الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل السّابع في ما أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ مِنْ عَظِيمِ قَدْرِهِ وَشَرِيفِ مَنْزِلَتِهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَحُظْوَةِ رُتْبَتِهِ عَلَيْهِمْ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «1» : «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ» إلى قوله «مِنَ الشَّاهِدِينَ» «2» .
قَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْقَابِسِيِّ «3» : اسْتَخَصَّ اللَّهُ تَعَالَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِفَضْلٍ لَمْ يُؤْتِهِ غَيْرَهُ، أَبَانَهُ «4» بِهِ، وَهُوَ مَا ذَكَرَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: أَخَذَ اللَّهُ الميثاق بالوحي، فلم يبعث، نبيا إلا
__________
(1) وفي بعض النسخ «قوله تعالى» .
(2) ... ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه قال أأقررتم وأخذتم على ذلكم إصري قالوا أقررنا قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين» من سورة آل عمران، رقم (18) .
(3) تقدمت ترجمته في ص (76) رقم (2) .
(4) أي أظهر ذلك الفضل له أو فضله وميزه به عن غيره.

(1/111)


ذَكَرَ لَهُ مُحَمَّدًا وَنَعَتَهُ، وَأَخَذَ عَلَيْهِ مِيثَاقَهُ إِنْ أَدْرَكَهُ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ.
وَقِيلَ: أَنْ يُبَيِّنَهُ لِقَوْمِهِ، وَيَأْخُذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يُبَيِّنُوهُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: «ثُمَّ جاءَكُمْ» ، الْخِطَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابِ الْمُعَاصِرِينَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ «1» عَلِيُّ بْنُ «2» أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا مِنْ آدَمَ فَمَنْ بَعْدَهُ، إِلَّا أَخَذَ عَلَيْهِ الْعَهْدَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَئِنْ بُعِثَ وَهُوَ حَيٌّ لِيُؤْمِنَنَّ بِهِ، وَلِيَنْصُرَنَّهُ، وَيَأْخُذَ الْعَهْدَ بِذَلِكَ عَلَى قومه.
وعن السدّيّ «3» وقتادة «4» : نحوه فِي آيٍ تَضَمَّنَتْ فَضْلَهُ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ واحد.
قال تَعَالَى: «وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ» «5» الآية.
__________
(1) كما رواه ابن جرير وابن كثير بإسناد صحيح والبغوي بعبارات مختلفة محتملة للنقل بالمعنى أو تعدد القول المروي عن علي رضي الله تعالى عنه.
(2) تقدمت ترجمته في ص (54) رقم (4) .
(3) السدي: بضم السين وتشديد الدال، وهو اسماعيل بن عبد الرحمن بن أبي كريمة، المحدث المشهور واختلف فيه، فقيل: ثقة وقيل: كذاب لا يحتج به، وقال الشمني: إنه كوفي تابع مفسر صدوق إلا أنه متهم بالتشيع، وثقه ابن حبان، وضعفه أبو حاتم، مات سنة سبع وعشرين ومائة، ونسبته إلى السد موضع بالمدينة.
(4) تقدمت ترجمته في ص (62) رقم (3) .
(5) الأحزاب (7) .

(1/112)


وَقَالَ تَعَالَى: «إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ ... » «1»
إلى قوله «شهيدا» «2» .
روي «3» عن عمر بن الخطاب «4» أَنَّهُ قَالَ فِي كَلَامٍ بَكَى «5» بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَ اللَّهِ. أَنْ بَعَثَكَ آخِرَ الْأَنْبِيَاءِ، وذكرك في أو لهم، فَقَالَ:
«وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ» «6» الآية.
__________
(1) النساء (162) .
(2) وفي نسخة (وكيلا) والأول هو الصحيح.
(3) وهو بعض خبر ذكره الرشاطي كله في اقتباس الأنوار.
(4) عمر بن الخطاب هو أمير المؤمنين، كناه المصطفى عليه الصلاة والسلام (بأبي حفص) ، وسماه رسول الله صلّى الله عليه وسلم (بالفاروق) يوم أسلم في دار الأرقم، ولد رضي الله تعالى عنه في السنة الثالثة عشرة من ميلاد رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمكة، وكان يرعى الغنم لأبيه، ولما كبر اشتغل بالتجارة، كان مسموع الكلمة في قومه، مشهورا بالشدة وعزة الجانب، وأسلم بدعاء النبي عليه الصلاة والسلام في ذي الحجة لمضي ست سنين من البعثة، وكان له من العمر ست وعشرون سنة، فكان أشد الناس دفاعا عن الاسلام، بعد أن كان من أكبر المعارضين له، لما مات أبو بكر ولي الخلافة بعده بعهد منه، وكان ذلك سنة ثلاث عشرة من الهجرة، فقام بأمورها ووطد دعائم الاسلام، توفي شهيدا بيد (أبي لؤلؤة عبد المغيرة بن شعبه) . أواخر ذي الحجة سنة 23 من الهجرة وعمره 63 سنة، ومدة خلافته 10 سنين وسته أشهر
(5) أي رثى.
(6) النساء (162)

(1/113)


- بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، لَقَدْ بَلَغَ مِنْ فَضِيلَتِكَ عِنْدَهُ، أَنَّ أَهْلَ النَّارِ يَوَدُّونَ أَنْ يَكُونُوا أَطَاعُوكَ، وَهُمْ بَيْنَ أَطْبَاقِهَا يعذبون، يقولون: «يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا» «1» .
قَالَ «2» قَتَادَةُ «3» : إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «كُنْتُ أَوَّلَ الْأَنْبِيَاءِ فِي الْخَلْقِ وَآخِرَهُمْ فِي الْبَعْثِ» ، فَلِذَلِكَ وَقَعَ ذِكْرُهُ مُقَدَّمًا هُنَا قَبْلَ نُوحٍ وَغَيْرِهِ.
قَالَ السَّمَرْقَنْدِيُّ «4» : فِي هَذَا تَفْضِيلُ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لتخصيصه بالذكر قبلهم، وهو آخرهم بعثا «5» .
الْمَعْنَى: أَخَذَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِمُ الْمِيثَاقَ إِذْ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ كَالذَّرِّ «6» .
وَقَالَ تَعَالَى: «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ» .. الآية.
__________
(1) الأحزاب (66) .
(2) كما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره، وابن لال في مكارم الاخلاق، وأبو نعيم في دلائله عنه مرسلا.
(3) تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «3» .
(4) تقدمت ترجمته في ص (51) رقم (2) .
(5) وفي نسخة بحذف كلمة (بعثا) .
(6) الذر- صغار النمل.

(1/114)


قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: أَرَادَ بِقَوْلِهِ «وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ «1» »
مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِأَنَّهُ بُعِثَ إِلَى الْأَحْمَرِ «2» وَالْأَسْوَدِ «3» ، وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ، وَظَهَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ الْمُعْجِزَاتُ، وَلَيْسَ أَحَدٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أُعْطِيَ فَضِيلَةً، أَوْ كَرَامَةً إِلَّا وَقَدْ أُعْطِيَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَهَا.
قَالَ بَعْضُهُمْ: وَمِنْ فَضْلِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَاطَبَ الْأَنْبِيَاءَ بِأَسْمَائِهِمْ وَخَاطَبَهُ بِالنُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فِي كتابه، فقال: «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ» «4» و «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ» » .
وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ «6» عَنِ الْكَلْبِيِّ «7» فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ» «8» ، إِنَّ الْهَاءَ عَائِدَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ... أَيْ:
إِنَّ مِنْ شِيعَةِ مُحَمَّدٍ لإبراهيم، أي على دينه ومنهاجه.
__________
(1) البقرة (252) .
(2) الأحمر- العجم لغلبة البياض والحمرة عليهم.
(3) الأسود- لغلبة الأدمة والسمرة عليهم. وقيل: الأحمر والأسود الإنس والجن.
(4) التوبة «72» .
(5) المائدة «67» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .
(7) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «7» .
(8) الصافات (83) .

(1/115)


وَأَجَازَهُ «1» الْفَرَّاءُ «2» ، وَحَكَاهُ عَنْهُ مَكِّيٌّ «3» .
وَقِيلَ «4» : الْمُرَادُ نوح عليه السلام.
__________
(1) ويروى (اختاره) .
(2) تقدمت ترجمته في ص «84» رقم «3» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «7» .
(4) وهو قول أكثر المفسرين كما هو الظاهر المتبادر حيث تقدم مرجعه.

(1/116)