الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الثَّانِي عِصْمَتُهُمْ مِنْ
هَذَا قَبْلَ النُّبُوَّةِ
وَأَمَّا عِصْمَتُهُمْ مِنْ هَذَا الْفَنِّ قَبْلَ النُّبُوَّةِ
فَلِلنَّاسِ فِيهِ خِلَافٌ وَالصَّوَابُ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ قَبْلَ
النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكيك «1» فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.
وَقَدْ تَعَاضَدَتِ الْأَخْبَارُ وَالْآثَارُ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ
بِتَنْزِيهِهِمْ عَنْ هَذِهِ النَّقِيصَةِ مُنْذُ وُلِدُوا، وَنَشْأَتِهِمْ
عَلَى التَّوْحِيدِ وَالْإِيمَانِ.. بَلْ عَلَى إِشْرَاقِ أَنْوَارِ
الْمَعَارِفِ، وَنَفَحَاتِ أَلْطَافِ السَّعَادَةِ، كَمَا نَبَّهْنَا
عَلَيْهِ فِي الْبَابِ الثَّانِي مِنَ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ مِنْ
كِتَابِنَا هَذَا وَلَمْ يَنْقُلْ أحد من أهل الأخبار أن أحدا نبيء «2»
وَاصْطُفِيَ مِمَّنْ عُرِفَ بِكُفْرٍ وَإِشْرَاكٍ قَبْلَ ذَلِكَ.
وَمُسْتَنَدُ هَذَا الْبَابِ النَّقْلُ
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْقُلُوبَ تَنْفِرُ عَمَّنْ «3»
كَانَتْ هَذِهِ سَبِيلُهُ
__________
(1) وروي (او التشكك) . والاول أولى.
(2) ويروى (تنبأ) .
(3) ويروى (عن كل من) .
(2/257)
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّ قُرَيْشًا قَدْ
رَمَتْ نَبِيَّنَا بِكُلِّ مَا افْتَرَتْهُ.. وَعَيَّرَ كُفَّارُ الْأُمَمِ
أَنْبِيَاءَهَا «1» بِكُلِّ مَا أَمْكَنَهَا «2» وَاخْتَلَقَتْهُ مِمَّا
نَصَّ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ.. أَوْ نَقَلَتْهُ إِلَيْنَا الرُّوَاةُ..
وَلَمْ نَجِدْ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ تَعْيِيرًا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ
بِرَفْضِهِ آلِهَتَهُ، وَتَقْرِيعِهِ بِذَمِّهِ بِتَرْكِ مَا كَانَ قَدْ
جَامَعَهُمْ عَلَيْهِ.
وَلَوْ كَانَ هَذَا.. لكانوا بذلك مبادرين وبتلوّنه «3» فِي مَعْبُودِهِ
مُحْتَجِّينَ.. وَلَكَانَ تَوْبِيخُهُمْ لَهُ بِنَهْيِهِمْ عَمَّا كَانَ
يَعْبُدُ قَبْلُ أَفْظَعَ «4» وَأَقْطَعَ فِي الْحُجَّةِ مِنْ تَوْبِيخِهِ
بِنَهْيِهِمْ عَنْ تَرْكِهِمْ آلِهَتَهُمْ وَمَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ
مِنْ قَبْلُ..
فَفِي إِطْبَاقِهِمْ عَلَى الْإِعْرَاضِ عَنْهُ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ
لَمْ يَجِدُوا سَبِيلًا إِلَيْهِ.. إِذْ لَوْ كَانَ لَنُقِلَ وَمَا
سَكَتُوا عَنْهُ.. كَمَا لَمْ يَسْكُتُوا عن «5» تَحْوِيلِ الْقِبْلَةِ
وَقَالُوا: «مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها «6»
» كَمَا حَكَاهُ اللَّهُ عَنْهُمْ.
__________
(1) وفي نسخة (انبياءهم) .
(2) وفي نسخة (بكل ما امكنهم) .
(3) بتلونه: اي تغييره وانتقاله.
(4) أفظع: بفاء وظاء معجمة أي أشد فظاعة وهي الشناعة والقباحة.
(5) وفي نسخة (عند) .
(6) «.. قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى
صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ البقرة «142»
(2/258)
وَقَدِ اسْتَدَلَّ الْقَاضِي
الْقُشَيْرِيُّ «1» عَلَى تَنْزِيهِهِمْ عَنْ هَذَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى:
«وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ «2» » الْآيَةَ
وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ..
«3» » إلى قوله «لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ..»
قال فطهره اللَّهُ فِي الْمِيثَاقِ.. وَبَعِيدٌ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ
الميثاق قبل خلقه.. ثم يأخذ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ بِالْإِيمَانِ بِهِ
وَنَصْرِهِ قَبْلَ مَوْلِدِهِ بِدُهُورٍ وَيَجُوزُ عَلَيْهِ الشِّرْكُ أَوْ
غَيْرُهُ مِنَ الذُّنُوبِ، هَذَا مَا لَا يُجَوِّزُهُ إِلَّا مُلْحِدٌ..
هَذَا مَعْنَى كَلَامِهِ.. وَكَيْفَ يَكُونُ»
ذَلِكَ وَقَدْ أَتَاهُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ «5» ، وَشَقَّ
قَلْبَهُ صَغِيرًا، وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ عَلَقَةً، وَقَالَ: هَذَا حَظُّ
الشَّيْطَانِ مِنْكَ، ثُمَّ غَسَلَهُ وَمَلَأَهُ حِكْمَةً وَإِيمَانًا،
كَمَا تظاهرت به أخبار المبدأ.. ولا يشبه عليه بقول إبراهيم..
__________
(1) القشيري: هو الامام عبد الرحيم بن الامام عبد الكريم بن هوارن الاستاذ
أبو نصر بن الاستاذ أبي القاسم القشيري صاحب (الرسالة) المجمع على جلالته
وعلمه وزهده وامامته، تخرج على امام الحرمين، توفي سنة أربع عشرة وخمسمائة
بنيسابور، وله عدة أولاد كما فصله البرهان الحلبي وقال: انه لم يل هو ولا
احد من أولاده القضاء. فقول المصنف رحمه الله له (القاضي) لا أصل له.
(2) «.. وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ
وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً الاحزاب آية «7»
(3) «.. لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ
مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ. آل عمران
آية «81» .
(4) وفي نسخة (وكيف ذلك) وفي أخرى (فكيف) .
(5) كما تقدم عن أنس وفى رواية مسلم.
(2/259)
في الكواكب وَالْقَمَرِ وَالشَّمْسِ هَذَا
رَبِّي.
فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: كَانَ هَذَا فِي سَنِّ الطُّفُولِيَّةِ «1»
وَابْتِدَاءِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَقَبْلَ لُزُومِ التَّكْلِيفِ.
وَذَهَبَ مُعْظَمُ الْحُذَّاقِ «2» من العلماء والمفسرين إِلَى أَنَّهُ
إِنَّمَا قَالَ ذَلِكَ مُبَكِّتًا «3» لِقَوْمِهِ، وَمُسْتَدِلًّا
عَلَيْهِمْ.
وَقِيلَ مَعْنَاهُ: الِاسْتِفْهَامُ الْوَارِدُ مَوْرِدَ الافكار..
وَالْمُرَادُ فَهَذَا رَبِّي!
قَالَ الزَّجَّاجُ «4» : قَوْلُهُ «هَذَا ربّي» أي على قولكم «5» .. كما
قال «أبن شركائي» «6» : أَيْ عِنْدَكُمْ.
وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَعْبُدْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ، وَلَا
أَشْرَكَ قَطُّ بِاللَّهِ
__________
(1) الطفولية: مصدر طفل، ولكن الذي ذكره الراغب وغيره ممن يعتمد عليه من
أهل اللغة ان يقال طفل طفولة، فاذا كانت الطفالة مصدرا لا يحتاج لياء
النسبة التي تصبر بها الجوامد مصادر فان مثله سماعي كالخصوصية.. الا ان
المصنف رحمه الله تعالى ثقة فلعله وقف عليه.
(2) الحذاق: جمع حاذق وهو من له ذكاء وفهم.
(3) وفي نسخة (تبكيتا) والتبكيت بالمثناة الفوقية والموحدة وكاف ومثناة
تحتية ساكنة وآخره مثناة فوقية وهو اللوم والتقريع يقال بكته اذا غضبه
واستقبله بمكروه او غلبه بحجة وكله صحيح هنا.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «88» رقم «8» .
(5) وفي نسخة (قولهم)
(6) «.. وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ
كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ «القصص اية 74»
(2/260)
طَرْفَةَ عَيْنٍ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ عَنْهُ.
«إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ «1» » ؟ .. ثُمَّ قَالَ:
«أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ
الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ «2» » .
وقال: «إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ «3» أَيْ مِنَ الشِّرْكِ..
وَقَوْلُهُ: «وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «4» » .
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ «5» ؟
قيل: إنه إن لم يؤيدني بِمَعُونَتِهِ أَكُنْ مِثْلَكُمْ فِي ضَلَالَتِكُمْ
وَعِبَادَتِكُمْ عَلَى مَعْنَى الْإِشْفَاقِ وَالْحَذَرِ، وَإِلَّا فَهُوَ
مَعْصُومٌ فِي الْأَزَلِ مِنَ الضَّلَالِ.
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا
لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي
مِلَّتِنا «6» »
ثُمَّ قَالَ بَعْدُ عَنِ الرُّسُلِ: «قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ
كَذِباً إِنْ عُدْنا
__________
(1) الشعراء اية «70» .
(2) الشعراء الايات «75، 76، 77» .
(3) الصافات اية «84» .
(4) «.. وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً
وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «ابراهيم اية 35» .
(5) الانعام اية «77» .
(6) «.. فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ
«ابراهيم ايه 13» .
(2/261)
فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا
اللَّهُ مِنْها «1» » .
فَلَا يُشْكِلُ عَلَيْكَ لَفْظَةُ الْعَوْدِ وَأَنَّهَا تَقْتَضِي
أَنَّهُمْ إِنَّمَا يَعُودُونَ إِلَى مَا كَانُوا فِيهِ مِنْ مِلَّتِهِمْ.
فَقَدْ تَأْتِي هَذِهِ اللَّفْظَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ لِغَيْرِ مَا
لَيْسَ لَهُ ابْتِدَاءٌ، بِمَعْنَى الصَّيْرُورَةِ، كَمَا جَاءَ فِي
حَدِيثِ الْجَهَنَّمِيِّينَ «2» عَادُوا حُمَمًا «3» ، وَلَمْ يَكُونُوا
قَبْلُ كَذَلِكَ.
وَمِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ «4» :
تِلْكَ الْمَكَارِمُ لَا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ ... شِيبَا بِمَاءٍ
فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالَا
وَمَا كانا قَبْلُ كَذَلِكَ..
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «5» » ؟
فليس
__________
(1) الاعراف اية «89» .
(2) أي الحديث الذي في حق أهل جهنم المروي في الصحيحين عَنْ أَبِي سَعِيدٍ
الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
(3) حمما: بضم الحاء المهملة وفتح الميم بزنة صدد أي سوادا كالفحم جمع حمة.
(4) وهو أمية بن ابي الصلت من قصيدة مدح بها سيف بن ذي يزن ملك اليمن لما
ظفر بالحبشة وقد غلبوا على ملكه فغزاهم ونفاهم عن بلاده وذلك بعد مولد
النبي صلّى الله عليه وسلم بسنتين فأتته وفود العرب تهنئه وفيهم قريش وعبد
المطلب فأنشده أمية:
لا تطلب الثأر الا كابن ذي يزن ... يتمم البحث للأعداء جوالا
فاشرب هنيئا عليك الناج مرتفعا ... في رأس غمدان دارا منك محلالا
والقط بالمسك اذ سالت نعامتهم ... وسائل اليوم من يرديك اسبالا
تلك المكارم لا قعبان من لبن ... شيبا بماء فعادا بعد أبوالا
(5) الضحى اية «7» .
(2/262)
هُوَ مِنَ الضَّلَالِ الَّذِي هُوَ
الْكُفْرُ..
قِيلَ: ضَالًّا عَنِ النُّبُوَّةِ، فَهَدَاكَ إِلَيْهَا.. قَالَهُ
الطَّبَرِيُّ «1» .
وَقِيلَ: وَجَدَكَ بَيْنَ أَهْلِ الضَّلَالِ فَعَصَمَكَ مِنْ ذَلِكَ،
وَهَدَاكَ لِلْإِيمَانِ وَإِلَى إِرْشَادِهِمْ.
وَنَحْوُهُ عَنِ السُّدِّيِّ «2» وَغَيْرِ وَاحِدٍ.
وَقِيلَ: ضَالًّا عَنْ شَرِيعَتِكَ أي لا تعرفها «3» . فهداك إليها.
و «الضلال» ههنا التَّحَيُّرُ. وَلِهَذَا كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فِي طَلَبِ مَا يَتَوَجَّهُ به إلى ربه
ويتشرع به حتى هداه الله إِلَى الْإِسْلَامِ قَالَ مَعْنَاهُ
الْقُشَيْرِيُّ «4» .
وَقِيلَ: لَا تَعْرِفُ الْحَقَّ فَهَدَاكَ إِلَيْهِ..
وَهَذَا مِثْلُ قَوْلِهِ تعالى: «وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ
«5» قاله علي «6» بن عيسى.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «182» رقم «2» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «112» رقم «3» .
(3) وقد ورد ذلك في قوله تعالى (ان تضل احداهما فتذكر احداهما الآخرى) .
(4) القشيري: تقدم ذكره انفا.
(5) « ... وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً «النساء اية 113» .
(6) علي بن عيسى: المعروف بالرماني الامام في العربية والكلام شارح الكتاب.
(2/263)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ «1» لَمْ تَكُنْ لَهُ
ضَلَالَةُ مَعْصِيَةٍ.
وَقِيلَ: «هَدَى» أَيْ بَيَّنَ أَمْرَكَ بِالْبَرَاهِينِ.
وَقِيلَ: وَجَدَكَ ضَالًّا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ فَهَدَاكَ إِلَى
الْمَدِينَةِ.
وَقِيلَ: الْمَعْنَى: وَجَدَكَ فَهَدَى بِكَ ضالا.
وعن جعفر «2» بن محمد: ووجدك ضَالًّا عَنْ مَحَبَّتِي لَكَ فِي الْأَزَلِ.
أَيْ لَا تَعْرِفُهَا.. فَمَنَنْتُ عَلَيْكَ بِمَعْرِفَتِي..
وَقَرَأَ الْحَسَنُ «3» بن علي ووجدك ضال «4» فَهَدَى.. أَيِ اهْتَدَى بِكَ
وَقَالَ ابْنُ عَطَاءٍ «5» : ووجدك «ضالا» أي مُحِبًّا لِمَعْرِفَتِي..
«وَالضَّالُّ» الْمُحِبُّ كَمَا قَالَ «إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ
«6» » أي محبتك القديمة.. ولم يريدوا ههنا في الدين.. إذ قَالُوا ذَلِكَ
فِي نَبِيِّ اللَّهِ لَكَفَرُوا..
وَمِثْلُهُ عِنْدَ هَذَا قَوْلُهُ: «إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ
«7» » أي محبة بيّنة
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «55» رقم «6» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «192» رقم «2» .
(4) وهي قراءة شاذة.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «63» رقم «6» .
(6) « ... قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ «يوسف اية
95» .
(7) « ... وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ
فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ
مُبِينٍ» يوسف «30» .
(2/264)
وَقَالَ الْجُنَيْدُ»
: وَوَجَدَكَ مُتَحَيِّرًا فِي بَيَانِ مَا أنزل إليك، فهداك لبيانه.
لقوله: «وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ.. «2» » الْآيَةَ.
وَقِيلَ: وَوَجَدَكَ لَمْ يَعْرِفْكَ أَحَدٌ بِالنُّبُوَّةِ حَتَّى
أَظْهَرَكَ فَهَدَى بِكَ السُّعَدَاءَ..
وَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا قَالَ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِيهَا: ضَالًّا عَنِ
الْإِيمَانِ.
وَكَذَلِكَ فِي قِصَّةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
قوله «فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ «3» » أَيْ مِنَ
الْمُخْطِئِينَ الْفَاعِلِينَ شَيْئًا بِغَيْرِ قَصْدٍ قَالَهُ ابْنُ
عَرَفَةَ «4» .
وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ «5» : مَعْنَاهُ مِنَ النّاسين.
__________
(1) الجنيد: هو أبو القاسم بن محمد الزاهد العابد شيخ وقته ووحيد عصره.
وأصله من نهاوند ونشأ بالعراق، وتفقه يأخذه عن الثوري رحمه الله تعالى عنه
وسفيان، واخذ الطريقة عن السري السقطي والمحاسبي، وتوفي سنة سبع وتسعين
ومائتين، وهو من فقهاء الشافعية كما في طبقات السبكي، ودفن في الشوينزية
عند خاله السري ببغداد.
(2) «.. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ
يَتَفَكَّرُونَ «النحل اية 44» .
(3) الشعراء آية «20» .
(4) ابن عرفة: وهو الحسن العبدري المؤدب المحدث الثقة الذي روى عنه الترمذي
وغيره وهو معمر عاش مائة وسبع أو عشر، وتوفي سنة سبع وخمسين ومائتين، وهو
المراد هنا لا ابن عرفة الذي هو عبد الله بن ابراهيم بن محمد بن عرفة
المعروف بنفطويه.
(5) الازهري: أبو منصور محمد بن أحمد امام اهل اللغة صاحب التهذيب توفي سنة
سبعين وثلاثمائة.
(2/265)
وَقَدْ قِيلَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ:
«وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى «1» » أَيْ نَاسِيًّا كَمَا قَالَ تَعَالَى:
«أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما «2» ..» فإن قلت فما معنى قوله «مَا كُنْتَ
تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ «3» » ..
فَالْجَوَابُ أَنَّ السَّمَرْقَنْدِيَّ «4» قَالَ: مَعْنَاهُ: مَا كُنْتَ
تَدْرِي قَبْلَ الْوَحْيِ أَنْ تَقْرَأَ الْقُرْآنَ وَلَا كيف تدعو الخلق
إلى الإيمان.
وقال أبو بَكْرٌ «5» الْقَاضِي نَحْوَهُ.
قَالَ: وَلَا الْإِيمَانَ الَّذِي هُوَ الْفَرَائِضُ وَالْأَحْكَامُ.
قَالَ: فَكَانَ قَبْلُ مُؤْمِنًا بِتَوْحِيدِهِ ثُمَّ نَزَلَتِ
الْفَرَائِضُ الَّتِي لَمْ يَكُنْ يَدْرِيهَا قَبْلُ فَزَادَ
بِالتَّكْلِيفِ إِيمَانًا وَهُوَ أَحْسَنُ وُجُوهِهِ..
فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ؟ ..
«وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «6» » ..
فَاعْلَمْ: أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْنَى قَوْلِهِ «وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ
آياتِنا غافِلُونَ «7» »
__________
(1) الضحى اية «7» .
(2) «.. فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى.. البقرة اية «28» .
(3) «.. وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا
وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ. الشورى اية «52» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «51» رقم «2» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «234» رقم «4» .
(6) «.. نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا
إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ
الْغافِلِينَ» يوسف اية «3» .
(7) «إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ
الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ»
يونس اية «7» .
(2/266)
بَلْ حَكَى أَبُو عَبْدِ اللَّهِ «1»
الْهَرَوِيُّ: أَنَّ مَعْنَاهُ: لَمِنَ الْغَافِلِينَ عَنْ قِصَّةِ
يُوسُفَ.. إِذْ لَمْ تَعْلَمْهَا إِلَّا بِوَحْيِنَا.
وَكَذَلِكَ الْحَدِيثُ «2» الَّذِي يَرْوِيهِ عُثْمَانُ «3» بْنُ أَبِي
شَيْبَةَ بِسَنَدِهِ عَنْ جابر «4» أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كَانَ
يَشْهَدُ مَعَ الْمُشْرِكِينَ مَشَاهِدَهُمْ..
فَسَمِعَ مَلَكَيْنِ خَلْفَهُ أَحَدُهُمَا يَقُولُ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ
حَتَّى تَقُومَ خَلْفَهُ.
فَقَالَ الْآخَرُ.. كَيْفَ أَقُومُ خَلْفَهُ وَعَهْدُهُ باستلام الأصنام..
فلم يشهدهم بعد..
فهذا الحديث أَنْكَرَهُ أَحْمَدُ «5» بْنُ حَنْبَلٍ جِدًّا.. وَقَالَ: هُوَ
مَوْضُوعٌ أَوْ شَبِيهٌ بِالْمَوْضُوعِ.
وَقَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ «6» : يُقَالُ: إِنَّ عُثْمَانَ «3» وَهِمَ فِي
إِسْنَادِهِ.
وَالْحَدِيثُ بِالْجُمْلَةِ مُنْكَرٌ غَيْرُ مُتَّفَقٌ عَلَى إِسْنَادِهِ
فَلَا يُلْتَفَتُ إِلَيْهِ..
وَالْمَعْرُوفُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
خِلَافُهُ عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ.
مِنْ قَوْلِهِ «بغضت إلى الأصنام» .
__________
(1) أبو عبد الله الهروي: امام أهل اللغة.
(2) أخرجه أبو يعلى الموصلي في مسنده.
(3) عثمان بن أبي شيبة: وهو من المحدثين الا انه ضعيف على ما يأتي لانه نسب
له أوهام ولكن ابن معين قال: انه ثقة مأمون. توفي سنة تسع وثلاثين ومائتين.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «154» رقم «1» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «165» رقم «1» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «158» رقم «1» .
(2/267)
وَقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ «1»
الَّذِي رَوَتْهُ أُمُّ أَيْمَنَ «2» حِينَ كَلَّمَهُ عَمُّهُ وَآلُهُ فِي
حُضُورِ بَعْضِ أَعْيَادِهِمْ.. وَعَزَمُوا عَلَيْهِ فِيهِ بَعْدَ
كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ.. فَخَرَجَ مَعَهُمْ وَرَجَعَ مَرْعُوبًا.. فَقَالَ:
«كُلَّمَا دَنَوْتُ مِنْهَا مِنْ صَنَمٍ تَمَثَّلَ لِي شَخْصٌ أَبْيَضُ
طَوِيلٌ يَصِيحُ بِي- وَرَاءَكَ- لَا تَمَسَّهُ..» فَمَا شَهِدَ بَعْدُ
لَهُمْ عِيدًا.
وَقَوْلُهُ فِي قِصَّةِ بَحِيرَا «3» حِينَ اسْتَحْلَفَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى.
إِذْ لَقِيَهُ بِالشَّامِ فِي سَفْرَتِهِ مَعَ عَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ
وَهُوَ صبي ورأى عَلَامَاتِ النُّبُوَّةِ فَاخْتَبَرَهُ بِذَلِكَ فَقَالَ
لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَسْأَلْنِي
بِهِمَا فَوَاللَّهِ مَا أَبْغَضْتُ شَيْئًا قَطُّ بُغْضَهُمَا فَقَالَ
لَهُ بَحِيرَا: فَبِاللَّهِ إِلَّا مَا أَخْبَرْتَنِي عَمَّا أَسْأَلُكَ
عَنْهُ.. فَقَالَ: سَلْ عَمَّا بَدَا لَكَ..»
- وَكَذَلِكَ الْمَعْرُوفُ مِنْ سِيرَتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ وَتَوْفِيقِ اللَّهِ لَهُ، أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ
يُخَالِفُ الْمُشْرِكِينَ فِي وُقُوفِهِمْ بِمُزْدَلِفَةَ فِي الْحَجِّ..
فَكَانَ يَقِفُ هُوَ بِعَرَفَةَ لِأَنَّهُ كَانَ موقف إبراهيم «4» عليه
السلام
__________
(1) رواه ابن سعد عن ابن عباس عن أم أيمن.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (158) رقم (5) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (719) رقم (2) .
(4) كما في صحيح البخاري.
(2/268)
|