه الرواية مخالفة لكل الروايات الصحيحة أنكر بعض المأخرين
على أبى موسى المدينى نسبتها للبخارى فقال: ليست فى البخارى ولا فى مسلم.
وهو كما قال عن مسلم، ولكنها ثابتة فى البخارى. وقد تمسك بظاهر رواية
البخارى أبو الوليد الباجى سليمان بن خلف بن سعد بن أيوب المتوفى سنة 474
هـ، فزعم أن النبى «ص» كتب بعد أن لم يكن يحسن أن يكتب، فشنع عليه علماء
الأندلس، وبهتوه بالزندقة، وشنعوا عليه من على المنابر فى الجمع، فجمعهم به
الأمير، فاستظهر الباجى بما كان يعرف من فنون القول والمجادلة، وزعم أن
رأيه غير مخالف للقرآن، بل إنه يؤخذ من مفهوم القرآن، لأنه قيد نفى الكتابة
عنه بما قبل ورود القرآن: (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ
كِتابٍ، وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) وبعد
أن تحققت أمنيته، وتقررت بذلك معجزته وأمن الارتياب فى ذلك، لا مانع من أن
يعرف الكتابة بعد ذلك من غير تعليم، فيكون معجزة أخرى وقد وافقه جماعة،
وأنكر عليه آخرون كثيرون. أنظر فتح البارى فى شرح الحديث والمواهب اللدنية
ص 196 وما عدها ح 2. أقول: وما استنبطه الباجى مخالف لما تواتر وللروايات
الصحيحة.
(6/486)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
مِنْ أَصْحَابِهِ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ الْأَرْقَمِ، وخالد بن سعيد،
وأخوه أبان، وزيد ابن ثَابِتٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ عَبْدِ اللهِ بْنِ أبي
بن سَلُولَ، وَأُبَيّ بْنُ كَعْبٍ الْقَارِي، وَقَدْ كَتَبَ لَهُ أَيْضًا
فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ رَضِيَ اللهُ
عَنْهُمْ، وَكَتَبَ لَهُ كَثِيرًا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ بَعْدَ
عَامِ الفتح، وكتب له أيضا الزّبير ابن الْعَوّامِ، وَمُعَيْقِيبُ بْنُ
أَبِي فَاطِمَةَ، وَالْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، وَشُرَحْبِيلُ بْنُ
حَسَنَةَ، وَخَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ، وعمرو بن العاصى، وجهيم بن الصّلت،
وعبد الله ابن رَوَاحَةَ، وَمُحَمّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ
سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ، وَحَنْظَلَةُ الْأُسَيْدِيّ، وَهُوَ حَنْظَلَةُ
بْنُ الرّبِيعِ، وَفِيهِ يَقُولُ الشّاعِرُ بَعْدَ مَوْتِهِ:
إنّ سَوَادَ الْعَيْنِ أَوْدَى بِهِ ... حُزْنٌ عَلَى حَنْظَلَةَ
الْكَاتِبِ
وَالْعَلَاءُ بْنُ الْحَضْرَمِيّ، ذَكَرَهُمْ عُمَرُ بْنُ شَبّةَ فِي
كِتَابِ الْكُتّابِ لَهُ «1» .
بِاسْمِك اللهُمّ:
وَأَمّا قَوْلُ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو لَهُ: وَلَكِنْ اُكْتُبْ: بِاسْمِك
اللهُمّ، فَإِنّهَا كَلِمَةٌ كَانَتْ قُرَيْشٌ تَقُولُهَا وَلِقَوْلِهِمْ
لَهَا سَبَبٌ قَدْ ذَكَرْنَاهُ فِي كِتَابِ التّعْرِيفِ وَالْإِعْلَامِ،
وَأَوّلُ مَنْ قَالَهَا أُمَيّةُ بْنُ أَبِي الصّلْتِ، وَمِنْهُ
تَعَلّمُوهَا وَتَعَلّمَهَا هُوَ مِنْ رَجُلٍ مِنْ الْجِنّ فِي خَبَرٍ
طَوِيلٍ ذَكَرَهُ الْمَسْعُودِيّ «2» وَهُوَ الْخَبَرُ الّذِي لخصناه فى
الكتاب المذكور.
__________
(1) ذكر ابن القيم فى زاد المعاد منهم عامر بن فهيرة، وثابت بن قيس ابن
شماس.
(2) يثير الدهشة أن يصدق الرجل الكثير مثل هذا الخرف الصغير.
(6/487)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عَيْبَةٌ مَكْفُوفَةٌ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ فِي الْكِتَابِ: وَأَنّ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ عَيْبَةً
مَكْفُوفَةً «1» أَيْ: صُدُورٌ مُنْطَوِيَةٌ عَلَى مَا فِيهَا لَا تُبْدِي
عَدَاوَةً، وَضَرَبَ الْعَيْبَةَ مَثَلًا، وَقَالَ الشّاعِرُ:
وَكَادَتْ عِيَابُ الْوُدّ منّا ومتهم ... وَإِنْ قِيلَ أَبْنَاءُ
الْعُمُومَةِ تَصْفَرُ
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الْأَنْصَارُ كَرِشِي
وَعَيْبَتِي «2» فَضَرَبَ الْعَيْبَةَ مَثَلًا لِمَوْضِعِ السّرّ، وَمَا
يُعْتَدّ بِهِ مِنْ وُدّهِمْ. وَالْكَرِشُ وِعَاءٌ يُصْنَعُ مِنْ كَرِشِ
البعبر، يُجْعَلُ فِيهِ مَا يُطْبَخُ مِنْ اللّحْمِ، يُقَالُ: مَا وَجَدْت
لِهَذِهِ الْبَضْعَةِ فَاكَرِشٍ، أَيْ: إنّ الْكَرِشَ قَدْ امْتَلَأَ،
فَلَمْ يَسَعْهَا فَمُهُ. وَيُضْرَبُ أيضا هذا مثلا «3» ،
__________
(1) ليس فى السيرة وبينكم.
(2) أراد «ص» أنهم بطانه وموضع سره وأمانته، والذين يعتمد إليهم فى اموره.
واستعار الكرش وتعيبه لذلك، لأن المجتر بجمع لمفه فى كرشه، والرجل يضع
ثيابه فى عيبته. وقيل: أراد بالكرش: الجماعة أى: جماعتى وصحابتى، يقال.
عليه كرش، أى جماعة «النهاية لابن الأثير» والحديث فى البخارى: «أوصيكم
بالأنصار، فانهم كرشى وعيبتى، وقد قضوا الذى عليهم، وبقى الذى لهم فاقبلوا
من محسنهم، وتجاوزوا عن مسيئهم» .
(3) أى لم أجد إليه سبيلا؛ وعن اللحيانى: لو وجدت إليه فاكرش، وباب كرش،
وإنى فى كرش لأتيته، يعنى قدر ذلك من السبل، ومثله قولهم لو وجدت إليه:
فاسبيل، وأصل المثل أن رجلا فصل شاة. فأدخلها فى كرشتها. ليطبحها، فقيل له:
أدخل الرأس، فقال: إن وجدت إلى ذلك فاكرش يعنى: إن وجدت إليه سبيلا، وقيل
غير ذلك ولكنه قريب من هذا.
(6/488)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
كَمَا قَالَ الْحَجّاجُ: مَا وَجَدْت إلَى دَمِ فُلَانٍ فَاكَرِشٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا إغْلَالَ، هِيَ الْخِيَانَةُ، يُقَالُ: فُلَانٌ مُغِلّ
الْأُصْبُعِ، أَيْ خَائِنُ الْيَدِ. قَالَ الشّاعِرُ:
حَدّثْت نَفْسَك بِالْوَفَاءِ، وَلَمْ تَكُنْ ... بِالْغَدْرِ خَائِنَةً
مِثْلَ الْأُصْبُعِ
وَالْإِسْلَالُ: السّرِقَةُ، وَالْخُلْسَةُ وَنَحْوُهَا، وَهِيَ السّلّةُ
قَالُوا فِي الْمَثَلِ:
الْخَلّةُ تدعو إلى السّنّة.
أبو جندل وصاحباه فِي الْخَمْرِ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ خُرُوجَ أَبِي جَنْدَلٍ يرسف فى الحديد. أبو جندل، هو
العاصى بْنُ سُهَيْلٍ، وَأَمّا أَخُوهُ عَبْدُ اللهِ بْنُ سُهَيْلٍ،
فَكَانَ قَدْ فَرّ يَوْمَ بَدْرٍ إلَى الْمُسْلِمِينَ، فَلَحِقَ بِهِمْ،
وَشَهِدَ بَدْرًا، وَالْمَشَاهِدَ كُلّهَا، وَقُتِلَ يَوْمَ الْيَمَامَةِ
شَهِيدًا، وَأَمّا أَبُو جَنْدَلٍ، فَاسْتُشْهِدَ مَعَ أَبِيهِ بِالشّامِ
فِي خِلَافَةِ عُمَرَ، وَهُوَ الّذِي شَرِبَ الْخَمْرَ مُتَأَوّلًا
لِقَوْلِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا [إِذا مَا اتَّقَوْا
وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ، ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ
اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا؛ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ] الْمَائِدَةُ:
93 فَجَلَدَهُ أَبُو عُبَيْدَةَ بِأَمْرِ عُمَرَ وَجَلَدَ صَاحِبَهُ،
وَهُوَ ضِرَارٌ، ثُمّ إنّ أَبَا جَنْدَلٍ أَشْفَقَ مِنْ الذّنْبِ حَتّى
قَالَ: لَقَدْ هَلَكْت، فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ،
فَكَتَبَ إلَيْهِ: إنّ الّذِي زَيّنَ لَك الْخَطِيئَةَ هُوَ الّذِي حَظَرَ
عَلَيْك التوبة:
(6/489)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم «1» تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ
اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ
الْآيَةُ. وَكَانَ شَرِبَهَا مَعَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطّابِ، وَأَبُو
الْأَزْوَرِ، فَلَمّا أَمَرَ عُمَرُ أَنْ يُجْلَدُوا، قَالُوا: دَعْنَا
نَلْقَى الْعَدُوّ، فَإِنْ قُتِلْنَا فَذَاكَ، وَإِلّا حَدَدْتُمُونَا،
فَقُتِلَ أَبُو الْأَزْوَرِ، وَحُدّ الْآخَرَانِ.
الدنية التى رفضها عمر:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ قَوْلَ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- فغلام نُعْطَى
الدّنِيّةَ فِي دِينِنَا، هِيَ فَعِيلَةٌ مِنْ الدّنَاءَةِ، وَأَصْلُهَا
الْهَمْزُ، وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ أَنّ النّبِيّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعُمَرِ: إنّي عَبْدُ اللهِ وَلَسْت
أَعْصِيهِ، وَهُوَ نَاصِرِي، وَأَنّهُ أَتَى أَبَا بَكْرٍ- رَضِيَ اللهُ
عَنْهُ- فَقَالَ لَهُ مِثْلَ مَا قَالَ لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ، فَجَاوَبَهُ أَبُو بَكْرٍ بِمِثْلِ مَا جَاوَبَهُ بِهِ النّبِيّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْفًا بِحَرْفِ، ثُمّ قَالَ لَهُ: يَا
عُمَرُ الْزَمْ غَرْزَهُ «2» ، فَإِنّي أَشْهَدُ أَنّهُ رَسُولُ اللهِ،
قَالَ عُمَرُ:
وَمَا شَكَكْت مُنْذُ أَسْلَمْت إلّا تِلْكَ السّاعَةَ، وَفِي هَذَا أَنّ
الْمُؤْمِنَ قَدْ يَشُكّ، ثُمّ يُجَدّدُ النّظَرَ فِي دَلَائِلِ الْحَقّ
فَيَذْهَبُ شَكّهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبّاسٍ أَنّهُ قَالَ: هُوَ
شَيْءٌ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ أَحَدٌ، ثُمّ ذَكَرَ ابْنُ عَبّاسٍ قَوْلَ
إبْرَاهِيمَ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (ولكن ليطمئنّ قلبى)
وَلَوْلَا الْخُرُوجُ عَمّا صَمَدْنَا إلَيْهِ فِي هَذَا الكتاب
__________
(1) تقرأ هكذا: حاميم، وكل أخواتها.
(2) أى اعتلق به، وأمسكه. واتبع قوله وفعله ولا تخالفه، فاستعار له الغرز
كالذى يمسك بركاب الراكب ويسير بسيره. والغرز هو ركاب كور الجمل، وقيل: هو
الكور مطلقا مثل الركاب للسرج «مختصر عن النهاية» .
(6/490)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لَذَكَرْنَا مَا لِلْعُلَمَاءِ فِي قَوْلِ إبْرَاهِيمَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنّ قَلْبِي) ، وَذَكَرْنَا
النّكْتَةَ الْعُظْمَى فِي ذَلِكَ، وَلَعَلّنَا أَنْ نَلْقَى لَهَا
مَوْضِعًا، فَنَذْكُرَهَا. وَالشّكّ الّذِي ذَكَرَهُ عُمَرُ وابن عباس مالا
يُصِرّ عَلَيْهِ صَاحِبُهُ، وَإِنّمَا هُوَ مِنْ بَابِ الْوَسْوَسَةِ
الّتِي قَالَ فِيهَا عَلَيْهِ السّلَامُ مُخْبِرًا عَنْ إبْلِيسَ:
الْحَمْدُ لِلّهِ الّذِي رَدّ كَيْدَهُ إلَى الْوَسْوَسَةِ.
مَوْقِفُ أُمّ سَلَمَةَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ:
وَفِي غَيْرِ رِوَايَةِ ابْنِ إسْحَاقَ مِنْ الصّحِيحِ أَنّهُ عَلَيْهِ
السّلَامُ دَخَلَ عَلَى أُمّ سَلَمَةَ، وَشَكَا إلَيْهَا مَا لَقِيَ مِنْ
النّاسِ حِينَ أَمَرَهُمْ أَنْ يَحْلِقُوا وَيَنْحَرُوا، فَلَمْ يَفْعَلُوا
لِمَا بِهِمْ مِنْ الْغَيْظِ، فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ اُخْرُجْ
إلَيْهِمْ، فَلَا تُكَلّمْهُمْ، حَتّى تَحْلِقَ وَتَنْحَرَ، فَإِنّهُمْ
إذَا رَأَوْك قَدْ فَعَلْت ذَلِكَ، لَمْ يُخَالِفُوك. فَفَعَلَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفَعَلَ النّاسُ، وَكَانَ الّذِي حَلَقَ
رَأْسَ رَسُولِ اللهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ خِرَاشَ بْنَ أُمَيّةَ [بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْفَضْلِ بْنِ
مُنْقِذِ بْنِ عَفِيفِ بْنِ كُلَيْبِ بْنِ حبشية بن سَلُولَ] الْخُزَاعِيّ
[ثُمّ الْكَلْبِيّ] «1» وَهُوَ الّذِي كَانَ بَعَثَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ إلى مَكّةَ فَعَقَرُوا جَمَلَهُ،
وَأَرَادُوا قَتْلَهُ، فَحِينَئِذٍ بَعَثَ إلَيْهِمْ عُثْمَانَ بْنَ
عَفّانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَفِي تَرْكِهِمْ لِلْبِدَارِ دَلِيلٌ عَلَى
أَنّ الْأَمْرَ لَيْسَ عَلَى الْفَوْرِ، كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ
الْأُصُولِيّينَ، وَفِيهِ أَنّهُمْ حَمَلُوا الْأَمْرَ عَلَى غَيْرِ
الْوُجُوبِ لِقَرِينَةِ، وَهِيَ أَنّهُمْ رَأَوْهُ لم يحلق ولم ينحر،
__________
(1) الزيادة من الإصابة.
(6/491)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَمْ يُقَصّرْ، فَلَمّا رَأَوْهُ قَدْ فَعَلَ اعْتَقَدُوا وُجُوبَ
الْأَمْرِ وَامْتَثَلُوهُ. وَفِيهِ أَيْضًا إبَاحَةُ مُشَاوَرَةِ
النّسَاءِ، وَذَلِكَ أَنّ النّهْيَ عَنْ مُشَاوَرَتِهِنّ إنّمَا هُوَ
عِنْدَهُمْ فِي أَمْرِ الْوِلَايَةِ خَاصّةً، كَذَلِكَ قَالَ أَبُو
جَعْفَرٍ النّحّاسُ فِي شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ.
الْمُقَصّرُونَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ ابْنُ إسْحَاقَ اسْتِغْفَارَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُحَلّقِينَ ثَلَاثًا وَلِلْمُقَصّرِينَ مَرّةً
وَاحِدَةً. وَلَمْ يَكُنْ الْمُقَصّرُ يَوْمَئِذٍ مِنْ أَصْحَابِهِ إلّا
رَجُلَيْنِ، أَحَدُهُمَا عُثْمَانُ بْنُ عَفّانَ، وَالْآخَرُ أَبُو
قَتَادَةَ الْأَنْصَارِيّ، كَذَلِكَ جَاءَ فِي مُسْنَدِ حَدِيثِ أَبِي
سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
أَبُو بَصِيرٍ:
وَذَكَرَ حَدِيثَ أَبِي بَصِيرٍ وَاخْتُلِفَ فِي اسْمِهِ، فَقِيلَ:
عُبَيْدُ بْنُ أَسِيدِ بْنِ جَارِيَةَ، وَقِيلَ عتبة.
وَذَكَرَ قَوْلَ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حِينَ
قَتَلَ أَحَدَ الرّجُلَيْنِ: وَيْلُ أُمّهِ مَحَشّ حَرْبٍ. وَفِي
الصّحِيحِ: وَيْلُ أُمّهِ مُسَعّرُ حَرْب، يُقَالُ: حَشَشْت النّارَ،
وَأَرّثْتُهَا، وَأَذْكَيْتهَا، وَأَثْقَبْتُهَا وَسَعّرْتهَا بِمَعْنًى
وَاحِدٍ، وَسُمّيَ الْأَسْعَرُ الْجُعْفِيّ أَسْعَرَ بِقَوْلِهِ:
فَلَا يدعنى قومى لسعد بن مالك ... لئن أتا لَمْ أُسْعِرْ عَلَيْهِمْ
وَأُثْقِبِ
وَكَانَ اسْمُهُ مَرْثَدَ بْنَ حُمْرَانَ «1» ، وَمَالِكٌ فِي هَذَا
الْبَيْتِ: هُوَ مذحج،
__________
(1) فى المؤتلف للآمدى ص 58 ابن أبى حمران وكذلك فى الاشتقاق ص 408-
(6/492)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
وَأَمّا لُحُوقُ أَبِي بَصِيرٍ بِسَيْفِ الْبَحْرِ، فَفِي رِوَايَةِ
مَعْمَرٍ عَنْ الزّهْرِيّ، أَنّهُ كَانَ يُصَلّي بِأَصْحَابِهِ هُنَالِكَ،
حَتّى لَحِقَ بِهِمْ أَبُو جَنْدَلِ بْنُ سُهَيْلٍ فَقَدّمُوهُ، لِأَنّهُ
قُرَشِيّ، فَلَمْ يَزَلْ أَصْحَابُهُ يَكْثُرُونَ، حَتّى بَلَغُوا
ثَلَاثَمِائَةٍ، وَكَانَ أَبُو بَصِيرٍ كَثِيرًا مَا يَقُولُ هُنَالِكَ:
اللهُ الْعَلِيّ الْأَكْبَرُ، مَنْ يَنْصُرُ اللهَ فَسَوْفَ يُنْصَرْ،
فَلَمّا جَاءَهُمْ الْفَرَجُ مِنْ اللهِ تَعَالَى، وَكَلّمَتْ قُرَيْشٌ
النبىّ عليه السلام أَنْ يُؤْرِبَهُمْ إلَيْهِ لَمّا ضَيّقُوا عَلَيْهِمْ،
وَرَدَ كِتَابُ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبُو
بَصِيرٍ فِي الْمَوْتِ، يَجُودُ بِنَفْسِهِ، فَأُعْطِي الْكِتَابَ فجعل
يقرأه ويسرّبه، حَتّى قُبِضَ وَالْكِتَابُ عَلَى صَدْرِهِ، فَبُنِيَ
عَلَيْهِ هُنَاكَ مَسْجِدٌ، يَرْحَمُهُ اللهُ «1» .
عُمْرَةٌ:
وَفِي الْحَدِيثِ مِنْ غَيْرِ السّيرَةِ أَنّ الْمُسْلِمِينَ حِينَ
حَلَقُوا فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ، وَهُمْ بِالْحِلّ قَدْ مُنِعُوا أَنْ
يَدْخُلُوا الْحَرَمَ جَاءَتْ الرّيحُ، فَاحْتَمَلَتْ شُعُورَهُمْ حتى
__________
- ولكنه فى سمط البكرى ص 94 كما هنا، والكل على أن كنيته: أبو حمران، وهو
شاعر جاهلى.
(1) لا ريب فى أنه بنى بعد ذلك بكثير، فليس من هدى الإسلام إقامة المساجد
على القبور. فقد وصف الرسول «ص» - كما جاء فى البخارى ومسلم- الذين يفعلون
ذلك بأنهم شرار الخلق عند الله يوم القيامة ولعن الذين يتخذون قبور
أنبيائهم وصالحيهم مساجد، أما إقامة مسجد على كهف أهل الكهف فكان من عمل
الذين علبوا على الأمر، أما الذين قالوا: ربهم أعلم بهم- وهذه كلمة الإيمان
العظيم- فقالوا ابنوا عليهم بنيانا. أى سدوا عليهم باب الكهف.
(6/493)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَلْقَتْهَا فِي الْحَرَمِ، فَاسْتَبْشَرُوا بِقَبُولِ اللهِ عُمْرَتَهُمْ.
ذَكَرَهُ أَبُو عُمَرَ.
وَالْعُمْرَةُ مُشْتَقّةٌ مِنْ عِمَارَةِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ
وَبُنِيَتْ عَلَى فُعْلَةٍ، لِأَنّهَا فِي مَعْنَى قُرْبَةٍ وَوُصْلَةٍ
إلَى اللهِ تَعَالَى، وَلَيْسَ قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنّهَا الزّيَارَةُ فِي
اللّغَةِ بِبَيّنِ، وَلَا فِي قَوْلِ الْأَعْشَى حُجّةٌ لَهُمْ لِأَنّهُ
مُحْتَمَلُ التّأْوِيلِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَجَاشَتْ النّفْسُ لَمّا جَاءَ فَلّهُمْ ... وَرَاكِبٌ جَاءَ مِنْ
تَثْلِيثَ مُعْتَمِرُ
قَتْلُ أَبِي بَصِيرٍ لِلْكَافِرِ:
فَصْلٌ: وَمِمّا يُسْأَلُ عَنْهُ فِي حَدِيثِ أَبِي بَصِيرٍ قَتْلُهُ
الرّجُلَ الْكَافِرَ، وَهُوَ فِي الْعَهْدِ: أَكَانَ ذَلِكَ حَرَامًا أَمْ
مُبَاحًا لَهُ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ رَفْعُ الْحَرَجِ عَنْهُ، لِأَنّ
النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لَمْ يُثَرّبْ، بَلْ
مَدَحَهُ، وَقَالَ: وَيْلُ أُمّهِ مِحَشّ حَرْبٍ. فَإِنْ قِيلَ: وَكَيْفَ
يَكُونُ ذَلِكَ جَائِزًا لَهُ، وَقَدْ حَقَنَ الصّلْحُ الدّمَاءَ؟ قُلْنَا:
إنّمَا ذَلِكَ فِي حَقّ أَبِي بَصِيرٍ عَلَى الْخُصُوصِ، لِأَنّهُ دَافَعَ
عَنْ نَفْسِهِ وَدِينِهِ، وَمَنْ قُتِلَ دُونَ دَمِهِ فَهُوَ شَهِيدٌ،
وَإِنّمَا لَمْ يُطَالِبْهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلّمَ- بِدِيَةِ. لأن أَوْلِيَاءَ الْمَقْتُولِ لَمْ يُطَالِبُوهُ، إمّا
لِأَنّهُمْ كَانُوا قَدْ أَسْلَمُوا، وَإِمّا لِأَنّ اللهَ شَغَلَهُمْ عَنْ
ذَلِكَ، حَتّى انْتَكَثَ الْعَهْدُ، وَجَاءَ الْفَتْحُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَإِنّ النّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ
يَدِي مَنْ قُتِلَ خَطَأً مِنْ أَهْلِ الصّلْحِ كَمَا وَدَى
الْعَامِرِيّيْنِ «1» وَغَيْرَهُمَا قُلْنَا: عَنْ هذا جوابان، أحدهما:
__________
(1) هذا بنص القرآن (وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ)
(6/494)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
أَنّ أَبَا بَصِيرٍ كَانَ قَدْ رَدّهُ إلَى الْمُشْرِكِينَ، فَصَارَ فِي
حُكْمِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ فِي فِئَةِ الْمُسْلِمِينَ وَحِزْبِهِمْ،
فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِمَا يُحْكَمُ عَلَيْهِمْ.
وَالْجَوَابُ الثّانِي: أَنّهُ إنْ كَانَ قَتَلَ عَمْدًا، وَلَمْ يَكُنْ
قَتَلَ خَطَأً، كَمَا كَانَ قَتَلَ الْعَامِرِيّيْنِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ
بْنُ الْخَطّابِ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا وَلَا عَبْدًا [وَلَا
صُلْحًا وَلَا اعْتِرَافًا] «1»
مِنْ مَوَاقِفِ عُمَرَ فِي الْحُدَيْبِيَةِ:
فَصْلٌ: وَقَوْلُ عُمَرَ لِلنّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
أَلَمْ تَعِدْنَا أَنّا تَأْتِي الْبَيْتَ، وَنَطُوفُ بِهِ؟ فَقَالَ:
نَعَمْ، وَذَكَرَ الْحَدِيثَ. كَانَ النّبِيّ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ- قَدْ أُرِيَ ذَلِكَ فِي مَنَامِهِ، وَرُؤْيَا الْأَنْبِيَاءِ
وَحْيٌ، ثُمّ أَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى:
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ الآية الفتح: 27
وَيُسْأَلُ عَنْ قَوْلِهِ:
إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ: مَا فَائِدَةُ هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ، وَهُوَ
خَبَرٌ وَاجِبٌ؟ وَفِي الْجَوَابِ أَقْوَالٌ: أَحَدُهَا: أَنّهُ رَاجِعٌ
إلَى قَوْلِهِ: آمِنِينَ، لَا إلَى نَفْسِ الدّخُولِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ،
لِأَنّ الْوَعْدَ بِالْأَمَانِ قَدْ انْدَرَجَ فِي الوعد بالدخول.
__________
(1) سبق الحديث عن العقل والعاقلة وهى العصبة والأقارب من قبل الأب الذين
يعطون دية قتيل الخطأ. والمعنى أن كل جناية عمد، فانها من مال الجانى خاصة،
ولا يلزم العاقلة منها شىء، وكذلك ما اصطلحوا عليه من الجنايات فى الخطأ،
وكذلك إذا اعترف الجانى بالجناية من غير بينة تقوم عليه، وإن ادعى أنها خطأ
لا يقبل منه، ولا تلزم بها العاقلة، وأما العبد، فهو أن يجنى حر على عبد،
فليس على عاقلة الجانى شىء، إنما جنايته فى ماله خاصة. أنظر مادة عقل فى
النهاية لابن الأثير.
(6/495)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الثّانِي أَنّهُ وَعْدٌ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَالِاسْتِثْنَاءُ رَاجِعٌ إلَى
التّفْصِيلِ، إذْ لَا يَدْرِي كُلّ إنْسَانٍ مِنْهُمْ: هَلْ يَعِيشُ إلَى
ذَلِكَ، أَمْ لَا، فَرَجَعَ الشّكّ إلَى هَذَا الْمَعْنَى، لَا إلَى
الْأَمْرِ الْمَوْعُودِ بِهِ، وَقَدْ قِيلَ إنّمَا هُوَ تَعْلِيمٌ
لِلْعِبَادِ أَنْ يَقُولُوا هَذِهِ الْكَلِمَةَ، ويستعملونها فِي كُلّ
فِعْلٍ مُسْتَقْبَلٍ أَعْنِي: إنْ شَاءَ اللهُ «1» .
بَيْعَةُ الشّجَرَةِ وَأَوّلُ مَنْ بَايَعَ:
فَصْلٌ: وَذَكَرَ بَيْعَةَ الشّجَرَةِ، وَسَبَبَهَا، وَلَمْ يَذْكُرْ
أَوّلَ مَنْ بَايَعَ، وَذَكَرَ الْوَاقِدِيّ أَنّ أَوّلَ مَنْ بَايَعَ
بَيْعَةَ الرّضْوَانِ سِنَانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ الأسدىّ وقال موسى ابن
عُقْبَةَ: أَوّلُ مَنْ بَايَعَ أَبُو سِنَانٍ، وَاسْمُهُ: وهب بن محصن أخى
عكّاشة ابن مِحْصَنٍ الْأَسَدِيّ، وَقَالَ الْوَاقِدِيّ: كَانَ أَبُو
سِنَانٍ أَسَنّ مِنْ أَخِيهِ عُكّاشَةَ بِعَشْرِ «2» سِنِينَ، شَهِدَ
بَدْرًا، وَتُوُفّيَ يَوْمَ بَنِي قُرَيْظَةَ، وَيُرْوَى أَنّهُ حين قال
__________
(1) يقول البيضاوى «هى تعليق للعدة بالمشيئة تعليما للعباد أو إشعارا بأن
بعضهم لا يدخل لموت أو غيبة أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو النبى صلى
الله عليه وسلم لأصحابه» .
(2) فى رواية: بعشرين. تعليق عام على الحديبية الحديبية: بئر سمى المكان
بها، وقيل شجرة سمى بها المكان، أو هى قرية ليست كبيرة بعضها فى الحل
وبعضها فى الحرم، وهى على تسعة أميال من مكة عدد أبطالها: فى الصحيحين عن
جابر أنهم كانوا خمسائة وألفا. وفيهما عن جابر نفسه أنهم كانوا أربعمائة
وألفا. ويقول ابن القيم: والقلب إلى هذا أميل. وفى الصحيحين أيضا عن عبد
الله بن أبى أنهم كانوا ثلثمائة وألفا. المبايعة: كانت على ألا يفرو كما فى
الصحيحين. أول من بايع: هو أبو سنان الأسدى، وبايعه سلمة بن الأكوع ثلاث
مرات-
(6/496)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
لِلنّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اُبْسُطْ يَدَك أُبَايِعْك،
قَالَ: عَلَامَ تُبَايِعُنِي؟ قَالَ: عَلَى مَا فِي نَفْسِك يَا رَسُولَ
اللهِ، وَأَمّا سِنَانٌ ابْنُهُ، فَهُوَ أَيْضًا بَدْرِيّ، مَاتَ سَنَةَ
ثَلَاثٍ وَثَلَاثِينَ، وَأَمّا مُبَايَعَتُهُمْ رَسُولَ اللهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحْتَ الشّجَرَةِ، وَكَانُوا أَلْفًا
وَأَرْبَعَمِائَةٍ فِي إحْدَى الرّوَايَتَيْنِ عَنْ جَابِرٍ وَأَلْفًا
وَخَمْسَمِائَةٍ فِي الرّوَايَةِ الْأُخْرَى عَنْهُ، فَبَايَعُوهُ فِي
قَوْلِ جَابِرٍ عَلَى أَنْ لَا يَفِرّوا. قَالَ: وَلَمْ يُبَايِعُوهُ عَلَى
الْمَوْتِ. وَقَالَ سَلَمَةُ بْنُ الْأَكْوَعِ: بَايَعَنَا رَسُولُ اللهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الموت، قال
__________
- فى أول الناس وأوسطهم وآخرهم من كلام عروة لقريش عن النبى «ص» وصحبه:
«إذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده، وما يحدون إليه
تعظيما له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها» الصحيحان. كلام عمر: فى رواية
الصحيحين أنه قال: «والله ما شككت منذ أسلمت إلا يومئذ» وقالها عقب مجىء
أبى جندل ورفض سهيل بن عمر تركه، وصرخة أبى جندل الحزينة ثم قوله «وقد جئت
مسلما، ألا ترون ما لقيت» ويقول الراوى فى الصحيحين: «وكان قد عذب فى الله
عذابا شديدا، وكان مما قاله عمر للنبى «ص» : ألسنا على الحق وعدونا على
الباطل؟ فرد عليه الرسول «ص» بمثل ما ورد فى السيرة، فقال عمر: «أو لست كنت
تحدثنا أنا سنأتى البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرتك أنك تأتيه العام؟
قلت- القائل عمر- لا، قال: فانك آتيه ومطوف به» . مشورة أم سلمة: فعل بها
رسول الله «ص» . ويقول الراوى فى الصحيحين: «فلما رأى الناس ذلك قاموا
فنحروا، وجعل بعضهم يحلق بعضا حتى كاد بعضهم يقتل بعضهم غما» ويقول ابن
القيم: «وقد اعتذر عن تأخيرهم الامتثال بأنهم كانوا يرجون النسخ، فأخروا
متأولين لذلك، وهذا الاعتذار أولى أن يعتذر عنه، وهو باطل، فانه «ص» لو فهم
منهم ذلك لم يشتد غضبه عليهم لتأخير أمره، ويقول: مالى لا أغضب، وأنا آمر
بالأمر، فلا أتبع، وإنما-
(6/497)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
التّرْمِذِيّ: وَكِلَا الْحَدِيثِينَ صَحِيحٌ، لِأَنّ بَعْضَهُمْ بَايَعَ
عَلَى أَنْ لَا يَفِرّوا، وَلَمْ يَذْكُرُوا الْمَوْتَ، وبعضهم قال: أبايعك
على الموت.
__________
- كان تأخيرهم من السعى المغفور لا المشكور، وقد رضى الله عنهم، وغفر لهم
وأوجب لهم الجنة» ص 216 ح 2 زاد المعاد. الماء فى الحديبية: فى الصحيح «أن
النبى «ص» توضأ، ومج فى بئر الحديبية من فمه، فجاشت بالماء» كذلك قال
البراء بن عازب وسلمة بن الأكوع فى الصحيحين. وفى الصحيحين أيضا فى حديث
جابر «عطش الناس يوم الحديبية، وبين يدى رسول الله «ص» ركوة يتوضأ منها،
فأقبل الناس نحوه، فقال: ما لكم، قالوا: يا رسول الله ليس عندنا ماء نتوضأ
منه، ولا نشرب إلا ما فى ركوتك، فوضع يده فى الركوة فجعل الماء يفور من بين
أصابعه كأمثال العيون، فشربنا وتوضأنا» وقد أخرج أحمد حديث جابر، وفيه:
فجاءه رجل بإداوة فيها شىء من ماء ليس فى القوم ماء غيره، فصبه «ص» فى قدح،
ثم توضأ، فأحسن الوضوء، ثم انصرف، وترك القدح، فتزاحم الناس عليه، فقال:
على رسلكم فوضع كفه فى القدح، ثم قال: أسبغوا الوضوء. قال: فلقد رأيت
العيون عيون الماء تخرج من بين أصابعه» وفى حديث زيد بن خالد أنهم أصابهم
مطر بالحديبية، فلما صلى الصبح قال: أتدرون ماذا قال ربكم الليلة؟ قالوا:
الله ورسوله أعلم. قال: قال: أصبح من عبادى مؤمن بى وكافر، فأما من قال:
مطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمن بى كافر بالكواكب، وأما من قال: مطرنا
بنوء كذا وكذا فذلك كافر بى مؤمن بالكواكب، هذا وقد استنبط الامام ابن
القيم من قصة الحديبية ستأ وثلاثين فائدة فقهية تشهد له بالبراعة
والألمعية، كما استنبط منها عدة حكم، فانظر كل هذا فى كتابه القيم «زاد
المعاد» ص 311 ح 2 ط السنة المحمدية.
(6/498)
|