الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل التاسع في ما تَضَمَّنَتْهُ سُورَةُ
الْفَتْحِ مِنْ كَرَامَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً» «1»
إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» «2» .
تَضَمَّنَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ فَضْلِهِ، وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ،
وَكَرِيمِ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، وَنِعْمَتِهِ لَدَيْهِ،
ما يقصد الْوَصْفُ عَنْ الِانْتِهَاءِ إِلَيْهِ.
- فَابْتَدَأَ جَلَّ جَلَالُهُ بِإِعْلَامِهِ بِمَا قَضَاهُ لَهُ مِنَ
الْقَضَاءِ الْبَيِّنِ، بِظُهُورِهِ وَغَلَبَتِهِ عَلَى عَدُوِّهِ،
وَعُلُوِّ كَلِمَتِهِ وَشَرِيعَتِهِ، وَأَنَّهُ مَغْفُورٌ لَهُ، غَيْرُ
مُؤَاخَذٍ بِمَا كَانَ، وَمَا يَكُونُ.
قَالَ بَعْضُهُمْ: أَرَادَ غُفْرَانَ مَا وَقَعَ، وَمَا لَمْ يَقَعْ.. أَيْ
أَنَّكَ مَغْفُورٌ لك..
__________
(1) سورة الفتح رقم (1- 10) .
(2) سورة الفتح رقم (1- 10) .
(1/122)
وَقَالَ مَكِّيٌّ»
: جَعَلَ اللَّهُ الْمِنَّةَ سَبَبًا لِلْمَغْفِرَةِ، وَكُلٌّ مِنْ
عِنْدِهِ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مِنَّةً بَعْدَ مِنَّةٍ، وَفَضْلًا بَعْدَ
فَضْلٍ..
ثُمَّ قَالَ تعالى: «وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ» «2» .
قِيلَ: بِخُضُوعِ مَنْ تَكَبَّرَ لك «3» .
وَقِيلَ: بِفَتْحِ مَكَّةَ وَالطَّائِفِ.
وَقِيلَ: يَرْفَعُ ذِكْرَكَ فِي الدُّنْيَا، وَيَنْصُرُكَ، وَيَغْفِرُ
لَكَ، فَأَعْلَمَهُ بِتَمَامِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ، بِخُضُوعِ مُتَكَبِّرِي
عَدُوِّهِ لَهُ، وَفَتْحِ أَهَمِّ «4» الْبِلَادِ عَلَيْهِ، وَأَحَبِّهَا
لَهُ. وَرَفْعِ ذِكْرِهِ، وَهِدَايَتِهِ الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ،
الْمُبَلِّغَ الْجَنَّةَ وَالسَّعَادَةَ، وَنَصْرِهِ النَّصْرَ الْعَزِيزَ،
وَمِنَّتِهِ عَلَى أُمَّتِهِ الْمُؤْمِنِينَ بِالسَّكِينَةِ
وَالطُّمَأْنِينَةِ، الَّتِي جَعَلَهَا فِي قُلُوبِهِمْ، وَبِشَارَتِهِمْ
بِمَا لَهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ «5» بَعْدُ، وَفَوْزِهِمُ الْعَظِيمِ،
وَالْعَفْوِ عنهم، والستر
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (67) رقم (7) .
(2) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ
وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً» الفتح
(2) .
(3) وفي نسخة (عليك) .
(4) وفي نسخة (أسنى) البلاد.
(5) وفي نسخة بحذف كلمتي (عند ربهم) .
(1/123)
لِذُنُوبِهِمْ، وَهَلَاكِ عَدُوِّهِ فِي
الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَلَعْنِهِمْ وَبُعْدِهِمْ مِنْ رَحْمَتِهِ،
وَسُوءِ مُنْقَلَبِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ: «إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً»
الآية. فعدّ محاسنه وخصائصه، من شهادته على أمته لنفسه بتبليغه الرسالة
لهم.
وقيل: شَاهِدًا لَهُمْ بِالتَّوْحِيدِ.
«وَمُبَشِّرًا» لِأُمَّتِهِ بِالثَّوَابِ.
وَقِيلَ: بالمغفرة.
«ونذيرا» منذرا عدوه بالعذاب.
وقيل: محذرا من الضلالات، ليؤمن بالله، ثم به، مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنَ
اللَّهِ الْحُسْنَى.
«وَيُعَزِّرُوهُ» «1» أي يجلّونه.
وَقِيلَ: يَنْصُرُونَهُ.
وَقِيلَ: يُبَالِغُونَ فِي تَعْظِيمِهِ.
«وَيُوَقِّرُوهُ» «2» أي يعظمونه.
__________
(1) من قوله تعالى: «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» الفتح رقم (9) .
(2) من قوله تعالى: «لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ
وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» الفتح رقم (9) .
(1/124)
وقرأه بعضهم «1» «ويعززوه» «2» بزائين مِنَ
الْعِزِّ.
وَالْأَكْثَرُ وَالْأَظْهَرُ أَنَّ هَذَا فِي حَقِّ مُحَمَّدٍ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ثُمَّ قال «وتسبّحوه» فَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ ابْنُ عَطَاءٍ «3» : جُمِعَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي هَذِهِ السُّورَةِ نِعَمٌ مُخْتَلِفَةٌ:
- مِنَ الْفَتْحِ الْمُبِينِ: وَهُوَ مِنْ أَعْلَامِ «4» الْإِجَابَةِ.
- وَالْمَغْفِرَةِ: وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الْمَحَبَّةِ.
- وَتَمَامِ النِّعْمَةِ: وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الِاخْتِصَاصِ.
- وَالْهِدَايَةِ: وَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الْوِلَايَةِ.
فَالْمَغْفِرَةُ تَبْرِئَةٌ «5» مِنَ الْعُيُوبِ.
وَتَمَامُ النِّعْمَةِ إِبْلَاغُ الدَّرَجَةِ الْكَامِلَةِ.
وَالْهِدَايَةُ وَهِيَ الدَّعْوَةُ إِلَى الْمُشَاهَدَةِ.
وَقَالَ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ «6» : مِنْ تَمَامِ نِعْمَتِهِ عليه أن
جعله حبيبه،
__________
(1) أي من قراء الشواذ. وقد نسب الى ابن عباس رضي الله عنهما ... وقراءة
الجمهور (يعزروه) .
(2) الفتح (9) .
(3) تقدمت ترجمته في ص «63» رقم «6» .
(4) أعلام: علامات.
(5) وفي نسخة (تنزيه) .
(6) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6» .
(1/125)
وَأَقْسَمَ بِحَيَاتِهِ، وَنَسَخَ بِهِ
شَرَائِعَ غَيْرِهِ، وَعَرَّجَ بِهِ إِلَى الْمَحَلِّ الْأَعْلَى،
وَحَفِظَهُ فِي الْمِعْرَاجِ حَتَّى مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى،
وَبَعَثَهُ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَأَحَلَّ لَهُ وَلِأُمَّتِهِ
الْغَنَائِمَ، وَجَعَلَهُ شَفِيعًا مُشَفَّعًا وَسَيِّدَ وَلَدِ آدَمَ،
وَقَرَنَ ذِكْرَهُ بِذِكْرِهِ وَرِضَاهُ بِرِضَاهُ، وَجَعَلَهُ أَحَدَ
رُكْنَيِ التوحيد.
ثم قال تعالى: «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ
اللَّهَ» «1» يَعْنِي بَيْعَةَ الرِّضْوَانِ «2» .
أَيْ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ ببيعتهم إياك.
«يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» يريد عند البيعة.
قيل: قوة الله.
__________
(1) « ... يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما
يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ
فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً» الفتح رقم (10) .
(2) بيعة الرضوان كانت بالحديبية، وسميت بها لقوله تَعَالَى: «لَقَدْ
رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ
الشَّجَرَةِ» ، وهي شجرة سمرة وعضاه، وقعت تحتها البيعة وبقيت إلى زمن عمر
رضي الله تعالى، وكانوا ألفا وأربعمائة أو خمسمائة، والمبايعة كانت على أن
لا يفروا، أو على الموت، ولا مخالفة بينهما، ولم يتخلف منهم عن البيعة غير
الجد بن قيس وعثمان رضي الله تعالى عنه لأن النبي صلّى الله عليه وسلم كان
بعثه لقريش ليخبرهم أنهم لم يقدموا لحرب، وإنما جاؤوا زوارا للبيت، فبايع
النبي صلّى الله عليه وسلم عنه وقال: «هذه يد عثمان» وكان وقع الإرجاف
بقتله» .
(1/126)
وَقِيلَ: ثَوَابُهُ.
وَقِيلَ: مِنَّتُهُ.
وَقِيلَ: عَقْدُهُ «1» .
وَهَذِهِ استعارات وَتَجْنِيسٌ «2» فِي الْكَلَامِ. وَتَأْكِيدٌ لِعَقْدِ
بَيْعَتِهِمْ إِيَّاهُ، وَعِظَمِ شَأْنِ الْمُبَايِعِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ يَكُونُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى: «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ
وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ، وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ
اللَّهَ رَمى» «3» .
وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ «4» فِي بَابِ الْمَجَازِ، وَهَذَا «5» فِي بَابِ
الْحَقِيقَةِ.
لِأَنَّ الْقَاتِلَ وَالرَّامِيَ بِالْحَقِيقَةِ هُوَ اللَّهُ، وَهُوَ
خَالِقُ فِعْلِهِ، وَرَمْيِهِ، وَقُدْرَتِهِ عليه، ومشيئته «6» ،
وَلِأَنَّهُ لَيْسَ فِي قُدْرَةِ الْبَشَرِ تَوْصِيلُ تِلْكَ الرَّمْيَةِ
حَيْثُ وَصَلَتْ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُمْ من لم تملأ عينه، وكذلك قتل
الملائكة لهم حقيقة.
__________
(1) وفي نسخة (عفوه) وهو تصحيف.
(2) تجنيس: المقصود هنا: تفنن في الكلام ولم يرد به الجناس الصناعى وهو
اتفاق اللفظ واختلاف المعنى.
(3) « ... وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ
اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» الأنفال «17» .
(4) يعني «إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ» .
(5) أي «فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ»
(6) وفي نسخة «ومسببه» وهو الأحسن لأن الأولى ليس لها سبب ظاهر.
(1/127)
وقد قيل في هذه الآية الْأُخْرَى «1» :
إِنَّهَا عَلَى الْمَجَازِ الْعَرَبِيِّ «2» ، وَمُقَابَلَةِ اللَّفْظِ
وَمُنَاسَبَتِهِ.
أَيْ مَا قَتَلْتُمُوهُمْ، وَمَا رَمَيْتَهُمْ أَنْتَ إِذْ رَمَيْتَ
وُجُوهَهُمْ بِالْحَصْبَاءِ، وَالتُّرَابِ، وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى
قُلُوبَهُمْ بِالْجَزَعِ، أَيْ: أَنَّ مَنْفَعَةَ الرَّمْيِ كَانَتْ مِنْ
فِعْلِ اللَّهِ، فَهُوَ الْقَاتِلُ، وَالرَّامِي، بالمعنى، وأنت بالاسم.
__________
(1) أي الاخيرة. وهي قوله تعالى «فلم تقتلوهم» .
(2) أي اللغوي.
(1/128)
|