الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الثَّانِي بَيْنَ النُّبُوَّةِ
وَالرِّسَالَةِ
اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ اسْمُهُ قَادِرٌ عَلَى خَلْقِ الْمَعْرِفَةِ
فِي قُلُوبِ عِبَادِهِ، وَالْعِلْمِ بِذَاتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ،
وَجَمِيعِ تَكْلِيفَاتِهِ ابْتِدَاءً دُونَ وَاسِطَةٍ لَوْ شَاءَ كَمَا
حُكِيَ عَنْ سُنَّتِهِ فِي بَعْضِ الْأَنْبِيَاءِ. وذكره بعض أهل التفسير
في قوله: «وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً «1»
» .
وَجَائِزٌ أَنْ يُوصِلَ إِلَيْهِمْ جَمِيعَ ذَلِكَ بِوَاسِطَةٍ
تُبَلِّغُهُمْ كَلَامَهُ، وَتَكُونُ تِلْكَ الْوَاسِطَةُ إِمَّا مِنْ
غَيْرِ الْبَشَرِ. كَالْمَلَائِكَةِ مَعَ الْأَنْبِيَاءِ، أَوْ مِنْ
جِنْسِهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ مَعَ الْأُمَمِ. وَلَا مَانِعَ لِهَذَا مِنْ
دَلِيلِ الْعَقْلِ.
- وَإِذَا جَازَ هَذَا وَلَمْ يَسْتَحِلْ، وَجَاءَتِ الرُّسُلُ بِمَا دَلَّ
عَلَى صِدْقِهِمْ من معجزاتهم وَجَبَ تَصْدِيقُهُمْ فِي جَمِيعِ مَا
أَتَوْا بِهِ.
- لِأَنَّ الْمُعْجِزَةَ مَعَ التَّحَدِّي مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ:
__________
(1) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ
مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رسولا فيوحي باذنه ما يشاء إنه علي
حكيم: الشورى «517» .
(1/486)
«صَدَقَ عَبْدِي فَأَطِيعُوهُ
وَاتَّبِعُوهُ» وَشَاهِدٌ عَلَى صِدْقِهِ فِيمَا يَقُولُهُ، وَهَذَا
كَافٍ.. وَالتَّطْوِيلُ فِيهِ خَارِجٌ عَنِ الْغَرَضِ. فَمَنْ أَرَادَ
تَتَبُّعَهُ وَجَدَهُ مُسْتَوْفًى فِي مُصَنَّفَاتِ أَئِمَّتِنَا
رَحِمَهُمُ اللَّهُ.
فَالنُّبُوَّةُ: فِي لُغَةِ مَنْ هَمَزَ مَأْخُوذَةٌ مِنَ النَّبَأِ،
وَهُوَ الخبر وقد لا يهمز عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ تَسْهِيلًا.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَطْلَعَهُ عَلَى غَيْبِهِ،
وَأَعْلَمَهُ أَنَّهُ نَبِيُّهُ فَيَكُونُ نَبِيٌّ (مُنَبَّأً) فَعِيلٌ
بِمَعْنَى (مَفْعُولٍ) أَوْ يَكُونُ مُخْبِرًا عَمَّا بَعَثَهُ اللَّهُ
تَعَالَى بِهِ، وَمُنَبِّئًا بِمَا أَطْلَعَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ. فَعِيلٌ
بِمَعْنَى فَاعِلٍ. وَيَكُونُ عِنْدَ مَنْ لَمْ يَهْمِزْهُ مِنَ
النُّبُوَّةِ. وَهُوَ مَا ارْتَفَعَ مِنَ الْأَرْضِ. وَمَعْنَاهُ أَنَّ
لَهُ رُتْبَةً شَرِيفَةً وَمَكَانَةً نَبِيهَةً عِنْدَ مَوْلَاهُ مَنِيفَةً
«2» .. فَالْوَصْفَانِ فِي حَقِّهِ مُؤْتَلِفَانِ.
وَأَمَّا الرَّسُولُ فَهُوَ الْمُرْسَلُ، وَلَمْ يَأْتِ فَعُولٌ بِمَعْنَى
مُفْعَلٍ فِي اللُّغَةِ إِلَّا نَادِرًا.. وَإِرْسَالُهُ أَمْرُ اللَّهِ
لَهُ بِالْإِبْلَاغِ إِلَى مَنْ أَرْسَلَهُ إِلَيْهِ وَاشْتِقَاقُهُ مِنَ
التَّتَابُعِ.. وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: جَاءَ النَّاسُ أرسالا.. إذا تبع
بَعْضُهُمْ بَعْضًا.. فَكَأَنَّهُ أُلْزِمَ تَكْرِيرَ التَّبْلِيغِ.. أَوْ
ألزمت
__________
(2) منيفة: من أناف أي عالية مشرفة.
(1/487)
الْأُمَّةُ اتِّبَاعَهُ وَاخْتَلَفَ
الْعُلَمَاءُ: هَلِ النَّبِيُّ وَالرَّسُولُ بِمَعْنًى أَوْ بِمَعْنَيَيْنِ
فَقِيلَ: هُمَا سَوَاءٌ وَأَصْلُهُ مِنَ الْإِنْبَاءِ وَهُوَ الْإِعْلَامُ،
وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ «1» » فَقَدْ أَثْبَتَ لَهُمَا مَعًا الْإِرْسَالَ
قَالَ: وَلَا يَكُونُ النَّبِيُّ إِلَّا رَسُولًا وَلَا الرَّسُولُ إِلَّا
نَبِيًّا. وَقِيلَ: هُمَا مُفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ.. إِذْ قَدِ
اجْتَمَعَا فِي النُّبُوَّةِ الَّتِي هِيَ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْغَيْبِ،
وَالْإِعْلَامُ بِخَوَاصِّ النُّبُوَّةِ أَوِ الرِّفْعَةِ لِمَعْرِفَةِ
ذَلِكَ وَحَوْزِ دَرَجَتِهَا..
- وَافْتَرَقَا فِي زِيَادَةِ الرسالة للرسول.. وهو الْأَمْرُ
بِالْإِنْذَارِ وَالْإِعْلَامِ كَمَا قُلْنَا، وَحُجَّتُهُمْ مِنَ الْآيَةِ
نَفْسِهَا التَّفْرِيقُ بَيْنَ الِاسْمَيْنِ، وَلَوْ كَانَا شيئا واحدا لما
حسن تكرار هما فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ.
قَالُوا وَالْمَعْنَى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَى أُمَّةٍ، أَوْ
نَبِيٍّ وَلَيْسَ بِمُرْسَلٍ إِلَى أَحَدٍ.
وَقَدْ ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إِلَى أنّ الرسول قد جَاءَ بِشَرْعٍ مُبْتَدَأٍ،
وَمَنْ لَمْ يَأْتِ بِهِ نَبِيٌّ غَيْرُ رَسُولٍ. وَإِنْ أُمِرَ
بِالْإِبْلَاغِ وَالْإِنْذَارِ.
وَالصَّحِيحُ وَالَّذِي عَلَيْهِ الْجَمَّاءُ الْغَفِيرُ «2» : أَنَّ كُلَّ
رسول نبيّ
__________
(1) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا
إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ
مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ
عَلِيمٌ حَكِيمٌ الْحَجِّ. (52)
(2) الجماء الغفير: جماعة الناس يقال جاؤوا جماء غفيرا والجماء بالمد
وبالقصر والغفير صفة لازمة للجماء لا يفرد بدونها من الغفر وهو الستر كأنهم
لكثرتهم ستروا وجه الأرض
(1/488)
وَلَيْسَ كُلُّ نَبِيٍّ رَسُولًا وَأَوَّلُ
الرُّسُلِ: آدَمُ وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ.
وَفِي حَدِيثِ «1» أَبِي ذَرٍّ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: «إِنَّ الأنبياء
مئة أَلْفٍ وَأَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ أَلْفَ نَبِيٍّ» وَذَكَرَ أَنَّ الرسل
منهم ثلاث مئة وَثَلَاثَةَ عَشَرَ أَوَّلُهُمْ آدَمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ
فَقَدْ بَانَ لَكَ مَعْنَى النُّبُوَّةِ وَالرِّسَالَةِ وَلَيْسَتَا عِنْدَ
الْمُحَقِّقِينَ ذَاتًا لِلنَّبِيِّ «3» .. وَلَا وَصْفَ ذَاتٍ «4» ..
خِلَافًا لِلْكَرَّامِيَّةِ «5» ، فِي تَطْوِيلٍ لَهُمْ وَتَهْوِيلٍ،
لَيْسَ عَلَيْهِ تَعْوِيلٌ..
وَأَمَّا الْوَحْيُ: فَأَصْلُهُ الْإِسْرَاعُ.. فَلَمَّا كَانَ النَّبِيُّ
يَتَلَقَّى مَا يَأْتِيهِ مِنْ رَبِّهِ بِعَجَلٍ سُمِّيَ وَحْيًا..
وَسُمِّيَتْ أَنْوَاعُ الْإِلْهَامَاتِ وَحْيًا تَشْبِيهًا بِالْوَحْيِ
إِلَى النَّبِيِّ وَسُمِّيَ الْخَطُّ «وَحْيًا» لِسُرْعَةِ حركة يد
__________
(1) رواه أحمد في مسنده وابن حبان والحاكم في مستدركه.
(2) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1»
(3) أي ليستا أمرا ذاتيا في الرسول ولا جبلة طبعه الله عليها كالعقل وغيره
من الغرائز، وليست النبوة مكتسبة برياضة وتصفية باطن كما ذهب اليه الحكماء
وإنما هي أمر طارىء عليه بارادة الله تعالى وفضله والله تعالى أعلم حيث
يجعل رسالته.
(4) اي ليست صفة قائمة بذاته موجودة فيه قبل الوحي اليه.
(5) الكرامية: بتشديد الراء وتخفيفها على القولين وفتح الكاف وكسرها على
التخفيف وهي طائفة تنسب الى محمد بن كرام وكان صاحب مذهب في العقائد وغيرها
وله رواية في الحديث وكان يجوز الكذب على النبي صلّى الله عليه وسلم في
الترغيب والترهيب لانه له لا عليه ومات في القدس في صفر سنة خمس وخمسين
ومائتين.
(1/489)
كَاتِبِهِ «وَوَحْيُ الْحَاجِبِ
وَاللَّحْظِ «1» » سُرْعَةُ إِشَارَتِهِمَا.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً
وَعَشِيًّا «2» » أَيْ أَوْمَأَ وَرَمَزَ وَقِيلَ كَتَبَ.. وَمِنْهُ
قَوْلُهُمْ الْوَحَا..
الْوَحَا «3» .. أَيِ السُّرْعَةَ.. السُّرْعَةَ وَقِيلَ: أَصْلُ الْوَحْيِ
السِّرُّ وَالْإِخْفَاءُ.. وَمِنْهُ سُمِّيَ الْإِلْهَامُ وَحْيًا..
ومنه قوله تعالى: «وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ
«4» » أَيْ يُوَسْوِسُونَ فِي صُدُورِهِمْ.
وَمِنْهُ قَوْلُهُ: «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى «5» » أَيْ أُلْقِيَ
فِي قَلْبِهَا وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
«وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً «6» » أَيْ
مَا يُلْقِيهِ فِي قَلْبِهِ دُونَ وَاسِطَةٍ.
__________
(1) اللحظ: مؤخر العين، ثم أطلق على النظر فيقال لحظه بعينه وهو هنا مستعار
(2) سورة مريم آية (11) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى
إِلَيْهِمْ أَنْ
(3) الوحا: بفتح الواو والمد والقصر ويقال الوحاك بكاف الخطاب أيضا كما في
الأساس وهو منصوب بفعل مقدر للاعراب.
(4) سورة الأنعام آية (2) (لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ
إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)
(5) سورة القصص آية «7» (أَنْ أَرْضِعِيهِ)
(6) سورة الشورى آية «52» (أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا
فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) .
(1/490)
|