الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الْأَوَّلُ فِي حُكْمِ عَقْدِ
قَلْبِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ وَقْتِ
نُبُوَّتِهِ
اعْلَمْ مَنَحَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ تَوْفِيقَهُ أَنَّ مَا تَعَلَّقَ
مِنْهُ بِطَرِيقِ التَّوْحِيدِ وَالْعِلْمِ بِاللَّهِ وَصِفَاتِهِ،
وَالْإِيمَانِ بِهِ وَبِمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ، فَعَلَى غَايَةِ
الْمَعْرِفَةِ، وَوُضُوحِ الْعِلْمِ وَالْيَقِينِ، وَالِانْتِفَاءِ عَنِ
الْجَهْلِ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، أَوِ الشَّكِّ أَوِ الرَّيْبِ فِيهِ،
وَالْعِصْمَةِ مِنْ كُلِّ مَا يُضَادُّ الْمَعْرِفَةَ بِذَلِكَ..
وَالْيَقِينَ..
هَذَا مَا وَقَعَ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ.
وَلَا يَصِحُّ بِالْبَرَاهِينِ الْوَاضِحَةِ أَنْ يَكُونَ فِي عُقُودِ
الْأَنْبِيَاءِ سِوَاهُ.
وَلَا يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِقَوْلِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
«قَالَ:
بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي.. «1» إِذْ لَمْ يَشُكَّ إِبْرَاهِيمُ
فِي إِخْبَارِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِإِحْيَاءِ الْمَوْتَى.. ولكن إرادة
طمأنينة القلب،
__________
(1) سورة البقرة آية «260» .
(2/230)
وَتَرْكَ الْمُنَازَعَةِ لِمُشَاهَدَةِ
الْإِحْيَاءِ.. فَحَصَلَ لَهُ الْعِلْمُ الْأَوَّلُ بِوُقُوعِهِ وَأَرَادَ
الْعِلْمَ الثَّانِيَ بِكَيْفِيَّتِهِ وَمُشَاهَدَتِهِ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّمَا
أَرَادَ اخْتِبَارَ مَنْزِلَتِهِ عِنْدَ رَبِّهِ.. وَعَلِمَ إِجَابَتَهُ
«1» دَعَوْتَهُ بِسُؤَالِ ذَلِكَ مِنْ رَبِّهِ..
وَيَكُونُ «2» قَوْلُهُ تعالى «أَوَلَمْ تُؤْمِنْ «3» » أَيْ تُصَدِّقْ
بِمَنْزِلَتِكَ مِنِّي وَخُلَّتِكَ وَاصْطِفَائِكَ.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ سَأَلَ زِيَادَةَ يَقِينٍ، وَقُوَّةَ
طُمَأْنِينَةٍ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَوَّلِ شَكٌّ.. إِذِ الْعُلُومُ
الضَّرُورِيَّةُ «4» ، وَالنَّظَرِيَّةُ «5» ، قَدْ تَتَفَاضَلُ فِي
قُوَّتِهَا، وَطَرَيَانُ الشُّكُوكِ عَلَى الضَّرُورِيَّاتِ مُمْتَنِعٌ،
وَمُجَوَّزٌ «6» فِي النظريات فأراد الانتقال من النظر أو الخبر إلى
المشاهدة والترقي من علم القين إِلَى عَيْنِ الْيَقِينِ.. فَلَيْسَ
الْخَبَرُ كَالْمُعَايَنَةِ.
وَلِهَذَا قَالَ سَهْلُ «7» بْنُ عَبْدِ اللَّهِ «سَأَلَ كَشْفَ غِطَاءِ
الْعِيَانِ، لِيَزْدَادَ بِنُورِ الْيَقِينِ تَمَكُّنًا فِي حاله» .
__________
(1) وفي نسخة (اجابة دعوته) .
(2) وفي نسخة (فيكون) .
(3) سورة البقرة اية (260) «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ
تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ
قَلْبِي» .
(4) العلوم الضرورية: أي البديهية وهي التي لا تحتاج الى برهان ودليل
(5) النظرية: أي الفكرية. وهي التي تحتاج الى برهان ودليل
(6) وفي نسخة (ويجوز)
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «58» رقم «6» .
(2/231)
الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّهُ لَمَّا
احْتَجَّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ بِأَنَّ رَبَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ طَلَبَ
ذَلِكَ مِنْ ربه ليصبح احْتِجَاجُهُ عِيَانًا..
الْوَجْهُ الْخَامِسُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: هُوَ سؤال عن طريق الأدب..
المراد: أَقْدِرْنِي عَلَى إِحْيَاءِ الْمَوْتَى.. وَقَوْلُهُ
«لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» عَنْ هَذِهِ الْأُمْنِيَةِ..
الْوَجْهُ السَّادِسُ: أَنَّهُ أَرَى مِنْ نَفْسِهِ الشَّكَّ وَمَا شَكَّ..
لَكِنْ لِيُجَاوَبَ «1» فيزداد قربه «2» .
وقول نبينا صلّى الله عليه وسلم: «نَحْنُ أَحَقُّ بِالشَّكِّ مِنْ
إِبْرَاهِيمَ..»
نَفْيٌ «3» لِأَنْ يكون إبراهيم شك.. وإبعادا لِلْخَوَاطِرِ الضَّعِيفَةِ
أَنْ تَظُنَّ هَذَا بِإِبْرَاهِيمَ.. أَيْ نَحْنُ مُوقِنُونَ بِالْبَعْثِ
وَإِحْيَاءِ اللَّهِ الْمَوْتَى.. فَلَوْ شَكَّ إِبْرَاهِيمُ لَكُنَّا
أَوْلَى بِالشَّكِّ مِنْهُ.. إِمَّا عن طَرِيقِ الْأَدَبِ.. أَوْ أَنْ
يُرِيدَ أُمَّتَهُ الَّذِينَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الشَّكُّ.. أَوْ عَلَى
طَرِيقِ التَّوَاضُعِ وَالْإِشْفَاقِ إِنْ حَمَلَتْ قِصَّةُ إِبْرَاهِيمَ
عَلَى اخْتِبَارِ حاله أو زيادة يقينه..
__________
(1) وفي نسخة (ليجاب)
(2) وفي نسخة (قربة)
(3) هذه اجابة المزني صاحب الشافعي
(2/232)
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ:
«فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ
يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «1» » الْآيَتَيْنِ.
فَاحْذَرْ- ثَبَّتَ اللَّهُ قَلْبَكَ- أَنْ يَخْطُرَ ببالك ما ذكره فيه
بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ «2» أَوْ غَيْرِهِ من إثبات شك
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا أُوحِيَ إِلَيْهِ..
وَأَنَّهُ مِنَ الْبَشَرِ!!
فَمِثْلُ هَذَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ جُمْلَةً..
بَلْ قَدْ قَالَ «3» ابْنُ عباس: لَمْ يَشُكَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَسْأَلْ.
وَنَحْوُهُ عَنِ ابْنِ جُبَيْرٍ «4» وَالْحَسَنِ «5» .
وَحَكَى «6» قَتَادَةُ «7» : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ قَالَ: مَا أَشُكُّ «8» وَلَا أَسْأَلُ.. وَعَامَّةُ
الْمُفَسِّرِينَ عَلَى هَذَا.
وَاخْتَلَفُوا فِي مَعْنَى الْآيَةِ فقيل المراد.. قل يا محمد للشاك إن كنت
في شك.. الاية..
__________
(1) الاية سورة يونس اية (94)
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6»
(3) فيما رواه ابن أبي حاتم في تفسيره وصحت روايته عنه.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «58» رقم «4» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «60» رقم «8»
(6) كما رواه ابن جرير.
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «62» رقم «3»
(8) وفي رواية (لا اشك) .
(2/233)
قَالُوا: وَفِي السُّورَةِ نَفْسِهَا مَا
دَلَّ عَلَى هذا التأويل.
قوله «قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي «1»
» الْآيَةَ وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْخِطَابِ الْعَرَبُ وَغَيْرُ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
كَمَا قَالَ «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2» » الْآيَةَ.
الْخِطَابُ لَهُ وَالْمُرَادُ غَيْرُهُ.
وَمِثْلُهُ «فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ» »
وَنَظِيرُهُ كَثِيرٌ.
قَالَ بَكْرُ «4» بْنُ الْعَلَاءِ: أَلَا تَرَاهُ يَقُولُ «وَلا تَكُونَنَّ
مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «5» » الْآيَةَ.. وَهُوَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ الْمُكَذَّبَ فِيمَا يَدْعُو إِلَيْهِ،
فَكَيْفَ يَكُونُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِهِ!!.
فَهَذَا كُلُّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْخِطَابِ غَيْرُهُ..
وَمِثْلُ هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلُهُ: «الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً
«6» » .
المأمور ههنا غَيْرُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِيَسْأَلَ النَّبِيَّ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
هُوَ الخبير المسؤول، لَا الْمُسْتَخْبِرُ السَّائِلُ.
وَقَالَ: إِنَّ هَذَا الشَّكَّ الَّذِي أُمِرَ بِهِ غَيْرُ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم بسؤال
__________
(1) سورة يونس آية (104) .
(2) سورة الزمر آية (65) .
(3) سورة هود آية (109) .
(4) بكر بن العلاء: وهو القاضي بكر بن العلاء من علماء المالكية الاجلاء.
(5) سورة يونس آية (95) .
(6) سورة الفرقان آية (59) .
(2/234)
الذين يقرؤون الْكِتَابَ إِنَّمَا هُوَ
فِيمَا قَصَّهُ اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِ الْأُمَمِ..
لَا فِيمَا دَعَا إِلَيْهِ مِنَ التوحيد والشريعة
ومثل هذا قوله تعالى: «وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ
رُسُلِنا.. «1» » الاية المراد الْمُشْرِكُونَ وَالْخِطَابُ مُوَاجَهَةٌ
لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قاله القتبي «2» ..
وَقِيلَ مَعْنَاهُ.. سَلْنَا عَمَّنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ. فَحُذِفَ
الْخَافِضُ وَتَمَّ الْكَلَامُ.. ثُمَّ ابْتَدَأَ «أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ
الرَّحْمنِ.. «3» »
إِلَى آخِرِ الْآيَةِ عَلَى طَرِيقِ الْإِنْكَارِ.. أَيْ مَا جَعَلْنَا..
حَكَاهُ مَكِّيٌّ «4» ..
وَقِيلَ: أُمِرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ
يَسْأَلَ الْأَنْبِيَاءَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ عَنْ ذَلِكَ.. فَكَانَ
أَشَدَّ يَقِينًا مِنْ أَنْ يَحْتَاجَ إِلَى السُّؤَالِ.. فَرُوِيَ أَنَّهُ
قَالَ لَا أَسْأَلُ قَدِ اكْتَفَيْتُ «5» قَالَهُ ابْنُ زيد «6» .
__________
(1) سورة الزخرف اية (45) .
(2) القتبي: اختلفت النسخ هنا ففي اكثرها قتبي، وفي بعضها فتيبي والمراد به
هنا امام أهل اللغة والتفسير ابن قتيبة بن سعيد بن طريف بن جميل صاحب
التاليف الجليلة المشهورة.. وفي بعضها العتبي.. وهو عمدة مذهب مالك فقيه
الاندلس محمد بن احمد بن عبد العزيز القرطبي العتبي نسبة لعتبة بن أبي
سفيان لانه من مواليه وهو صاحب العتبية المشهورة في مذهب مالك وتسمى
المستخرجة وقد رجح البرهان الحلبي الاسم الاول (القتبي)
(3) سورة الزخرف اية (45) .
(4) مكي: بن أبي طالب الامام المفسر صاحب التاليف الجليلة، ولد بالقيروان
واقام بالاندلس بعد اقامته بمكة ولذا نسب اليها كما تقدم.
(5) وفي نسخة (قد كفيت) .
(6) ابن زيد: هو عبد الرحمن بن زيد بن أسلم.
(2/235)
وقيل: سل امم من أرسلنا.. هل جاؤوهم
بِغَيْرِ التَّوْحِيدِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ مُجَاهِدٍ «1» ،
وَالسُّدِّيِّ «2» ، والضحاك «3» ، وقتادة «4» ، والمراد بهذا بِهَذَا
وَالَّذِي قَبْلَهُ إِعْلَامُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا
بُعِثَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأَنَّهُ تَعَالَى لَمْ يَأْذَنْ فِي عِبَادَةِ
غَيْرِهِ لِأَحَدٍ.. رَدًّا عَلَى مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَغَيْرِهِمْ فِي
قَوْلِهِمْ «إِنَّمَا نَعْبُدُهُمْ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى
«5» » . وَكَذَلِكَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: «وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ
أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ.. «6» أي في علمهم بِأَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ.. وَإِنْ لَمْ
يُقِرُّوا بِذَلِكَ وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ شَكَّهُ فِيمَا ذُكِرَ فِي
أَوَّلِ الْآيَةِ.. وَقَدْ يَكُونُ أَيْضًا عَلَى مِثْلِ مَا تَقَدَّمَ.
أَيْ قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِمَنِ امْتَرَى فِي ذَلِكَ: لَا تَكُونَنَّ مِنَ
الْمُمْتَرِينَ.
بِدَلِيلِ قَوْلِهِ أَوَّلَ الْآيَةِ «أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي
حَكَماً. «7» »
الاية وَأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخَاطِبُ
بذلك غيره..
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «70» رقم «1» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «112» رقم «3» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «75» رقم «6» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «62» رقم «3» .
(5) الاية سورة الزمر اية (3) والصحيح: ما نعبدهم الا ليقربونا الى الله
زلفى
(6) الاية سورة الانعام اية (114) .
(7) الاية سورة الانعام اية (114) .
(2/236)
وقيل: هو تقرير كقوله «أَأَنْتَ قُلْتَ
لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ.. «1» »
وَقَدْ عَلِمَ أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ.
وَقِيلَ: مَعْنَاهُ.. مَا كُنْتَ فِي شَكٍّ.. فَاسْأَلْ تَزْدَدْ
طُمَأْنِينَةً وَعِلْمًا إِلَى عِلْمِكَ وَيَقِينِكَ.
وَقِيلَ: إِنْ كُنْتَ تشك فيما شرفناك وفضّلناك به فاسألهم عَنْ صِفَتِكَ
فِي الْكُتُبِ وَنَشْرِ فَضَائِلِكَ..
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ «2» : أَنَّ الْمُرَادَ.. إِنْ كُنْتَ فِي
شَكٍّ مِنْ غَيْرِكَ فِيمَا أَنْزَلْنَا. فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى
قَوْلِهِ «حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ
كُذِبُوا «3» » عَلَى قِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ «4» .
قُلْنَا: الْمَعْنَى فِي ذَلِكَ مَا قَالَتْهُ عَائِشَةُ «5» رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا..
مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ تَظُنَّ ذَلِكَ الرُّسُلُ بِرَبِّهَا.. وَإِنَّمَا
مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرُّسُلَ لَمَّا اسْتَيْأَسُوا ظَنُّوا أنّ من وعدهم
النصر من أتباعهم
__________
(1) الاية سورة المائدة اية (116) .
(2) أبو عبيدة: معمر بن المثنى التميمي، امام أهل اللغة توفي سنة عشر أو
احدى عشرة ومائتين وقد قارب المائة.. وكان معاصرا للاصمعي وبينهما منافسة
علمية واسعة وجميلة
(3) الاية سورة يوسف اية (110) .
(4) وهي قراءة عاصم وحمزة والكسائي وغيرهم.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «146» رقم «5» .
(2/237)
كَذَّبُوهُمْ «1» .. وَعَلَى هَذَا
أَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ.
وَقِيلَ: إِنَّ ضمير ظَنُّوا عَائِدٌ عَلَى الْأَتْبَاعِ وَالْأُمَمِ لَا
عَلَى الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ «2» ،
وَالنَّخَعِيِّ «3» وَابْنِ جُبَيْرٍ «4» ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ
الْعُلَمَاءِ..
وَبِهَذَا الْمَعْنَى قرأ مجاهد «5» : «كذبوا» فَلَا تَشْغَلْ بَالَكَ مِنْ
شَاذِّ التَّفْسِيرِ بِسِوَاهُ مِمَّا لَا يَلِيقُ بِمَنْصِبِ
الْعُلَمَاءِ، فَكَيْفَ بِالْأَنْبِيَاءِ!! وكذلك ما ورد في حديث السيرة
ومبدإ الْوَحْيِ مِنْ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
لِخَدِيجَةَ «6» : «لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي «7» » لَيْسَ مَعْنَاهُ
الشَّكَّ فِيمَا آتَاهُ اللَّهُ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَلَكِ، ولكن لعله خشي
أن لا تحتمل قوته مقاومة
__________
(1) وفيما نقله المصنف عن عائشة رضي الله عنها نظر، فان المروي عنها في
صحيح البخاري ان عروة بن الزبير سألها عن هذه الاية فقال لها وقد تلا الاية
أهي كذبوا أم كذبوا- أي بالتشديد او بالتخفيف- فقالت: كذبوا- بالتشديد-
فقال: اجل لعمري لقد استيقنوا بذلك وظنوا انهم قد كذبوا. قالت: معاذ الله!
لم تكن الرسل تظن ذلك بربها! .. فقال لها: فما هذه الاية؟ .. قالت: هم
اتباع الرسل الذين امنوا بربهم عز وجل وصدقوهم وطال عليهم البلاء واستأخر
عنهم النصر حتي استيأس الرسل ممن كذبهم من قومهم فظنث بالرسل أن اتباعهم قد
كذبوهم فجاءهم نصر الله عند ذلك.. اهـ. ولا منافاة بين ما نقله المصنف وبين
هذه الرواية اذ المعنى واحد في قراءة التشديد والتخفيف
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «361» رقم «11» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «580» رقم «40» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «70» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «261» رقم «5» .
(7) رواه الشيخان.
(2/238)
الْمَلَكِ وَأَعْبَاءِ الْوَحْيِ..
فَيَنْخَلِعَ قَلْبُهُ، أَوْ تَزْهَقَ نفسه.
هذا عَلَى مَا وَرَدَ فِي الصَّحِيحِ أَنَّهُ قَالَهُ بَعْدَ لِقَائِهِ
الْمَلَكَ أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ قَبْلَ لقائه، واعلام الله تعالى لَهُ
بِالنُّبُوَّةِ لِأَوَّلِ مَا عُرِضَتْ عَلَيْهِ مِنَ الْعَجَائِبِ،
وَسَلَّمَ عَلَيْهِ الْحَجَرُ وَالشَّجَرُ، وَبَدَأَتْهُ الْمَنَامَاتُ
وَالتَّبَاشِيرُ.
كَمَا رُوِيَ فِي بَعْضِ طُرُقِ هَذَا الحديث: أن ذلك كان أولا في فِي
الْمَنَامِ، ثُمَّ أُرِيَ فِي الْيَقَظَةِ مِثْلَ ذَلِكَ تَأْنِيسًا لَهُ
عَلَيْهِ السَّلَامُ، لِئَلَّا يَفْجَأَهُ الأمر مشاهدة ومشافهة، فلا يحمله
لِأَوَّلِ حَالَةٍ بِنْيَةُ الْبَشَرِيَّةِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عائشة «1» رضي الله عنها «2» : «أول ما بديء بِهِ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْوَحْيِ
الرُّؤْيَا الصَّادِقَةُ «3» . قَالَتْ.. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ
الْخَلَاءُ.. وَقَالَتْ إِلَى أَنْ جَاءَهُ الْحَقُّ وهو في غار حراء»
وَعَنِ»
ابْنِ عَبَّاسٍ «5» مَكَثَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِمَكَّةَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً يَسْمَعُ الصَّوْتَ «6» ، وَيَرَى:
الضَّوْءَ «7» سَبْعَ سِنِينَ، وَلَا يَرَى
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «146» رقم «5»
(2) وهذا الحديث رواه الشيخان وهو من مرسل الصحابة لانها رضي الله عنها لم
تكن معه صلّى الله عليه وسلم حينئذ.. أو هو متصل اذا سمعته منه ثم حدثت به.
(3) وروي (الصالحة) .
(4) فى حديث مسند رواه ابن سعد.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(6) أي صوت الملك.
(7) أي نور الملك من غير رواية ذاته لان الملائكة انوار مجردة.
(2/239)
شيئا وثماني سنين يوحى اليه «1» ..
وقد روى «2» ابن اسحق «3» عَنْ بَعْضِهِمْ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
- وَذَكَرَ جِوَارَهُ بِغَارِ حِرَاءٍ- قَالَ: «فَجَاءَنِي «4» وَأَنَا
نَائِمٌ فَقَالَ اقْرَأْ..
فَقُلْتُ مَا أَقْرَأُ..» وَذَكَرَ نَحْوَ حَدِيثِ عَائِشَةَ فِي غَطِّهِ
«5» له واقرائه له «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «6» » السُّورَةَ قَالَ:
فَانْصَرَفَ عَنِّي.. وَهَبَبْتُ مِنْ نَوْمِي «7» كَأَنَّمَا صُوِّرَتْ
فِي قَلْبِي، وَلَمْ يَكُنْ أَبْغَضَ إِلَيَّ مِنْ شَاعِرٍ أَوْ مَجْنُونٍ،
قُلْتُ: لَا تَحَدَّثُ «8» عَنِّي قُرَيْشٌ بِهَذَا أَبَدًا..
لِأَعْمِدَنَّ إِلَى حَالِقٍ «9» مِنَ الْجَبَلِ فَلَأَطْرَحَنَّ نَفْسِي
مِنْهُ فَلَأَقْتُلَنَّهَا..
فَبَيْنَا أَنَا عَامِدٌ لِذَلِكَ، إِذْ سَمِعْتُ مُنَادِيًا ينادي من
السماء: يا محمد..
__________
(1) قال البرهان الحلبي: هذا على القول المرجوح انه عاش خمسا وستين سنة،
والصحيح انه عاش ثلاثا وستين منها بمكة ثلاث عشرة بعد الوحي وبالمدينة
عشرة.
(2) وهذه الرواية لم تخرج.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «73» رقم «7» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (146) رقم (5)
(5) الغط: بفتح الغين المعجمة وتشديد الطاء المهملة مصدر بمعنى شدة خنقه
وضمه وغمه ليصرفه عن الدنيا ويوقظه لما يلقيه له واستدل به على تأديب
المعلم المتعلم منه.
(6) سورة العلق اية (1) .
(7) رواية ابن اسحق هذه تدل على ان الوحي اتاه في منامه وكذلك القرآن وقد
قسم العلماء النزول الى أقسام منها ما نزل عليه سفرا وحضرا وقل منهم من
تعرض الى نزوله يقظة ومناما.
(8) بفتح الفوقية على انه حذف منه احدى التاءين وأصله مضارع مرفوع تتحدث
(9) حالق: بالحاء المهملة واللام المكسورة والقاف أي مكان مرتفع منه وقيل
انه الجبل المرتفع من قولهم حلق الطائر اذا ارتفع.
(2/240)
أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَأَنَا
جِبْرِيلُ.. فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا جِبْرِيلُ عَلَى صُورَةِ رَجُلٍ..
وَذَكَرَ الْحَدِيثَ..
فَقَدْ بَيَّنَ فِي هَذَا أَنَّ قَوْلَهُ لِمَا قَالَ، وَقَصْدَهُ لِمَا
قَصَدَ، إِنَّمَا كَانَ قَبْلَ لقاء جبريل عليهما السلام، وقيل إِعْلَامِ
اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالنُّبُوَّةِ، وَإِظْهَارِهِ وَاصْطِفَائِهِ لَهُ
بِالرِّسَالَةِ.
وَمِثْلُهُ حَدِيثُ عَمْرِو «1» بْنِ شُرَحْبِيلَ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» قَالَ لِخَدِيجَةَ «3» :
«إِنِّي إِذَا خَلَوْتُ وَحْدِي سَمِعْتُ نِدَاءً، وَقَدْ خَشِيتُ
وَاللَّهِ أَنْ يَكُونَ هَذَا لِأَمْرٍ «4» » .
وَمِنْ رِوَايَةِ حَمَّادِ «5» بْنِ سَلَمَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «6» قَالَ لِخَدِيجَةَ «3» :
«إِنِّي لَأَسْمَعُ صوتا، وأرى ضوآ، وَأَخْشَى أَنْ يَكُونَ بِي جُنُونٌ
وَعَلَى هَذَا يُتَأَوَّلُ- لَوْ صَحَّ قَوْلُهُ فِي بَعْضِ هَذِهِ
الأحاديث- أن
__________
(1) عمرو بن شرحبيل: تابعي جليل وعابد توفي سنة ثلاث وستين ومائه، وهو ابو
ميسرة الهمداني وهناك عمرو بن شرحبيل آخر خزرجي وليس بمراد هنا.
(2) رواه البيهقي.
(3) تقدمت ترجمتها في ج 1 ص «261» رقم «5» .
(4) اي لامر يصيا بني مما لم أحط به خبرا فقالت له معاذ الله ما كان الله
ليضل بك ذلك انك لتؤدي الامانة وتصل الرحم وتصدق منه الحديث.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «2» .
(6) رواه الطبراني وابن منيع في مسنده موصولا عن حماد عن عمار بن أبي عمار
عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
(2/241)
الْمَلَكُ يَا ابْنَ عَمِّ فَاثْبُتْ
وَأَبْشِرْ. وَآمَنَتْ بِهِ. فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا
مُسْتَثْبِتَةٌ بِمَا فَعَلَتْهُ لِنَفْسِهَا، وَمُسْتَظْهِرَةٌ
لِإِيمَانِهَا لَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَوْلُ مَعْمَرٍ «1» فِي فَتْرَةِ الْوَحْيِ «2» : فَحَزِنَ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما بلغنا- حزنا غدا منه «3» مرارا كي
يتردّى من شواهق الجبال..
ولا يَقْدَحُ فِي هَذَا الْأَصْلِ لِقَوْلِ مَعْمَرٍ عَنْهُ- فِيمَا
بَلَغَنَا- وَلَمْ يُسْنِدْهُ وَلَا ذَكَرَ رُوَاتَهُ، وَلَا مَنْ حَدَّثَ
«4» بِهِ، وَلَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَهُ، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُ هَذَا «5» إِلَّا مِنْ جِهَةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «6» ، مَعَ «7» أَنَّهُ قَدْ يُحْمَلُ
عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَوَّلَ الْأَمْرِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ أَنَّهُ
فَعَلَ ذَلِكَ لِمَا أَخْرَجَهُ مِنْ تَكْذِيبِ مَنْ بَلَّغَهُ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ
لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «8» » .
وَيُصَحِّحُ مَعْنَى هَذَا التَّأْوِيلِ حَدِيثٌ رَوَاهُ «9» شَرِيكٌ «10»
عن
__________
(1) معمر: بن راشد اليماني.
(2) كما رواه عنه أحمد والبيهقي.
(3) وفي نسخة (به) .
(4) الا ان ابن سيد الناس رواه مسندا مر طريق الدولابي ولم يذكر فيه معمرا
بل رواه عن الزهري عن عروة عن عائشة فقال: لم يثبت ورقة ان توفي وفتر الوحي
(5) وفي نسخة مثل (ذلك) .
(6) لان مثله لا يقال بالرأي فهو في حكم المرفوع وان كان منقطعا.
(7) وفي نسخة (على انه) .
(8) الاية سورة الكهف آية (6) .
(9) رواه البزار وأخرج الطبراني نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما.
(10) شريك: بن عبد الله النحفي، الامام الثقة. وقد وثقه ابن معين. وقال
غيره: لا بأس به. وقد قيل انه كان سيء الحفظ. توفي سنة سبع وسبعين ومائة.
وسنة ثمانون سنة. وله ترجمة في الميزان.
(2/244)
عبد الله «1» بن محمد بْنِ عَقِيلٍ عَنْ
جَابِرِ «2» بْنِ عَبْدِ اللَّهِ:
أَنَّ الْمُشْرِكِينَ لَمَّا اجْتَمَعُوا بِدَارِ النَّدْوَةِ «3»
لِلتَّشَاوُرِ فِي شَأْنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
وَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَنْ يَقُولُوا إِنَّهُ سَاحِرٌ.. اشْتَدَّ
ذَلِكَ عَلَيْهِ وَتَزَمَّلَ فِي ثِيَابِهِ وَتَدَثَّرَ فيها.. فأتاه جبريل
فقال: يا أيها المزمل يا أيها الْمُدَّثِّرِ» .
أَوْ خَافَ أَنَّ الْفَتْرَةَ لِأَمْرٍ أَوْ سَبَبٍ مِنْهُ فَخَشِيَ أَنْ
تَكُونَ عُقُوبَةً مِنْ رَبِّهِ، فَفَعَلَ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ.. وَلَمْ
يَرِدْ بَعْدُ شَرْعٌ بِالنَّهْي عَنْ ذَلِكَ فَيُعْتَرَضَ بِهِ وَنَحْوُ
هَذَا فِرَارُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ خَشْيَةَ تَكْذِيبِ قَوْمِهِ
لَهُ لِمَا وَعَدَهُمْ بِهِ مِنَ الْعَذَابِ.
وَقَوْلُ اللَّهِ فِي يُونُسَ: «فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ «5» »
معناه أن لن نضيّق عليه
__________
(1) عبد الله بن محمد بن عقيل: ابن أبي طالب بن عبد المطلب. توفي بعد
الاربعين ومائة. وهو لين الحديث حتى قيل انه لا يحتج بروايته.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «154» رقم «1» .
(3) الندوة: بفتح النون وسكون الدال المهملة والندوة بمعنى الاجتماع ومنه
النادي ودار الندوة دار كانت بمكة تجتمع فيها قريش للمشاورة والحكومة بناها
قصي بن كلاب فكانت ديوان رؤسائهم.
(4) وهذا مخالف للرواية الصحيحة من ان اجتماعهم بدار الندوة كان وقت الهجرة
ونزول (يا ايها المزمل) (يا ايها المدثر) كان في ابتداء الوحي عليه كما في
البخاري.. فان صحت هذه الرواية تكون نزلت علية مرتين.
(5) الاية (87) سورة الانبياء.
(2/245)
فأستغفر الله كل «1» يوم مئة مَرَّةٍ» -
وَفِي طَرِيقٍ «2» - «فِي الْيَوْمِ أَكْثَرَ مِنْ سَبْعِينَ مَرَّةً» .
فَاحْذَرْ أَنْ يَقَعَ بِبَالِكَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْغَيْنُ وَسْوَسَةً
أَوْ رَيْبًا وَقَعَ في قلبه صلّى الله عليه وسلم، بَلْ أَصْلُ الْغَيْنِ
فِي هَذَا مَا يَتَغَشَّى الْقَلْبَ وَيُغَطِّيهِ، قَالَهُ أَبُو عُبَيْدٍ
«3» - وَأَصْلُهُ مِنْ «غَيْنِ السَّمَاءِ» وَهُوَ إِطْبَاقُ الْغَيْمِ
عَلَيْهَا
وَقَالَ غَيْرُهُ «وَالْغَيْنُ» شَيْءٌ يُغَشِّي الْقَلْبَ وَلَا
يُغَطِّيهِ كُلَّ التَّغْطِيَةِ كَالْغَيْمِ الرَّقِيقِ الَّذِي يَعْرِضُ
فِي الْهَوَاءِ فَلَا يَمْنَعُ ضَوْءَ الشَّمْسِ..
وَكَذَلِكَ لَا يُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّهُ يُغَانُ عَلَى قَلْبِهِ
مئة مرة أو اكثر من سبعين فِي الْيَوْمِ.. إِذْ لَيْسَ يَقْتَضِيهِ
لَفْظُهُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَهُوَ أَكْثَرُ الرِّوَايَاتِ.. وَإِنَّمَا
هَذَا عَدَدٌ لِلِاسْتِغْفَارِ لَا لِلْغَيْنِ. فَيَكُونُ الْمُرَادُ
بِهَذَا الْغَيْنِ إِشَارَةً إِلَى غَفَلَاتِ قَلْبِهِ، وَفَتَرَاتِ
نَفْسِهِ وَسَهْوِهَا عَنْ مُدَاوَمَةِ الذِّكْرِ، وَمُشَاهَدَةِ الْحَقِّ،
بِمَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دُفِعَ إِلَيْهِ مِنْ
مُقَاسَاةِ الْبَشَرِ، وَسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ، وَمُعَانَاةِ الْأَهْلِ،
وَمُقَاوَمَةِ الولي، والعدو، ومصلحة النفس، وما كلفه مِنْ أَعْبَاءِ
أَدَاءِ الرِّسَالَةِ، وَحَمْلِ الْأَمَانَةِ.. وَهُوَ في كل هذا في طاعة
ربه،
__________
(1) وفي نسخة (في كل يوم) .
(2) أي للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(3) أبو عبيد: القاسم بن سلام. وفي نسخة (ابو عبيدة) .
(2/248)
وَعِبَادَةِ خَالِقِهِ.. وَلَكِنْ لَمَّا
كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْفَعَ الْخَلْقِ عِنْدَ
اللَّهِ مَكَانَةً، وَأَعْلَاهُمْ دَرَجَةً، وَأَتَمَّهُمْ بِهِ
مَعْرِفَةً، وَكَانَتْ حَالُهُ عند خلوص قلبه، وخلو همه، وتفرده بربه،
واقباله بكليته، وَمُقَامِهِ هُنَالِكَ أَرْفَعَ حَالَيْهِ «1» .. رَأَى
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَالَ فَتْرَتِهِ عَنْهَا، وَشُغْلِهِ
بِسِوَاهَا، غَضًّا «2» مِنْ عَلِيِّ حَالِهِ، وَخَفْضًا مِنْ رَفِيعِ
مَقَامِهِ، فَاسْتَغْفَرَ اللَّهَ مِنْ ذَلِكَ.. هَذَا أَوْلَى وُجُوهِ
الْحَدِيثِ وَأَشْهَرِهَا.
وَإِلَى مَعْنَى مَا أَشَرْنَا بِهِ مَالَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ، وَحَامَ
حَوْلَهُ..
فَقَارَبَ وَلَمْ يَرِدْ «3» .. وَقَدْ قَرَّبْنَا غَامِضَ مَعْنَاهُ..
وَكَشَفْنَا لِلْمُسْتَفِيدِ مُحَيَّاهُ «4» .. وَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى
جَوَازِ الفترات والفضلات، وَالسَّهْوِ فِي غَيْرِ طَرِيقِ الْبَلَاغِ
عَلَى مَا سيأتي..
__________
(1) اى حالة اشتغاله بالظاهر وحالة كونه مع الله عالم السرائر وكل منهما
رفيعة ولكن هذه أرفع.
(2) غضا: وهو معقول ثان لرأي او حال وغض الطرف ارخاؤه واطرافه ويكون بمعنى
النقصان كما يقال غض صوته وهو المراد هنا وكني به عن التنزل عما ذكر.
(3) اي لم يصل، استعارة من ورد الماء اذا اتاه ليستقي منه.
(4) محياه: بالضم والفتح والتشديد بمعنى الوجه وفيه استعارة مكنية تخييلية
بتشبيهه بحسان مخدرة والكشف للحديث هنا لرفع غينه واظهار محياه تعينه، وفي
نسخة (مخباه) بخاء معجمة وتشديد موحدة أي مخفية وأصله الهمز كما في قوله
تعالى «الا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء» سورة النمل اية 20 فكأنه ابدل
التخفيف مراعاة للسمع.
(2/249)
إِذْ فِيهِ إِثْبَاتُ الْجَهْلِ بِصِفَةٍ
مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ..
وَالْمَقْصُودُ وعظهم أن لا يتسبهوا فِي أُمُورِهِمْ بِسِمَاتِ
الْجَاهِلِينَ.
كَمَا قَالَ: «إِنِّي أعظك» وليس في آية منها دَلِيلٌ عَلَى كَوْنِهِمْ
عَلَى تِلْكَ الصِّفَةِ الَّتِي نَهَاهُمْ عَنِ الْكَوْنِ عَلَيْهَا..
فَكَيْفَ وَآيَةُ نُوحٍ قبلها «فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ» «1» فَحَمْلُ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا أَوْلَى، لِأَنَّ
مِثْلَ هَذَا قَدْ يَحْتَاجُ إِلَى إِذْنٍ، وتجوز إِبَاحَةُ السُّؤَالِ
فِيهِ ابْتِدَاءً، فَنَهَاهُ اللَّهُ أَنْ يسأله عما طوى عنه علمه، واكنّه
في غَيْبِهِ مِنَ السَّبَبِ الْمُوجِبِ لِهَلَاكِ ابْنِهِ.. ثُمَّ أَكْمَلَ
اللَّهُ تَعَالَى نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ بِإِعْلَامِهِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ
«إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ «1» » حكاه
مَعْنَاهُ مَكِّيٌّ «2» .
كَذَلِكَ أُمِرَ نَبِيُّنَا فِي الْآيَةِ الْأُخْرَى بِالْتِزَامِ
الصَّبْرِ عَلَى إِعْرَاضِ قَوْمِهِ وَلَا يُحْرَجُ عِنْدَ ذَلِكَ
فَيُقَارِبُ حَالَ الْجَاهِلِ بِشِدَّةِ التحسر..
حكاه أبو بكر «3» بن فورك.. وقيل معنى الخطاب لأمة محمد.
__________
(1) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ
صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ
تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ «هود آية 46» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «67» رقم «7» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «119» رقم «4» .
(2/252)
أي فلا تكونوا من الجاهلين حكاه مَكِّيٌّ
«1» وَقَالَ مِثْلُهُ فِي الْقُرْآنِ كَثِيرٌ.
فَبِهَذَا الفصل وَجَبَ الْقَوْلُ بِعِصْمَةِ الْأَنْبِيَاءِ مِنْهُ بَعْدَ
النُّبُوَّةِ قَطْعًا.
فَإِنْ قُلْتَ: فَإِذَا قَرَّرْتَ عِصْمَتَهُمْ مِنْ هَذَا وَأَنَّهُ لَا
يَجُوزُ عَلَيْهِمْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ.. فَمَا مَعْنَى إِذًا وَعِيدِ
اللَّهِ لِنَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ إِنْ
فَعَلَهُ وَتَحْذِيرِهِ مِنْهُ.
كَقَوْلِهِ «لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2» » الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ
وَلا يَضُرُّكَ.. «3» » الْآيَةَ.
وَقَوْلِهِ تَعَالَى: «إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ.. «4» » الاية.
وقوله: «لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ «5» » و «إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ
مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ «6» .
__________
(1) تقدم آنفا.
(2) ولقد أوحي اليك والى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من
الخاسرين. الزمر آية «65»
(3) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ
فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ يونس آية «106»
(4) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا
تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً الاسراء آية «75» .
(5) الحاقة آية «45» .
(6) إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ
الانعام آية «116» .
(2/253)
وقوله: «اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ
الْكافِرِينَ «1» » .
فَلَيْسَ فِيهِ أَنَّهُ أَطَاعَهُمْ.. وَاللَّهُ يَنْهَاهُ عَمَّا يَشَاءُ
وَيَأْمُرُهُ بِمَا يَشَاءُ كَمَا قَالَ: «وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ
يَدْعُونَ رَبَّهُمْ «2» » الْآيَةَ.
وَمَا كَانَ طَرَدَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم، ولا كان من
الظالمين.
__________
(1) « ... » وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً.
الاحزاب اية «1»
(2) « ... » بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ
مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ
فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ. الانعام اية «52»
(2/256)
|