الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل العاشر آداب دخول المسجد النّبوي الشريف وفضله وفضل المدينة ومكة
فِيمَا يَلْزَمُ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْأَدَبِ سِوَى مَا قَدَّمْنَاهُ، وَفَضْلِهِ، وَفَضْلِ الصَّلَاةِ فِيهِ، وَفِي مَسْجِدِ مَكَّةَ.. وَذِكْرِ قَبْرِهِ وَمِنْبَرِهِ وَفَضْلِ سُكْنَى الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ..
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ «1» » ..
رُوِيَ «2» : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ أَيُّ مَسْجِدٍ هُوَ؟ قَالَ: مَسْجِدِي هَذَا. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُسَيَّبِ «3» وَزَيْدِ «4» بْنِ ثَابِتٍ وابن عمر «5»
__________
(1) الاية سورة التوبة آية (108) .
(2) حديث رواه مسلم عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه وأحمد عن سهل بن سعد وأبي بن كعب رضي الله تعالى عنهما وكان ينبغي ان يقول المؤلف صح عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا روي.. لانها للتمريض غالبا.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «252» رقم «3» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «110» رقم «6» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «182» رقم «1» .

(2/208)


وَمَالِكِ «1» بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِمْ.
وَعَنِ «2» ابْنِ عَبَّاسٍ «3» أنه مسجد قباء «4» ..
عن أبي هريرة «5» رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال «6» :
«لا تشد الرحال «7» إلا إلى ثلاث مَسَاجِدَ. الْمَسْجِدِ»
الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدِ الْأَقْصَى..»
وَقَدْ تَقَدَّمَتِ الْآثَارُ فِي الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ «9» عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ دُخُولِ الْمَسْجِدِ..
وَعَنْ «10» عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو «11» بْنِ الْعَاصِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا دَخَلَ الْمَسْجِدَ قَالَ: «أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرجيم..»
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(2) رواه ابن أبي حاتم.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(4) وهو الذي ارتضاه المفسرون.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «5» .
(6) اخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود.
(7) الرحال جمع راحلة وهي الصالحة لان ترحل أو يشد الرحل عليها، والرحل للبعير كالسرج للفرس.
(8) وفي نسخة (مسجد الحرام)
(9) ويروى (للتسليم) .
(10) رواه ابو داود.
(11) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (72) رقم (2) .

(2/209)


وَقَالَ مَالِكٌ «1» رَحِمَهُ اللَّهُ «2» : سَمِعَ عُمَرُ بْنُ الخطاب «3» صَوْتًا فِي الْمَسْجِدِ فَدَعَا بِصَاحِبِهِ فَقَالَ: مِمَّنْ أَنْتَ؟ قَالَ رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ «4» .
قَالَ: لَوْ كُنْتَ مِنْ هَاتَيْنِ الْقَرْيَتَيْنِ «5» لَأَدَّبْتُكَ «6» .. إِنَّ مَسْجِدَنَا لا يرفع فيه الصوت.
قال مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ «7» : لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَعْتَمِدَ «8» الْمَسْجِدَ بِرَفْعِ الصَّوْتِ وَلَا بِشَيْءٍ مِنَ الْأَذَى، وَأَنْ يُنَزَّهَ عَمَّا يُكْرَهُ.»
قَالَ الْقَاضِي: حَكَى ذَلِكَ كُلَّهُ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ «9» فِي مَبْسُوطِهِ فِي بَابِ فَضْلِ مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم.
والعلماء كلهم متفقون أَنَّ حُكْمَ سَائِرِ الْمَسَاجِدِ هَذَا الْحُكْمُ.
قَالَ الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ «9» وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مَسْلَمَةَ: وَيُكْرَهُ
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (341) رقم (7) .
(2) في حديث رواه البخاري والنسائي.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (113) رقم (4) .
(4) ثقيف قبيلة مشهورة من هوازن.
(5) أي مكة والمدينة.
(6) وفي نسخة (لاذيتك) وفي اخرى (لعلوتك بالدرة) .
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (446) رقم (3) .
(8) يعتمد: أي يعتمد يقال عمده واعتمده اذا قصده.
(9) القاضي اسماعيل ابن اسحق بن اسماعيل الازدي البصري العلامة الرحالة في سائر الفنون والادب وكان ممن له معرفة في كتاب سيبويه حتى عد من اقران المبرد وحتى قيل: لولا اشتغاله بالقضاء اندرس ذكر المبرد، ومات سنة اثنين وثمانين ومائتين ببغداد فجأة.

(2/210)


فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الجهر على المصلين فيما يخلّط عليهم صلاتهم.
وَلَيْسَ مِمَّا يُخَصُّ بِهِ الْمَسَاجِدُ رَفْعُ الصَّوْتِ.. قد كُرِهَ رَفْعُ الصَّوْتِ بِالتَّلْبِيَةِ فِي مَسَاجِدِ الْجَمَاعَاتِ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ وَمَسْجِدَنَا.
وَقَالَ أَبُو «1» هُرَيْرَةَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» .. «صَلَاةٌ فِي مَسْجِدِي هَذَا خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ»
قَالَ الْقَاضِي: اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَعْنَى هَذَا الِاسْتِثْنَاءِ عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي الْمُفَاضَلَةِ بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ.
فَذَهَبَ مَالِكٌ «3» فِي رِوَايَةِ أَشْهَبَ «4» عَنْهُ وَقَالَهُ ابْنُ «5» نَافِعٍ صَاحِبُهُ وَجَمَاعَةُ أَصْحَابِهِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى الْحَدِيثِ، أَنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ الرَّسُولِ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِي سَائِرِ الْمَسَاجِدِ بِأَلْفِ صَلَاةٍ إِلَّا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ، فَإِنَّ الصَّلَاةَ فِي مَسْجِدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْضَلُ مِنَ الصَّلَاةِ فِيهِ بِدُونِ الْأَلْفِ.
وَاحْتَجُّوا بِمَا رُوِيَ عَنْ عمر بن «6» الخطاب رضي الله عنه.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (3) رقم (5) .
(2) في حديث رواه الشيخان.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(4) اشهب: بن عبد العزيز أبو عمرو القيسي المصري تلميذ مالك في مرويانه.
(5) ابن نافع: صاحب الامام مالك الذي يروي عنه.
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «113» رقم «4» .

(2/211)


«صلاة في المسجد الحرام خير من مئة صَلَاةٍ فِيمَا سِوَاهُ «1» » فَتَأْتِي فَضِيلَةُ مَسْجِدِ الرَّسُولِ صلّى الله عليه وسلم بتسعمئة وَعَلَى غَيْرِهِ بِأَلْفٍ.
وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْضِيلِ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكَّةَ، عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ وَهُوَ قَوْلُ عُمَرَ «2» بْنِ الْخَطَّابِ، وَمَالِكٍ «3» ، وَأَكْثَرِ الْمَدَنِيِّينَ.
وذهب أهل مكة والكوفة إِلَى تَفْضِيلِ مَكَّةَ..
وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ «4» ، وَابْنِ وَهْبٍ «5» ، وَابْنِ حَبِيبٍ «6» .
مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ.
وَحَكَاهُ الساجي «7» عَنِ الشَّافِعِيِّ «8» .
وَحَمَلُوا الِاسْتِثْنَاءَ فِي الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمِ عَلَى ظَاهِرِهِ، وَأَنَّ الصَّلَاةَ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أفضل.
__________
(1) ورد بان هذه الرواية شاذة رواها الحميدي في مسنده والمحفوظ ما رواه سليمان بن عتيق عن ابن الزبير عن عمر بلفظ (صلاة في المسجد الحرام أفضل من الف صلاة فيما سواه الا مسجد الرسول فان فضله عليه بمئة صلاة) وقد روي من طرق.
(2) تقدمت ترجمته آنفا.
(3) تقدمت ترجمته آنفا.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «4» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «332» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «1» .
(7) الساجي: نسبة الى ساج بلدة. وهو أبو يحيى زكريا بن يحيى العيني البصري توفي بالبصرة سنة سبع وثلاثمائة. وله كتاب جليل في علل الحديث «وكتاب في اختلاف الفقهاء، وهو حجة وان ضعفه بعضهم، وله ترجمة في الميزان.
(8) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «155» رقم «8» .

(2/212)


وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ «1» بْنِ الزُّبَيْرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» :
بِمِثْلِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ «3» - وَفِيهِ- وَصَلَاةٌ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أفضل من الصلاة في مسجدي هذا بمئة صَلَاةٍ.
وَرَوَى قَتَادَةُ «4» مِثْلَهُ «5» ..
فَيَأْتِي فَضْلُ الصَّلَاةِ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ عَلَى هَذَا عَلَى الصَّلَاةِ في سائر المساجد بمئة أَلْفٍ..
وَلَا خِلَافَ أَنَّ مَوْضِعَ قَبْرِهِ أَفْضَلُ بِقَاعِ الْأَرْضِ» .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْوَلِيدِ «7» الْبَاجِيُّ الَّذِي يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ مُخَالَفَةُ حُكْمِ مَسْجِدِ مَكَّةَ لِسَائِرِ الْمَسَاجِدِ، وَلَا يُعْلَمُ مِنْهُ حُكْمُهَا مَعَ المدينة.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «157» رقم «4» .
(2) رواه احمد وابن حبان وروى أبو هريرة صدره وعمر آخره.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «5» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «62» رقم «3» .
(5) وفي نسخة (وروي عن قتادة مثله) .
(6) بل هي افضل من السماوات والعرش والكعبة كما نقله السبكي رحمه الله تعالى لشرفه وعلو قدره. وقال القرافي في القواعد: للتفضيل أسباب، فقد يكون للذات كتفضيل العلم، وقد يكون بكثرة العبادة له او لما وقع فيه.. وقد يكون بالمجاورة كتفضيل جلد المصحف، وقد يكون بالحلول كتفضيل قبره صلّى الله عليه وسلم على البقاع، ووافقه السبكي فقال: الاجماع على ان قبره صلّى الله عليه وسلم أفضل البقاع وهو مستثنى من تفضيل مكة على المدينة كما قيل:
جزم الجميع بأن خير الارض ما ... قد حاط ذات المصطفى وحواها
ونعم لقد صدقوا، بساكنها علت ... كالنفس حين زكت زكا مأواها
(7) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «201» رقم «3» .

(2/213)


وَذَهَبَ الطَّحَاوِيُّ «1» : إِلَى أَنَّ هَذَا التَّفْضِيلَ إِنَّمَا هُوَ فِي صَلَاةِ الْفَرْضِ.
وَذَهَبَ مُطَرِّفٌ «2» مِنْ أَصْحَابِنَا: إِلَى أَنَّ ذَلِكَ فِي النَّافِلَةِ «3» أَيْضًا.
قَالَ: وَجُمُعَةٌ خَيْرٌ مِنْ جُمُعَةٍ، وَرَمَضَانُ خَيْرٌ مِنْ رَمَضَانَ.
وَقَدْ ذَكَرَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ «4» فِي تفضيل رمضان بالمدينة وغيرها- حديثا «5» نحوه-.
قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «6» : «مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ..»
وَمِثْلَهُ «7» عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ «8» ، وَأَبِي سَعِيدٍ «9» ، وَزَادَ «10» - وَمِنْبَرِي على حوضي..
__________
(1) الطحاوي: الامام أبو جعفر احمد بن محمد الحنفي كما تقدم.
(2) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «99» رقم «6» .
(3) وهو المختار عند الشافعي اذ لا داعي للتخصيص.
(4) عبد الرزاق: بن همام المحدث الحافظ.
(5) وهو ما رواه الطبراني وغيره عن بلال انه صلّى الله عليه وسلم قال (صيام شهر رمضان في المدينة كصيام ألف ألف شهر فيما سواها) .
(6) رواه الشيخان.
(7) بلفظه ومعناه.
(8) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «5» .
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «63» رقم «1» .
(10) زاد فيه أبو سعيد كما في الموطأ.

(2/214)


وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «1» : «مِنْبَرِي عَلَى تُرْعَةٍ مِنْ تُرَعِ الْجَنَّةِ..»
قَالَ الطَّبَرِيُّ «2» : فِيهِ مَعْنَيَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِالْبَيْتِ.. بَيْتٌ سُكْنَاهُ عَلَى الظَّاهِرِ، مَعَ أَنَّهُ رُوِيَ مَا يُبَيِّنُهُ «بَيْنَ حُجْرَتِي وَمِنْبَرِي» .
وَالثَّانِي: أَنَّ الْبَيْتَ هُنَا الْقَبْرُ وَهُوَ قَوْلُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «3» فِي هَذَا الْحَدِيثِ.
كَمَا رُوِيَ: «بَيْنَ قَبْرِي «4» وَمِنْبَرِي..»
قَالَ الطَّبَرِيُّ: وَإِذَا كَانَ قَبْرُهُ فِي بَيْتِهِ اتَّفَقَتْ مَعَانِي الرِّوَايَاتِ وَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهَا خِلَافٌ.. لِأَنَّ قَبْرَهُ فِي حُجْرَتِهِ، وَهُوَ بَيْتُهُ.
وَقَوْلُهُ: «وَمِنْبَرِي عَلَى حَوْضِي» .
قِيلَ: يَحْتَمِلُ أَنَّهُ مِنْبَرُهُ بِعَيْنِهِ الَّذِي كَانَ فِي الدُّنْيَا.. وَهُوَ أَظْهَرُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَهُ هُنَاكَ مِنْبَرٌ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ قَصْدَ منبره والحضور عنده لملازمة الأعمال
__________
(1) تقدم.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «182» رقم «2» .
(3) زيد بن أسلم: الفقيه العمري.
(4) اذا كانت الرواية (بين قبري ومنبري) فهو من معجزاته صلّى الله عليه وسلم باخباره عن احدى المغيبات الخمس (وما تدري نفس بأي أرض تموت) . سورة لقمان آية (34) .

(2/215)


الصَّالِحَةِ يُورِدُ الْحَوْضَ، وَيُوجِبُ الشُّرْبَ مِنْهُ. قَالَهُ الْبَاجِيُّ «1» .
وَقَوْلُهُ: «رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الْجَنَّةِ» .. يَحْتَمِلُ مَعْنَيَيْنِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مُوجِبٌ لِذَلِكَ.. وَأَنَّ الدُّعَاءَ وَالصَّلَاةَ فِيهِ يَسْتَحِقُّ ذَلِكَ مِنَ الثَّوَابِ- كَمَا قِيلَ «2» - الْجَنَّةُ تَحْتَ ظِلَالِ السُّيُوفِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ تلك البقعة يَنْقُلُهَا اللَّهُ فَتَكُونُ فِي الْجَنَّةِ بِعَيْنِهَا..
قَالَهُ الدَّاوُدِيُّ «3» .
وَرَوَى ابْنُ عُمَرَ «4» ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «5» الْمَدِينَةِ.. «لَا يَصْبِرُ عَلَى لَأْوَائِهَا «6» وَشِدَّتِهَا أَحَدٌ إِلَّا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا- أَوْ شَفِيعًا «7» - يَوْمَ القيامة.»
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (201) رقم (3) .
(2) في حديث صحيح. رواه الشيخان عن عبد الله بن أبي اوفى.
(3) الداودي: هو احمد بن نصر شارح البخاري، وهو أبو جعفر الاسدي التسكري التلمساني توفي بتلمسان سنة أربعين وأربعمائة.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (182) رقم (1) .
(5) رواه مسلم.
(6) لأوائها: بفتح اللام وسكون الهمزة وواو بعدها من الشدة والمشقة والضيق.
(7) قال المصنف رحمه الله والنووي (او) هنا ليست للشك من الراوي لانه رواه نحو عشرة من الصحابة كذا، ولا يظهر اتفاقهم على الشك، فهو صلّى الله عليه وسلم قاله هكذا ف (أو) للتقسيم، أي شهيدا لبعض وشفيعا لبعض.. وتأتي (أو) بمعنى واو العطف احيانا.

(2/216)


وَقَالَ «1» فِيمَنْ تَحَمَّلَ «2» عَنِ الْمَدِينَةِ.. «وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ.»
وَقَالَ «3» : «إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ «4» تَنْفِي خَبَثَهَا، وَيَنْصَعُ «5» طِيبُهَا» .
وَقَالَ «6» : «لَا يَخْرُجُ أَحَدٌ مِنَ الْمَدِينَةِ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أبد لها اللَّهُ خَيْرًا مِنْهُ.»
وَرُوِيَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «7» : «مَنْ مَاتَ فِي أَحَدِ الْحَرَمَيْنِ حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا بَعَثَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ وَلَا عَذَابَ.»
وَفِي طَرِيقٍ آخر «8» : «بعث من الامنين يوم القيامة..»
__________
(1) صلّى الله عليه وسلم في حديث رواه الشيخان وهو حديث طويل وفيه معجزة له صلّى الله عليه وسلم باخباره بفتح الشام واليمن لانها فتحت في عهد الخلفاء واختاروا سكناها.
(2) تحمل: بمعنى رحل عنها وفارقها لسكنى غيرها عليها ومعنى تحمل رفع حمله وأمتعته معها فكني به عما ذكر وفي نسخة (يحتمل) وهما بمعنى واحد.
(3) صلّى الله عليه وسلم في حديث رواه الشيخان عن جابر.
(4) الكير: بكسر الكاف وسكون المثناة التحتية وراء مهملة وهو آلة للحداد معروفة ينفخ بها النار لا يقادها على الحديد والكور البناء من طين ونحوه يوضع عليه وقيل هما بمعنى واحد والياء منقلبة عن الواو.
(5) ينصع: يصبح لونه خالصا ولا يقال الا صفة للابيض.
(6) وفي نسخة (وروي عنه) صلّى الله عليه وسلم كما في مسلم رواه عن جابر.
(7) في حديث رواه البيهقي والدارقطني عن عائشة رضي الله عنها بسند ضعيف.
(8) لهذا الحديث للبيهقي والطبراني.

(2/217)


وعن «1» ابن عمر»
: «من استصاع أَنْ يَمُوتَ «3» بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا «4» » .
وَقَالَ تَعَالَى: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً «5» ..» إِلَى قوله: «آمنا»
قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: آمِنًا مِنَ النَّارِ.
وَقِيلَ: كَانَ يَأْمَنُ مِنَ الطَّلَبِ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا خَارِجًا عَنِ الْحَرَمِ وَلَجَأَ إِلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ.
وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ: «وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً «6» » عَلَى قَوْلِ بَعْضِهِمْ «7» .
وَحُكِيَ أَنَّ قَوْمًا أَتَوْا سعدون «8» الخولاني بالمنستير «9»
__________
(1) رواه ابن ماجه وابن حبان والترمذي وصححه.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (182) رقم (1) .
(3) أي يقيم بها حتى يموت.
(4) لانه في جواره صلّى الله عليه وسلم وهو قد اوصى بالجار وما زال جبريل يوصيه صلّى الله عليه وسلم بالجار حتى ظن انه سيورثه.
(5) الاية سورة آل عمران آية (96) .
(6) الاية سورة البقرة آية (125) .
(7) بعضهم: أي من العلماء الحنفية.
(8) سعدون الخولاني: نسبة لخولا قبيلة من اليمن مشهورة، واسمه ابكل بن احمد ابن مالك، وهو من أهل القيروان وعظماء علمائها. وسعدون لقب له.
(9) المنستير: وهو لفظ رومي معناه عندهم خانقاه للرهبان على الطريق لينزل فيه أبناء السبيل وهو كما في القاموس بلدة في افريقية أهله من قريش بينه وبين القيروان ستة مراحل والصحيح أنها بلدة على الساحل التونسي بين القيروان وبين نابل والحمامات الى الشمال من جزيرة جربة ولا تزال تحمل هذا الاسم للان. ولها سور بناه هرثمة بن اعين حين بعثه الرشيد لافريقية سنة تسع وسبعين ومائة.

(2/218)


فأعلموه أن كتامة «1» قتلوا رجلا وأضموا عَلَيْهِ النَّارَ طُولَ اللَّيْلِ، فَلَمْ تَعْمَلْ فِيهِ شيئا، وبقي أبيض البدن..
فَقَالَ: لَعَلَّهُ حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ؟!!
قَالُوا: نَعَمْ
قَالَ: حُدِّثْتُ «2» أَنَّ مَنْ حَجَّ حَجَّةً أَدَّى فَرْضَهُ وَمَنْ حَجَّ ثَانِيَةً دَايَنَ رَبَّهُ. وَمَنْ حَجَّ ثَلَاثَ حِجَجٍ حَرَّمَ اللَّهُ شَعْرَهُ وَبَشَرَهُ عَلَى النَّارِ.
وَلَمَّا نَظَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْكَعْبَةِ «3» قَالَ «4» : «مَرْحَبًا بِكِ مِنْ بَيْتٍ.. مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ» .
وَفِي الْحَدِيثِ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنْ أَحَدٍ يَدْعُو اللَّهَ تَعَالَى عِنْدَ الرُّكْنِ الْأَسْوَدِ إِلَّا اسْتَجَابَ اللَّهُ لَهُ وَكَذَلِكَ عند الميزاب «5» » .
__________
(1) كتامة: اسم لقبيلة من البربر وأصلهم كما قيل من حمير.
(2) وهذا الحديث لا يعرف من رواه.
(3) لما هاجر، او في حجة الوداع، أو يوم الفتح.
(4) كما رواه الطبراني في الاوسط عن جابر رضي الله عنه.
(5) لا يعرف مخرجه الا انه قد روى الحسن البصري في رسالة الى أهل مكة ان الدعاء يستجاب في حرمها وعند البيت والركن الاسود، والملتزم. وتحت الميزاب. وقال الحسن البصري: وسمعت ان عثمان بن عفان اقبل ذات يوم فقال لاصحابه: ألا تسألوني من اين جئت؟! .. قالوا: من اين جئت يا أمير المؤمنين؟. قال: ما زلت قائما على باب الجنة. وكان رضي الله عنه قائما تحت الميزاب يدعو الله تعالى.. وذكر الازرقي في تاريخه عن عطاء قال: من قام تحت ميزاب الكعبة فدعا استجيب له وخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.

(2/219)


وَعَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَلَّى عند الْمَقَامِ رَكْعَتَيْنِ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ وَحُشِرَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الامنين «1» ..»
وعن ابن عباس «2» قال سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«مَا دَعَا أَحَدٌ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ إِلَّا اسْتُجِيبَ لَهُ» .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «2» : وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي..
وَقَالَ عَمْرُو «3» بْنُ دِينَارٍ وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هذا من ابن عباس إلا استجيب.
وقال سفيان «4» : وأنا ما دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ عَمْرٍو «3» إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي.
قَالَ الْحُمَيْدِيُّ «5» وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ في هذا الملتزم منذ
__________
(1) رواه الديلمي واين النجار ولفظهما (من طاف بالبيت سبعا وصلّى خلف المقام ركعتين وشرب من ماء زمزم غفر الله ذنوبه كلها بالغة ما بلغت) لكن قال السخاوي لا يصح. وقد ذكره المنوفي في مختصره وقال فيه: انه باطل لا أصل له. والله تعالى أعلم. ثم على تقدير صحته فهو محمول على تكفير الصغائر لقوله تعالى (إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ) . سورة هود آية (114)
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(3) عمرو بن دينار: راوي الحديث عن ابن عباس.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «191» رقم «5» .
(5) الحميدي: بالتصغير هو عبد الله بن الزبير بن عيسى بن عبد الله القرشي الاسدي المكي صاحب الشافعي ورفيقه في رحلته لمصر، وهو شيخ البخاري، وهو لاهل الحجاز كأحمد بن حنبل لاهل العراق، توفي سنة تسع عشرة ومائتين.

(2/220)


سَمِعْتُ هَذَا مِنْ سُفْيَانَ «1» إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي.
وَقَالَ مُحَمَّدُ «2» بْنُ إِدْرِيسَ: وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ الله بشيء في هَذَا مِنَ الْحُمَيْدِيِّ «3» إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ «4» مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ: وَأَنَا فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِدْرِيسَ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي.
قَالَ أَبُو أُسَامَةَ «5» : وَمَا أَذْكُرُ الْحَسَنَ «6» بْنَ رَشِيقٍ قَالَ فِيهِ شَيْئًا «7» - وَأَنَا ما دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنَ الْحَسَنِ «6» بْنِ رَشِيقٍ إِلَّا اسْتُجِيبَ لِي مِنْ أَمْرِ الدُّنْيَا وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُسْتَجَابَ لِي مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ.
قَالَ العذري «8» : فَمَا دَعَوْتُ اللَّهَ بِشَيْءٍ فِي هَذَا الْمُلْتَزَمِ مُنْذُ سَمِعْتُ هَذَا مِنْ أَبِي أُسَامَةَ «5» إِلَّا استجيب لي.
__________
(1) تقدم آنفا.
(2) محمد بن ادريس: أبو بكر غير محمد بن ادريس الشافعي.. وهو محمد بن ادريس بن عمر، وهو من أهل مكة..
(3) تقدمت ترجمته آنفا.
(4) ابو الحسن محمد بن الحسن: بن راشد، وفي الميزان محمد بن الحسن بن علي بن راشد الانصاري. وفيه كلام.
(5) ابو أسامة: محمد بن أحمد الهروي.
(6) الحسن بن رشيق: عبد الغني بن سعيد العسكري الحافظ العالي السند وترجمته في الميزان.
(7) انقطع التسلسل عند الحسن بن رشيق.
(8) العذري: أبو العباس.

(2/221)


قال أبو علي «1» : وأنا قد دَعَوْتُ اللَّهَ فِيهِ بِأَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ اسْتُجِيبَ لِي بعضها وأنا أرجو مِنْ سَعَةِ فَضْلِهِ أَنْ يَسْتَجِيبَ لِي بَقِيَّتَهَا..
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ «2» : ذَكَرْنَا نُبَذًا مِنْ هَذِهِ النُّكَتِ فِي هَذَا الْفَصْلِ وَإِنْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْبَابِ لِتَعَلُّقِهَا بِالْفَصْلِ الَّذِي قَبْلَهُ حِرْصًا عَلَى تَمَامِ الْفَائِدَةِ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ برحمته.
__________
(1) ابو علي: هو القاضي الحافظ ابن سكرة.
(2) المصنف رحمه الله.

(2/222)