السيرة النبوية لابن كثير

ذكر مجئ أُخْت رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ الرضَاعَة وَهُوَ بالجعرانة وَاسْمُهَا الشَّيْمَاءُ
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَدَّثَنِي بَعْضُ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
(1) الرصاف: جمع رصفة، وهى عقبَة تلوى على مدْخل النصل فِي السهْم.
(2) النضى: الْقدح قبل أَن يبْحَث.
(3) القذذ: ريش السهْم.
(4) الْمَعْنى: أَنه مرق عَاجلا فَلم يعلق بِهِ دم.
(5) تدَرْدر: تتحرك وَتذهب وتجئ.
(*)

(3/688)


قَالَ يَوْم هوَازن: " إِن قدرتم على نجاد - رَجُلٍ مَنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ - فَلَا يُفْلِتَنَّكُمْ " وَكَانَ قَدْ أَحْدَثَ حَدَثًا.
فَلَمَّا ظَفِرَ بِهِ الْمُسْلِمُونَ سَاقُوهُ وَأَهْلَهُ وَسَاقُوا مَعَهُ الشَّيْمَاءَ بِنْتَ الْحَارِثِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى أُخْتَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
قَالَ: فَعَنَفُوا عَلَيْهَا فِي السُّوقِ فَقَالَتْ لِلْمُسْلِمِينَ: تعلمُونَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأُخْتُ صَاحِبِكُمْ مِنَ
الرَّضَاعَةِ.
فَلَمْ يُصَدِّقُوهَا حَتَّى أَتَوْا بِهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ عُبَيْدٍ السَّعْدِيُّ - هُوَ أَبُو وَجْزَةَ - قَالَ: فَلَمَّا انْتَهِي بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أُخْتُكَ مِنَ الرَّضَاعَةِ.
قَالَ " وَمَا عَلَامَةُ ذَلِكَ؟ " قَالَتْ: عَضَّةٌ عَضِضْتَنِيهَا فِي ظَهْرِي وَأَنَا مُتَوَرِّكَتُكَ.
قَالَ: فَعَرَفَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْعَلَامَةَ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَأَجْلَسَهَا عَلَيْهِ وَخَيَّرَهَا وَقَالَ: إِنْ أَحْبَبْتِ فَعِنْدِي محببة مُكَرَّمَةٌ، وَإِنْ أَحْبَبْتِ أَنْ أُمَتِّعَكِ وَتَرْجِعِي إِلَى قَوْمِكِ فَعَلْتُ.
قَالَتْ: بَلْ تُمَتِّعُنِي وَتَرُدُّنِي إِلَى قَوْمِي.
فَمَتَّعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَدَّهَا إِلَى قَوْمِهَا، فَزَعَمَتْ بَنُو سَعْدٍ أَنَّهُ أَعْطَاهَا غُلَامًا يُقَالُ لَهُ مَكْحُولٌ وَجَارِيَةً فَزَوَّجَتْ أَحَدَهُمَا الْآخَرَ فَلَمْ يَزَلْ فِيهِمْ مِنْ نَسْلِهِمَا بَقِيَّةٌ.
وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْحَكَمِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ، عَنْ قَتَادَةَ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ هَوَازِنَ جَاءَتْ جَارِيَةٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَت: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَا أُخْتُكَ، أَنَا شَيْمَاءُ بِنْتُ الْحَارِثِ.
فَقَالَ لَهَا: " إِنْ تَكُونِي صَادِقَةً فَإِن بك منى أثرا لَا يَبْلَى " قَالَ: فَكَشَفَتْ عَنْ عَضُدِهَا فَقَالَتْ: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَأَنْتَ صَغِيرٌ فَعَضِضْتَنِي هَذِهِ الْعَضَّةَ.
قَالَ: فَبَسَطَ لَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رِدَاءَهُ ثُمَّ قَالَ: " سَلِي تُعْطَيْ وَاشْفَعِي تُشَفَّعِي ".
وَقَالَ الْبَيْهَقِيُّ: أَنْبَأَنَا أَبُو نصر بن قَتَادَة، أَنبأَنَا عَمْرو بن إِسْمَاعِيل بن عبد السلمى، حَدثنَا مُسلم، حَدثنَا أَبُو عَاصِم، حَدثنَا جَعْفَرُ بْنُ يَحْيَى بْنِ ثَوْبَانَ، أَخْبَرَنِي عَمِّي عمَارَة بن (44 - السِّيرَة 3)

(3/689)


ثَوْبَانَ، أَنَّ أَبَا الطُّفَيْلِ أَخْبَرَهُ قَالَ: كُنْتُ غُلَاما أحمل عُضْو الْبَعِيرِ، وَرَأَيْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْسِمُ نعما بِالْجِعْرَانَةِ.
قَالَ: فَجَاءَتْهُ امْرَأَةٌ فَبَسَطَ لَهَا رِدَاءَهُ فَقُلْتُ: مَنْ هَذِهِ؟ قَالُوا: أُمُّهُ الَّتِي أَرْضَعَتْهُ.
هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ وَلَعَلَّهُ يُرِيدُ أُخْتَهُ، وَقَدْ كَانَتْ تَحْضُنُهُ مَعَ أُمِّهَا حَلِيمَةَ السَّعْدِيَّةِ وَإِنْ كَانَ مَحْفُوظًا فَقَدْ عَمَّرَتْ حَلِيمَةُ دَهْرًا، فَإِنَّ من وَقت أَن أَرْضَعَتْ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَى وَقْتِ الْجِعْرَانَةِ أَزْيَدَ مِنْ سِتِّينَ سَنَةً، وَأَقَلُّ مَا كَانَ عُمْرُهَا حِينَ أَرْضَعَتْهُ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم ثَلَاثِينَ سَنَةً، ثُمَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا عَاشَتْ بَعْدَ ذَلِكَ.
وَقَدْ وَرَدَ حَدِيثٌ مُرْسَلٌ فِيهِ أَنَّ أَبَوَيْهِ مِنَ الرَّضَاعَةِ قَدِمَا عَلَيْهِ.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ.
قَالَ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيل: حَدثنَا أَحْمد بن سعيد الْهَمدَانِي، حَدثنَا ابْنُ وَهْبٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ الْحَارِثِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ السَّائِبِ حَدَّثَهُ أَنَّهُ بَلَغَهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ جَالِسًا يَوْمًا فَجَاءَهُ أَبُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَوَضَعَ لَهُ بَعْضَ ثَوْبِهِ فَقَعَدَ عَلَيْهِ، ثُمَّ أَقْبَلَتْ أُمُّهُ فَوَضَعَ لَهَا شِقَّ ثَوْبِهِ مِنْ جَانِبِهِ الْآخَرِ فَجَلَسَتْ عَلَيْهِ، ثمَّ جَاءَهُ أَخُوهُ مِنَ الرَّضَاعَةِ فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَجْلَسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ هَوَازِنَ بِكَمَالِهَا مُتَوَالِيَةٌ بِرَضَاعَتِهِ مِنْ بَنِي سَعْدِ بْنِ بَكْرٍ وَهُمْ شِرْذِمَةٌ مِنْ هَوَازِنَ، فَقَالَ خَطِيبُهُمْ زُهَيْرُ بْنُ صُرَدٍ: يَا رَسُول الله إِنَّمَا فِي الْحَظَائِرِ أُمَّهَاتُكَ وَخَالَاتُكَ وَحَوَاضِنُكَ فَامْنُنْ عَلَيْنَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْكَ.
وَقَالَ فِيمَا قَالَ: امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا * إِذْ فُوكَ يَمْلَؤُهُ مِنْ مَحْضِهَا دِرَرُ امْنُنْ عَلَى نِسْوَةٍ قَدْ كُنْتَ تَرْضَعُهَا * وَإِذْ يَزِينُكَ مَا تَأْتِي وَمَا تذر فَكَانَ هَذَا سَبَب إعتاقهم من بكرَة أَبِيهِم، فَعَادَت فواضله عَلَيْهِ السَّلَام عَلَيْهِمْ قَدِيمًا وَحَدِيثًا خُصُوصًا وَعُمُومًا.

(3/690)


وَقَدْ ذَكَرَ الْوَاقِدِيُّ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ شُرَحْبِيلَ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ النُّضَيْرُ ابْن الْحَارِث بن كلدة من أجمل النَّاسِ فَكَانَ يَقُولُ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي مَنَّ عَلَيْنَا بِالْإِسْلَامِ، وَمَنَّ عَلَيْنَا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَمْ نَمُتْ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَقُتِلَ عَلَيْهِ الْإِخْوَةُ وَبَنُو الْعَمِّ.
ثُمَّ ذَكَرَ عَدَاوَتَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَنَّهُ خَرَجَ مَعَ قَوْمِهِ مِنْ قُرَيْشٍ إِلَى حُنَيْنٍ وَهَمْ عَلَى دِينِهِمْ بَعْدُ، قَالَ: وَنَحْنُ نُرِيدُ إِنْ كَانَتْ دَائِرَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ أَن نغير عَلَيْهِ، فَلَمْ
يُمْكِنَّا ذَلِكَ، فَلَمَّا صَارَ بِالْجِعْرَانَةِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لِعَلَى مَا أَنَا عَلَيْهِ إِنْ شَعَرْتُ إِلَّا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " أنضير؟ " قلت: لبيْك، قَالَ: " هَل لَك إِلَى خير مِمَّا أردْت يَوْم حنين مِمَّا خَال اللَّهُ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ؟ " قَالَ: فَأَقْبَلْتُ إِلَيْهِ سَرِيعًا فَقَالَ: " قَدْ آنَ لَكَ أَنْ تُبْصِرَ مَا كنت فِيهِ تُوضَع " قلت: قد أدرى أَنْ لَوْ كَانَ مَعَ اللَّهِ غَيْرُهُ لَقَدْ أَغْنَى شَيْئًا، وَإِنِّي أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " اللَّهُمَّ زِدْهُ ثَبَاتًا " قَالَ النُّضَيْرُ: فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالْحَقِّ لَكَأَنَّ قَلْبِي حَجَرٌ ثَبَاتًا فِي الدِّينِ، وَتَبْصِرَةً بِالْحَقِّ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَاهُ ".

(3/691)


عمْرَة الْجِعِرَّانَة فِي ذى الْقعدَة قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْزٌ وَعَبْدُ الصَّمَدِ الْمَعْنى قَالَا: حَدثنَا همام بن يحيى، حَدثنَا قَتَادَةُ، قَالَ: سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ قُلْتُ: كَمْ حَجَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: حَجَّةً وَاحِدَةً، وَاعْتَمَرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ.
عُمْرَتُهُ زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ وَعُمْرَتُهُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَعُمْرَتُهُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، حَيْثُ قَسَمَ غَنِيمَةَ حُنَيْنٍ، وَعُمْرَتُهُ مَعَ حِجَّتِهِ.
وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ مِنْ طُرُقٍ عَنْ هَمَّامِ بْنِ يَحْيَى بِهِ.
وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو النَّضْرِ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ - يَعْنِي الْعَطَّارَ - عَنْ عَمْرٍو، عَنْ عِكْرِمَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْبَعَ عُمَرٍ: عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ، وَعُمْرَةَ الْقَضَاءِ، وَالثَّالِثَةُ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَالرَّابِعَةُ الَّتِي مَعَ حِجَّتِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ دَاوُدَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْعَطَّارِ الْمَكِّيِّ، عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ بِهِ وَحسنه وَالتِّرْمِذِيّ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنِ زَكَرِيَّا بْنِ أَبِي زَائِدَةَ، حَدَّثَنَا حَجَّاجُ بْنُ أَرْطَأَةَ،
عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَ عُمَرٍ، كُلُّ ذَلِكَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ يُلَبِّي حَتَّى يَسْتَلِمَ الْحَجَرَ.
غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ.
وَهَذِهِ الثَّلَاثُ عُمَرٍ اللَّاتِي وَقَعْنَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ مَا عَدَا عُمْرَتَهُ مَعَ حِجَّتِهِ، فَإِنَّهَا وَقَعَتْ فِي ذِي الْحِجَّةِ مَعَ الْحِجَّةِ، وَإِنْ أَرَادَ ابْتِدَاءَ الْإِحْرَامِ بِهِنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ فَلَعَلَّهُ لَمْ يُرِدْ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ لَأَنَّهُ صُدَّ عَنْهَا وَلَمْ يَفْعَلْهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

(3/692)


قُلْتُ: وَقَدْ كَانَ نَافِعٌ وَمَوْلَاهُ ابْنُ عُمَرَ يُنْكِرَانِ أَنْ يَكُونَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ بِالْكُلِّيَّةِ وَذَلِكَ فِيمَا قَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا أَبُو النُّعْمَان، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهُ كَانَ عَلَيَّ اعْتِكَافُ يَوْمٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ..فَأَمَرَهُ أَنْ يَفِيَ بِهِ.
قَالَ: وَأَصَابَ عُمَرُ جَارِيَتَيْنِ مِنْ سَبْيِ حُنَيْنٍ فَوَضَعَهُمَا فِي بَعْضِ بُيُوتِ مَكَّةَ، قَالَ: فَمَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سَبْيِ حُنَيْنٍ فَجَعَلُوا يَسْعَوْنَ فِي السِّكَكِ، فَقَالَ عُمَرُ: يَا عَبْدَ اللَّهِ انْظُرْ مَا هَذَا؟ قَالَ: مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى السَّبْيِ.
قَالَ: اذْهَبْ فَأَرْسِلِ الْجَارِيَتَيْنِ.
قَالَ نَافِعٌ: وَلَمْ يَعْتَمِرْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ، وَلَوِ اعْتَمَرَ لَمْ يَخْفَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ.
وَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ أَيُّوبَ السَّخْتِيَانِيِّ، عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بِهِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا عَنْ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدَةَ الضَّبِّيِّ، عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ، عَنْ نَافِعٍ قَالَ: ذُكِرَ عِنْدَ ابْنِ عُمَرَ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَقَالَ: لَمْ يَعْتَمِرْ مِنْهَا.
وَهَذَا غَرِيب جدا عَن ابْن عَمْرو عَن مَوْلَاهُ نَافِعٍ، فِي إِنْكَارِهِمَا عُمْرَةَ الْجِعْرَانَةِ، وَقَدْ أَطْبَقَ النَّقَلَةُ مِمَّنْ عَدَاهُمَا عَلَى رِوَايَةِ ذَلِكَ مِنْ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ وَالْمَسَانِيدِ، وَذَكَرَ ذَلِكَ أَصْحَاب المغازى وَالسّنَن كُلُّهُمْ.
وَهَذَا أَيْضًا كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ، عَنْ عُرْوَةَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا أَنْكَرَتْ عَلَى ابْنِ عُمَرَ قَوْلَهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ.
وَقَالَتْ: يَغْفِرُ اللَّهُ لِأَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ! مَا اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَلَا وَهُوَ شَاهِدٌ وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ.

(3/693)


وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا ابْنُ نُمَيْرٍ، حَدَّثَنَا الاعمش، عَن مُجَاهِد، قَالَ: سَأَلَ عُرْوَة ابْن الزُّبَيْرِ ابْنَ عُمَرَ: فِي أَيِّ شَهْرٍ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قَالَ: فِي رَجَبٍ.
فَسَمِعَتْنَا عَائِشَةُ، فَسَأَلَهَا ابْنُ الزُّبَيْرِ وَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ ابْنِ عُمَرَ فَقَالَتْ: يَرْحَمُ اللَّهُ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ! مَا اعْتَمَرَ عُمْرَةً إِلَّا وَقد شَهِدَهَا وَمَا اعْتَمر عمْرَة قَطُّ إِلَّا فِي ذِي الْقَعْدَةِ.
وَأَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ جَرِيرٍ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ بِهِ نَحْوَهُ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ زُهَيْرٍ، عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ، عَنْ مُجَاهِدٍ، سُئِلَ ابْنُ عُمَرَ: كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: مَرَّتَيْنِ.
فَقَالَتْ عَائِشَةُ، لَقَدْ عَلِمَ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ ثَلَاثًا سِوَى الَّتِي قَرَنَهَا بِحِجَّةِ الْوَدَاعِ.
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ آدَمَ، حَدَّثَنَا مُفَضَّلٌ، عَنْ مَنْصُورٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: دَخَلْتُ مَعَ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا ابْنُ عُمَرَ مُسْتَنِدٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ وَأُنَاسٌ يُصَلُّونَ الضُّحَى.
فَقَالَ عُرْوَةُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ قَالَ: بِدْعَةٌ.
فَقَالَ لَهُ عُرْوَةُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ كَمِ اعْتَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: أَرْبَعًا إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ.
قَالَ: وَسَمِعْنَا اسْتِنَانَ عَائِشَةَ فِي الْحُجْرَةِ، فَقَالَ لَهَا عُرْوَةُ: إِنَّ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ يَزْعُمُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ اعْتَمَرَ أَرْبَعًا إِحْدَاهُنَّ فِي رَجَبٍ؟ فَقَالَتْ: يرحم الله أَبَا عبد الرَّحْمَن، مَا اعْتَمر النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
إِلَّا وَهُوَ مَعَهُ، وَمَا اعْتَمَرَ فِي رَجَبٍ قَطُّ.
وَهَكَذَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَحْمَدَ بْنِ مَنِيعٍ، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ مُوسَى، عَنْ شَيْبَانَ، عَنْ مَنْصُورٍ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا ابْنُ جُرَيْجٍ، أَخْبَرَنِي مُزَاحِمُ بْنُ أَبِي مُزَاحِمٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ مُخَرِّشٍ الْكَعْبِيِّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ لَيْلًا حِينَ أَمْسَى مُعْتَمِرًا فَدَخَلَ مَكَّةَ لَيْلًا يَقْضِي عُمْرَتَهُ، ثُمَّ خَرَجَ مِنْ تَحْتِ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ بِالْجِعْرَانَةِ كَبَائِتٍ حَتَّى إِذَا زَالَتِ الشَّمْسُ خَرَجَ مِنَ الْجِعِرَّانَة فِي بطن سرف،

(3/694)


حَتَّى جَاءَ مَعَ الطَّرِيقَ - طَرِيقَ الْمَدِينَةِ - بِسَرِفٍ قَالَ مُخَرِّشٌ: فَلِذَلِكَ خَفِيَتْ عُمْرَتُهُ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ.
وَرَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ كَذَلِكَ وَهُوَ مِنْ أَفْرَادِهِ.
* * * وَالْمَقْصُودُ أَن عمْرَة الْجِعِرَّانَة ثابثة بِالنَّقْلِ الصَّحِيحِ الَّذِي لَا يُمْكِنُ مَنْعُهُ وَلَا دَفْعُهُ، وَمَنْ نَفَاهَا لَا حُجَّةَ مَعَهُ فِي مُقَابَلَةِ مَنْ أَثْبَتَهَا.
وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
ثُمَّ هُمْ كَالْمُجْمِعِينَ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ فِي ذِي الْقَعْدَةِ بَعْدَ غَزْوَةِ الطَّائِفِ وَقَسْمِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ.
وَمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيُّ فِي مُعْجَمِهِ الْكَبِير قَائِلا: حَدثنَا الْحسن بن إِسْحَاق التسترى، حَدثنَا عُثْمَان بن أَبى شيبَة، حَدثنَا مُحَمَّد بن الْحسن الاسدي، حَدثنَا إِبْرَاهِيم ابْن طَهْمَانَ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ عُمَيْرٍ مَوْلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الطَّائِفِ نَزَلَ الْجِعْرَانَةَ فَقَسَمَ بِهَا الْغَنَائِمَ ثُمَّ اعْتَمَرَ مِنْهَا، وَذَلِكَ لِلَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنْ شَوَّالٍ.
فَإِنَّهُ غَرِيبٌ جِدًّا وَفِي إِسْنَاده نظر.
وَالله أعلم.
وَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا يَعْقُوب بن إِبْرَاهِيم، حَدثنَا إِسْمَاعِيل، حَدثنَا ابْن جريج، أَخْبرنِي عَطاء، أَن صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَخْبَرَهُ أَنَّ يَعْلَى كَانَ يَقُولُ: لَيْتَنِي أَرَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ يَنْزِلُ عَلَيْهِ.
قَالَ: فَبَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْجِعْرَانَةِ وَعَلَيْهِ ثَوْبٌ قَدْ أُظِلَّ بِهِ مَعَهُ فِيهِ نَاسٌ مِنْ أَصْحَابِهِ إِذْ جَاءَهُ أَعْرَابِي عَلَيْهِ جُبَّة متضمخ بِطيب.
قَالَ: فَأَشَارَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى يَعْلَى بِيَدِهِ: أَنْ تَعَالَ.
فَجَاءَ يَعْلَى فَأَدْخَلَ رَأْسَهُ فَإِذَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُحْمَرُّ الْوَجْهِ يَغِطُّ كَذَلِكَ سَاعَةً ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: " أَيْنَ الَّذِي يَسْأَلُنِي عَنِ الْعُمْرَةِ آنِفًا؟ " فَالْتُمِسَ الرَّجُلُ فَأُتِيَ بِهِ، قَالَ: " أَمَّا الطِّيبُ الَّذِي بِكَ فَاغْسِلْهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ،

(3/695)


وَأَمَّا الْجُبَّةُ فَانْزِعْهَا ثُمَّ اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ كَمَا تَصْنَعُ فِي حَجِّكَ ".
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ.
وَأَخْرَجَاهُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ عَطَاءٍ كِلَاهُمَا عَنْ صَفْوَانَ بْنِ يَعْلَى بن أُميَّة بِهِ.
وَقَالَ الامام أَحْمد: حَدثنَا أَبُو أُسَامَة، أَنبأَنَا هِشَامٌ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَام الْفَتْحِ مِنْ كَدَاءَ مِنْ أَعْلَى مَكَّةَ، وَدَخَلَ فِي الْعُمْرَةِ مِنْ كُدَى.
وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ: حَدثنَا مُوسَى أَبُو سَلمَة، حَدثنَا حَمَّادٌ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابَهُ اعْتَمَرُوا مِنَ الْجِعْرَانَةِ فَرْمَلُوا بِالْبَيْتِ ثَلَاثًا وَمَشَوْا أَرْبَعًا وَجَعَلُوا أَرْدِيَتَهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ ثُمَّ قَذَفُوهَا عَلَى عَوَاتِقِهِمُ الْيُسْرَى.
تَفَرَّدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ.
وَرَوَاهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مُخْتَصرا.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، عَن ابْن جريج، حَدَّثَنى الْحسن بْنُ مُسْلِمٍ، عَنْ طَاوُسٍ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ أَخْبَرَهُ قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِشْقَصٍ.
أَوْ قَالَ: رَأَيْتُهُ يُقَصِّرُ عَنْهُ بِمِشْقَصٍ عِنْدَ الْمَرْوَةِ.
وَقَدْ أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ جُرَيْجٍ بِهِ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، عَنْ هِشَامِ بْنِ حُجَيْرٍ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ بِهِ.
وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ، عَنْ مَعْمَرٍ، عَنْ ابْنِ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ بِهِ.
وَقَالَ عَبْدُ الله بن الْإِمَامِ أَحْمَدَ: حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدٍ النَّاقِدُ، حَدثنَا أَبُو أَحْمد الزبيرِي،

(3/696)


حَدثنَا سُفْيَانُ، عَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنْ مُعَاوِيَةَ قَالَ: قَصَّرْتُ عَنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ.
* * * وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذَا إِنَّمَا يَتَوَجَّهُ أَنْ يَكُونَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ.
وَذَلِكَ أَنَّ عُمْرَةَ الْحُدَيْبِيَةِ لَمْ يَدْخُلْ إِلَى مَكَّةَ فِيهَا بَلْ صُدَّ عَنْهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ، وَأَمَّا عُمْرَةُ الْقَضَاءِ فَلَمْ يَكُنْ أَبُو سُفْيَانَ أَسْلَمَ وَلَمْ يَبْقَ بِمَكَّةَ مِنْ أَهْلِهَا أَحَدٌ حِينَ دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَلْ خَرَجُوا مِنْهَا، وَتَغَيَّبُوا عَنْهَا مُدَّةَ مقَامه عَلَيْهِ السَّلَام بِهَا تِلْكَ الثَّلَاثَةَ الْأَيَّامِ، وَعُمْرَتُهُ الَّتِي كَانَتْ مَعَ حَجَّتِهِ لَمْ يَتَحَلَّلْ مِنْهَا بِالِاتِّفَاقِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ هَذَا التَّقْصِيرَ الَّذِي تَعَاطَاهُ مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مِنْ رَأْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ الْمَرْوَةِ إِنَّمَا كَانَ فِي عُمْرَةِ الْجِعْرَانَةِ كَمَا قُلْنَا.
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ رَحِمَهُ اللَّهُ: ثُمَّ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْجِعْرَانَةِ مُعْتَمِرًا وَأمر بِبَقَاء الفئ فَحُبِسَ بِمَجَنَّةَ بِنَاحِيَةِ مَرِّ الظَّهْرَانِ.
قُلْتُ: الظَّاهِرُ أَنه عَلَيْهِ السَّلَام إِنَّمَا اسْتَبْقَى بَعْضَ الْمَغْنَمِ لِيَتَأَلَّفَ بِهِ مَنْ يَلْقَاهُ مِنَ الْأَعْرَابِ فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عُمْرَتِهِ انْصَرَفَ رَاجِعًا
إِلَى الْمَدِينَةِ وَاسْتَخْلَفَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ، وَخَلَّفَ مَعَهُ مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ يُفَقِّهُ النَّاسَ فِي الدِّينِ وَيُعَلِّمُهُمُ الْقُرْآنَ.
وَذَكَرَ عُرْوَةُ وَمُوسَى بْنُ عُقْبَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَلَّفَ مُعَاذًا مَعَ عَتَّابٍ بِمَكَّةَ قَبْلَ خُرُوجِهِ إِلَى هَوَازِنَ، ثُمَّ خَلَّفَهُمَا بِهَا حِينَ رَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ.
وَقَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَبَلَغَنِي عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا اسْتَعْمَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَتَّابَ بْنَ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ رَزَقَهُ كُلَّ يَوْمٍ دِرْهَمًا، فَقَامَ فَخَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: أَيُّهَا

(3/697)


النَّاسُ، أَجَاعَ اللَّهُ كَبِدَ مَنْ جَاعَ عَلَى دِرْهَمٍ! فَقَدْ رَزَقَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دِرْهَمًا كل يَوْم، فَلَيْسَتْ لى حَاجَةٌ إِلَى أَحَدٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَكَانَتْ عُمْرَةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ فِي بَقِيَّةِ ذِي الْقَعْدَةِ أَوْ فِي أَوَّلِ ذِي الْحِجَّةِ.
قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: قَدِمَهَا لِسِتٍّ بَقِينَ مِنْ ذِي الْقَعْدَةِ فِيمَا قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْمَدِينِيُّ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَحَجَّ النَّاسُ ذَلِكَ الْعَامَ عَلَى مَا كَانَتِ الْعَرَبُ تَحُجُّ عَلَيْهِ، وَحَجَّ بِالْمُسْلِمِينَ تِلْكَ السَّنَةَ عَتَّابُ بْنُ أَسِيدٍ وَهِيَ سَنَةُ ثَمَانٍ.
قَالَ: وَأَقَامَ أَهْلُ الطَّائِفِ عَلَى شِرْكِهِمْ وَامْتِنَاعِهِمْ فِي طَائِفِهِمْ مَا بَيْنَ ذِي الْقَعْدَةِ إِلَى رَمَضَانَ مِنْ سَنَةِ تِسْعٍ.

(3/698)


إِسْلَامُ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى وَأَبُوهُ هُوَ صَاحِبُ إِحْدَى الْمُعَلَّقَاتِ السَّبْعِ، الشَّاعِرُ ابْنُ الشَّاعِرِ، وَذِكْرُ قَصِيدَتِهِ الَّتِي سَمِعَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهِيَ بَانَتْ سُعَادُ قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَلَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ مُنْصَرَفِهِ عَنِ الطَّائِفِ كَتَبَ بُجَيْرُ بْنُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى إِلَى أَخِيهِ لِأَبَوَيْهِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ يُخْبِرُهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَ رِجَالًا بِمَكَّةَ مِمَّنْ كَانَ يَهْجُوهُ وَيُؤْذِيهِ، وَأَنَّ مَنْ بَقِيَ مِنْ شُعَرَاءِ قُرَيْشٍ: ابْنُ الزِّبَعْرَى وَهُبَيْرَةُ بْنُ أَبِي وَهْبٍ هَرَبُوا (1) فِي كُلِّ وَجْهٍ، فَإِنْ كَانَتْ لَكَ فِي نَفْسِكَ حَاجَةٌ فَطِرْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ لَا يَقْتُلُ أُحُدًا جَاءَهُ تَائِبًا، وَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَانْجُ إِلَى نَجَائِكَ مِنَ الْأَرْضِ.
وَكَانَ كَعْبٌ قد قَالَ: أَلا بلغا عَنى بجيرا رِسَالَة * فويحك (2) فِيمَا قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَا فَبَيِّنْ لَنَا إِنْ كنت لست بفاعل * على أَي شئ غَيْرِ ذَلِكَ دَلَّكَا عَلَى خُلُقٍ لَمْ أُلْفِ يَوْمًا أَبًا لَهُ * عَلَيْهِ وَمَا تُلْفِي عَلَيْهِ أَبًا لَكَا فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ * وَلَا قَائِلٍ إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا (3) سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ كَأْسًا رَوِيَّةً * فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا (4) قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَأَنْشَدَنِي بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالشِّعْرِ: مَنْ مُبْلِغٌ عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً * فَهَلْ لَكَ فِيمَا قُلْتَ بِالْخَيْفِ هَلْ لَكَا شَرِبْتَ مَعَ الْمَأْمُونِ كَأْسًا رَوِيَّةً * فَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُون مِنْهَا وعلكا
__________
(1) ابْن هِشَام: قد هربوا.
(2) ابْن هِشَام: فَهَل لَك.
(3) كلمة تقال للعاثر، دُعَاء لَهُ بالاقالة من عثرته.
(4) أنهلك: سقاك أَولا.
وعلك سقاك ثَانِيًا.
والمأمون: يُرِيدُ بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(*)

(3/699)


وخالفت أَسبَاب الْهدى واتبعته * على أَي شئ وَيْبَ غَيْرِكَ (1) دَلَّكَا عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أما وَلَا أَبَا * عَلَيْهِ وَلم تدْرك عَلَيْهِ أَخًا لَكَا فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَفْعَلْ فَلَسْتُ بِآسِفٍ * وَلَا قَائِلٍ إِمَّا عَثَرْتَ لَعًا لَكَا قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَبَعَثَ بِهَا إِلَى بُجَيْرٍ، فَلَمَّا أَتَتْ بُجَيْرًا كَرِهَ أَنْ يَكْتُمَهَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَنْشَدَهُ إِيَّاهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَمِعَ: " سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُونُ ": " صَدَقَ وَإِنَّهُ لَكَذُوبٌ، أَنَا الْمَأْمُونُ " وَلَمَّا سَمِعَ: " عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ
أُمًّا وَلَا أَبًا عَلَيْهِ " قَالَ: " أَجَلْ لَمْ يُلْفِ عَلَيْهِ أَبَاهُ وَلَا أُمَّهُ ".
قَالَ: ثُمَّ كَتَبَ بُجَيْرٌ إِلَى كَعْبٍ يَقُولُ لَهُ: مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبًا فَهَلْ لَكَ فِي الَّتِي * تَلُومُ عَلَيْهَا بَاطْلًا وَهِيَ أَحْزَمُ إِلَى اللَّهِ لَا الْعُزَّى وَلَا اللَّاتِ وَحْدَهُ * فَتَنْجُو إِذَا كَانَ النَّجَاءُ وَتَسْلَمُ لَدَى يَوْمٍ لَا يَنْجُو وَلَيْسَ بِمُفْلِتٍ * مِنَ النَّاسِ إِلَّا طَاهِرُ الْقلب مُسلم فدين زُهَيْر وَهُوَ لَا شئ دِينُهُ * وَدِينُ أَبِي سُلْمَى عَلَيَّ مُحَرَّمُ قَالَ: فَلَمَّا بَلَغَ كَعْبًا الْكُتَّابُ ضَاقَتْ بِهِ الْأَرْضُ وَأَشْفَقَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَرْجَفَ بِهِ مَنْ كَانَ فِي حَاضِرِهِ مِنْ عَدُوِّهُ، وَقَالُوا: هُوَ مَقْتُولٌ.
فَلَمَّا لم يجد من شئ بُدًّا قَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَذَكَرَ فِيهَا خَوْفَهُ وَإِرْجَافَ الْوُشَاةِ بِهِ مِنْ عَدُوِّهُ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى قَدِمَ الْمَدِينَةَ، فَنَزَلَ عَلَى رَجُلٍ كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ مَعْرِفَةٌ مِنْ جُهَيْنَةَ كَمَا ذُكِرَ لِي، فَغَدَا بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، فَصَلَّى مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَشَارَ لَهُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: هَذَا رَسُولُ اللَّهِ فَقُمْ إِلَيْهِ فَاسْتَأْمِنْهُ.
فَذُكِرَ لِي أَنَّهُ قَامَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَلَسَ إِلَيْهِ وَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ،
__________
(1) ويب غَيْرك: هَلَكت هَلَاك غَيْرك.
(*)

(3/700)


وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَعْرِفُهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ قَدْ جَاءَ لِيَسْتَأْمِنَ مِنْكَ تَائِبًا مُسْلِمًا، فَهَلْ أَنْتَ قَابِلٌ مِنْهُ إِنْ جِئْتُكَ بِهِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " نَعَمْ " فَقَالَ: إِذًا أَنَا (1) يَا رَسُولَ اللَّهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: فَحَدَّثَنِي عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ أَنَّهُ وَثَبَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي وَعَدُوَّ اللَّهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " دَعه عَنْك، فَإِنَّهُ جَاءَ تَائِبًا نَازِعًا ".
قَالَ: فَغَضِبَ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ عَلَى هَذَا الْحَيِّ مِنَ الْأَنْصَارِ لِمَا صَنَعَ بِهِ صَاحِبُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَمْ يَتَكَلَّمْ فِيهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ إِلَّا بِخَيْرٍ.
فَقَالَ فِي قَصِيدَتِهِ الَّتِي قَالَ حِينَ قَدِمَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ * مُتَيَّمٌ عِنْدَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ (2) وَمَا سُعَادُ غَدَاةَ الْبَيْنِ إِذْ رحلوا * إِلَّا أغن غضيض الطّرف مَكْحُول (3) [هيفاء مقبلة عجزاء مُدبرَة * لَا يشتكى قصر مِنْهَا وَلَا طول] (4) تَجْلُو عَوَارِضَ ذِي ظَلْمٍ إِذَا ابْتَسَمَتْ * كَأَنَّهُ مُنْهَلٌ بِالرَّاحِ مَعْلُولُ (4) شُجَّتْ بِذِي شَبَمٍ مِنْ مَاءِ مَحْنِيَةٍ * صَافٍ بِأَبْطَحَ أَضْحَى وَهْوَ مَشْمُولُ (5) تَنْفِي الرِّيَاحُ الْقَذَى عَنْهُ وَأَفْرَطَهُ * مِنْ صَوْبِ غادية بيض يعاليل (6) فيالها خُلَّةٌ لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ * بِوَعْدِهَا أَوْ لَوَ ان النصح مَقْبُول
__________
(1) ابْن هِشَام: فَقَالَ أَنا.
(2) بَانَتْ: بَعدت.
والمتبول: السقيم من الْحبّ.
والمكبول: الْمُقَيد.
(3) الاغن: الظبى.
(4) عَن ابْن هِشَام.
(4) تجلو: تكشف، وَالظُّلم: بريق الاسنان وبياضها.
(5) شجت: مزجت.
والشبم الشَّديد الْبرد.
والمحنية: منعطف الْوَادي.
والمشمول: الذى ضَربته ريح شمال حَتَّى برد.
(6) أفرطه: سبق إِلَيْهِ.
والصوب: الْمَطَر.
والغادية: السحابة تمطر غدْوَة.
واليعاليل: السحب الْبيض (*)

(3/701)


لَكِنَّهَا خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَا * فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلَافٌ وَتَبْدِيلُ (1) فَمَا تَدُومُ عَلَى حَالٍ تَكُونُ بِهَا * كَمَا تَلَوَّنُ فِي أَثْوَابِهَا الْغُولُ وَمَا تُمَسِّكُ بِالْعَهْدِ الَّذِي زَعَمَتْ * إِلَّا كَمَا يُمْسِكُ الْمَاءَ الْغَرَابِيلُ فَلَا يَغُرَّنْكَ مَا مَنَّتْ وَمَا وَعَدَتْ * إِنَّ الْأَمَانِيَّ وَالْأَحْلَامَ تَضْلِيلُ كَانَتْ مَوَاعِيدُ عُرْقُوبٍ لَهَا مَثَلًا * وَمَا مَوَاعِيدُهَا إِلَّا الاباطيل
أَرْجُو وآمل أَن تَدْنُو مودتها * ومالهن إِخَالُ الدَّهْرَ تَعْجِيلُ (2) أَمْسَتْ سُعَادُ بِأَرْضٍ لَا تبلغها * إِلَّا الْعِتَاقُ النَّجِيبَاتُ الْمَرَاسِيلُ وَلَنْ يُبَلِّغَهَا إِلَّا عُذَافِرَةٌ * فِيهَا عَلَى الْأَيْنِ إِرْقَالٌ وَتَبْغِيلُ (3) مِنْ كُلِّ نَضَّاخَةِ الذِّفْرَى إِذَا عَرِقَتْ * عُرْضَتُهَا طَامِسُ الاعلام مَجْهُول (4) ترمى الغيوب بِعَيْنَيْ مُفْرَدٍ لَهِقٍ * إِذَا تَوَقَّدَتِ الْحِزَّانُ وَالْمِيلُ (5) ضَخْمٌ مُقَلَّدُهَا فَعْمٌ مُقَيَّدُهَا * فِي خَلْقِهَا عَنْ بَنَاتِ الْفَحْلِ تَفْضِيلُ (6) حَرْفٌ أَخُوهَا أَبُوهَا مِنْ مُهَجَّنَةٍ * وَعَمُّهَا خَالُهَا قَوْدَاءُ شِمْلِيلُ (7) يَمْشِي الْقُرَادُ عَلَيْهَا ثُمَّ يُزْلِقُهُ * مِنْهَا لَبَانٌ وَأَقْرَابٌ زَهَالِيلُ (8)
__________
(1) الْخلَّة: الصُّحْبَة.
وسيط: خلط.
(2) ابْن هِشَام: وَمَا إخال لدينا مِنْك تنويل.
(3) العذافرة: الْعَظِيم الشَّديد من الابل.
والاين: التَّعَب.
والارقال: الاسراع.
والتبغيل: ضرب من سير الابل.
(4) النضاخة: الغزيرة.
والذفرى: الْعظم الشاخص خلف الاذن.
وعرضتها: وجهتها.
وطامس الاعلام: الْمُتَغَيّر الذى لَا يهتدى فِيهِ.
(5) اللهق: الثور الابيض والحزان: جمع حزيز وَهُوَ الْمَكَان الغليظ المنقاد.
والميل: مَا اتَّسع من الارض (6) الْمُقَلّد: مَوضِع القلادة من الْعُنُق.
والفعم: الممتلئ.
(7) الْحَرْف: النَّاقة الضامرة أَو الْعَظِيمَة.
والقوداء: الشَّدِيدَة الْعُنُق.
والشمليل: السريعة.
(8) القراد: دويبة.
واللبان: الصَّدْر.
والاقراب: جمع قرب وَهُوَ الخاصرة.
والزهاليل: جمع زهلول وَهُوَ الاملس (*)

(3/702)


عَيْرَانَةٌ قُذِفَتْ بِالنَّحْضِ عَنْ عُرُضٍ * مِرْفَقُهَا عَنْ بَنَاتِ الزَّوْرِ مَفْتُولُ (1) قَنْوَاءُ فِي حُرَّتَيْهَا لِلْبَصِيرِ بهَا * عتق مُبين وفى الْخَدين تسهيل (2)
كَأَنَّمَا فَاتَ عَيْنَيْهَا وَمَذْبَحَهَا * مِنْ خَطْمِهَا وَمِنَ اللَّحْيَيْنِ بِرْطِيلُ (3) تُمِرُّ مِثْلَ عَسِيبِ النَّخْلِ ذَا خُصَلٍ * فِي غَارِزٍ لَمْ تَخَوَّنْهُ الْأَحَالِيلُ (4) تَهْوِي عَلَى يسرات وهى لاهية * ذوابل مسهن الارض تَحْلِيل (5) يَوْمًا يظل بِهِ الحرباء مصطخدا * كَأَن ضاحيه بالشمس محلول (6) وَقَالَ لِلْقَوْمِ حَادِيهُمْ وَقَدْ جَعَلَتْ * وُرْقُ الْجَنَادَبِ يركضن الْحَصَا قيلوا (7) أَوْبُ يَدَيْ فَاقِدٍ شَمْطَاءَ مُعْوِلَةٍ * قَامَتْ فَجَاوَبَهَا نُكْدٌ مَثَاكِيلُ (8) نَوَّاحَةٌ رِخْوَةُ الضَّبْعَيْنِ لَيْسَ لَهَا * لَمَّا نَعَى بِكْرَهَا النَّاعُونَ مَعْقُولُ (9) تَفْرِي اللَّبَانَ بِكَفَّيْهَا وَمِدْرَعُهَا * مُشَقَّقٌ عَنْ تَرَاقِيهَا رَعَابِيلُ (10) تَسْعَى الْغُوَاةُ جَنَابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ * إِنَّكَ يَابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ (11) وَقَالَ كُلُّ صَدِيقٍ كُنْتُ آمُلُهُ * لَا ألهينك إنى عَنْك مَشْغُول
__________
(1) العيرانة من الابل، النَّاجِية فِي نشاط.
والنحض: اللَّحْم المكتنز.
وَالْعرض: الْجَانِب.
(2) القنواء: المرتفعة الانف، وَهُوَ عيب فِي الْفرس.
(3) البرطيل: حجر أَو حَدِيد طَوِيل صلب خلقَة، ينقر بِهِ الرَّحَى.
وَهُوَ الْمعول أَيْضا (4) عسيب النّخل: جَرِيدَة من النّخل مُسْتَقِيمَة دقيقة يكشط خوصها.
والغارز: الضَّرع.
وتخونه: ننقصه.
والاحاليل: جمع إحليل وَهُوَ مخرج اللَّبن.
(5) ابْن هِشَام: تخدى.
اليسرات: الْخفاف السهلة.
والتحليل: الجرى.
حل: عدا.
(6) الحرباء: دويبة تسْتَقْبل الشَّمْس برأسها.
والمصطخد: المحترق من حرارة الشَّمْس.
والضاحى: مَا برز مِنْهُ للشمس.
والمحلول: الْمُذَاب.
(7) الجنادب: الْجَرَاد.
وَالْوَرق: الَّتِى يضْرب لَوْنهَا إِلَى السوَاد.
(8) الاوب: رَجَعَ القوائم فِي السّير.
والشمطاء: الَّتِى خالطها الشيب.
والمعولة: الصائحة بالبكاء والنكد: جمع نكداء وهى الَّتِى لَا يبْقى لَهَا ولد.
والمثاكيل: جمع مثكلة وهى الَّتِى لَزِمَهَا الثكل.
(9) الرخوة: المسترخية والضبع: الْعَضُد.
(10) اللبان: الصَّدْر.
والمدرع: الْقَمِيص.
والرعابيل: الممزق.. (11) جنابيها: حولهَا (*)

(3/703)


فَقُلْتُ خَلُّوا سَبِيلِي لَا أَبًا لَكُمُ * فَكُلُّ مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلَامَتُهُ * يَوْمًا عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي * وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ مَهْلًا هَدَاكَ الَّذِي أَعْطَاك نَافِلَة ال * قُرْآن فِيهِ مَوَاعِيظٌ وَتَفْصِيلُ لَا تَأْخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ * أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ لَقَدْ أَقُومُ مَقَامًا لَوْ يَقُومُ بِهِ * أَرَى وَأَسْمَعُ مَا لَو يسمع الْفِيل لظل يرعد إِلَّا أَن يكون لَهُ * من الرَّسُول بِإِذن الله تنويل (1) حَتَّى وضعت يمينى مَا أنازعها * فِي كَفِّ ذِي نَقَمَاتٍ قَوْلُهُ الْقِيلُ فَلَهْوَ أَخْوَفُ عِنْدِي إِذْ أُكَلِّمُهُ * وَقِيلَ إِنَّكَ مَنْسُوبٌ وَمَسْئُولُ مِنْ ضَيْغَمٍ بِضَرَاءِ الْأَرْضِ مَخْدَرُهُ * فِي بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيلُ (2) يَغْدُو فَيُلْحِمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَا * لَحْمٌ مِنَ النَّاسِ مَعْفُورٌ خَرَادِيلُ (3) إِذَا يُسَاوِرُ قِرْنًا لَا يَحِلُّ لَهُ * أَنْ يتْرك الْقرن إِلَّا وَهُوَ مغلول مِنْهُ تَظَلُّ حَمِيرُ الْوَحْشِ نَافِرَةً * وَلَا تَمْشِي بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ (4) وَلَا يَزَالُ بِوَادِيهِ أَخُو ثِقَةٍ * مُضَرَّجُ الْبَزِّ وَالدِّرْسَانِ مَأَكُولُ (5) إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ * مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ فِي عُصْبَةٍ مِنْ قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ * بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا أَسْلَمُوا زُولُوا زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلَا كُشُفٌ * عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٌ معازيل (6)
__________
(1) الاصل: لظل يرعد من وجد موارده من الرَّسُول.
وَمَا أثْبته عَن ابْن هِشَام (2) الضراء: الارض المستوية.
(3) المعفور: الْملقى فِي التُّرَاب.
والخراديل: الْقطع الصغار.
(4) الاراجيل: جماعات الرِّجَال.
(5) الْبَز: السِّلَاح.
والدرسان: الثِّيَاب الْخلقَة.
(6) الانكاس: جمع نكس وَهُوَ الجبان.
والمعازيل: الَّذين لَا سلَاح مَعَهم.
(*)

(3/704)


يَمْشُونَ مَشْيَ الْجِمَالِ الزُّهْرِ يَعْصِمُهُمْ * ضَرْبٌ إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ (1) شُمُّ الْعَرَانِينِ أَبْطَالٌ لَبُوسُهُمُ * مِنْ نَسْجِ دَاوُدَ فِي الْهَيْجَا سَرَابِيلُ بِيضٌ سوابغ قد شكت لَهَا خلق * كَأَنَّهَا حَلَقُ الْقَفْعَاءِ مَجْدُولُ (2) لَيْسُوا مَفَارِيحَ إِنْ نَالَتْ رِمَاحُهُمُ * قَوْمًا وَلَيْسُوا مَجَازِيعًا إِذَا نِيلُوا لَا يَقع الطعْن إِلَّا فِي نحورهم * وَلَا لَهُم عَن حِيَاض الْمَوْت تهليل قَالَ ابْن هِشَام: هَكَذَا أَوْرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ هَذِهِ الْقَصِيدَةَ وَلَمْ يَذْكُرْ لَهَا إِسْنَادًا.
وَقَدْ رَوَاهَا الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ بِإِسْنَادٍ مُتَّصِلٍ، فَقَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا أَبُو الْقَاسِمِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ أَحْمَدَ الاسدي بهمذان، حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْحُسَيْن، حَدثنَا إِبْرَاهِيم بن الْمُنْذر الحزامى، حَدثنَا الْحَجَّاجُ بْنُ ذِي الرُّقَيْبَةِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ابْن كَعْبِ بْنِ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ قَالَ: خَرَجَ كَعْبٌ وَبُجَيْرٌ ابْنَا زُهَيْرٍ حَتَّى أَتَيَا أَبْرَقَ الْعَزَّافِ، فَقَالَ بُجَيْرٌ لِكَعْبٍ: اثْبُتْ فِي هَذَا الْمَكَانِ حَتَّى آتِيَ هَذَا الرَّجُلَ - يَعْنِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْمَعُ مَا يَقُولُ: فَثَبَتَ كَعْبٌ وَخَرَجَ بُجَيْرٌ فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَعَرَضَ عَلَيْهِ الْإِسْلَامَ فَأَسْلَمَ.
فَبَلَغَ ذَلِكَ كَعْبًا فَقَالَ: أَلَّا أَبْلِغَا عَنِّي بجيرا رِسَالَة * على أَي شئ وَيْبَ غَيْرِكَ دَلَّكَا عَلَى خُلُقٍ لَمْ تُلْفِ أما وَلَا أَبَا * عَلَيْهِ وَلم تدْرك عَلَيْهِ أَخًا لَكَا سَقَاكَ أَبُو بَكْرٍ بِكَأْسِ رَوِيَّةٍ * وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا فَلَمَّا بَلَغَتِ الْأَبْيَاتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَهْدَرَ دَمَهُ وَقَالَ: " مَنْ لَقِيَ
كَعْبًا فَلْيَقْتُلْهُ ".
فَكَتَبَ بذلك بجير إِلَى أَخِيهِ، وَذَكَرَ لَهُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَهْدَرَ دَمَهُ وَيَقُولُ لَهُ: النَّجَاءَ وَمَا أَرَاكَ تَنْفَلِتُ.
ثُمَّ كَتَبَ إِلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ: اعْلَمْ أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله
__________
(1) عرد: هرب.
والتنابيل: الْقصار.
(2) القفعاء: ضرب من الحسك تشبه بِهِ حلق الدّرّ (*)

(3/705)


عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَأْتِيهِ أَحَدٌ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ إِلَّا قَبِلَ ذَلِكَ مِنْهُ وَأَسْقَطَ مَا كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ، فَإِذَا جَاءَكَ كِتَابِي هَذَا فَأَسْلِمْ وَأَقْبِلْ.
قَالَ: فَأَسْلَمَ كَعْبٌ وَقَالَ قَصِيدَتَهُ الَّتِي يَمْدَحُ فِيهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ بِبَابِ مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثُمَّ دخل الْمَسْجِد وَرَسُول الله مَعَ أَصْحَابِهِ كَالْمَائِدَةِ بَيْنَ الْقَوْمِ مُتَحَلِّقُونَ مَعَهُ حَلْقَةً خَلْفَ حَلْقَةٍ، يَلْتَفِتُ إِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً فَيُحَدِّثُهُمْ وَإِلَى هَؤُلَاءِ مَرَّةً فَيُحَدِّثُهُمْ.
قَالَ كَعْبٌ: فأنخت رَاحِلَتي بِبَاب الْمَسْجِدَ فَعَرَفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلم بِالصّفةِ حَتَّى جَلَسْتُ إِلَيْهِ فَأَسْلَمْتُ وَقُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّكَ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ الْأَمَانَ يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: " وَمَنْ أَنْت؟ " قَالَ: كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ.
قَالَ: " الَّذِي يَقُولُ " ثُمَّ الْتَفَتَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: " كَيْفَ قَالَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ " فَأَنْشَدَهُ أَبُو بكر: سقاك بهَا الْمَأْمُون كأسا رَوِيَّةٍ * وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُورُ مِنْهَا وَعَلَّكَا قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا قُلْتُ هَكَذَا قَالَ: " فَكَيْفَ قلت؟ " قَالَ قلت: سقاك بهَا الْمَأْمُون كأسا رَوِيَّةٍ * وَأَنْهَلَكَ الْمَأْمُونُ مِنْهَا وَعَلَّكَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَأْمُونٌ وَاللَّهِ.
ثُمَّ أَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ كُلَّهَا حَتَّى أَتَى عَلَى آخِرِهَا وَهِيَ هَذِهِ الْقَصِيدَةُ:
بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ * مُتَيَّمٌ عِنْدَهَا لَمْ يُفْدَ مَكْبُولُ وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الرَّمْزِ لِمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِنْشَادُ ابْنِ إِسْحَاقَ وَالْبَيْهَقِيِّ رَحِمَهُمَا الله عزوجل وَذَكَرَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبِرِّ فِي كِتَابِ الِاسْتِيعَابِ أَنَّ كَعْبًا لَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: إِنَّ الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ * مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُولُ نُبِّئْتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي * وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَأْمُولُ

(3/706)


قَالَ: فَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى مَنْ مَعَهُ أَنِ اسْمَعُوا.
وَقَدْ ذَكَرَ ذَلِكَ قَبْلَهُ مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ فِي مَغَازِيهِ.
وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ.
قُلْتُ: وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُ بُرْدَتَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ الْقَصِيدَةَ، وَقَدْ نَظَمَ ذَلِكَ الصَّرْصَرِيُّ فِي بَعْضِ مَدَائِحِهِ، وَهَكَذَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْحَافِظُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي الْغَابَةِ، قَالَ: وَهِيَ الْبُرْدَةُ الَّتِي عِنْدَ الْخُلَفَاءِ.
قُلْتُ: وَهَذَا مِنَ الْأُمُورِ الْمَشْهُورَةِ جدا، وَلَكِن لم أر ذَلِك فِي شئ مِنْ هَذِهِ الْكُتُبِ الْمَشْهُورَةِ بِإِسْنَادٍ أَرْتَضِيهِ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ، لَمَّا قَالَ بَانَتْ سُعَادُ: وَمَنْ سُعَادُ؟ قَالَ: زَوْجَتِي يَا رَسُولَ اللَّهِ.
قَالَ: لَمْ تَبِنْ.
وَلَكِنْ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ.
وَكَأَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ تَوَهَّمَ أَنَّ بِإِسْلَامِهِ تَبِينُ امْرَأَتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ الْبَيْنُونَةَ الْحِسِّيَّةَ لَا الْحُكْمِيَّةَ.
وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
* * * قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَقَالَ عَاصِمُ بْنُ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ: فَلَمَّا قَالَ كَعْبٌ - يَعْنِي فِي قَصِيدَتِهِ - " إِذَا عَرَّدَ السُّودُ التَّنَابِيلُ " وَإِنَّمَا يُرِيدُنَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ لِمَا كَانَ صَاحِبُنَا صَنَعَ بِهِ، وَخَصَّ الْمُهَاجِرِينَ مِنْ قُرَيْشٍ بِمِدْحَتِهِ، غَضِبَتْ عَلَيْهِ الْأَنْصَارُ فَقَالَ بَعْدَ أَنْ أَسْلَمَ يَمْدَحُ الْأَنْصَارَ وَيَذْكُرُ بَلَاءَهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَوْضِعَهُمْ مِنَ الْيُمْنِ:
مَنْ سَرَّهُ كَرَمُ الْحَيَاةِ فَلَا يَزَلْ * فِي مِقْنَبٍ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ (1) وَرِثُوا الْمَكَارِمَ كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ * إِن الخيارهم بَنُو الْأَخْيَارِ الْمُكْرِهِينَ السَّمْهَرِيَّ بِأَذْرُعٍ * كَسَوَالِفِ الِهِنْدِيِّ غير قصار
__________
(1) المقنب: الْجَمَاعَة من الْخَيل.
(*)

(3/707)


وَالنَّاظِرِينَ بِأَعْيُنٍ مُحْمَرَّةٍ * كَالْجَمْرِ غَيْرِ كَلِيلَةِ الْإِبْصَارِ وَالْبَائِعِينَ نُفُوسَهُمْ لِنَبِيِّهِمْ * لِلْمَوْتِ يَوْمَ تَعَانُقٍ وَكِرَارِ يَتَطَهَّرُونَ يَرَوْنَهُ نُسُكًا لَهُمْ * بِدِمَاءِ مَنْ عَلِقُوا من الْكفَّار دربوا كَمَا دربت بطُون خَفِيَّةٍ * غُلْبُ الرِّقَابِ مِنَ الْأُسُودِ ضَوَارِي وَإِذَا حللت ليمنعوك إِلَيْهِم * أَصبَحت عِنْد معاقل الاعفار (1) ضَرَبُوا عَلِيًّا يَوْمَ بَدْرٍ ضَرْبَةً * دَانَتْ لِوَقْعَتِهَا جَمِيعُ نِزَارِ لَوْ يَعْلَمُ الْأَقْوَامُ عِلْمِيَ كُلَّهُ * فِيهِمْ لَصَدَّقَنِي الَّذِينَ أُمَارِي قَوْمٌ إِذَا خَوَتِ النُّجُومُ فَإِنَّهُمْ * لِلطَّارِقِينَ النَّازِلِينَ مَقَارِي قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: وَيُقَالُ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ حِينَ أَنْشَدَهُ بَانَتْ سُعَادُ: " لَوْلَا ذَكَرْتَ الْأَنْصَارَ بِخَيْرٍ فَإِنَّهُمْ لِذَلِكَ أَهْلٌ؟ " فَقَالَ كَعْبٌ هَذِهِ الْأَبْيَاتِ وَهِيَ فِي قَصِيدَةٍ لَهُ.
قَالَ: وَبَلَغَنِي عَنْ عَلِيِّ بْنِ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ أَنَّ كَعْبَ بْنَ زُهَيْرٍ أَنْشَدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْمَسْجِدِ: بَانَتْ سُعَادُ فَقَلْبِي الْيَوْمَ مَتْبُولُ.
وَقَدْ رَوَاهُ الْحَافِظُ الْبَيْهَقِيُّ بِإِسْنَادِهِ الْمُتَقَدِّمِ إِلَى إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُنْذِرِ الْحِزَامِيِّ، حَدَّثَنِي مَعْنُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنى مُحَمَّد بن عبد الرَّحْمَن الافطس، عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ.
فَذَكَرَهُ وَهُوَ مُرْسَلٌ.
وَقَالَ الشَّيْخُ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي كِتَابِ " الِاسْتِيعَابِ فِي مَعْرِفَةِ الْأَصْحَابِ " بَعْدَ مَا أَوْرَدَ طَرَفًا مِنْ تَرْجَمَةِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ إِلَى أَنْ قَالَ: وَقَدْ كَانَ كَعْبُ بْنُ
زُهَيْرٍ شَاعِرًا مُجَوِّدًا كَثِيرَ الشِّعْرِ مُقَدَّمًا فِي طَبَقَتِهِ هُوَ وَأَخُوهُ بُجَيْرٌ، وَكَعْبٌ أَشْعَرُهُمَا، وَأَبُوهُمَا زُهَيْرٌ فَوْقَهُمَا، وَمِمَّا يُسْتَجَادُ مِنْ شِعْرِ كَعْبِ بْنِ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ: لَوْ كُنْتُ أعجب من شئ لَأَعْجَبَنِي * سَعْيُ الْفَتَى وَهْوَ مَخْبُوءٌ لَهُ الْقَدَرُ
__________
(1) الاعفار: جمع عفر وَهُوَ ولد الوعل (*)

(3/708)


يَسْعَى الْفَتَى لِأُمُورٍ لَيْسَ يُدْرِكُهَا * فَالنَّفْسُ وَاحِدَةٌ وَالْهَمُّ مُنْتَشِرُ وَالْمَرْءُ مَا عَاشَ مَمْدُودٌ لَهُ أَمَلٌ * لَا تَنْتَهِي الْعَيْنُ حَتَّى يَنْتَهِيَ الْأَثَرُ ثُمَّ أَوْرَدَ لَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ أَشْعَارًا كَثِيرَةً يَطُولُ ذِكْرُهَا، وَلَمْ يُؤَرِّخْ وَفَاتَهُ، وَكَذَا لَمْ يُؤَرِّخْهَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْأَثِيرِ فِي كِتَابِ الْغَابَةِ فِي مَعْرِفَةِ الصَّحَابَةِ، وَلَكِنْ حَكَى أَنَّ أَبَاهُ تُوُفِّيَ قَبْلَ الْمَبْعَثِ بِسَنَةٍ.
فَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَمِمَّا أَجَادَ فِيهِ كَعْبُ بْنُ زُهَيْرٍ قَوْلُهُ يَمْدَحُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَجْرِي بِهِ النَّاقَةُ الْأَدْمَاءُ مُعْتَجِرًا * بِالْبُرْدِ كَالْبَدْرِ جَلَّى لَيْلَةَ الظُّلَمِ فَفِي عِطَافَيْهِ أَوْ أَثَنَاءِ بُرْدَتِهِ * مَا يَعْلَمُ اللَّهُ من دين وَمن كرم

(3/709)


فَصْلٌ فِيمَا كَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ الْمَشْهُورَةِ فِي سنة ثَمَان والوفيات فَكَانَ من جُمَادَى مِنْهَا وَقْعَةُ مُؤْتَةَ، وَفِي رَمَضَانَ غَزْوَةُ فَتْحِ مَكَّةَ، وَبَعْدَهَا فِي شَوَّالٍ غَزْوَةُ هَوَازِنَ بحنين، وَبعده كَانَ حِصَارُ الطَّائِفِ، ثُمَّ كَانَتْ عُمْرَةُ الْجِعْرَانَةِ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، ثُمَّ عَادَ إِلَى الْمَدِينَةِ فِي بَقِيَّةِ السَّنَةِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ لِلَيَالٍ بَقِينَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ فِي سُفْرَتِهِ هَذِهِ.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِي هَذِهِ السَّنَةِ بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ إِلَى جَيْفَرٍ وَعَمْرٍو ابْنَيِ الْجُلَنْدِيِّ مِنَ الْأَزْدِ، وَأُخِذَتِ الْجِزْيَةُ مِنْ مَجُوسِ بَلَدِهِمَا وَمَنْ حَوْلَهَا مِنَ الْأَعْرَابِ.
قَالَ: وَفِيهَا تَزَوَّجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاطِمَةُ بِنْتَ الضِّحَاكِ بْنِ سُفْيَانَ الْكِلَابِيِّ فِي ذِي الْقعدَة، فاستعاذت مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَام فَفَارَقَهَا، وَقِيلَ بَلْ خَيَّرَهَا فَاخْتَارَتِ الدُّنْيَا فَفَارَقَهَا.
قَالَ: وَفِي ذِي الْحِجَّةِ مِنْهَا وُلِدَ إِبْرَاهِيمُ ابْنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَنْ مَارِيَةَ الْقِبْطِيَّةِ، فَاشْتَدَّتْ غَيْرَةُ أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهَا حِينَ رُزِقَتْ وَلَدًا ذَكَرًا، وَكَانَتْ قَابِلَتُهَا فِيهِ سُلْمَى مُوَلَّاةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَخَرَجَتْ إِلَى أَبِي رَافِعٍ فَأَخْبَرَتْهُ فَذَهَبَ فَبَشَّرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُ مَمْلُوكًا، وَدَفَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى أم برة بنت الْمُنْذر بن أسيد بْنِ خِدَاشِ بْنِ عَامِرِ بْنِ غَنْمِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ النَّجَّارِ وَزَوْجُهَا الْبَرَاءُ بْنُ أَوْسِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْجَعْدِ بْنِ عَوْفِ بْنِ مبذول.

(3/710)


وَكَانَتْ فِيهَا وَفَاةُ مَنْ ذَكَرْنَا مِنَ الشُّهَدَاءِ فِي هَذِهِ الْوَقَائِعِ.
وَقَدْ قَدَّمْنَا هَدْمَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتِ الْعُزَّى تُعْبَدُ فِيهِ بِنَخْلَةَ بَيْنَ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ، وَذَلِكَ لِخَمْسٍ بَقِينَ مِنْ رَمَضَانَ مِنْهَا.
قَالَ الْوَاقِدِيُّ: وَفِيهَا كَانَ هَدْمُ سُوَاعٍ الَّذِي كَانَتْ تَعْبُدُهُ هُذَيْلٌ بِرُهَاطٍ، هَدَمَهُ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَلَمْ يَجِدْ فِي خِزَانَتِهِ شَيْئًا، وَفِيهَا هُدِمَ مَنَاةُ بِالْمُشَلَّلِ، وَكَانَتِ الْأَنْصَارُ أَوَسُهَا وَخَزْرَجُهَا يُعَظِّمُونَهُ، هَدَمَهُ سَعْدُ بْنُ زَيْدٍ الْأَشْهَلِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَقَدْ ذَكَرْنَا مِنْ هَذَا فَصْلًا مُفِيدًا مَبْسُوطًا فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ النَّجْمِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى: " أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الاخرى ".
قُلْتُ: وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ بَعْدَ فَتْحِ مَكَّةَ قِصَّةَ تَخْرِيبِ خَثْعَمٍ الْبَيْتَ الَّذِي كَانَتْ تَعْبُدُهُ
وَيُسَمُّونَهُ الْكَعْبَةَ الْيَمَانِيَّةَ مُضَاهِيَةً لِلْكَعْبَةِ الَّتِي بِمَكَّةَ، ويسمون الَّتِى بِمَكَّة الْكَعْبَة الشامية وَتلك الْكَعْبَة اليمانية، فَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا يُوسُف بن مُوسَى، حَدثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى.
فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ يَدَهُ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا " قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ بَعْدُ.
قَالَ: وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا بِالْيَمَنِ لَخَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ.
قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا فِي النَّارِ وَكَسَرَهَا.
قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ الْيَمَنَ كَانَ بِهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْكَ ضَرَبَ عُنُقَكَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ يَضْرِبُ بِهَا إِذْ

(3/711)


وَقَفَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ فَقَالَ: لَتَكْسَرَنَّهَا وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ.
فَكَسَرَهَا وَشَهِدَ.
ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلًا مِنْ أحمس يكنى أَرْطَأَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ.
قَالَ: فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُ حَتَّى تركتهَا كَأَنَّهَا جمل أجرب.
قَالَ: فَبَارك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله البجلى بِنَحْوِهِ.
" وَإِلَى هُنَا ينتهى الْجُزْء الثَّالِث من السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير
وَتلك الْكَعْبَة اليمانية، فَقَالَ البُخَارِيّ: حَدثنَا يُوسُف بن مُوسَى، حَدثنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ، عَنْ جَرِيرٍ قَالَ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " أَلَا تُرِيحُنِي مِنْ ذِي الْخَلَصَةِ؟ " فَقُلْتُ: بَلَى.
فَانْطَلَقْتُ فِي خَمْسِينَ وَمِائَةِ فَارِسٍ مِنْ أَحْمَسَ، وَكَانُوا أَصْحَابَ خَيْلٍ، وَكُنْتُ لَا أَثْبُتُ عَلَى الْخَيْلِ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَضَرَبَ يَدَهُ فِي صَدْرِي حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ يَدِهِ فِي صَدْرِي وَقَالَ: " اللَّهُمَّ ثَبِّتْهُ وَاجْعَلْهُ هَادِيًا مَهْدِيًّا " قَالَ: فَمَا وَقَعْتُ عَنْ فَرَسٍ بَعْدُ.
قَالَ: وَكَانَ ذُو الْخَلَصَةِ بَيْتًا بِالْيَمَنِ لَخَثْعَمٍ وَبَجِيلَةَ فِيهِ نُصُبٌ تُعْبَدُ يُقَالُ لَهُ الْكَعْبَةُ الْيَمَانِيَّةُ.
قَالَ: فَأَتَاهَا فَحَرَّقَهَا فِي النَّارِ وَكَسَرَهَا.
قَالَ: فَلَمَّا قَدِمَ جَرِيرٌ الْيَمَنَ كَانَ بِهَا رَجُلٌ يَسْتَقْسِمُ بِالْأَزْلَامِ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَاهُنَا فَإِنْ قَدَرَ عَلَيْكَ ضَرَبَ عُنُقَكَ، قَالَ: فَبَيْنَمَا هُوَ يَضْرِبُ بِهَا إِذْ

(3/712)


وَقَفَ عَلَيْهِ جَرِيرٌ فَقَالَ: لَتَكْسَرَنَّهَا وَتَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ لَأَضْرِبَنَّ عُنُقَكَ.
فَكَسَرَهَا وَشَهِدَ.
ثُمَّ بَعَثَ جَرِيرٌ رَجُلًا مِنْ أحمس يكنى أَرْطَأَةَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُبَشِّرُهُ بِذَلِكَ.
قَالَ: فَلَمَّا أَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ مَا جِئْتُ حَتَّى تركتهَا كَأَنَّهَا جمل أجرب.
قَالَ: فَبَارك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى خَيْلِ أَحْمَسَ وَرِجَالِهَا خَمْسَ مَرَّاتٍ.
وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ مِنْ طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ الله البجلى بِنَحْوِهِ.
" وَإِلَى هُنَا ينتهى الْجُزْء الثَّالِث من السِّيرَة النَّبَوِيَّة لِابْنِ كثير ويتلوه الْجُزْء الرَّابِع وأوله ذكر غَزْوَة تَبُوك "

(3/712)