الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل السّادس في ما وَرَدَ مِنْ قَوْلِهِ
تَعَالَى فِي جِهَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْرِدَ
الشَّفَقَةِ وَالْإِكْرَامِ
قَالَ تَعَالَى: «طه مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» «1» .
قِيلَ: «طه» اسْمٌ مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم «2» .
وقيل: هو اسم لله «3» .
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ يَا رَجُلُ «4» .
وَقِيلَ: يَا إِنْسَانُ.
وقيل: هى حروف مقطعة لمعان.
قال الواسطي «5» : أراد يا طاهر يا هادي.
__________
(1) «طه» 1 و 2.
(2) لحديث تقدم.
(3) قاله ابن عباس رضي الله عنهما.
(4) في لغة عك.
(5) تقدمت ترجمته في ص «91» رقم «4» .
(1/106)
وَقِيلَ: هُوَ أَمْرٌ مِنَ الْوَطْءِ،
وَالْهَاءُ كِنَايَةٌ عَنِ الْأَرْضِ أَيِ اعْتَمِدْ عَلَى الْأَرْضِ
بِقَدَمَيْكَ، ولا تتعب نفسك بالاعتماد على قدم واحدة.
وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: «مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى»
«1»
نَزَلَتِ الْآيَةُ فِيمَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَتَكَلَّفُهُ مِنَ السَّهَرِ وَالتَّعَبِ وَقِيَامِ الليل.
عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ «2» قَالَ: «كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى قَامَ عَلَى رِجْلٍ وَرَفَعَ الْأُخْرَى،
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى طه، يَعْنِي طَأِ الْأَرْضَ يَا مُحَمَّدُ:
«مَا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى» الآية «3» وَلَا خَفَاءَ
بِمَا فِي هَذَا كُلِّهِ مِنَ الْإِكْرَامِ، وَحُسْنِ الْمُعَامَلَةِ.
- وَإِنْ جَعَلْنَا «طه» مِنْ أَسْمَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ كَمَا قِيلَ أَوْ جُعِلَتْ قَسَمًا لِحَقِّ الْفَصْلِ بِمَا
قَبْلَهُ، ومثل هذا من نمط «4» الشفقة والمبرة.
__________
(1) الحديث مسند في الأصل، وحذف سنده اختصارا.
(2) الربيع بن أنس: هو أبو حاتم البكري، البصري، التابعي، صدوق لكن له
أوهام كما قاله ابن حجر، توفي سنة 139 هـ.
(3) هذا الحديث أسنده المصنف هنا من تفسير عبد بن حميد عن الربيع بن أنس
مرسلا، ورواه ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه موصولا بلفظ: لما نزل «يا
أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا» ، فقامه كله حتى
تورمت قدماه، فجعل يرفع رجلا ويضع أخرى، فهبط جبريل عليه الصلاة والسلام
فقال: طأ الأرض بقدميك ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ...
(4) النمط: النوع وأصله الجماعة من الناس أمرهم واحد.
(1/107)
قَوْلُهُ تَعَالَى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ
نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً»
«1» .
أَيْ قَاتِلٌ نَفْسَكَ لِذَلِكَ غَضَبًا، أَوْ غَيْظًا، أو جزعا.
ومثله قوله تعالى: «لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا
مُؤْمِنِينَ «2» »
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: «إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ
آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ» «3» .
وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: «فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ
وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ «4» » إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلَقَدْ
نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ «5» » إلى آخر السورة.
وقوله: «وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ «6» » الآية.
قال مكي «7» : سلّاه تعالى بما ذكر، وهوّن عليه ما يلقاه «8»
__________
(1) الكهف «6» .
(2) الشعراء «3» .
(3) الشعراء «4» .
(4) الحجر «94» .
(5) الحجر «97» .
(6) الرعد «32» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(8) وفي نسخة «ما يلقى» .
(1/108)
مِنَ الْمُشْرِكِينَ، وَأَعْلَمَهُ أَنَّ»
مَنْ تَمَادَى عَلَى ذَلِكَ يَحِلُّ بِهِ مَا حَلَّ بِمَنْ قَبْلَهُ،
وَمِثْلُ هَذِهِ التَّسْلِيَةِ، قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ
فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ» «2» وَمِنْ هَذَا، قَوْلُهُ
تَعَالَى:
«كَذلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا
ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ» «3» .
- عَزَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْأُمَمِ
السَّالِفَةِ، وَمَقَالَتِهَا «4» لِأَنْبِيَائِهِمْ قَبْلَهُ،
وَمِحْنَتِهِمْ بِهِمْ.
- وسلّاه بذلك عن مِحْنَتِهِ بِمِثْلِهِ مِنْ كُفَّارِ مَكَّةَ، وَأَنَّهُ
لَيْسَ أَوَّلُ مَنْ لَقِيَ ذَلِكَ.
- ثُمَّ طَيَّبَ نَفْسَهُ، وأبان عذره، بقوله تعالى: «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ»
«5» أي أعرض عنهم «فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» «6» أي في أداء ما بلّغت،
__________
(1) وفي نسخة «أنه» .
(2) فاطر «4» .
(3) الذاريات «52» .
(4) وفي نسخة «ومقالها» .
(5) الذاريات «54» .
(6) الذاريات «54» .
(1/109)
وَإِبْلَاغِ مَا حَمَلْتَ:
وَمِثْلُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ
بِأَعْيُنِنا» «1» أَيِ: اصْبِرْ عَلَى أَذَاهُمْ، فَإِنَّكَ بِحَيْثُ
نَرَاكَ وَنَحْفَظُكَ، سَلَّاهُ اللَّهُ تَعَالَى بِهَذَا فِي آيٍ كثيرة من
هذا المعنى..
__________
(1) الطور، 48.
(1/110)
|