الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل الخامس رؤيته لربّه
وَأَمَّا رُؤْيَتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِرَبِّهِ جَلَّ وَعَزَّ فَاخْتَلَفَ السَّلَفُ «1» فِيهَا، فَأَنْكَرَتْهُ عَائِشَةُ «2» رضي الله عنها..
عَنْ مَسْرُوقٍ «3» أَنَّهُ قَالَ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ..
هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ؟ ..
فَقَالَتْ «4» : «لَقَدْ قَفَّ «5» شَعْرِي مِمَّا قُلْتَ.. ثَلَاثٌ مِنْ حَدَّثَكَ بِهِنَّ فَقَدْ كَذَبَ.
مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ ثم قرأت: «لا تُدْرِكُهُ
__________
(1) وفي نسخة الناس.
(2) تقدمت ترجمتها في ص «146» رقم «5» .
(3) تقدمت ترجمته في ص «361» رقم «12» .
(4) الحديث في البخاري ومسلم والترمذي والنسائي. وهو في البخاري عن يحيى عن وكيع بسند المصنف.
(5) قف شعري: القفيف في الشعر معناه نيامه وانتصابه وإنما يكون هذا غالبا عند الفزع والخوف القوي.

(1/375)


الْأَبْصارِ «1» ..» الآية وَذَكَرَ الْحَدِيثَ.
وَقَالَ جَمَاعَةٌ بِقَوْلِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَهُوَ الْمَشْهُورُ «2» عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «3» وَمِثْلُهُ عَنْ أَبِي «4» هُرَيْرَةَ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّمَا رَأَى جِبْرِيلَ.»
وَاخْتُلِفَ عَنْهُ «5» وَقَالَ بِإِنْكَارِ هَذَا وَامْتِنَاعِ رُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ وَالْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «6» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: «أَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ «7» » .
وَرَوَى عَطَاءٌ «8» عَنْهُ: «أَنَّهُ رَآهُ بِقَلْبِهِ» .
وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ «9» عَنْهُ: رآه بفؤاده مرتين «10» » .
وذكر «11» ابن إسحق «12» : أن ابن «13» عمر أرسل إلى ابن
__________
(1) «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» سورة الانعام 103.
(2) كما رواه البخاري.
(3) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(5) أي عن ابي هريرة. فقد روي عنه انه قال رآه بعينه. كابن مسعود وأبي ذر والحسن وابن حنبلي.
(6) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6»
(7) وبه قال أنس وعكرمة والربيع.
(8) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «4» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «67» رقم «3»
(10) أخرجها مسلم في الايمان.
(11) في المغازي عن عبد الله بن ابي سلمة.
(12) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7» .
(13) تقدمت ترجمته في ص «182» رقم «1» .

(1/376)


عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُهُ: هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ.
فَقَالَ: نَعَمْ..
وَالْأَشْهَرُ عَنْهُ: أَنَّهُ رَأَى رَبَّهُ بِعَيْنِهِ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْهُ مَنْ طُرُقٍ.
وَقَالَ «1» : إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى اخْتَصَّ مُوسَى بِالْكَلَامِ، وَإِبْرَاهِيمَ بِالْخِلَّةِ «2» ، وَمُحَمَّدًا بِالرُّؤْيَةِ.
وَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «مَا كَذَبَ الْفُؤادُ مَا رَأى، أَفَتُمارُونَهُ عَلى مَا يَرى، وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى «3» » .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ «4» : قِيلَ: «إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَسَمَ كَلَامَهُ وَرُؤْيَتَهُ بَيْنَ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَرَآهُ مُحَمَّدٌ مَرَّتَيْنِ وَكَلَّمَهُ مُوسَى مَرَّتَيْنِ «5» » .
وَحَكَى أَبُو الْفَتْحِ الرَّازِيُّ «6» ، وَأَبُو اللَّيْثِ «7» السمرقندي
__________
(1) أي في بعض طرقه وهو ما رواه الحاكم والنسائي والطبراني.
(2) الخلة: بضم الخاء المعجمة لقوله تعالى: «وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا» .
(3) سورة النجم 13.
(4) تقدمت ترجمته في ص «61» رقم «3» .
(5) نقله عنه ابن سيد الناس في سيرته.
(6) ليس هو الفخر الرازي كما توهم بعضهم بل هو سليمان بن ايوب مات غريقا سنة 447 هـ.
(7) تقدمت ترجمته في ص «51» رقم «2» .

(1/377)


الْحِكَايَةَ عَنْ كَعْبٍ «1» وَرَوَى «2» عَبْدُ اللَّهِ «3» بْنُ الْحَارِثِ قَالَ:
«اجْتَمَعَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَكَعْبٌ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَمَّا نَحْنُ بَنُو هَاشِمٍ فَنَقُولُ: إِنَّ مُحَمَّدًا قَدْ رَأَى رَبَّهُ مَرَّتَيْنِ» ..
فَكَبَّرَ كَعْبٌ حَتَّى جَاوَبَتْهُ الْجِبَالُ وَقَالَ: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ رُؤْيَتَهُ وَكَلَامَهُ بَيْنَ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى فَكَلَّمَهُ مُوسَى وَرَآهُ مُحَمَّدٌ بِقَلْبِهِ» .
وَرَوَى شَرِيكٌ «4» عَنْ أَبِي ذَرٍّ «5» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ قَالَ:
«رَأَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَبَّهُ» .
وَحَكَى «6» السَّمَرْقَنْدِيُّ عَنْ مُحَمَّدِ «7» بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ وَرَبِيعِ «8» بْنِ أَنَسٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ.. هَلْ رَأَيْتَ رَبَّكَ؟ قَالَ: رَأَيْتُهُ بِفُؤَادِي وَلَمْ أَرَهُ بِعَيْنِي» .
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «3» .
(2) ذكره الترمذي.
(3) تقدمت ترجمته في ص «249» رقم «3» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «354» رقم «4» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(6) كرواية ابن ابي حاتم وأخرجه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض اصحاب النبي صلّى الله عليه وسلم قال قلنا يا رسول الله فذكره موصولا
(7) هو محمد بن كعب بن سليم بن أسد القرظي ابو حمزة من حلفاء الاوس سكن الكوفة ثم المدينة تابعي روى عن كثير من الصحابة؛ من أفاضل أهل المدينة علما وفقها توفي سنة 108 هـ.
(8) تقدمت ترجمته في ص «107» رقم «2» .

(1/378)


وَرَوَى «1» مَالِكُ «2» بْنُ يُخَامِرَ عَنْ مُعَاذٍ «3» عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«رَأَيْتُ رَبِّي. وَذَكَرَ كَلِمَةً.. فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ فِيمَ يَخْتَصِمُ الْمَلَأُ الْأَعْلَى؟ .. الْحَدِيثَ «4» .
وَحَكَى عَبْدُ الرَّزَّاقِ «5» : أَنَّ الْحَسَنَ «6» كَانَ يَحْلِفُ بِاللَّهِ، لَقَدْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ وَحَكَاهُ أَبُو عُمَرَ الطَّلَمَنْكِيُّ «7» عَنْ عِكْرِمَةَ «8» .
وَحَكَى بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ هَذَا الْمَذْهَبَ عَنِ ابن مسعود «9» .
__________
(1) رواه احمد والترمذي وصححه.
(2) مالك بن يخامر سكسكي حمصي يقال ان له صحبة والاصح انه تابعي روى عن معاذ بن جبل وعن عبد الرّحمن بن عوف وغيرهما ومات سنة 70 هـ.
(3) معاذ بن جبل الخزرجي الانصاري المقدم في علم الحلال والحرام كان ابيض وضيء الوجه براق الثنايا اكحل العينين شهد بدرا وهو ابن احدى وعشرين سنة وأمره النبي صلّى الله عليه وسلم على اليمن وكان من افضل شباب الانصار حلما وحياء وسخاء وكان جميلا وسيما. توفي بالطاعون في سنة 17 هـ.
(4) الحديث: بالنصب بتقدير اقرأ او اذكر.
(5) عبد الرزاق بن همام بن رافع الحافظ الكبير الصنعائي احد الاعلاء صاحب التصانيف وقد وثقه غير واحد وأخرج له الائمة الستة توفي سنة 211 هـ.
(6) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .
(7) هو الامام الحافظ المقرىء احمد بن عبد الله المغافري عالم قرطبة ولد سنة 340 هـ روى عنه ابن حزم وابن عبد البر وغيرهما من الاعلام وكان رأسا في علم القراءات ذا عناية تامة بالحديث اماما في السنة توفي سنة 429 هـ.
(8) تقدمت ترجمته في ص «160» رقم «1» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «214» رقم «2» .

(1/379)


وحكى ابن إسحق «1» : أَنَّ مَرْوَانَ «2» سَأَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ «3» .
«هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ رَبَّهُ» ؟ فَقَالَ: نَعَمْ..
وَحَكَى النَّقَّاشُ «4» عَنْ أَحْمَدَ بْنِ «5» حَنْبَلٍ أَنَّهُ قَالَ: «أَنَا أَقُولُ بحديث ابن عباس بعينيه رَآهُ رَآهُ..» حَتَّى انْقَطَعَ نَفَسُهُ- يَعْنِي نَفَسُ أحمد..
وقال أبو عمرو «6» : قَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: «رَآهُ بِقَلْبِهِ» وَجَبُنَ عَنِ الْقَوْلِ بِرُؤْيَتِهِ فِي الدُّنْيَا بِالْأَبْصَارِ.
وَقَالَ سَعِيدُ «7» بْنُ جُبَيْرٍ: «لَا أَقُولُ رَآهُ وَلَا لَمْ يَرَهُ» .
وَقَدِ اخْتُلِفَ فِي تَأْوِيلِ الْآيَةِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «8» وَعِكْرِمَةَ وَالْحَسَنِ «9» وَابْنِ مَسْعُودٍ.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «73» رقم «7» .
(2) مروان بن الحكم بن ابي العاص بن أمية القرشي الاموي ولد سنة 2 هـ ولم يصح له سماع ولا رواية وكانت دولته تسعة اشهر وأياما توفي سنة 65 هـ في رمضان.
(3) تقدمت ترجمته في ص «31» رقم «5» .
(4) تقدمت ترجمته في ص «90» رقم «1» .
(5) تقدمت ترجمته في ص «165» رقم «1» .
(6) الطلمنكي المتقدم ذكره آنفا.
(7) تقدمت ترجمته في ص «58» رقم «4» .
(8) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6» .
(9) تقدمت ترجمته في ص «60» رقم «8» .

(1/380)


فَحُكِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَعِكْرِمَةَ: «رَآهُ بِقَلْبِهِ» .
وَعَنِ الْحَسَنِ وَابْنِ مَسْعُودٍ: «رَأَى جِبْرِيلَ» .
وَحَكَى عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ عَنْ أَبِيهِ: أَنَّهُ قَالَ: رَآهُ وَعَنِ ابْنِ عَطَاءٍ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ «1» » قَالَ: «شَرَحَ صَدْرَهُ لِلرُّؤْيَةِ، وَشَرَحَ صَدْرَ مُوسَى لِلْكَلَامِ» .
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ «2» عَلِيُّ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْأَشْعَرِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَجَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ:
أَنَّهُ رَأَى اللَّهَ تَعَالَى بِبَصَرِهِ وَعَيْنَيْ رَأْسِهِ وَقَالَ: كُلُّ آيَةٍ أُوتِيَهَا نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فَقَدْ أُوتِيَ مِثْلَهَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخُصَّ مِنْ بَيْنِهِمْ بِتَفْضِيلِ الرُّؤْيَةِ.
وَوَقَفَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا فِي هَذَا وَقَالَ: لَيْسَ عَلَيْهِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ وَلَكِنَّهُ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: «والحق الذي لا امتراء
__________
(1) سورة الانشراح 1.
(2) علي بن اسماعيل بن أبي بشير ينتسب الى أبي موسى الاشعري الصحابي رضي الله عنه كان معتزليا ثم ترك وكان حبرا عظيما لا يبارى. قال القاضي الباقلاني: أفضل أحوالي أن أفهم كلام أبي الحسن، وهو امام اهل السنة وصاحب التصانيف المشهورة توفي سنة 324 هـ.

(1/381)


فِيهِ أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا جَائِزَةٌ عَقْلًا. وَلَيْسَ فِي الْعَقْلِ مَا يُحِيلُهَا» .
وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِهَا فِي الدُّنْيَا سُؤَالُ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَهَا.
وَمُحَالٌ أَنْ يَجْهَلَ نَبِيٌّ مَا يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ وَمَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ.. بَلْ لَمْ يَسْأَلْ إِلَّا جَائِزًا غَيْرَ مُسْتَحِيلٍ.
وَلَكِنَّ وُقُوعَهُ وَمُشَاهَدَتَهُ مِنَ الْغَيْبِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا مَنْ عَلَّمَهُ اللَّهُ.
فَقَالَ لَهُ تعالى: «لن تراني «1» » أَيْ لَنْ تُطِيقَ وَلَا تَحْتَمِلَ رُؤْيَتِي، ثُمَّ ضَرَبَ لَهُ مَثَلًا مِمَّا هُوَ أَقْوَى مِنْ نبيه مُوسَى، وَأَثْبَتُ وَهُوَ الْجَبَلُ.. وَكُلُّ هَذَا لَيْسَ فِيهِ مَا يُحِيلُ رُؤْيَتَهُ فِي الدُّنْيَا بَلْ فيه جوازها على الجملة.
وليس في الشرع دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى اسْتِحَالَتِهَا وَلَا امْتِنَاعِهَا..
إِذْ كَلُّ مَوْجُودٍ فَرُؤْيَتُهُ جَائِزَةٌ غَيْرُ مُسْتَحِيلَةٍ..
وَلَا حُجَّةَ لِمَنِ اسْتَدَلَّ عَلَى مَنْعِهَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «2» » لِاخْتِلَافِ التَّأْوِيلَاتِ فِي الْآيَةِ.. وَإِذْ لَيْسَ يَقْتَضِي
__________
(1) «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي ... » سورة الاعراف 143.
(2) «وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ» سورة الانعام 103.

(1/382)


قَوْلُ مَنْ قَالَ فِي الدُّنْيَا الِاسْتِحَالَةَ..
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِهَذِهِ الْآيَةِ نَفْسِهَا عَلَى جَوَازِ الرُّؤْيَةِ وَعَدَمِ اسْتِحَالَتِهَا عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَقَدْ قِيلَ: لَا تُدْرِكُهُ أَبْصَارُ الْكُفَّارِ.
وَقِيلَ: لَا تُدْرِكُهُ الأبصار. لَا تُحِيطُ بِهِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَدْ قِيلَ: لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَإِنَّمَا يُدْرِكُهُ الْمُبْصِرُونَ.
وَكُلُّ هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ لَا تَقْتَضِي مَنْعَ الرُّؤْيَةِ وَلَا اسْتِحَالَتَهَا.
وَكَذَلِكَ لَا حُجَّةَ لَهُمْ بقوله تعالى: «لن تراني «1» » .
وقوله: «تبت إليك «2» » لِمَا قَدَّمْنَاهُ، وَلِأَنَّهَا لَيْسَتْ عَلَى الْعُمُومِ، وَلِأَنَّ مَنْ قَالَ: مَعْنَاهَا لَنْ تَرَانِي فِي الدُّنْيَا، إِنَّمَا هُوَ تَأْوِيلٌ.
وَأَيْضًا فَلَيْسَ فِيهِ نَصُّ الِامْتِنَاعِ.
وَإِنَّمَا جَاءَتْ فِي حَقِّ مُوسَى.
وَحَيْثُ تتطرق التأويلات، وتتسلط الاحتمالات، فليس للقطع
__________
(1) «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» سورة الاعراف 143.
(2) «وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ» سورة الاعراف 143.

(1/383)


إِلَيْهِ سَبِيلٌ وَقَوْلُهُ «تُبْتُ إِلَيْكَ» أَيْ مِنْ سُؤَالِي مَا لَمْ تُقَدِّرْهُ لِي..
وَقَدْ قَالَ أَبُو «1» بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ فِي قَوْلِهِ: «لَنْ تَرَانِي» أَيْ لَيْسَ لِبَشَرٍ أَنْ يُطِيقَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَيَّ فِي الدُّنْيَا، وَأَنَّهُ مَنْ نَظَرَ إِلَيَّ مَاتَ
وَقَدْ رَأَيْتُ لِبَعْضِ السَّلَفِ وَالْمُتَأَخِّرِينَ مَا مَعْنَاهُ: أَنَّ رُؤْيَتَهُ تَعَالَى فِي الدُّنْيَا مُمْتَنِعَةٌ، لِضَعْفِ تَرْكِيبِ أَهْلِ الدُّنْيَا وَقُوَاهُمْ، وَكَوْنِهَا مُتَغَيِّرَةً عرضا لِلْآفَاتِ وَالْفَنَاءِ، فَلَمْ تَكُنْ لَهُمْ قُوَّةٌ عَلَى الرُّؤْيَةِ.
فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ، وَرُكِّبُوا تَرْكِيبًا آخَرَ وَرُزِقُوا قُوًى ثَابِتَةً بَاقِيَةً، وَأَتَمَّ أَنْوَارَ أَبْصَارِهِمْ وَقُلُوبِهِمْ قَوُوا بِهَا عَلَى الرُّؤْيَةِ..
وَقَدْ رَأَيْتُ نَحْوَ هَذَا لِمَالِكِ «2» بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ الله قال: لم يرفي الدُّنْيَا لِأَنَّهُ بَاقٍ، وَلَا يُرَى الْبَاقِي بِالْفَانِي، فَإِذَا كَانَ فِي الْآخِرَةِ وَرُزِقُوا أَبْصَارًا بَاقِيَةً رؤي الْبَاقِي بِالْبَاقِي.
وَهَذَا كَلَامٌ حَسَنٌ مَلِيحٌ.. وَلَيْسَ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى الِاسْتِحَالَةِ إِلَّا مِنْ حَيْثُ ضَعْفُ الْقُدْرَةِ.
فَإِذَا قَوَّى اللَّهُ تَعَالَى مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادِهِ، وَأَقْدَرَهُ عَلَى حَمْلِ أَعْبَاءِ
__________
(1) كان من الادباء الظرفاء وله شعر بديع حسن تتلمذ على محمد بن عمر المعروف بابن القوطية صاحب كتاب الافعال الثلاثية والرباعية.
(2) مالك بن أنس بن مالك الاصبحي الحميري امام دار الهجرة وأحد الائمة الاربعة واليه تنسب المالكية، كان صلبا في دينه بعيدا عن الامراء والحكام ولد بالمدينة وتوفي فيها سنة 179 هـ.

(1/384)


الرُّؤْيَةِ لَمْ تَمْتَنِعْ فِي حَقِّهِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا ذُكِرَ فِي قُوَّةِ بَصَرِ مُوسَى وَمُحَمَّدٍ صلّى الله عليه وسلم. ونفوذ إدراكهما بقوة إلهية منحاها لِإِدْرَاكِ مَا أَدْرَكَاهُ وَرُؤْيَةِ مَا رَأَيَاهُ.. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ ذَكَرَ الْقَاضِي «1» أَبُو بَكْرٍ فِي أَثْنَاءِ أَجْوِبَتِهِ عَنِ الْآيَتَيْنِ «2» مَا مَعْنَاهُ: إِنَّ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ رَأَى اللَّهَ فَلِذَلِكَ خَرَّ صَعِقًا.
وَأَنَّ الْجَبَلَ رَأَى رَبَّهُ فَصَارَ دَكًّا بِإِدْرَاكِ خَلْقِهِ اللَّهَ لَهُ.
وَاسْتَنْبَطَ ذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ قَوْلِهِ «وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ، فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي «3» » ثُمَّ قَالَ «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً «4» » «5» وَتَجَلِّيهِ لِلْجَبَلِ هُوَ ظُهُورُهُ لَهُ حَتَّى رَآهُ- عَلَى هَذَا الْقَوْلِ..
وَقَالَ جَعْفَرُ «6» بْنُ مُحَمَّدٍ: شَغَلَهُ بِالْجَبَلِ حَتَّى تَجَلَّى- وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَاتَ صعقا بلا إفاقة.
__________
(1) محمد بن الطيب الباقلاني امام اهل السنة توفي سنة 403 هـ وهو غير ابي بكر ابن العربي شيخ المصنف رحمهم الله تعالى.
(2) الايتان هما (لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ) و «لن تراني» .
(3) سورة الاعراف 143.
(4) صعقا: اي سقط صائحا مغشيا عليه من هول ما رآه من هذا الجبل.
(5) سورة الاعراف 143.
(6) تقدمت ترجمته في ص «55» رقم «6»

(1/385)


وَقَوْلُهُ هَذَا: يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُوسَى رَآهُ.
وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِ الْمُفَسِّرِينَ فِي «الْجَبَلِ» أَنَّهُ رَآهُ
وَبِرُؤْيَةِ الْجَبَلِ لَهُ اسْتَدَلَّ مَنْ قَالَ بِرُؤْيَةِ مُحَمَّدٍ نَبِيِّنَا لَهُ إِذْ جَعَلَهُ دَلِيلًا عَلَى الْجَوَازِ.
- وَلَا مِرْيَةَ فِي الْجَوَازِ.. إِذْ ليس في الآيات نص في المنع.
وَأَمَّا وُجُوبُهُ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ رَآهُ بِعَيْنِهِ.. فَلَيْسَ فِيهِ قَاطِعٌ أَيْضًا وَلَا نَصٌّ..
- إِذِ الْمُعَوَّلُ فِيهِ عَلَى آيَتَيِ النَّجْمِ. وَالتَّنَازُعُ فِيهِمَا مَأْثُورٌ.
وَالِاحْتِمَالُ لَهُمَا مُمْكِنٌ وَلَا أَثَرَ قَاطِعٌ مُتَوَاتِرٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذَلِكَ.
وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ «1» : خَبَرٌ عَنِ اعْتِقَادِهِ لَمْ يُسْنِدْهُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَجِبُ الْعَمَلُ بِاعْتِقَادِ مُضَمَّنِهِ «2» .
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ أَبِي ذَرٍّ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ.
وَحَدِيثُ مُعَاذٍ «3» مُحْتَمِلٌ لِلتَّأْوِيلِ «4» . وَهُوَ مضطرب الإسناد
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «52» رقم «6»
(2) مضمنه: بضم الميم الاولى وفتح الضاد المعجمة والميم المفتوحة المشددة أي ما تضمنه ودل عليه لفظه من رؤيته صلّى الله تعالى عليه لربه بعينه.
(3) تقدمت ترجمته في ص «379» رقم «3» .
(4) أي رأيت ربي في أحسن صورة.

(1/386)


والمتن وحديث أبي ذر «1» الآخر مُخْتَلِفٌ، مُحْتَمَلٌ، مُشْكِلٌ، فَرُوِيَ «2» «نُورٌ أَنَّى «3» أَرَاهُ»
وَحَكَى بَعْضُ شُيُوخِنَا أَنَّهُ رُوِيَ «نُورَانِيٌّ أَرَاهُ» .
وَفِي حَدِيثِهِ «4» الْآخَرِ.. سَأَلْتُهُ فَقَالَ: رَأَيْتُ نُورًا.
وَلَيْسَ يُمْكِنُ الِاحْتِجَاجُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا عَلَى صِحَّةِ الرُّؤْيَةِ..
فَإِنْ كَانَ الصَّحِيحَ «رَأَيْتُ نُورًا» فَهُوَ قد أخبر أنّه لم ير الله تعالى.. وَإِنَّمَا رَأَى نُورًا مَنَعَهُ وَحَجَبَهُ عَنْ رُؤْيَةِ الله تعالى.
وإلى هذا يرجع قوله: «نور أنّى أَرَاهُ» أَيْ كَيْفَ أَرَاهُ مَعَ حِجَابِ النُّورِ المغشّي للبصر..
وهذا مثل ما في الْحَدِيثِ «5» الْآخَرِ «حِجَابُهُ النُّورُ» .
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «6» : «لم أره بعيني.. ولكن رأيته
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(2) رواه مسلم.
(3) أني: بفتح الهمزة وتشديد النون وألف بعدها مقصورة بمعنى كيف.
(4) رواه مسلم.
(5) رواه الطيالسي عن أبي موسى رضي الله تعالى عنه في حديث أصله في مسلم أوله: «ان الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام» .
(6) رواه ابن جرير عن محمد بن كعب عن بعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم.

(1/387)


بقلبي مرتين» وتلا: «ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى «1» » ..
والله تعالى قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْإِدْرَاكِ الَّذِي فِي الْبَصَرِ فِي الْقَلْبِ..
أَوْ كَيْفَ شَاءَ لَا إِلَهَ غَيْرُهُ..
فَإِنْ وَرَدَ حَدِيثٌ نَصٌّ بَيِّنٌ فِي الْبَابِ اعْتُقِدَ وَوَجَبَ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ إِذْ لَا اسْتِحَالَةَ فِيهِ وَلَا مَانِعَ قَطْعِيٌّ يَرُدُّهُ وَاللَّهُ الموفق للصواب.
__________
(1) سورة النجم 8.

(1/388)