الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الثَّانِي كَرَامَةُ
الْإِسْرَاءِ
فِي تَفْضِيلِهِ بِمَا تَضَمَّنَتْهُ كَرَامَةُ الْإِسْرَاءِ مِنَ
الْمُنَاجَاةِ وَالرُّؤْيَةِ، وَإِمَامَةِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْعُرُوجِ
بِهِ إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَمَا رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ
الْكُبْرَى.
وَمِنْ خَصَائِصِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِصَّةُ
الْإِسْرَاءِ، وَمَا انْطَوَتْ عَلَيْهِ مِنْ دَرَجَاتِ الرِّفْعَةِ مِمَّا
نَبَّهَ عَلَيْهِ الْكِتَابُ الْعَزِيزُ، وَشَرَحَتْهُ صِحَاحُ
الْأَخْبَارِ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى «سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ
الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «1» » الآية.
وقال تعالى «وَالنَّجْمِ إِذا هَوى «2» » إلى قوله «لَقَدْ رَأى
__________
(1) «إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ
مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ» سورة الاسراء 1.
(2) سورة النجم 1.
(1/343)
مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «1» » .
فَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْمُسْلِمِينَ فِي صِحَّةِ الْإِسْرَاءِ بِهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ هُوَ نَصُّ الْقُرْآنِ، وَجَاءَتْ
بِتَفْصِيلِهِ وَشَرْحِ عَجَائِبِهِ وَخَوَاصِّ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ
مُنْتَشِرَةٌ ... رَأَيْنَا أَنْ نُقَدِّمَ أَكْمَلَهَا ونشير زيادة من
غيره يجب ذكرها.
عَنْ أَنَسِ «2» بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم قَالَ «3» «أُتِيتُ بِالْبُرَاقِ، وَهُوَ دَابَّةٌ أَبْيَضُ
طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ، يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ
مُنْتَهَى طَرَفِهِ، قَالَ: «فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ
الْمَقْدِسِ فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبُطُ بِهَا
الْأَنْبِيَاءُ، ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ
رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ خَرَجْتُ فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ
وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ، فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ.» .
فَقَالَ جِبْرِيلُ: «اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى
السَّمَاءِ، فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ، فَقِيلَ مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ:
جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ
إليه؟ قال: قد بعث إليه..
__________
(1) سورة النجم 17.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) رواه مسلم.
(1/344)
فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِآدَمَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ
ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ، فَاسْتَفْتَحَ
جِبْرِيلُ فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ جِبْرِيلُ، قِيلَ وَمَنْ مَعَكَ؟
قَالَ: مُحَمَّدٌ. قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إليه: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ
فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بابني الخالة عيسى بن مَرْيَمَ وَيَحْيَى
بْنِ زَكَرِيَّا، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِمَا. فَرَحَّبَا بِي وَدَعَوَا
لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ. -
وَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَإِذَا أَنَا بِإِدْرِيسَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي
بِخَيْرٍ.
قال الله تعالى «وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «1» » ثُمَّ عُرِجَ بِنَا
إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ- فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَإِذَا أَنَا
بِهَارُونَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى
السَّمَاءِ السَّادِسَةِ- فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَإِذَا أَنَا بِمُوسَى
فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عُرِجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ
السَّابِعَةِ- فَذَكَرَ مِثْلَهُ- فَإِذَا أَنَا بِإِبْرَاهِيمَ مُسْنِدًا
ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ
يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ، لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ. ثُمَّ ذَهَبَ
بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى، وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ
«2» ، وَإِذَا ثمرها كالقلال «3» ..
__________
(1) سورة مريم 56.
(2) الفيلة: بكسر الفاء وفتح المثناة التحتية جمع فيل.
(3) القلال: جمع قيلة وهي الجرة وشبهها بها لمد ظلها ولطف ورقها وطيب
ثمرها.
(1/345)
قَالَ: فَلَمَّا غَشِيَهَا مِنْ أَمْرِ
اللَّهِ مَا غَشِيَ تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ
يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ
مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ
وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى فَقَالَ:
مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خمسين صلاة قال: إرجع إلى ربك
فاسأل التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ، فَإِنِّي
قَدْ بَلَوْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ.. قَالَ: فَرَجَعْتُ
إِلَى رَبِّي فَقُلْتُ: يَا رَبِّ خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي فَحَطَّ عَنِّي
خَمْسًا. فَرَجَعْتُ إِلَى مُوسَى فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ
إِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ
فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ.. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي
تَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى حَتَّى قَالَ يَا مُحَمَّدُ إنّهن خَمْسُ
صَلَوَاتٍ كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، لِكُلِّ صَلَاةٍ عشرة، فَتِلْكَ
خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ
لَهُ حَسَنَةٌ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ هَمَّ
بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا، فَإِنْ عَمِلَهَا
كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً.. قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ
إِلَى مُوسَى فَأَخْبَرْتُهُ فَقَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ
التَّخْفِيفَ، فقال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ: قَدْ
رَجَعْتُ إلى ربي حتى استحيت منه.
(1/346)
قال القاضي: جَوَّدَ ثَابِتٌ «1» رَحِمَهُ
اللَّهُ هَذَا الْحَدِيثَ عَنْ أَنَسٍ «2» مَا شَاءَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ
عَنْهُ بِأَصْوَبَ مِنْ هَذَا. وَقَدْ خَلَطَ فِيهِ غَيْرُهُ عَنْ أَنَسٍ
تَخْلِيطًا كَثِيرًا لَا سِيَّمَا مِنْ رِوَايَةِ شَرِيكِ «3» بْنِ أَبِي
نَمِرٍ.
فَقَدْ ذَكَرَ فِي أَوَّلِهِ مَجِيءَ الْمَلَكِ لَهُ، وَشَقَّ بَطْنِهِ
وَغَسْلَهُ بِمَاءِ زَمْزَمَ، وَهَذَا إِنَّمَا كَانَ وَهُوَ صَبِيٌّ
وَقَبْلَ الْوَحْيِ، وَقَدْ قَالَ شَرِيكٌ فِي حَدِيثِهِ وَذَلِكَ قَبْلَ
أَنْ يُوحَى إِلَيْهِ وَذِكْرُ قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ، وَلَا خِلَافَ
أَنَّهَا كَانَتْ بَعْدَ الْوَحْيِ.
وَقَدْ قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ إِنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ الْهِجْرَةِ
بِسَنَةٍ.
وَقِيلَ: قَبْلَ هَذَا.
وَقَدْ رَوَى ثَابِتٌ «4» عَنْ أَنَسٍ «5» مِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ «6»
بْنِ سَلَمَةَ أَيْضًا «7» مَجِيءَ جِبْرِيلَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَلْعَبُ مَعَ الغلمان عند ظئره «8»
__________
(1) وهو أحد رجال سند هذا الحديث وهو ثابت البناني نسبة لحي من العرب يقال
لهم بنانة وهو ثقة ثابت كاسمه أخرج له أصحاب الكتب الستة، رأس العلماء
العابدين في عصره توفي سنة 127 هـ.
(2) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(3) تابعي صدوق ثقة وهو القاضي المدني توفي سنة 140 هـ.
(4) وهو أحد رجال سند هذا الحديث وهو ثابت البناني نسبة لحي من العرب يقال
لهم بنانة وهو ثقة ثابت كاسمه أخرج له أصحاب الكتب الستة، رأس العلماء
العابدين في عصره توفي سنة 127 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «2» .
(7) رواه البخاري.
(8) ظئرة: مرضعته حليمة.
(1/347)
وَشَقَّهُ قَلْبَهُ تِلْكَ الْقِصَّةَ
مُفْرَدَةً مِنْ حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ كَمَا رَوَاهُ النَّاسُ، فَجَوَّدَ
فِي الْقِصَّتَيْنِ، وَفِي أَنَّ الْإِسْرَاءَ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ
وَإِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى كَانَ قِصَّةً وَاحِدَةً، وَأَنَّهُ وَصَلَ
إلى بيت المقدس، ثم عرج من هناك فأزاح كل إشكال أو همه غَيْرُهُ.
وَقَدْ رَوَى يُونُسُ «1» عَنِ ابْنِ شِهَابٍ «2» عن أنس قال: كان أبوذر
«3» يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال «4»
«فرج سقف بيتي فَنَزَلَ جِبْرِيلُ فَفَرَجَ صَدْرِي، ثُمَّ غَسَلَهُ مِنْ
زمزم، ثم جاء بطست من ذهب ممتليء حكمة وإيمانا فأفرغها في صَدْرِي ثُمَّ
أُطَبَقَهُ، ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِي فَعَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ»
فَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
وَرَوَى قَتَادَةُ «5» الْحَدِيثَ بِمِثْلِهِ عَنْ أَنَسٍ «6» عَنْ مَالِكِ
«7» بْنِ صعصعة
__________
(1) وهو يونس بن يزيد الأيلي القرشي يروي عن الزهري ونافع قال ابن معين
صدوق وقال أبو داوود ليس بحجة توفي سنة 159 هـ.
(2) تقدمت ترجمته في ص «251» رقم «4» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(4) رواه الشيخان.
(5) تقدمت ترجمته في ص «62» رقم «3» !
(6) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(7) مالك بن صعصعة الخزرجي المازني أخرج له البخاري ومسلم والترمذي
والنسائي وأحمد في مسنده وليس له في الكتب غير حديث الإسراء. قال النووي
روى له عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خمسة
أحاديث اتفق البخاري ومسلم على أحدها وهو حديث الإسراء وهو أحسن احاديث
الإسراء.
(1/348)
وفيها تقديم وتأخير، وزيادة وَنَقْصٌ،
وَخِلَافٌ فِي تَرْتِيبِ الْأَنْبِيَاءِ فِي السَّمَاوَاتِ «1» .
وَحَدِيثُ ثَابِتٍ «2» عَنْ أَنَسٍ «3» أَتْقَنُ وَأَجْوَدُ، وَقَدْ
وَقَعَتْ فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ زِيَادَاتٌ نَذْكُرُ مِنْهَا نكتا «4»
مفيدة في غرضنا.
مِنْهَا فِي حَدِيثِ ابْنِ شِهَابٍ «5» وَفِيهِ «قَوْلُ كُلِّ نَبِيٍّ لَهُ
«مَرْحَبًا بِالنَّبِيِّ الصَّالِحِ وَالْأَخِ الصَّالِحِ» إِلَّا آدَمَ
وَإِبْرَاهِيمَ فَقَالَا لَهُ «وَالِابْنِ الصَّالِحِ» .
وَفِيهِ مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عَبَّاسٍ «6» «ثُمَّ عرج بي حتى ظهرت بمستوى
أسمع فيه صَرِيفَ «7» الْأَقْلَامِ «8» .
وَعَنْ أَنَسٍ «9» «ثُمَّ انْطُلِقَ بِي حتى أتيت سدرة المنتهى
__________
(1) رواه الشيخان
(2) تقدمت ترجمته آنفا.
(3) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(4) النكت: المعاني اللطيفة.
(5) ابن شهاب الزهري تقدمت ترجمته في ص «251» رقم «4» .
(6) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(7) صريف: بصاد وراء مهملتين وفاء كالصرير وهو صوت حركة الأجرام والمراد
صوت القلم على الورق.
(8) كما رواه البخاري وأحمد وغيرهما.
(9) مرفوعا.
(1/349)
فَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا
هِيَ. قَالَ: ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ.»
وَفِي حَدِيثِ «1» مَالِكِ «2» بْنِ صَعْصَعَةَ «فَلَمَّا جَاوَزْتُهُ-
يَعْنِي مُوسَى- بَكَى فَنُودِيَ مَا يُبْكِيكَ؟ قَالَ: رَبِّ هَذَا
غُلَامٌ بَعَثْتَهُ بَعْدِي يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِهِ الْجَنَّةَ أَكْثَرُ
مِمَّا يَدْخُلُ مِنْ أُمَّتِي» .
وَفِي حَدِيثِ «3» أَبِي هُرَيْرَةَ «4» «وَقَدْ رَأَيْتُنِي «5» فِي
جَمَاعَةٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ فَحَانَتِ الصَّلَاةُ فَأَمَمْتُهُمْ.
فَقَالَ قَائِلٌ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ فَسَلِّمْ
عَلَيْهِ، فَالْتَفَتُّ فَبَدَأَنِي بِالسَّلَامِ.»
وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «ثُمَّ سَارَ حَتَّى أَتَى بَيْتَ
الْمَقْدِسِ فَنَزَلَ فَرَبَطَ فَرَسَهُ إِلَى صَخْرَةٍ فَصَلَّى مَعَ
الْمَلَائِكَةِ فَلَمَّا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ قَالُوا:
يَا جِبْرِيلُ: مَنْ هَذَا مَعَكَ؟ قَالَ: هَذَا مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ
خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، قَالُوا: وَقَدْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ؟ قَالَ نَعَمْ.
قَالُوا: حَيَّاهُ اللَّهُ مِنْ أَخٍ وَخَلِيفَةٍ، فَنِعْمَ الْأَخُ
وَنِعْمَ الْخَلِيفَةُ.
ثُمَّ لَقُوا أَرْوَاحَ الْأَنْبِيَاءِ فَأَثْنَوْا على ربهم- وذكر كلام كل
واحد
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) تقدمت ترجمته في ص «348» رقم «7» .
(3) رواه البيهقي وغيره.
(4) تقدمت ترجمته في «31» رقم «5» .
(5) رأيتني: بضم التاء ضمير المتكلم والرؤية هنا بصرية لأن الإسراء كان في
اليقظة
(1/350)
منهم وهم ابراهيم- وموسى- وعيسى- وداوود-
وَسُلَيْمَانُ- ثُمَّ ذَكَرَ كَلَامَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
فَقَالَ: وَإِنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَثْنَى
عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ «كُلُّكُمْ أَثْنَى عَلَى رَبِّهِ
وَأَنَا أَثْنَى عَلَيَّ رَبِّي:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَرْسَلَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ.
وَكَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا.
وَأَنْزَلَ عَلَيَّ الْفُرْقَانَ فِيهِ تِبْيَانُ كُلِّ شَيْءٍ.
وَجَعَلَ أُمَّتِي خَيْرَ أُمَّةٍ.
وَجَعَلَ أُمَّتِي أُمَّةً وَسَطًا.
وَجَعَلَ أُمَّتِي هُمُ الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الْآخِرُونَ.
وَشَرَحَ لِي صَدْرِي، وَوَضَعَ عَنِّي وِزْرِي، وَرَفَعَ لِي ذِكْرِي،
وَجَعَلَنِي فَاتِحًا وَخَاتَمًا.
فَقَالَ إِبْرَاهِيمُ: بِهَذَا فَضَلَكُمْ مُحَمَّدٌ.
ثُمَّ ذَكَرَ أَنَّهُ عَرَجَ بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، وَمِنْ
سَمَاءٍ إِلَى سَمَاءٍ نَحْوَ مَا تَقَدَّمَ.
وَفِي حَدِيثِ «1» ابْنِ مَسْعُودٍ «وَانْتَهَى بي إلى سدرة المنتهى،
__________
(1) رواه أبو نعيم في دلائله وابن عرفة في جزئه.
(1/351)
وَهِيَ فِي السَّمَاءِ السَّادِسَةِ،
إِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يُعْرَجُ بِهِ مِنَ الْأَرْضِ، فَيُقْبَضُ
مِنْهَا، وَإِلَيْهَا يَنْتَهِي مَا يَهْبِطُ مِنْ فَوْقِهَا فَيُقْبَضُ
مِنْهَا.
قال تعالى: «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى «1» » .
قال «2» فراش من ذهب.
ومن رِوَايَةِ أَبِي هُرَيْرَةَ «3» مِنْ طَرِيقِ الرَّبِيعِ «4» بْنِ أنس:
«فقيل لي: هذه سدرة الْمُنْتَهَى، يَنْتَهِي إِلَيْهَا كُلُّ أَحَدٍ مِنْ
أُمَّتِكَ خَلَا «5» عَلَى سَبِيلِكِ، وَهِيَ السِّدْرَةُ الْمُنْتَهَى،
يَخْرُجُ مِنْ أَصْلِهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ، وَأَنْهَارٌ
مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ، وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ
لِلشَّارِبِينَ، وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفَّى، وَهِيَ شَجَرَةٌ
يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا سَبْعِينَ عَامًا، وَأَنَّ وَرَقَةً
مِنْهَا مِظَلَّةُ الْخَلْقِ فَغَشِيَهَا نُورٌ، وَغَشِيَتْهَا
الْمَلَائِكَةُ.
قَالَ: فَهُوَ قَوْلُهُ «إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى»
فقال تبارك وتعالى له: «سل»
__________
(1) سورة النجم 15.
(2) أي ابن مسعود رضي الله تعالى عنه.
(3) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(4) البكري البصري التابعي نزيل خراسان ثقة يروي عن أنس توفي سنة 139 هـ.
(5) خلا: مضى.
(1/352)
فَقَالَ إِنَّكَ اتَّخَذْتَ إِبْرَاهِيمَ
خَلِيلًا، وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا عظيما.
وكلمت موسى تكليما، وأعطيت داوود مُلْكًا عَظِيمًا، وَأَلَنْتَ لَهُ
الْحَدِيدَ، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِبَالَ، وَأَعْطَيْتَ سُلَيْمَانَ
مُلْكًا عَظِيمًا، وَسَخَّرْتَ لَهُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ وَالشَّيَاطِينَ
وَالرِّيَاحَ، وَأَعْطَيْتَهُ مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ
بَعْدِهِ، وَعَلَّمْتَ عِيسَى التَّوْرَاةَ والإنجيل، وجعلته يبرىء
الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَأَعَذْتَهُ وَأُمَّهُ مِنَ الشَّيْطَانِ
الرَّجِيمِ فَلَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَيْهِمَا سَبِيلٌ.
فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ تَعَالَى قَدِ اتَّخَذْتُكَ خَلِيلًا وَحَبِيبًا،
فَهُوَ مَكْتُوبٌ فِي التَّوْرَاةِ: مُحَمَّدٌ حَبِيبُ الرَّحْمَنِ:
وَأَرْسَلْتُكَ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً، وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ هُمُ
الْأَوَّلُونَ وَهُمُ الْآخِرُونَ، وَجَعَلْتُ أُمَّتَكَ لَا تَجُوزُ
لَهُمْ خُطْبَةٌ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنَّكَ عَبْدِي وَرَسُولِي،
وَجَعَلْتُكَ أَوَّلَ النَّبِيِّينَ خَلْقًا، وَآخِرَهُمْ بَعْثًا
وَأَعْطَيْتُكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي، وَلِمْ أُعْطِهَا نَبِيًّا
قَبْلَكَ، وَأَعْطَيْتُكَ خواتيم سورة البقرة من كنز تحت عرش، ولم
أُعْطِهَا نَبِيًّا قَبْلَكَ، وَجَعَلْتُكَ فَاتِحًا وَخَاتَمًا.
وَفِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى «1» قَالَ «فَأُعْطِيَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى الله عليه وسلم ثلاثا:
__________
(1) التي رواها مسلم.
(1/353)
- أُعْطِيَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسَ.
- وَأُعْطِيَ خَوَاتِيمَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.
- وَغُفِرَ لِمَنْ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا مِنْ أُمَّتِهِ
الْمُقْحِمَاتُ «1» .
وَقَالَ «2» «مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى «3» » الآيتين.
رَأَى جِبْرِيلَ فِي صُورَتِهِ لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ.
وَفِي حَدِيثِ شَرِيكٍ «4» «أَنَّهُ رَأَى مُوسَى فِي السَّابِعَةِ- قَالَ
بِتَفْضِيلِ كَلَامِ اللَّهِ- قَالَ: ثُمَّ علي بِهِ فَوْقَ ذَلِكَ بِمَا
لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللَّهُ.
فَقَالَ مُوسَى: لَمْ أَظُنَّ أَنْ يُرْفَعَ عليّ أحد.
وقد «5» روي عَنْ أَنَسٍ «6» أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«صَلَّى بِالْأَنْبِيَاءِ بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ» .
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ الله عنه قال: قال رسول صلّى الله عليه وسلم:
«بينا أَنَا قَاعِدٌ ذَاتَ يَوْمٍ إِذْ دَخَلَ جِبْرِيلُ عليه السلام فوكز
بين
__________
(1) المقحمات السيئات المهلكات.
(2) ابن مسعود.
(3) سورة النجم 10.
(4) شريك بن أبي نمر، التابعي الصدوق الثقة القاضي المدني توفي سنة 140 هـ
(5) رواه البزار والبيهقي عنه.
(6) تقدمت ترجمته في ص «47» رقم «1» .
(1/354)
كَتِفَيَّ فَقُمْتُ إِلَى شَجَرَةٍ فِيهَا
مِثْلُ وَكْرَيِ الطَّائِرِ، فَقَعَدَ فِي وَاحِدَةٍ وَقَعَدْتُ فِي
الْأُخْرَى، فنمت حتى سدّت الخافقين، ولو شئت لمسست السَّمَاءَ وَأَنَا
أُقَلِّبُ طَرْفِي، وَنَظَرْتُ جِبْرِيلَ كَأَنَّهُ حلس «1» لاطىء «2»
فَعَرَفْتُ فَضْلَ عِلْمِهِ بِاللَّهِ عَلَيَّ وَفَتَحَ لِي بَابَ
السَّمَاءِ، وَرَأَيْتُ النُّورَ الْأَعْظَمَ وَلَطَّ «3» دُونِي
الْحِجَابُ وَفَرَجَهُ الدُّرُّ وَالْيَاقُوتُ ثُمَّ أَوْحَى اللَّهُ
إِلَيَّ مَا شَاءَ أَنْ يُوحِيَ.
وَذَكَرَ الْبَزَّارُ «4» عَنْ عَلِيِّ بْنِ «5» أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ:
لَمَّا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعَلِّمَ رسوله صلّى الله عليه وسلم
الْأَذَانَ جَاءَهُ جِبْرِيلُ بِدَابَّةٍ يُقَالُ لَهَا الْبُرَاقُ
فَذَهَبَ يَرْكَبُهَا فَاسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ.
فَقَالَ لَهَا جِبْرِيلُ: اسكني، فو الله مَا رَكِبَكِ عَبْدٌ أَكْرَمُ
عَلَى اللَّهِ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
فَرَكِبَهَا حَتَّى أتى بها إلى الحجاب الذي يلي الرّحمن تعالى، فبينا هُوَ
كَذَلِكَ إِذْ خَرَجَ مَلَكٌ مِنَ الْحِجَابِ.
__________
(1) حلس: كساء رقيق يلي ظهر البعير.
(2) لاطىء: لاصق.
(3) لط: أرخى.
(4) هو احمد بن عمرو بن عبد الخالق البصري صاحب المسند الكبير المعلل ثقة
حافظ توفي سنة 292 هـ.
(5) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(1/355)
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَا جِبْرِيلُ ... مَنْ هَذَا!!»
قَالَ: وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ إِنِّي لَأَقْرَبُ الْخَلْقِ
مَكَانًا وَإِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ
سَاعَتِي هَذِهِ.
فَقَالَ الْمَلَكُ: اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ
فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ
صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أَنَا أَكْبَرُ
ثُمَّ قَالَ الْمَلَكُ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ
فَقِيلَ لَهُ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ:
صَدَقَ عَبْدِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا..
وَذَكَرَ مِثْلَ هَذَا فِي بَقِيَّةِ الْأَذَانِ. إِلَّا أَنَّهُ لَمْ يذكر
جوابا على قَوْلِهِ حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ حَيَّ عَلَى الْفَلَاحِ.
وقال: ثم أخذ الملك بيد محمد صلّى الله عليه وسلم فَقَدَّمَهُ فَأَمَّ
أَهْلَ السَّمَاءِ.
فِيهِمْ آدَمُ وَنُوحٌ.
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ «1» مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الحسين راويه «2» :
__________
(1) هو محمد بن علي زين العابدين بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي
طَالِبٍ أبو جعفر الباقر كان ناسكا عابدا ولد بالمدينة وتوفي بالحميمة ودفن
بالمدينة سنة 114 هـ.
(2) أي راوي هذا الحديث الذي ذكره البزار في مسنده.
(1/356)
أَكْمَلَ اللَّهُ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشَّرَفَ عَلَى أَهْلِ السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ.
قَالَ الْقَاضِي وَفَّقَهُ اللَّهُ: مَا فِي هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ ذِكْرِ
الْحِجَابِ فَهُوَ فِي حَقِّ الْمَخْلُوقِ لَا فِي حَقِّ الْخَالِقِ،
فَهُمُ الْمَحْجُوبُونَ، وَالْبَارِي جَلَّ اسْمُهُ مُنَزَّهٌ عَمَّا
يَحْجُبُهُ. إِذِ الْحُجُبُ إِنَّمَا تُحِيطُ بِمُقَدَّرٍ مَحْسُوسٍ.
وَلَكِنْ حُجُبُهُ عَلَى أَبْصَارِ خَلْقِهِ وَبَصَائِرِهِمْ
وَإِدْرَاكَاتِهِمْ بِمَا شَاءَ وَكَيْفَ شَاءَ وَمَتَى شَاءَ كَقَوْلِهِ
تَعَالَى «كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ «1»
» .
فقوله في هذا الحديث «الحجاب» «وإذا خرج ملك من مِنَ الْحِجَابِ» يَجِبُ
أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ حِجَابٌ حَجَبَ بِهِ مَنْ وَرَاءَهُ مِنْ
مَلَائِكَتِهِ عَنْ الِاطِّلَاعِ عَلَى مَا دُونَهُ مِنْ سُلْطَانِهِ
وَعَظَمَتِهِ، وَعَجَائِبِ مَلَكُوتِهِ وَجَبَرُوتِهِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ
مِنَ الْحَدِيثِ قَوْلُ جِبْرِيلَ عَنِ الْمَلَكِ الَّذِي خَرَجَ مِنْ
وَرَائِهِ: إِنَّ هَذَا الْمَلَكَ مَا رَأَيْتُهُ مُنْذُ خُلِقْتُ قَبْلَ
سَاعَتِي هَذِهِ» فَدَلَّ: عَلَى أَنَّ هَذَا الْحِجَابَ لَمْ يَخْتَصَّ
بِالذَّاتِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُ كَعْبٍ «2» فِي تَفْسِيرِ سِدْرَةِ
الْمُنْتَهَى قَالَ: إِلَيْهَا يَنْتَهِي عِلْمُ الْمَلَائِكَةِ،
وَعِنْدَهَا يَجِدُونَ أَمْرَ اللَّهِ لَا يُجَاوِزُهَا عِلْمُهُمْ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ «الَّذِي يلي الرّحمن» فيحمل على حذف مضاف أي:
__________
(1) سورة المطففين 14.
(2) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «3» .
(1/357)
يَلِي عَرْشَ الرَّحْمَنِ: أَوْ أَمْرًا
مَا مِنْ عظيم آياته، أو مبادي حَقَائِقِ مَعَارِفِهِ مِمَّا هُوَ أَعْلَمُ
بِهِ.
كَمَا قال تعالى: «وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ «1» » أَيْ «أَهْلَهَا» .
وَقَوْلُهُ: فَقِيلَ مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ صَدَقَ عَبْدِي أَنَا
أَكْبَرُ
فَظَاهِرُهُ: أَنَّهُ سَمِعَ في هذا الموطن كلام الله تعالى ولكن من وراء
حجاب.
كما قال تَعَالَى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا
وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ «2» » أَيْ وَهُوَ لَا يَرَاهُ، حَجَبَ
بَصَرَهُ عَنْ رُؤْيَتِهِ.
فَإِنْ صَحَّ الْقَوْلُ: بِأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ رَأَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. فَيُحْتَمَلُ أَنَّهُ فِي غَيْرِ
هَذَا الْمَوْطِنِ. بَعْدَ هَذَا. أَوْ قَبْلَهُ رَفَعَ الْحِجَابَ عَنْ
بَصَرِهِ حتى رآه.
والله أعلم.
__________
(1) سورة يوسف 82 «الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا
فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ» .
(2) سورة الشورى 51 «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا
يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ.
(1/358)
|