الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الْخَامِسُ إِعْجَازُ النَّظْمِ
وَالْأُسْلُوبِ
الْوَجْهُ الثَّانِي مِنْ إِعْجَازِهِ.. صُورَةُ نَظْمِهِ الْعَجِيبِ
وَالْأُسْلُوبُ الْغَرِيبُ الْمُخَالِفُ لِأَسَالِيبِ كَلَامِ الْعَرَبِ
وَمَنَاهِجِ نَظْمِهَا وَنَثْرِهَا الَّذِي جَاءَ عَلَيْهِ، وَوَقَفَتْ
مَقَاطِعُ آيِهِ وَانْتَهَتْ فَوَاصِلُ كَلِمَاتِهِ إِلَيْهِ.. وَلَمْ
يُوجَدْ قَبْلَهُ وَلَا بَعْدَهُ نَظِيرٌ لَهُ.. وَلَا اسْتَطَاعَ أَحَدٌ
مُمَاثَلَةَ شيء فيه مِنْهُ بَلْ حَارَتْ فِيهِ عُقُولُهُمْ..
وَتَدَلَّهَتْ «1» دُونَهُ أَحْلَامُهُمْ..
وَلَمْ يَهْتَدُوا إِلَى مِثْلِهِ فِي جِنْسِ كَلَامِهِمْ.. مِنْ نَثْرٍ،
أَوْ نَظْمٍ، أَوْ سَجْعٍ، أَوْ رَجَزٍ، أَوْ شِعْرٍ..
وَلَمَّا سَمِعَ كَلَامَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْوَلِيدُ
بْنُ الْمُغِيرَةِ «2» . وَقَرَأَ عَلَيْهِ الْقُرْآنَ رَقَّ فَجَاءَهُ
أَبُو جَهْلٍ «3» مُنْكِرًا عَلَيْهِ قَالَ: «وَاللَّهِ مَا مِنْكُمْ
أَحَدٌ أعلم
__________
(1) تدلهت: اندهشت بفتح الدال المهملة واللام المشددة أي اندهشت وفي نسخة
«تولهت» بواو بدل الدال.
(2) تقدمت ترجمته في ص «506» رقم «6»
(3) تقدمت ترجمته في ص «270» رقم «3»
(1/511)
بِالْأَشْعَارِ مِنِّي وَاللَّهِ مَا
يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا» .
وَفِي خَبَرِهِ الْآخَرِ «1» حِينَ جمع قريشا عِنْدَ حُضُورِ الْمَوْسِمِ
وَقَالَ:
«إِنَّ وُفُودَ الْعَرَبِ تَرِدُ فَأَجْمِعُوا فِيهِ رَأْيًا لَا يُكَذِّبُ
بَعْضُكُمْ بَعْضًا» فَقَالُوا: نَقُولُ كَاهِنٌ. قَالَ: وَاللَّهِ مَا
هُوَ بِكَاهِنٍ.. مَا هُوَ بِزَمْزَمَتِهِ «2» وَلَا سَجْعِهِ. قَالُوا:
مَجْنُونٌ!! قَالَ: مَا هُوَ بِمَجْنُونٍ.. وَلَا بِخَنْقِهِ «3» وَلَا
وَسْوَسَتِهِ «4» . قَالُوا: فَنَقُولُ شَاعِرٌ!! قَالَ: مَا هُوَ
بِشَاعِرٍ.. قَدْ عَرَفْنَا الشِّعْرَ كُلَّهُ رَجَزَهُ «5» وَهَزَجَهُ «6»
، وَقَرِيضَهُ «7» وَمَبْسُوطَهُ «8» وَمَقْبُوضَهُ «9» مَا هُوَ
بِشَاعِرٍ.
قَالُوا: فَنَقُولُ سَاحِرٌ!! قَالَ: مَا هُوَ بساحر، ولا نفثه «10»
__________
(1) الذي رواه البيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
(2) زمزمته: صوته الخفي الذي لا يكاد يفهم.
(3) بخنقه: بفتح الخاء وكسر النون وتسكن وفتح القاف أي ليس ممن أصابه الجبن
(4) وسوسة: بفتح الواو مصدر وهو شيء يلقى في القلب او في السمع بصوت خفي
وقد يحدث المرء به نفسه ولذا سمي حديث النفس.
(5) رجزه: هو بحر من أبحر الشعر المعروفة وزنه مستفعلن مستفعلن مستفعلن
(6) هزجه: بفتحتين ومعجمتين وهو اسم لبحر من بحور الشعر وزنه مفاعلين
مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن.
(7) قريضة: قرض الشعر لغة جاء من القطع وسمي الشعر بذلك لأن الشاعر يورده
قطعا قطعا وعرفا: معرفة محاسن الشعر وقبحه.
(8) مبسوطة: اي مطولات قصائده.
(9) مقبوضه: مختصر أوزانه المسمى في العروض بالمجزوء او المنهوك.
(10) نقثه: النفث النفخ مع ريق.
(1/512)
وَلَا عَقْدِهِ «1» . قَالُوا: فَمَا
نَقُولُ؟!!. قَالَ: مَا أَنْتُمْ بِقَائِلِينَ مِنْ هَذَا شَيْئًا إِلَّا
وَأَنَا أَعْرِفُ أَنَّهُ بَاطِلٌ.. وَإِنَّ أَقْرَبَ الْقَوْلِ أَنَّهُ
سَاحِرٌ فَإِنَّهُ سِحْرٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَابْنِهِ
وَالْمَرْءِ وَأَخِيهِ، وَالْمَرْءِ وَزَوْجِهِ، وَالْمَرْءِ وَعَشِيرَتِهِ
فَتَفَرَّقُوا وَجَلَسُوا عَلَى السُّبُلِ يُحَذِّرُونَ النَّاسَ.
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْوَلِيدِ: «ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ
وَحِيداً» «2»
وَقَالَ عُتْبَةُ «3» بْنُ رَبِيعَةَ حِينَ سَمِعَ الْقُرْآنَ: «يَا
قَوْمُ.. قَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي لَمْ أَتْرُكْ شَيْئًا إِلَّا وَقَدْ
عَلِمْتُهُ وَقَرَأْتُهُ وَقُلْتُهُ.. وَاللَّهِ لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا..
وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ.. مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا
بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ» .
وَقَالَ النَّضْرُ «4» بْنُ الْحَارِثِ نَحْوَهُ..
وَفِي حَدِيثِ «5» إِسْلَامِ أَبِي ذَرٍّ «6» وَوَصَفَ أَخَاهُ أُنَيْسًا
«7» فقال:
__________
(1) عقده: بفتح العين المهملة وسكون القاف أو بضم ففتح جمع عقدة والعقد عقد
حبال أو شعر مضفور ونحوه كما يعرفه السحرة مما يؤثر أمورا خارقة للعادة في
الخارج عنه وكنى به عن انه ليس عمل مما يعمله السحرة فقد تربى صلّى الله
تعالى عليه وسلم بين أظهرهم ولم ير أحد منه ذلك فلذا خطأهم الوليد في وصفهم
له صلّى الله عليه وسلم
(2) سورة المدثر آية (11)
(3) هو عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف والد هند أم معاوية رضي الله
عنهما والذي قتل عتبة هو عبيدة بن الحارث في غزوة بدر كافرا.
(4) تقدمت ترجمته في ص «270» رقم «8» .
(5) رواه مسلم.
(6) تقدمت ترجمته في ص «285» رقم «1» .
(7) انيس بن جنادة بن سفيان بن عبيد بن حرام بن غفار الغفاري أخو أبي ذر
وكان أكبر منه كما كان شاعرا.
(1/513)
وَاللَّهِ مَا سَمِعْتُ بِأَشْعَرَ مِنْ
أَخِي أُنَيْسٍ.. لَقَدْ نَاقَضَ اثْنَيْ عَشَرَ شَاعِرًا فِي
الْجَاهِلِيَّةِ، أَنَا أَحَدُهُمْ.. وَإِنَّهُ انْطَلَقَ إِلَى مَكَّةَ
وَجَاءَ إِلَى أَبِي ذَرٍّ بِخَبَرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ..
قُلْتُ: فَمَا يَقُولُ النَّاسُ؟!. قَالَ: يَقُولُونَ: شَاعِرٌ، كَاهِنٌ،
سَاحِرٌ، لَقَدْ سَمِعْتُ قَوْلَ الكهانة فَمَا هُوَ بِقَوْلِهِمْ،
وَلَقَدْ وَضَعْتُهُ عَلَى أَقْرَاءِ «1» الشِّعْرِ فَلَمْ يَلْتَئِمْ،
وَمَا يَلْتَئِمُ عَلَى لِسَانِ أَحَدٍ بَعْدِي أَنَّهُ شِعْرٌ وَإِنَّهُ
لَصَادِقٌ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ.
وَالْأَخْبَارُ فِي هَذَا صَحِيحَةٌ كَثِيرَةٌ وَالْإِعْجَازُ بِكُلِّ
وَاحِدٍ مِنَ النَّوْعَيْنِ الْإِيجَازُ وَالْبَلَاغَةُ بِذَاتِهَا،
والأسلوب الْغَرِيبُ بِذَاتِهِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا نَوْعُ إِعْجَازٍ
عَلَى التَّحْقِيقِ لَمْ تَقْدِرِ الْعَرَبُ عَلَى الْإِتْيَانِ بِوَاحِدٍ
مِنْهُمَا.. إِذْ كُلُّ وَاحِدٍ خَارِجٌ عَنْ قُدْرَتِهَا، مُبَايِنٌ
لِفَصَاحَتِهَا وَكَلَامِهَا، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ
أَئِمَّةِ الْمُحَقِّقِينَ وَذَهَبَ بَعْضُ الْمُقْتَدَى بِهِمْ إِلَى
أَنَّ الْإِعْجَازَ فِي مَجْمُوعِ الْبَلَاغَةِ وَالْأُسْلُوبِ وَأَتَى
عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلٍ تَمُجُّهُ الْأَسْمَاعُ وَتَنْفِرُ مِنْهُ
الْقُلُوبُ وَالصَّحِيحُ: مَا قَدَّمْنَاهُ والعلم بهذا كله ضرورة وقطعا.
ومن تفنّن في علوم البلاغة،
__________
(1) أقراء: بفتح الهمزة والمد جمع قلة أريد به الكثرة هنا فهو جمع قرء
بالضم وقيل انه جمع قرء بالفتح وهو طرقه وأنواعه.
(1/514)
وَأَرْهَفَ خَاطِرَهُ وَلِسَانَهُ أَدَبُ
هَذِهِ الصِّنَاعَةِ لَمْ يَخْفَ عَلَيْهِ مَا قُلْنَاهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي وَجْهِ عَجْزِهِمْ
عَنْهُ فَأَكْثَرُهُمْ يقول: إنّه مما جَمَعَ فِي قُوَّةِ جَزَالَتِهِ
وَنَصَاعَةِ أَلْفَاظِهِ، وَحُسْنِ نَظْمِهِ، وَإِيجَازِهِ، وَبَدِيعِ
تَأْلِيفِهِ، وَأُسْلُوبِهِ، لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ
الْبَشَرِ..
وَأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْخَوَارِقِ الْمُمْتَنِعَةِ عَنْ أَقْدَارِ
الْخَلْقِ عَلَيْهَا كإحياء «1» الموتى، وقلب العصا «2» ، وتسبيح الحصا «3»
وذهب الشيخ أبو الحسن «4» إلى أنّه مِمَّا يُمْكِنُ أَنْ يَدْخُلَ مِثْلُهُ
تَحْتَ مَقْدُورِ الْبَشَرِ وَيُقَدِّرَهُمُ اللَّهُ عَلَيْهِ..
وَلَكِنَّهُ لَمْ يَكُنْ هَذَا وَلَا يَكُونُ..
فَمَنَعَهُمُ اللَّهُ هَذَا وَعَجَّزَهُمْ عَنْهُ وَقَالَ بِهِ جَمَاعَةٌ
مِنْ أَصْحَابِهِ»
. وَعَلَى الطريقتين.. فَعَجْزُ الْعَرَبِ عَنْهُ ثَابِتٌ، وَإِقَامَةُ
الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بما أَنْ يَكُونَ فِي مَقْدُورِ الْبَشَرِ
وَتَحَدِّيهِمْ بِأَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ قَاطِعٌ.. وَهُوَ أَبْلَغُ فِي
التَّعْجِيزِ، وَأَحْرَى بِالتَّقْرِيعِ وَالِاحْتِجَاجُ بِمَجِيءِ بِشَرٍ
مِثْلِهِمْ بِشَيْءٍ لَيْسَ مِنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ لَازِمٌ.. وَهُوَ
أَبْهَرُ آية، وأقمع دلالة.
__________
(1) وهذا مما وقع لعيسى عليه الصلاة والسلام وابراهيم الخليل صلّى الله
عليه وسلم.
(2) أي قلب العصاحية كما وقع لموسى عليه الصلاة والسلام.
(3) وذلك في كف النبي صلّى الله عليه وسلم كما ثبت في معجزاته.
(4) ابو حسن الاشعري تقدمت ترجمته في ص «381» رقم «2»
(5) لكن هذا هو القول بالصرفة وهو مرجوح عند أكابر الأئمة.
(1/515)
وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَمَا أَتَوْا فِي
ذَلِكَ بِمَقَالٍ بَلْ صَبَرُوا عَلَى الْجَلَاءِ، وَالْقَتْلِ،
وَتَجَرَّعُوا كَاسَاتِ الصَّغَارِ «1» وَالذُّلِّ، وَكَانُوا مِنْ شُمُوخِ
«2» الْأَنْفِ «3» وَإِبَاءَةِ الضَّيْمِ بِحَيْثُ لَا يُؤْثِرُونَ ذَلِكَ
اخْتِيَارًا، وَلَا يَرْضَوْنَهُ إِلَّا اضْطِرَارًا.. وَإِلَّا
فَالْمُعَارَضَةُ- لَوْ كَانَتْ مِنْ قُدَرِهِمْ «4» - وَالشُّغْلُ بِهَا
أَهْوَنُ عَلَيْهِمْ، وَأَسْرَعُ بِالنَّجْحِ «5» وَقَطْعِ الْعُذْرِ،
وَإِفْحَامِ الْخَصْمِ لَدَيْهِمْ.. وَهُمْ مِمَّنْ لَهُمْ قُدْرَةٌ عَلَى
الْكَلَامِ، وَقُدْوَةٌ فِي الْمَعْرِفَةِ بِهِ لِجَمِيعِ الْأَنَامِ،
وَمَا مِنْهُمْ الا من جهد جهده واستنفر «6» مَا عِنْدَهُ فِي إِخْفَاءِ
ظُهُورِهِ، وَإِطْفَاءِ نُورِهِ فَمَا جَلَوْا «7» فِي ذَلِكَ خَبِيئَةً
«8» مِنْ بَنَاتِ شفاههم «9» ، ولا أتوا بنطفة «10» من
__________
(1) الصغار: بفتح الصاد المهملة وهو المذلة.
(2) شموخ: بفتح الشين المعجمة مصدر شمخ اذا ارتفع وهو كناية عن غاية التكبر
(3) الانف: بفتح الهمزة والمد وضم النون جمع أنف او يجوز فتح الهمزة وسكون
النون بالافراد.
(4) قدرهم: بضم القاف وفتح الدال المهملة جمع قدرة.
(5) النجح: بضم النون وسكون الجيم وحاء مهملة وهو الظفر والفوز بمطلوبهم
وهو ابطال الحجة عليهم.
(6) جهده: بفتح الجيم وضمها الطاقة والمشقة.
(7) جلوا: أظهروا.
(8) خبيئة: بفتح الخاء المعجمة وكسر الباء الموحدة وسكون المثناة التحتية
والهمزة والهاء فعيلة بمعنى مفعولة أي مختبأة في ضمائرهم ومستوره تحت أستار
سرائرهم.
(9) بنات شفاههم: أي كلمات يتلفظون بها، شبهت الكلمة بالبنت، والشفة بالأم
لظهورها منها، وهي استعارة تصريحية أو مكنية.
(10) بنطفة: بضم النون وسكون الطاء المهملة والفاء، وهي الماء الصافي من
نطف بمعنى صب والناطف السائل والمراد القطرة القليلة. وفي نسخة نقطة بالقاف
مقدمة على الطاء.
(1/516)
معين «1» مياههم مع طول الأمر، وَكَثْرَةِ
الْعَدَدِ، وَتَظَاهُرِ الْوَالِدِ وَمَا وَلَدَ بَلْ أبلسوا «2» فما نبسوا
«3» ومنعوا فانقطعوا فهذان النوعان من إعجازه.
__________
(1) معين: وهو الماء الجاري ظاهرا.
(2) أبلسوا: بالبناء للفاعل وفتح الهمزة يقال أبلس اذا أيس قيل ومنه إبليس
ليأسه من رحمة الله تعالى.
(3) نبسوا: بنون وباء موحدة مفتوحة مخففة وورد بتشديدها.
(1/517)
|