الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل الثالث معنى المعجزات
إعلم أنّ معنى تَسْمِيَتَنَا مَا جَاءَتْ بِهِ الْأَنْبِيَاءُ «مُعْجِزَةً»
- هُوَ أنّ الخلق عجزوا عن الإثبات بِمِثْلِهَا وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ:
- ضَرْبٌ هُوَ مِنْ نَوْعِ قُدْرَةِ الْبَشَرِ فَعَجَزُوا عَنْهُ فَتَعْجِيزُهُمْ عَنْهُ فِعْلٌ لِلَّهِ دَلَّ عَلَى صِدْقِ نَبِيِّهِ كَصَرْفِهِمْ عَنْ تَمَنِّي الْمَوْتِ «1» وَتَعْجِيزِهِمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِ القرآن على رأي بعضهم «2» ونحوه.
__________
(1) أي منع الله اليهود عن تمني الموت لما قالوا «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ» المائدة (18) «وَقالُوا: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى» البقرة (1) فكذبهم الله تعالى وألزمهم بقوله: «قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» البقرة (94) أي قل لهم يا محمد: إن كنتم أحباب الله تعالى والجنة مختصة بكم فاطلبوا الموت فإن من أحب الله أحب الله لقاءة ومن كانت داره الجنة يبادر لدخولها فلم يتمنه أحد منهم ولو بلسانه لصرف الله لهم عن ذلك ولذا ورد ولو تمنوه لم يبق على وجه الأرض يهودي.
(2) أي الذين يقولون ب «الصرفة» أي بصرف العرب الفصحاء عن معارضته مع تحديه لهم وتقريعهم بذلك على رؤوس الأشهاد حتى عدلوا عن مجادلة الحروف إلى مجادلة السيوف كما هو المشهور وهذا هو مذهب النظام وبعض المعتزلة والشيعة فقيل صرفهم يأت لم يكن دواع وبواعث لذلك وقيل سلبهم المعارف المركوزة في طبائعهم، من معرفة فنون-

(1/491)


- وضرب هو خارج عن قدرتهم، فَلَمْ يَقْدِرُوا عَلَى الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ كَإِحْيَاءِ الْمَوْتَى «1» ، وَقَلْبِ الْعَصَا «2» حَيَّةً، وَإِخْرَاجِ نَاقَةٍ مِنْ صَخْرَةٍ «3» وَكَلَامِ شَجَرَةٍ «4» وَنَبْعِ الْمَاءِ مِنَ الْأَصَابِعِ «5» ، وَانْشِقَاقِ الْقَمَرِ «6» ، مِمَّا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَفْعَلَهُ أَحَدٌ إلّا الله فيكون ذَلِكَ عَلَى يَدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ فِعْلِ اللَّهِ تَعَالَى وَتَحَدِّيهِ مَنْ يُكَذِّبُهُ أَنْ يَأْتِيَ بِمِثْلِهِ تَعْجِيزٌ لَهُ وَاعْلَمْ
__________
- البلاغة وأساليبها على القولين المشهورين في «الصرفة» والذي عليه الجمهور المحققون أن إعجازه إنما هو بما تضمنه من الفصاحة والبلاغة وغرابة الأساليب وبلاغة التراكيب وجزالتها وأنواع البديع ومطابقة المقامات وبديع الفواتح والمقاطع وروائع الاستعارات إلى غير ذلك، مما خرج عن طوق البشر وبلغ ذروة لا تصل إليها خطى الأفكار مع حلاوة وطلاوة تعين السامع. وإن أيسر رد على القول بالصرفة هي الحقيقة التي تمحق هذا القول وتطيح به ذلك أن بعضا ممن أصابهم الغرور وانتابهم السفه والطيش لجؤوا إلى محاكاة القرآن والإتيان بمثله فصدر عنهم كلام نزق مفكك، يدعو إلى الغثاثة والغثيان.. فهذا الأمر يدل دلالة واضحة على عدم صرفهم من الأصل بل إنهم لم يستطيعوا ولن يستطيع غيرهم محاكاة القرآن ولا تقليده وأنى لهم ذلك والقرآن كلام الله عز وجل.
(1) الذي وقع لإبراهيم وعيسى عليهما السلام.
(2) معجزة لموسى عليه السلام.
(3) بلا واسطة وأسباب معتادة معجزة لصالح عليه السلام لما اقترح عليه «جندع بن عمرو» سيد قومه أن يخرج لهم من صخرة أسمها «كاتبه» ناقة عشراء فصلى ودعا ربه فتمخضت تمخض الشرج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء وهم ينظرون ثم نتجت مثلها في العظم فآمن جندع في جمع من قومه وتمادى غيرهم في الكفر حتى عقروا الناقة فأخذتهم الرجفة.
(4) حنين الجذع للنبي صلّى الله عليه وسلم.
(5) وهذا جرى الرسول صلّى الله عليه وسلم.
(6) معجزة للرسول صلّى الله عليه وسلم بأن القمر انفلق فلقتين تشاهده وقد ثبت هذا في الأحاديث الصحيحة وروي من طرق متعددة خرجها السيوطي وبه فسر قوله تعالى: «اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ» سورة القمر (1) .

(1/492)


وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُعْجِزَاتِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلَى يَدِ نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَدَلَائِلَ نَبُّوَّتِهِ وَبَرَاهِينَ صِدْقِهِ مِنْ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ مَعًا.
- وَهُوَ أَكْثَرُ الرُّسُلِ مُعْجِزَةً وَأَبْهَرُهُمْ آيَةً وَأَظْهَرُهُمْ بُرْهَانًا كَمَا سَنُبَيِّنُهُ وَهِيَ فِي كَثْرَتِهَا لَا يُحِيطُ بِهَا ضَبْطٌ فَإِنَّ وَاحِدًا مِنْهَا وَهُوَ «الْقُرْآنُ» لَا يُحْصَى عَدَدُ مُعْجِزَاتِهِ بِأَلْفٍ وَلَا أَلْفَيْنِ وَلَا أَكْثَرَ.. لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ تَحَدَّى بِسُورَةٍ مِنْهُ فَعُجِزَ عَنْهَا أَهْلُ الْعِلْمِ.. وَأَقْصَرُ السُّوَرِ «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ «1» » فكل آية منه أَوْ آيَاتٍ مِنْهُ بِعَدَدِهَا وَقَدْرِهَا مُعْجِزَةٌ.. ثُمَّ فيها نفسها معجزات على ما سنفعله فِيمَا انْطَوَى عَلَيْهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ.
ثُمَّ مُعْجِزَاتُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى قِسْمَيْنِ:
- قِسْمٌ مِنْهَا عُلِمَ قَطْعًا وَنُقِلَ إِلَيْنَا مُتَوَاتِرًا كَالْقُرْآنِ فَلَا مِرْيَةَ وَلَا خِلَافَ بِمَجِيءِ النَّبِيِّ بِهِ وظهووه مِنْ قِبَلِهِ وَاسْتِدْلَالِهِ بِحُجَّتِهِ.. وَإِنْ أَنْكَرَ هَذَا مُعَانِدٌ جَاحِدٌ فَهُوَ كَإِنْكَارِهِ وُجُودَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الدُّنْيَا..
وَإِنَّمَا جَاءَ اعْتِرَاضُ الْجَاحِدِينَ فِي الْحُجَّةِ بِهِ، فَهُوَ فِي نَفْسِهِ وَجَمِيعِ مَا تَضَمَّنَهُ مِنْ مُعْجِزٍ مَعْلُومٌ ضرورة، ووجه إعجازه معلوم ضرورة
__________
(1) سورة الكوثر (1) .

(1/493)


وَنَظَرًا كَمَا سَنَشْرَحُهُ.. قَالَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا «1» وَيَجْرِي هَذَا الْمَجْرَى عَلَى الْجُمْلَةِ أَنَّهُ قَدْ جَرَى عَلَى يَدَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ آيَاتٌ وَخَوَارِقُ عَادَاتٍ إِنْ لَمْ يَبْلُغْ وَاحِدٌ مِنْهَا معينا القطع فيبلغها جَمِيعُهَا فَلَا مِرْيَةَ فِي جَرَيَانِ مَعَانِيهَا عَلَى يَدَيْهِ وَلَا يَخْتَلِفُ مُؤْمِنٌ وَلَا كَافِرٌ أَنَّهُ جَرَتْ عَلَى يَدَيْهِ عَجَائِبُ..
وَإِنَّمَا خِلَافُ الْمُعَانِدِ فِي كَوْنِهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ.. وَقَدْ قَدَّمْنَا كَوْنَهَا مِنْ قِبَلِ اللَّهِ.. وَإِنَّ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ قَوْلِهِ «صَدَقْتَ» فَقَدْ عُلِمَ وُقُوعُ مِثْلِ هَذَا أَيْضًا مِنْ نَبِيِّنَا ضَرُورَةً لِاتِّفَاقِ مَعَانِيهَا، كَمَا يُعْلَمُ ضَرُورَةً جُودُ حَاتِمٍ «2» وَشَجَاعَةُ عَنْتَرَةَ «3» ، وَحِلْمُ أَحْنَفَ «4» .. لِاتِّفَاقِ الْأَخْبَارِ الْوَارِدَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.. عَلَى كَرَمِ هَذَا وَشَجَاعَةِ هَذَا.. وَحِلْمِ هَذَا.. وَإِنْ كَانَ كُلُّ خَبَرٍ بِنَفْسِهِ لَا يوجب العلم، ولا يقطع بصحته
__________
(1) أي علماء الحديث والتفسير. لا المالكية إذ لا اختصاص لما ذكر بمذهب.
(2) وهو حاتم الطائي اشهر من يعرف فأخباره في الجود مشهورة معروفة وكان في الجاهلية قريبا من مبعثه صلّى الله عليه وسلم فابنه عدي أدرك الاسلام وكان من كبار الصحابة رضي الله عنهم.
(3) عنترة ويقال: عنتر وهو ابن معاوية بن شداد القيسي من فرسانها العرب وفصحائها المشهورين وله إحدى المعلقات السبع، مات على كفره في الجاهلية
(4) الاحنف بن قيس بن معاوية بن حصين المري السعدي المنقري التميمي أبو بحر: سيد تميم، أحد العظماء الدهاة الفصحاء الشجعان الفاتحين يضرب به المثل في الحلم ولد في البصرة وأدرك النبي صلّى الله عليه وسلم ولم يره وهو الذي إذا غضب غضب له مائه ألف لا يدرون فيم غضب توفي سنة 72 هـ.

(1/494)


- وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الضَّرُورَةِ وَالْقَطْعِ.. وَهُوَ عَلَى نَوْعَيْنِ.
- نَوْعٌ مُشْتَهِرٌ مُنْتَشِرٌ.. رَوَاهُ الْعَدَدُ وَشَاعَ الْخَبَرُ بِهِ عِنْدَ الْمُحَدِّثِينَ وَالرُّوَاةِ وَنَقَلَةِ السِّيَرِ وَالْأَخْبَارِ.. كَنَبْعِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ الْأَصَابِعِ، وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ.
- وَنَوْعٌ مِنْهُ اخْتُصَّ بِهِ الْوَاحِدُ وَالِاثْنَانِ.. وَرَوَاهُ الْعَدَدُ الْيَسِيرُ وَلَمْ يَشْتَهِرِ اشْتِهَارَ غَيْرِهِ.. لَكِنَّهُ إِذَا جُمِعَ إِلَى مِثْلِهِ اتَّفَقَا فِي الْمَعْنَى وَاجْتَمَعَا عَلَى الْإِتْيَانِ بِالْمُعْجِزِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ: وَأَنَا أَقُولُ- صَدْعًا بِالْحَقِّ- إِنَّ كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمَأْثُورَةِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَعْلُومَةٌ بِالْقَطْعِ.
أَمَّا انْشِقَاقُ الْقَمَرِ فَالْقُرْآنُ نَصَّ بِوُقُوعِهِ، وَأَخْبَرَ عَنْ وُجُودِهِ، وَلَا يُعْدَلُ عَنْ ظَاهِرٍ إِلَّا بِدَلِيلٍ.. وَجَاءَ بِرَفْعِ احْتِمَالِهِ صَحِيحُ الْأَخْبَارِ مِنْ طُرُقٍ كَثِيرَةٍ، وَلَا يُوهِنُ عَزْمَنَا خِلَافُ أَخْرَقَ «1» مُنْحَلِّ عُرَى الدِّينِ.. وَلَا يُلْتَفَتُ إِلَى سَخَافَةِ مُبْتَدِعٍ يُلْقِي الشَّكَّ عَلَى قلوب ضعفاء المؤمنين.. بل نرغم بهذا أنفه وننبذ بالعراء سخفه
__________
(1) أخرق: قال الثعالبي في فقه اللغة في أنواع الحمق أولها أحمق ثم أبله فان كان معه عدم الرفق فهو أخرق.

(1/495)


وَكَذَلِكَ قِصَّةُ نَبْعِ الْمَاءِ وَتَكْثِيرِ الطَّعَامِ: رَوَاهَا الثِّقَاتُ وَالْعَدَدُ الْكَثِيرُ عَنِ الْجَمَّاءِ الْغَفِيرِ عَنِ الْعَدَدِ الْكَثِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ..
وَمِنْهَا مَا رَوَاهُ الْكَافَّةِ مُتَّصِلًا عَمَّنْ حَدَّثَ بِهَا مِنْ جُمْلَةِ الصَّحَابَةِ وَأَخْيَارِهِمْ.. أَنَّ ذَلِكَ كَانَ فِي مَوْطِنِ اجْتِمَاعِ الْكَثِيرِ مِنْهُمْ فِي يَوْمِ الْخَنْدَقِ «1» ، وَفِي غَزْوَةِ بُوَاطٍ «2» .. وَعُمْرَةِ الْحُدَيْبِيَةِ «3» وَغَزْوَةِ تَبُوكَ «4» وَأَمْثَالِهَا مِنْ مَحَافِلِ «5» الْمُسْلِمِينَ وَمَجْمَعِ الْعَسَاكِرِ.. وَلَمْ يُؤْثَرْ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مُخَالَفَةٌ لِلرَّاوِي فِيمَا حكاه.. ولا إنكار عما
__________
(1) الخندق بفتح الخاء المعجمة وسكون وفتح الدال المهملة وقاف وهو فارسي معرب «كنده» بمعنى الحفر والمراد غزوة الخندق «تسمى غزوة الأحزاب» لاجتماع أحزاب المشركين واليهود بها حول المدينة فأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بحفر خندق أشار عليه سلمان الفارسي رضي الله عنه به ولم يكن ذلك معروفا عند العرب وإنما هو من مكائد الفرس. وكان ذلك في شوال وقيل في ذي القعدة سنة أربع أو خمس من الهجر النبوية.
(2) بواط: بضم الباء وفتحها وهو اسم جبل من جبال حهينة بينه وبين المدينة أربعة برد بقرب رضوى وهو جبل أيضا، وهي التي ظفر بها النبي صلّى الله عليه وسلم بعير قريش، وكانت الغزاة في شهر ربيع الأول على رأس ثلاثة عشر شهرا من الهجرة
(3) الحديبية: مصفر كدويهية اسم مكان أو بئر فيه قريبة من مكة سميت بشجرة حدباء، وهي التي وقع تحتها بيعة المرضوان، وهي بتخفيف الياء الثانية على الصحيح وشددها بعضهم وكانت في ذي القعدة سنة ست من الهجرة.
(4) غزوة تبوك آخر غزواته صلّى الله عليه وسلم السنة التاسعة. وتبوك موضع بطرف الشام بينه وبين المدينة أربع عشرة مرحلة.
(5) محافل: جمع محفل من حفل القوم إذا اجتمعوا وكثروا وقيل المحفل مجمع الرجال والمأثم مجمع النساء والنادي مجمع النساء في الشتاء ودار الندوة والمصطبة مجمع الغرباء وقيل محل اجتماعهم لأمورهم والمجلس مقر الناس في بيوتهم والحان محل المسافرين والحانوت محل البيع والشراء.

(1/496)


ذكر عنهم أنهم رأوه كما رواه.. فسكوت الساكت منهم كنطق الناطق.. إذهم الْمُنَزَّهُونَ عَنِ السُّكُوتِ عَلَى بَاطِلٍ.. وَالْمُدَاهَنَةِ فِي كَذِبٍ.. وَلَيْسَ هُنَاكَ رَغْبَةٌ وَلَا رَهْبَةٌ تَمْنَعُهُمْ.. وَلَوْ كَانَ مَا سَمِعُوهُ مُنْكَرًا عِنْدَهُمْ وَغَيْرَ مَعْرُوفٍ لَدَيْهِمْ لَأَنْكَرُوهُ كَمَا أَنْكَرَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ أَشْيَاءَ رَوَاهَا مِنَ السُّنَنِ وَالسِّيَرِ وَحُرُوفِ «1» الْقُرْآنِ.
وَخَطَّأَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَوَهَّمَهُ فِي ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ.
- فَهَذَا النَّوْعُ كُلُّهُ يَلْحَقُ بِالْقَطْعِيِّ مِنْ مُعْجِزَاتِهِ، لِمَا بَيَّنَّاهُ.
وَأَيْضًا فَإِنَّ أَمْثَالَ الْأَخْبَارِ الَّتِي لَا أَصْلَ لَهَا وَبُنِيَتْ على باطل لا بدمع مرور الأزمات وَتَدَاوُلِ النَّاسِ وَأَهْلِ الْبَحْثِ مِنِ انْكِشَافِ ضَعْفِهَا وَخُمُولِ ذِكْرِهَا.. كَمَا يُشَاهَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ وَالْأَرَاجِيفِ «2» الطَّارِئَةِ.. وَأَعْلَامُ «3» نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الْوَارِدَةُ مِنْ طَرِيقِ الْآحَادِ.. لَا تَزْدَادُ مَعَ مُرُورِ الزَّمَانِ إِلَّا ظهورا.. ومع
__________
(1) حروف القرآن: أي قراءاته المتعددة فإن كل وجه من القراءة يطلق عليه حرف وبه فسر حديث «أنزل القرآن على سبعة أحرف» أي لغات.
(2) الأراجيف: جمع إرجاف بكسر الهمزة وفتحها وقيل إنه جمع رجفة من الرجف وهو الاضطراب والتحرك بحركات متوالية ولذا سمي البحر رجافا لاضطراب أمواجه، وهي هنا بمعنى الأخبار السيئة التي تشيع بين الناس ثم تنسى لظهور كذبها.
(3) أعلام: بفتح الهمزة جمع علم بمعنى علامة او راية كبيرة والمراد معجزته المعلومة المشهورة.

(1/497)


تَدَاوُلِ الْفِرَقِ وَكَثْرَةِ طَعْنِ الْعَدُوِّ وَحِرْصِهِ عَلَى توهينها وتضعيف أصلها وإجهاد الملحد من إطفاء نورها إلا قوة وقبولا ولا للطاعن عَلَيْهَا إِلَّا حَسْرَةً وَغَلِيلًا «1» ..
- وَكَذَلِكَ إِخْبَارُهُ عَنِ الْغُيُوبِ وَإِنْبَاؤُهُ بِمَا يَكُونُ وَكَانَ مَعْلُومٌ مِنْ آياته على الجملة بالضرورة.. وهذا حق لاغطاء عَلَيْهِ.
وَقَدْ قَالَ بِهِ مِنْ أَئِمَّتِنَا «2» الْقَاضِي»
وَالْأُسْتَاذُ أَبُو بَكْرٍ «4» وَغَيْرُهُمَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ وَمَا عِنْدِي أَوْجَبَ قَوْلَ الْقَائِلِ إِنَّ هَذِهِ الْقِصَصَ الْمَشْهُورَةَ مِنْ بَابِ خَبَرِ الْوَاحِدِ إِلَّا قِلَّةُ مُطَالَعَتِهِ لِلْأَخْبَارِ وَرِوَايَتِهَا، وَشُغْلُهُ بِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَارِفِ. وَإِلَّا فَمَنِ اعْتَنَى بِطُرُقِ النَّقْلِ، وَطَالَعَ الْأَحَادِيثَ وَالسِّيَرَ، لَمْ يَرْتَبْ فِي صِحَّةِ هَذِهِ الْقِصَصِ الْمَشْهُورَةِ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.. وَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَحْصُلَ الْعِلْمُ بِالتَّوَاتُرِ عِنْدَ وَاحِدٍ، وَلَا يَحْصُلُ عِنْدَ آخَرَ، فَإِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ يَعْلَمُونَ بِالْخَبَرِ كَوْنَ بَغْدَادَ مَوْجُودَةً وَأَنَّهَا مَدِينَةٌ عظيمة، ودار الإمامة الخلافة،
__________
(1) غليلا: بالغين المعجمة أو أصله حرارة وتلهف في الجوف من شدة العطش والمراد به هنا مجازا الحقد المضمر والحسد.
(2) المقتدى بهم من الأشعرية أو المالكية.
(3) أبو بكر الباقلاني الأصولي المالكي لأنه المراد به إذا أطلق تقدمت ترجمته في ص «385» رقم «1» .
(4) بن فورك تقدمت ترجمته في ص «119» رقم «4»

(1/498)


وَآحَادٌ مِنَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ اسْمَهَا فَضْلًا عَنْ وَصْفِهَا..
وَهَكَذَا يَعْلَمُ الْفُقَهَاءُ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ «1» بِالضَّرُورَةِ وَتَوَاتُرِ النَّقْلِ عَنْهُ أَنَّ مَذْهَبَهُ إِيجَابُ قِرَاءَةِ أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الصَّلَاةِ لِلْمُنْفَرِدِ وَالْإِمَامِ، وَإِجْزَاءُ النِّيَّةِ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ عَمَّا سِوَاهُ وَأَنَّ الشَّافِعِيَّ «2» يَرَى تَجْدِيدَ النِّيَّةِ كُلَّ لَيْلَةٍ. وَالِاقْتِصَارَ فِي الْمَسْحِ عَلَى بَعْضِ الرَّأْسِ.
وَإِنَّ مَذْهَبَهُمَا «3» الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلِ بِالْمُحَدَّدِ «4» وَغَيْرِهِ «5» وَإِيجَابُ النِّيَّةِ فِي الْوُضُوءِ، وَاشْتِرَاطُ الْوَلِيِّ فِي النِّكَاحِ.. وَأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ «6» يُخَالِفُهُمَا فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ «7» .. وَغَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَشْتَغِلْ بِمَذَاهِبِهِمْ وَلَا رَوَى أَقْوَالَهُمْ لَا يَعْرِفُ هَذَا مِنْ مَذَاهِبِهِمْ فَضْلًا عَمَّنْ سِوَاهُ.
وَعِنْدَ ذِكْرِنَا آحَادَ هَذِهِ الْمُعْجِزَاتِ نَزِيدُ الْكَلَامَ فِيهَا بَيَانًا إن شاء الله تعالى.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ص «341» رقم «7» .
(2) تقدمت ترجمته في ص «155» رقم «8» .
(3) اي مالك والشافعي.
(4) المحدد: اسم مصقول مشدد الدال وهو حديد له حد جارح كالسيف ونحوه
(5) وغيره: مما لا حد له كالعصا والحجر والشجر.
(6) أعلام: النعمان بن ثابت التيمي بالولاء الكوفي- أبو حنيفة واليه ينسب المذهب الحنفي، الفقيه المجتهد المحقق. أحد الأئمة الأربعة، ولد ونشأ بالكوفة، طلبه المنصور للقضاء فامتنع فحبسه وضربه حتى مات. كان قوي الحجة ومن أحسن الناس منطقا. جوادا، كريما في أخلاقه، حسن الصورة جهوري الصوت توفي سنة 150 هـ
(7) في مذهب أبي حنيفة أن القصاص لا يوجب في غير المحدد بل الدية ولا يوجب النية في الوضوء، وخالف فيه بعض الحنيفة كما في الأسرار للدبوسي، كذلك لا يشترط في النكاح الولي.

(1/499)