الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل السّادس مناجاته لله تعالى
وَأَمَّا مَا وَرَدَ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ مِنْ مُنَاجَاتِهِ لِلَّهِ تَعَالَى وَكَلَامِهِ مَعَهُ بِقَوْلِهِ «فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى
«1» إِلَى مَا تَضَمَّنَتْهُ الْأَحَادِيثُ.
فَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّ الْمُوحِيَ هُوَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جِبْرِيلَ وَجِبْرِيلُ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.. إِلَّا شُذُوذًا «2» مِنْهُمْ..
فَذُكِرَ عَنْ جَعْفَرِ «3» بْنِ مُحَمَّدٍ الصَّادِقِ قَالَ: «أَوْحَى إِلَيْهِ بِلَا واسطة» .
ونحوه عن الواسطي «4» ..
__________
(1) سورة النجم 10.
(2) شذوذا: أي الجماعة من المفسرين قليلة شاذة خالفوهم فيه فشذوذا إما جمع شاذ كقعود جمع قاعد أو مصدر أطلق على الفاعل مبالغته في اتصافهم به حتى كأنهم عينه.
(3) تقدمت ترجمته في ص (55) رقم (6) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (91) رقم (4) .

(1/389)


وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: «أَنَّ مُحَمَّدًا كَلَّمَ رَبَّهُ فِي الْإِسْرَاءِ» .
وَحُكِيَ عَنِ الْأَشْعَرِيِّ «1» وَحَكَوْهُ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «2» وَابْنِ عَبَّاسٍ «3» وَأَنْكَرَهُ آخَرُونَ.
وَذَكَرَ النَّقَّاشُ «4» عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «5» فِي قِصَّةِ الْإِسْرَاءِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ «دَنا فَتَدَلَّى «6» » .
قَالَ «فَارَقَنِي جِبْرِيلُ.. فانقطعت الْأَصْوَاتُ عَنِّي فَسَمِعْتُ كَلَامَ رَبِّي وَهُوَ يَقُولُ: لِيَهْدَأْ رَوْعُكَ يَا مُحَمَّدُ. ادْنُ ادْنُ.
وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ «7» فِي الْإِسْرَاءِ «8» .. نَحْوٌ مِنْهُ..
وَقَدِ احْتَجُّوا فِي هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ، أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (381) رقم (2) .
(2) تقدمت ترجمته في ص (256) رقم (2) .
(3) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (90) رقم (1) .
(5) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(6) سورة النجم 8.
(7) تقدمت ترجمته في ص (47) رقم (1) .
(8) موقوفا عليه أو مرفوعا عنه. فان صح رفعه وكذا وقفه فلا كلام فيه لأنه يعطى حكمه.

(1/390)


فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ «1» » !
فَقَالُوا: هِيَ ثَلَاثَةُ أَقْسَامٍ:
- مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ كَتَكْلِيمِ مُوسَى.
- وَبِإِرْسَالِ الْمَلَائِكَةِ، كَحَالِ جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ وَأَكْثَرُ أَحْوَالِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
- الثالث قوله «إِلَّا وَحْياً» ولم يبق من تقسيم صور الْكَلَامِ إِلَّا الْمُشَافَهَةُ مَعَ الْمُشَاهَدَةِ.
وَقَدْ قِيلَ: «الْوَحْيُ» هُنَا هُوَ مَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِ النَّبِيِّ دُونَ وَاسِطَةٍ.
وَقَدْ ذَكَرَ أَبُو بَكْرٍ «2» الْبَزَّارُ عَنْ عَلِيٍّ «3» فِي حَدِيثِ الْإِسْرَاءِ مَا هُوَ أَوْضَحُ فِي سَمَاعِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِكَلَامِ اللَّهِ مِنَ الْآيَةِ فَذَكَرَ فِيهِ:
فَقَالَ الْمَلَكُ «4» .. اللَّهُ أَكْبَرُ اللَّهُ أَكْبَرُ.. فَقِيلَ لِي مِنْ وَرَاءِ الْحِجَابِ: صَدَقَ عَبْدِي أَنَا أَكْبَرُ أَنَا أَكْبَرُ.. وَقَالَ فِي سَائِرِ كلمات الأذان مثل ذلك.
__________
(1) «إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ» سورة الشورى 51.
(2) احمد بن عمرو بن عبد الخالق أبو بكر البزار حافظ من العلماء بالحديث، من أهل البصرة، له مسندان أحدهما كبير سماه البحر الزاخر والآخر صغير، توفي بالرملة سنة 292.
(3) تقدمت ترجمته في ص «54» رقم «4» .
(4) فيه دلالة على أن الحديث مرفوع.

(1/391)


وَيَجِيءُ الْكَلَامُ فِي مُشْكِلِ هَذَيْنِ الْحَدِيثَيْنِ فِي الْفَصْلِ بَعْدَ هَذَا مَعَ مَا يُشْبِهُهُ، وَفِي أَوَّلِ فَصْلٍ مِنَ الْبَابِ مِنْهُ
- وَكَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَنِ اخْتَصَّهُ مِنْ أَنْبِيَائِهِ جَائِزٌ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ عَقْلًا، وَلَا وَرَدَ فِي الشَّرْعِ قَاطِعٌ يَمْنَعُهُ.
فَإِنْ صَحَّ فِي ذَلِكَ خَبَرٌ اعْتُمِدَ عَلَيْهِ.
وَكَلَامُهُ تَعَالَى لِمُوسَى كَائِنٌ حَقٌّ مَقْطُوعٌ بِهِ، نَصَّ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ وَأَكَّدَهُ بِالْمَصْدَرِ دَلَالَةً عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَرَفْعِ مَكَانِهِ عَلَى مَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ «1» بِسَبَبِ كَلَامِهِ.. وَرَفَعَ مُحَمَّدًا فَوْقَ هَذَا كُلِّهِ، حَتَّى بَلَغَ مُسْتَوًى وَسَمِعَ صَرِيفَ الْأَقْلَامِ..
فَكَيْفَ يَسْتَحِيلُ فِي حَقِّ هَذَا، أَوْ يَبْعُدُ سَمَاعُ الْكَلَامِ فَسُبْحَانَ مَنْ خَصَّ مَنْ شَاءَ بِمَا شَاءَ، وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ فوق بعض درجات..
__________
(1) على ما رواه البخاري أن موسى في السماء السابعة.

(1/392)