الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل الثالث في ما وَرَدَ مِنْ خِطَابِهِ إِيَّاهُ مَوْرِدَ الْمُلَاطَفَةِ وَالْمَبَرَّةِ
فمن ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» » .
قَالَ أَبُو «2» مُحَمَّدٍ مَكِّيٌّ «3» : قِيلَ: هَذَا افْتِتَاحُ كَلَامٍ بِمَنْزِلَةِ:
أَصْلَحَكَ اللَّهُ، وَأَعَزَّكَ اللَّهُ.
وَقَالَ عَوْنُ «4» بْنُ عَبْدِ اللَّهِ: أَخْبَرَهُ بِالْعَفْوِ قَبْلَ أَنْ يُخْبِرَهُ بِالذَّنْبِ.
حَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ «5» عَنْ بَعْضِهِمْ أَنَّ مَعْنَاهُ: عَافَاكَ اللَّهُ يَا سَلِيمَ الْقَلْبِ، لم أذنت لهم.
__________
(1) التوبة 43.
(2) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(3) وفي نسخة «المكي» .
(4) عون بن عبد الله: هو ابن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي الكوفي، الزاهد الفقيه، وقيل روايته عن الصحابة مرسلة، وليس بتابعي، وهو ثقة، توفي حدود الستين بعد المائة.
(5) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .

(1/79)


قَالَ «1» : وَلَوْ بَدَأَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم بقوله «لم أذنت لهم» لَخِيفَ عَلَيْهِ أَنَّ يَنْشَقَّ قَلْبُهُ مِنْ هَيْبَةِ هَذَا الْكَلَامِ. لَكِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ أَخْبَرَهُ بالعفو حتى سكن «2» قلبه.
ثم قال: «لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ» بِالتَّخَلُّفِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الصَّادِقُ فِي عُذْرِهِ مِنَ الْكَاذِبِ.
وَفِي هَذَا مِنْ عَظِيمِ مُنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ مَا لَا يَخْفَى عَلَى ذِي لُبٍّ. وَمِنْ إِكْرَامِهِ إِيَّاهُ، وَبِرِّهِ بِهِ مَا يَنْقَطِعُ دُونَ مَعْرِفَةِ غَايَتِهِ نِيَاطُ «3» الْقَلْبِ.
قَالَ نِفْطَوَيْهِ «4» : ذَهَبَ نَاسٌ إِلَى أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَاتَبٌ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَحَاشَاهُ مِنْ ذَلِكَ بَلْ كَانَ مُخَيَّرًا، فَلَمَّا أَذِنَ «5» لَهُمْ أَعْلَمَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ «6» لَوْ لَمْ يَأْذَنْ لَهُمْ لَقَعَدُوا لِنِفَاقِهِمْ، وَأَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِ فِي الْإِذْنِ لَهُمْ.
__________
(1) أي السمرقندي أو بعضهم المنقول عنه ما تقدم.
(2) وفي بعض النسخ (سكن) بتشديد الكاف.
(3) عرق من الوتين يناط القلب به من جانب الصلب.
(4) نفطويه: هو لقب لأبي عبد الله ابراهيم بن محمد بن عرفه بن سليمان بن المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي النحوي الواسطي ولد سنة 244 هـ وتوفي في صفر سنة 323 هـ.
(5) وفي نسخة «فلما أن أذن» .
(6) وفي نسخة. «أن» .

(1/80)


قال الفقيه القاضي «1» : يَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْمُجَاهِدِ نَفْسَهُ، الرَّائِضِ «2» بِزِمَامِ الشريعة خلقه، أن يتأدب بآداب الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَمُعَاطَاتِهِ وَمُحَاوَرَاتِهِ، فَهُوَ عُنْصُرُ «3» الْمَعَارِفِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَرَوْضَةُ الْآدَابِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلِيَتَأَمَّلَ هَذِهِ الْمُلَاطَفَةَ الْعَجِيبَةَ فِي السُّؤَالِ مِنْ رَبِّ الْأَرْبَابِ الْمُنْعِمِ عَلَى الْكُلِّ، الْمُسْتَغْنِي عَنِ الجميع، ويستثير «4» مَا فِيهَا مِنَ الْفَوَائِدِ، وَكَيْفَ ابْتَدَأَ بِالْإِكْرَامِ قَبْلَ الْعَتْبِ، وَآنَسَ بِالْعَفْوِ قَبْلَ ذِكْرِ الذَّنْبِ- إِنْ كَانَ ثَمَّ ذَنْبٌ-
وَقَالَ تَعَالَى: «وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا «5» » .
قال بعض المتكلمين «6» : عاتب الله الأنبياء صلوات الله عليهم بَعْدَ الزَّلَّاتِ وَعَاتَبَ نَبِيَّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ وُقُوعِهِ لِيَكُونَ بِذَلِكَ أَشَدَّ انْتِهَاءً ومحافظة لشرائط «7» المحبة. وهذه غاية العناية.
__________
(1) وفي نسخة بزيارة «وفقه الله تعالى» .
(2) الرائض: المذلى.
(3) عنصر: أساس.
(4) يستثير: يظهر.
(5) الإسراء 74.
(6) أي من جملة المفسرين.
(7) شرائط: أمارات.

(1/81)


ثُمَّ انْظُرْ كَيْفَ بَدَأَ بِثَبَاتِهِ وَسَلَامَتِهِ قَبْلَ ذِكْرِ مَا عَتَبَهُ عَلَيْهِ، وَخِيفَ أَنْ يَرْكَنَ إِلَيْهِ. فَفِي أَثْنَاءِ عَتْبِهِ بَرَاءَتُهُ، وَفِي طَيِّ تَخْوِيفِهِ تَأْمِينُهُ وَكَرَامَتُهُ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ «1» » الْآيَةَ
قَالَ عَلِيٌّ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ»
: قَالَ أَبُو جَهْلٍ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّا لَا نُكَذِّبُكَ وَلَكِنْ نُكَذِّبُ بِمَا جِئْتَ بِهِ ... فَأَنْزَلَ «4» اللَّهُ تَعَالَى «فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ» الْآيَةَ.
وَرُوِيَ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا كَذَّبَهُ «5» قَوْمُهُ حَزِنَ فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَقَالَ: مَا يُحْزِنُكَ؟! قَالَ: كَذَّبَنِي قَوْمِي. فَقَالَ: إِنَّهُمْ يَعْلَمُونَ أَنَّكَ صَادِقٌ. فَأَنْزَلَ الله تعالى الآية» «6»
__________
(1) الأنعام 33 بالتشديد للجمهور. وبالتخفيف لنافع والكسائي.
(2) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(3) كما رواه الترمذي وصححه الحاكم.
(4) وفي نسخة «فنزلت» .
(5) وفي نسخة «أكذبه» .
(6) قال الدلجيّ: وحديث جبريل هذا أورده بصيغة (روي) ولم أعرف من رواه.

(1/82)


فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ مَنْزَعٌ «1» لَطِيفُ الْمَأْخَذِ مِنْ تَسْلِيَتِهِ تَعَالَى لَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِلْطَافِهِ فِي الْقَوْلِ بِأَنْ قَرَّرَ عِنْدَهُ أَنَّهُ صَادِقٌ عِنْدَهُمْ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ مُكَذِّبِينَ لَهُ، مُعْتَرِفُونَ بِصِدْقِهِ قَوْلًا وَاعْتِقَادًا. وَقَدْ كَانُوا يُسَمُّونَهُ قَبْلَ النُّبُوَّةِ «الْأَمِينَ» .
فَدَفَعَ بِهَذَا التَّقْرِيرِ «2» ارْتِمَاضَ «3» نَفْسِهِ بِسِمَةِ الْكَذِبِ ثُمَّ جَعَلَ الذَّمَّ لَهُمْ بِتَسْمِيَتِهِمْ «جَاحِدِينَ» «ظَالِمِينَ» .
فَقَالَ تَعَالَى: «وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ» «4» وحاشاه «5» من الوصم. وطوقهم بِالْمُعَانَدَةِ بِتَكْذِيبِ الْآيَاتِ حَقِيقَةُ الظُّلْمِ.
إِذِ الْجَحْدُ إِنَّمَا يَكُونُ مِمَّنْ عَلِمَ الشَّيْءَ ثُمَّ أَنْكَرَهُ.
كَقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا» «6» ثُمَّ عَزَّاهُ وَآنَسَهُ بِمَا ذَكَرَهُ عَمَّنْ قَبْلَهُ ووعده بالنصر.
__________
(1) من نزع إلى الشيء ذهب إليه.
(2) وفي نسخه «التقدير» .
(3) أرتماض: إقلاق.
(4) الأنعام 33.
(5) حاشاه: نزهه.
(6) النمل 14.

(1/83)


بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» «1» الْآيَةَ فَمَنْ قَرَأَ «2» «لَا يُكَذِّبُونَكَ» بِالتَّخْفِيفِ. فَمَعْنَاهُ لَا يَجِدُونَكَ كَاذِبًا..
وَقَالَ الْفَرَّاءُ «3» وَالْكِسَائِيُّ «4» : لَا يَقُولُونَ إِنَّكَ كَاذِبٌ.
وَقِيلَ: لَا يَحْتَجُّونَ عَلَى كَذِبِكَ وَلَا يُثْبِتُونَهُ.
وَمَنْ قَرَأَ «5» بِالتَّشْدِيدِ. فَمَعْنَاهُ لَا يَنْسِبُونَكَ إِلَى الْكَذِبِ.
وَقِيلَ: لَا يَعْتَقِدُونَ كَذِبَكَ.
وَمِمَّا ذُكِرَ مِنْ خَصَائِصِهِ وَبِرِّ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ. أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ جَمِيعَ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم.
__________
(1) الأنعام 34.
(2) وهو نافع والكسائي.
(3) الفراء: هو الامام أبو زكريا يحيى بن زياد بن عبد الله بن منظور الأسلمي الدؤلي الكوفي، النحوي اللغوي البارع كان أبرع الكوفيين وأعلمهم بفنون الأدب، وتفسيره من أجل التفاسير، وعليه اعتماد الزمخشري توفي سنة 207 هـ بطريق مكة وعمره 63 سنة، لقب بالفراء لأنه كان فصيحا يقرر الكلام ويفصله.
(4) الكسائي: هو أبو الحسن علي بن حمزة الأسدي الكوفي، أحد القراء السبعة، إمام النحو واللغة والقراءات، عاش سبعين عاما، وقد لقبه بالكسائي شيخه حمزة لأنه كان يجيئه ملتفا بكساء، وقيل لأنه أحرم في كساء، توفي سنة 183 هـ بالري.
(5) وهم الباقون.

(1/84)


فقال: يَا آدَمُ «1» - يَا نُوحُ «2» - يَا إِبْرَاهِيمُ «3» - يَا موسى «4» - يا داوود «5» - يَا عِيسَى «6» - يَا زَكَرِيَّا «7» - يَا يَحْيَى «8» .
وَلَمْ يُخَاطِبْ هُوَ إِلَّا: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ «9» يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ «10» يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ «11» يَا أَيُّهَا المدثر «12» .
__________
(1) يا آدم أنبئهم باسمائهم. البقرة «23» .
(2) يا نوح اهبط بسلام منا. هود «48» .
(3) يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا. الصافات «104- 105» .
(4) يا موسى إنني أنا الله. طه «14» .
(5) يا داوود إنا جعلناك خليفة. ص «26» .
(6) يا عيسى إني متوفيك. آل عمران «55» .
(7) يا زكريا إنا نبشرك. مريم «7» .
(8) يا يحيى خذ الكتاب بقوة. مريم «12» .
(9) المائدة آية «67» .
(10) الأحزاب «45» .
(11) المزمل «10» .
(12) المدثر «1» .

(1/85)