الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ التَّاسِعُ مَا يَتَعَلَّقُ
بِالْمَالِ وَالْمَتَاعِ
وَأَمَّا الضَّرْبُ الثَّالِثُ، فَهُوَ مَا تَخْتَلِفُ الْحَالَاتُ فِي
التَّمَدُّحِ بِهِ، وَالتَّفَاخُرِ بِسَبَبِهِ، وَالتَّفْضِيلِ لِأَجْلِهِ،
كَكَثْرَةِ الْمَالِ.
- فَصَاحِبُهُ عَلَى الْجُمْلَةِ مُعَظَّمٌ عِنْدَ الْعَامَّةِ
لِاعْتِقَادِهَا تَوَصُّلَهُ بِهِ إِلَى حَاجَاتِهِ، وَتَمَكُّنِ
أَغْرَاضِهِ بِسَبَبِهِ، وَإِلَّا فَلَيْسَ فَضِيلَةٌ فِي نَفْسِهِ.
- فَمَتَى كَانَ الْمَالُ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، وَصَاحِبُهُ مُنْفِقًا لَهُ
في مهماته، ومهمات مَنِ اعْتَرَاهُ وَأَمَّلَهُ، وَتَصْرِيفِهِ فِي
مَوَاضِعِهِ، مُشْتَرِيًا به المعالي والثناء الحسن، والمنزلة من
الْقُلُوبِ، كَانَ فَضِيلَةً فِي صَاحِبِهِ عِنْدَ أَهْلِ الدُّنْيَا.
- وَإِذَا صَرَفَهُ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ، وَأَنْفَقَهُ في سبل الْخَيْرِ،
وَقَصَدَ بِذَلِكَ اللَّهَ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ كَانَ فَضِيلَةً عِنْدَ
الْكُلِّ بِكُلِّ حَالٍ.
(1/201)
- وَمَتَى كَانَ صَاحِبُهُ مُمْسِكًا لَهُ،
غَيْرَ مُوَجِّهِهِ وجوهه، حريصا على جمعه، عادت كثرته كَالْعَدَمِ وَكَانَ
مَنْقَصَةً فِي صَاحِبِهِ، وَلَمْ يَقِفْ بِهِ عَلَى جُدَدِ «1»
السَّلَامَةِ، بَلْ أَوْقَعَهُ فِي هُوَّةِ «2» رَذِيلَةِ الْبُخْلِ،
وَمَذَمَّةِ النَّذَالَةِ.
- فَإِذَا التَّمَدُّحُ بِالْمَالِ وَفَضِيلَتُهُ عِنْدَ مُفَضِّلِهِ
لَيْسَتْ لِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا هو للتوصل به إلى غيره، وتعريفه فِي
مُتَصَرَّفَاتِهِ ...
- فَجَامِعُهُ إِذَا لَمْ يَضَعْهُ مَوَاضِعَهُ، وَلَا وَجَّهَهُ وُجُوهَهُ
غَيْرَ مَلِيءٍ «3» بِالْحَقِيقَةِ، وَلَا غَنِيٍّ بِالْمَعْنَى وَلَا
مُمْتَدَحٍ عِنْدَ أَحَدٍ مِنَ العقلاء، بل هو فقير أبدا، وغير وَاصِلٍ
إِلَى غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ، إِذْ مَا بِيَدِهِ مِنَ الْمَالِ
الْمُوصِلِ لَهَا لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ، فَأَشْبَهَ خَازِنَ مَالِ
غَيْرِهِ، وَلَا مَالَ له، فكأنه لَيْسَ فِي يَدِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
- وَالْمُنْفِقُ مَلِيءٌ غَنِيٌّ بِتَحْصِيلِهِ فَوَائِدَ الْمَالِ، وَإِنْ
لَمْ يَبْقَ فِي يَدِهِ مِنَ الْمَالِ شَيْءٌ.
- فَانْظُرْ سِيرَةَ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَخُلُقَهُ فِي المال، تجده قد أوتي خزائن
__________
(1) جدد السلامة: طرائق السلامة.
(2) هوة: أي هاوية وهي ما بين الجبلين.
(3) مليء: ثقة مضطلع.
(1/202)
الْأَرْضِ، وَمَفَاتِيحَ الْبِلَادِ،
وَأُحِلَّتْ لَهُ الْغَنَائِمُ، وَلَمْ تَحِلَّ لِنَبِيٍّ قَبْلَهُ،
وَفُتِحَ عَلَيْهِ فِي حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِلَادُ الْحِجَازِ وَالْيَمَنِ وَجَمِيعُ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَمَا
دَانَى ذَلِكَ مِنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، وَجُلِبَتْ إِلَيْهِ مِنْ
أَخْمَاسِهَا، وَجِزْيَتِهَا، وَصَدَقَاتِهَا مَا لَا يُجْبَى لِلْمُلُوكِ
إِلَّا بَعْضُهُ، وَهَادَتْهُ «1» جَمَاعَةٌ مِنْ مُلُوكِ الْأَقَالِيمِ،
فَمَا اسْتَأْثَرَ بِشَيْءٍ مِنْهُ وَلَا أَمْسَكَ مِنْهُ دِرْهَمًا، بَلْ
صَرَفَهُ مَصَارِفَهُ وَأَغْنَى بِهِ غَيْرَهُ، وَقَوَّى بِهِ
الْمُسْلِمِينَ.
وَقَالَ «2» : «مَا يَسُرُّنِي أَنَّ لِي أُحُدًا ذهبا يبيت عندي منه
دينار، إلا دينار أَرْصُدُهُ لِدَيْنٍ «3» » وَأَتَتْهُ دَنَانِيرُ مَرَّةً
فَقَسَّمَهَا، وَبَقِيَتْ منها سِتَّةٌ، فَدَفَعَهَا لِبَعْضِ نِسَائِهِ
فَلَمْ يَأْخُذْهُ نَوْمٌ حَتَّى قَامَ وَقَسَّمَهَا، وَقَالَ: «الْآنَ
اسْتَرَحْتُ «4» » وَمَاتَ، ودرعه مرهونة في نفقة عياله «5» .
__________
(1) هادته: أرسلت له الهدايا.
(2) كما رواه الشيخان عنه.
(3) وفي نسخة (لديني) .
(4) رواه ابن سعد عن عائشة رضي الله عنها.
(5) أي عند يهودي هو أبو الشحم في نفقة عياله، أي إلى سنة في ثلاثين صاعا
من شعير على ما في البخاري والترمذي والنسائي.. وفي البزار أربعين. وفي
مصنف عبد الرزاق وسق شعير وهو ستون صاعا ...
(1/203)
واقتصر من ملبسه ومسكنه، على ما تدعوه
ضَرُورَتُهُ إِلَيْهِ، وَزَهِدَ فِيمَا سِوَاهُ، فَكَانَ يَلْبَسُ مَا
وَجَدَهُ. فَيَلْبَسُ فِي الْغَالِبِ الشَّمْلَةَ «1» وَالْكِسَاءَ
الْخَشِنَ، وَالْبُرْدَ الْغَلِيظَ، وَيَقْسِمُ عَلَى مَنْ حَضَرَهُ
أَقْبِيَةَ الدِّيبَاجِ «2» الْمُخَوَّصَةِ «3» بِالذَّهَبِ، وَيَرْفَعُ
لِمَنْ لَمْ يحضر.
- إِذِ الْمُبَاهَاةُ فِي الْمَلَابِسِ وَالتَّزَيُّنُ بِهَا، لَيْسَتْ
مِنْ خِصَالِ الشَّرَفِ وَالْجَلَالَةِ، وَهِيَ مِنْ سِمَاتِ النِّسَاءِ.
- وَالْمَحْمُودُ مِنْهَا نَقَاوَةُ الثَّوْبِ، وَالتَّوَسُّطُ فِي
جِنْسِهِ، وَكَوْنُهُ لُبْسَ مِثْلِهِ، غَيْرَ مُسْقِطٍ لِمُرُوءَةِ
جِنْسِهِ، مِمَّا لَا يُؤَدِّي إِلَى الشُّهْرَةِ فِي الطَّرَفَيْنِ.
- وَقَدْ ذَمَّ الشَّرْعُ ذَلِكَ، وَغَايَةُ الْفَخْرِ فِيهِ فِي
الْعَادَةِ عِنْدَ النَّاسِ إِنَّمَا يَعُودُ إِلَى الْفَخْرِ بِكَثْرَةِ
الْمَوْجُودِ، وَوُفُورِ الْحَالِ.
- وَكَذَلِكَ التَّبَاهِي بِجَوْدَةِ الْمَسْكَنِ، وَسِعَةِ الْمَنْزِلِ،
وَتَكْثِيرِ آلَاتِهِ، وخدمه، ومركوباته، ومن ملك الأرض، وجي إليه ما فيها،
وترك ذلك زهدا وتنزها، فهو حائز لفضيلة المالية،
__________
(1) الشملة: كساء يشتمل به بأن يديره على جسده كله لا يخرج منه يده.
(2) بكسر الدال فارسي معرب جمعه ديابيج وهو الثوب المزين.
(3) المخوصة: المنسوجة.
(1/204)
وَمَالِكٌ لِلْفَخْرِ بِهَذِهِ
الْخَصْلَةِ- إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةً- زائد عليها في الفخر ومعرق فِي
الْمَدْحِ بِإِضْرَابِهِ عَنْهَا، وَزُهْدِهِ فِي فَانِيهَا وَبَذْلِهَا
فِي مَظَانِّهَا ...
(1/205)
|