الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل الثاني عشر الأحاديث الواردة في
النهي عهد تَفْضِيلِهِ
فَإِنْ قُلْتَ: إِذَا تَقَرَّرَ مِنْ دَلِيلِ الْقُرْآنِ، وَصَحِيحِ
الْأَثَرِ، وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ كَوْنُهُ أَكْرَمَ الْبَشَرِ وَأَفْضَلَ
الْأَنْبِيَاءِ، فَمَا مَعْنَى الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بنهيه عن
التفضيل، كقوله:
عن ابن عباس «1» عن النبي صلى الله عليه وَسَلَّمَ قَالَ «2» : «مَا
يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ «3» بْنِ
مَتَّى» ..
وَفِي غَيْرِ هَذَا الطَّرِيقِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «4» قَالَ- يَعْنِي
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- «ما ينبغي لعبد» -
الحديث.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص (52) رقم (6) .
(2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود.
(3) تقدمت ترجمته في ص (265) رقم (3) .
(4) تقدمت ترجمته في ص (31) رقم (5) .
(1/438)
وَفِي حَدِيثِ «1» أَبِي هُرَيْرَةَ «2»
فِي الْيَهُودِيِّ «3» الَّذِي قَالَ: «وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى
الْبَشَرِ» - فَلَطَمَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ وَقَالَ:
«تَقُولُ ذَلِكَ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بَيْنَ أَظْهُرِنَا» ؟!!.
فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ:
«لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ الْأَنْبِيَاءِ» .
وَفِي رِوَايَةٍ «4» «لَا تُخَيِّرُونِي عَلَى مُوسَى» - فَذَكَرَ
الْحَدِيثَ.
وَفِيهِ: وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلَ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
وَعَنْ «5» أَبِي هُرَيْرَةَ: مَنْ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ
مَتَّى فَقَدْ كَذَبَ.
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ «6» : لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ
يُونُسَ بْنِ مَتَّى.
وَفِي حديثه الآخر «7» : فجاءه رجل فقال: يَا خَيْرَ الْبَرِيَّةِ..
فَقَالَ: ذَاكَ إِبْرَاهِيمُ.
فَاعْلَمْ أَنَّ لِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ تَأْوِيلَاتٌ
أَحَدُهَا: أَنَّ نَهْيَهُ عَنِ التَّفْضِيلِ كَانَ قَبْلَ أَنْ يَعْلَمَ
أَنَّهُ سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ.. فَنَهَى عَنِ التفضيل
__________
(1) رواه الشيخان.
(2) تقدمت ترجمته في ص (31) رقم (5)
(3) اسم اليهودي (فنحاص) على ما رواه ابن اسحاق في سيرته بينما لم يذكر
اليلقون اسمه.
(4) رواه الشيخان وأبو داود والنسائي.
(5) رواه البخاري.
(6) تقدمت ترجمته في ص «314» رقم «2» .
(7) الذي رواه مسلم وأبو داود والترمذي.
(1/439)
إِذْ يَحْتَاجُ إِلَى تَوْقِيفٍ «1» ..
وَأَنَّ مَنْ فَضَّلَ بِلَا عِلْمٍ فَقَدْ كَذَبَ.
وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: لَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْهُ» ، لَا
يَقْتَضِي تَفْضِيلُهُ هُوَ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الظَّاهِرِ كَفٌّ عَنِ
التَّفْضِيلِ
الْوَجْهُ الثَّانِي أَنَّهُ قَالَهُ صَلَّى الله عليه وسلم عن طَرِيقِ
التَّوَاضُعِ وَنَفْيِ التَّكَبُّرِ وَالْعُجْبِ، وَهَذَا لَا يَسْلَمُ
مِنَ الِاعْتِرَاضِ «2» .
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَلَّا يُفَضِّلَ بَيْنَهُمْ تَفْضِيلًا يُؤَدِّي
إِلَى تَنَقُّصِ بَعْضِهِمْ، أَوِ الْغَضِّ مِنْهُ، لَا سِيَّمَا فِي
جِهَةِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُ بِمَا
أَخْبَرَ، لِئَلَّا يَقَعُ فِي نَفْسِ مَنْ لَا يَعْلَمُ مِنْهُ بِذَلِكَ
غَضَاضَةً وَانْحِطَاطٌ مِنْ رُتْبَتِهِ الرَّفِيعَةِ.
إِذْ قَالَ تَعَالَى عَنْهُ: «إِذْ أَبَقَ «3» إلى الفلك المشحون «4» »
«إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عليه «5» » .
فَرُبَّمَا يُخَيَّلُ لِمَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ حَطِيطَتُهُ «6» بذلك.
__________
(1) أي إعلام به وإذن فيه.
(2) ان الاعتراض إنما يرد لو ثبت نفيه تواضعا بعد علمه بكونه أفضل الانبياء
وأما قبل العلم فلا يخفى أنه اعتراض ساقط.
(3) أبق: أي خرج الى سفينة مملوءة بما فيها من الناس والمناع. والاباق
أصلا، هروب العبد من سيده: حسن اطلاقه عليه اذ خرج بغير اذن ربه.
(4) الصافات 140
(5) الأنبياء 87 «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ
نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ
سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ» .
(6) أي نقصه.
(1/440)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: مَنْعُ التَّفْضِيلِ
فِي حَقِّ النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ فَإِنَّ الْأَنْبِيَاءَ فِيهَا
عَلَى حَدٍّ وَاحِدٍ، إِذْ هِيَ شَيْءٌ وَاحِدٌ لَا يَتَفَاضَلُ،
وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ فِي زِيَادَةِ الْأَحْوَالِ وَالْخُصُوصِ
وَالْكَرَامَاتِ، وَالرُّتَبِ، وَالْأَلْطَافِ «1» وَأَمَّا النُّبُوَّةُ
فِي نَفْسِهَا فَلَا تَتَفَاضَلُ، وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بِأُمُورٍ
أُخَرَ زَائِدَةً عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ مِنْهُمْ رُسُلٌ «2» وَمِنْهُمْ
أُولُو عَزْمٍ «3» مِنَ الرُّسُلِ، وَمِنْهُمْ مَنْ رُفِعَ مَكَانًا
عَلِيًّا «4» ، وَمِنْهُمْ مَنْ أُوتِيَ الْحُكْمَ صَبِيًّا «5» وَأُوتِيَ
بَعْضُهُمُ الزَّبُورَ «6» ، وَبَعْضُهُمُ البينات «7» ، ومنهم من كلم الله
«8»
__________
(1) الألطاف: أي العطايا التي اعطاها الله بعضهم جمع لطف بفتحتين وهو
الهدية وهذا من باب الاستعارة.
(2) رسل: جمع رسول: وهو صاحب الرسالة من الله المأمور بتبليغ الشريعة فهو
أخص من النبي على المشهود.
(3) العزم: القوة والشدة والتصميم على تنفيذ ما يراه أولى به وبغيره وأولو
العزم من الرسل خمسة هم: «نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد» وقيل في عددهم
غير ذلك
(4) وهو إدريس سبط شيث وجد نوح واسمه قديما أخنوخ رفع الى السماء او إلى
الجنة كما قاله المفسرون.
(5) وهو يحيى إذ أحكم الله عقله وتنباه وآتاه الحكمة وفهم التوراة وأكثر
الانبياء نبيء بعد الاربعين وقد ذكر مثل هذا في عيسى أيضا.
(6) وهو داود عليه السلام.
(7) أي المعجزات الظاهرة الباهرة التي لم يؤتها أحد قبله من إحياء الموتى
وإبراء الأكمة والأبرص ونحوه مما فضله الله تعالى به وهو عيسى عليه الصلاة
والسلام.
(8) وهو موسى إذ كلمه بالطور لما رأى نارا.
(1/441)
ورفع بعضهم دَرَجَاتٍ «1» ، قَالَ اللَّهُ
تَعَالَى: «وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ «2» »
الْآيَةَ.
وَقَالَ «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ «3» الآية.
وقال: بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: وَالتَّفْضِيلُ الْمُرَادُ لَهُمْ هُنَا
فِي الدُّنْيَا، وَذَلِكَ بِثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ:
- أَنْ تَكُونَ آيَاتُهُ وَمُعْجِزَاتُهُ أَبْهَرُ وَأَشْهَرُ.
- أَوْ تَكُونُ أُمَّتُهُ أزكى وأكبر.
- أو يكون في ذاته أفضل وأظهر.
وَفَضْلُهُ فِي ذَاتِهِ رَاجِعٌ إِلَى مَا خَصَّهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ
كَرَامَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ مِنْ كَلَامٍ أَوْ خِلَّةٍ أَوْ رُؤْيَةٍ أَوْ
مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَلْطَافِهِ، وَتُحَفِ وِلَايَتِهِ وَاخْتِصَاصِهِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال «4»
: إن للنبوة أثقالا «5» ، وإنّ
__________
(1) وهو محمد صلّى الله عليه وسلم إذ فضله على من سواه بوجوه متعددة ومراتب
متباعدة كدعوته العامة للعرب والعجم والجن والانس والملائكة ومعجزاته
الباقية الى يوم القيامة ومن أجلها القرآن وغيره مما يفوت الحصر عن عده.
(2) الاسراء 55 «وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ
وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ
زَبُوراً» .
(3) البقرة 253 «تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ
مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ ... »
(4) كما في تفسير ابن أبي حاتم ومستدرك الحاكم عن وهب بن منبه.
(5) أثقالا: أي أحمالا ثقيلة والمراد هنا المشاق وهذا على سبيل الاستعارة
التصريحية
(1/442)
يُونُسَ تَفَسَّخَ «1» مِنْهَا تَفَسُّخَ
الرُّبَعِ «2» ..
فَحَفِظَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَوْضِعَ الْفِتْنَةِ مِنْ
أَوْهَامِ مَنْ يَسْبِقُ إِلَيْهِ بِسَبَبِهَا جَرْحٌ فِي نَبُوَّتِهِ، أو
قدح في اصطفائه، وحط من رُتْبَتِهِ، وَوَهْنٌ فِي عِصْمَتِهِ، شَفَقَةً
مِنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ.
وَقَدْ يَتَوَجَّهُ عَلَى هَذَا التَّرْتِيبِ وَجْهٌ خَامِسٌ وَهُوَ أَنْ
يَكُونَ:
«أَنَا» رَاجِعًا إِلَى الْقَائِلِ نَفْسِهِ، أَيْ لَا يَظُنُّ أَحَدٌ
وَإِنْ بَلَغَ مِنَ الذَّكَاءِ وَالْعِصْمَةِ وَالطَّهَارَةِ مَا بَلَغَ
أَنَّهُ خَيْرٌ مِنْ يونس لأجل ما حكي عَنْهُ، فَإِنَّ دَرَجَةَ
النُّبُوَّةِ أَفْضَلُ، وَأَعْلَى وَإِنَّ تِلْكَ الْأَقْدَارَ لَمْ
تَحُطَّهُ عَنْهَا حَبَّةَ خَرْدَلٍ وَلَا أَدْنَى.
وَسَنَزِيدُ فِي الْقِسْمِ الثَّالِثِ فِي هَذَا بَيَانًا- إِنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى-.
فَقَدْ بَانَ لَكَ الْغَرَضُ، وَسَقَطَ بِمَا حَرَّرْنَاهُ شُبْهَةُ
الْمُعْتَرِضِ.
وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ لَا إِلَهَ إلّا هو..
__________
(1) تفسخ: بالفاء والسين المهملة المشددة والخاء المعجمة أي تقطعت أعضاؤه
وتفككت لعدم طلقته عليه الصلاة والسلام بحملها يقال تفسخ البعير تحت الحملى
الثقيل وفسخ ثيابه اذا أزالها ومنه فسخ العقود عند الفقهاء.
(2) الربيع: بضم الراء النملة وفتح الباء الموحدة وللعين المهملة وهو
التفصيل أي ولد الناقة الصغير الذي يولد في الربيع والمقصود هنا أي تفسخ
كنفسيخة الربع أي لم يطق مشاق للرسالة ولم يصبر عليها وفي تشبهه بالربع
اشارة الى أنه كان في مبدأ أمره. وفي تفسخ استعارة تصريحية ويجوز أن تكون
استطرة تمثيلية وهو أحسن.
(1/443)
|