الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الرَّابِعُ الْعِصْمَةُ مِنَ
الشَّيْطَانِ
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى عِصْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَكِفَايَتِهِ مِنْهُ، لَا
فِي جِسْمِهِ بِأَنْوَاعِ الْأَذَى، وَلَا عَلَى خَاطِرِهِ بالوساوس.
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ «1» بْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله
عليه وسلم «2» :
«ما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وُكِّلَ بِهِ قَرِينُهُ مِنَ الْجِنِّ،
وَقَرِينُهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.. قَالُوا: وَإِيَّاكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ .. قَالَ: وَإِيَّايَ..
وَلَكِنَّ اللَّهَ أَعَانَنِي عَلَيْهِ فَأَسْلَمَ «3» » .
زَادَ غَيْرُهُ عَنْ مَنْصُورٍ «4» «فلا يأمرني إلا بخير..»
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (214) رقم (2) .
(2) في حديث رواه مسلم عن سالم بن أبي الجعد عن أبيه عن ابن مسعود، وواه من
طريق آخر لعلو سنده فيه وعظم رجاله.
(3) فأسلم: اما بصيغة الماضي والضمير فيه يعود على الشيطان اي دخل الشيطان
في الاسلام واستبعد بعضهم هذا لان الشيطان لا يسلم قط، أو بصيغة المضارع
والضمير فيه يعود على النبي صلّى الله عليه وسلم اي أسلم من شروره.
(4) منصور: المعتمد من رواة هذا الحديث.
(2/275)
وعن عائشة «1» بمعناه روي: «فَأَسْلَمُ»
بِضَمِّ الْمِيمِ.. أَيْ فَأَسْلَمُ «2» أَنَا مِنْهُ.
وَصَحَّحَ بَعْضُهُمْ هَذِهِ الرِّوَايَةَ «3» وَرَجَّحَهَا.
وَرُوِيَ «فَأَسْلَمَ «4» » يَعْنِي الْقَرِينَ أَنَّهُ انْتَقَلَ مِنْ
حَالِ كُفْرِهِ إِلَى الْإِسْلَامِ فَصَارَ لَا يَأْمُرُ إِلَّا بِخَيْرٍ
كَالْمَلَكِ وَهُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ..
وَرَوَاهُ بَعْضُهُمْ «فَاسْتَسْلَمَ..»
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا
حُكْمَ شَيْطَانِهِ وَقَرِينِهِ الْمُسَلَّطِ عَلَى بَنِي آدَمَ «5»
فَكَيْفَ بِمَنْ بَعُدَ مِنْهُ «6» وَلَمْ يَلْزَمْ صُحْبَتَهُ وَلَا
أُقْدِرَ عَلَى الدُّنُوِّ مِنْهُ!! ..
وَقَدْ جَاءَتِ الْآثَارُ بِتَصَدِّي الشَّيَاطِينِ لَهُ فِي غَيْرِ
مَوْطِنٍ «7» رَغْبَةً فِي إِطْفَاءِ نُورِهِ، وَإِمَاتَةِ نفسه، وإدخال
شغل عليه، إذ يئسوا
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (146) رقم (5) .
(2) وفي رواية اي (اسلم منه) .
(3) وحديث عائشة موجود في مسلم
(4) ورواية (فاسلم) يشهد لها ما روي: كان شيطان ادم كافرا وشيطاني مسلما
كما قال ابن الاثير.. وقد رجح القاضي عياض الفتح وقد قال الخطابي رحمه الله
ان الفتح هو المختار عندهم، ويؤيد هذا ما أخرجه البيهقي وابن الجوزي في
الوفاء عَنْ نَافِعٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ تعالى عَنْهُمَا
أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: فضلت على ادم بخصلتين،
كان شيطاني كافرا فأعانني الله عليه حتى اسلم وكن أزواجي عونا لي، وكان
شيطان ادم كافرا، وكانت زوجته عونا على خطيئاته.
(5) وفي نسخة (على كل أحد من بني آدم) .
(6) ويروى (عنه) .
(7) وفي نسخة في (كل موطن) .
(2/276)
مِنْ إِغْوَائِهِ فَانْقَلَبُوا
خَاسِرِينَ.. كَتَعَرُّضِهِ لَهُ فِي الصلاة فَأَخَذَهُ النَّبِيُّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَسَرَهُ «1» .
فَفِي الصِّحَاحِ «2» قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «3» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ عَرَضَ «4» لِي..» قَالَ عَبْدُ
الرَّزَّاقِ «5» «فِي صُورَةِ هِرٍّ.. فَشَدَّ عَلَيَّ يَقْطَعُ عَلَيَّ
الصَّلَاةَ فَأَمْكَنَنِي اللَّهُ مِنْهُ فَذَعَتُّهُ «6»
وَلَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُوثِقَهُ إِلَى سَارِيَةٍ حَتَّى تُصْبِحُوا
تَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فَذَكَرْتُ قَوْلَ أَخِي سُلَيْمَانَ «رَبِّ اغْفِرْ
لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً..» «7» الْآيَةَ.. فَرَدَّهُ اللَّهُ خَاسِئًا.
وَفِي حَدِيثِ أَبِي الدَّرْدَاءِ «8» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ «9» : «إِنَّ عَدُوَّ اللَّهِ إِبْلِيسَ جَاءَنِي بِشِهَابٍ مِنْ
نَارٍ لِيَجْعَلَهُ فِي وَجْهِي وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فِي الصَّلَاةِ» وَذَكَرَ تَعَوُّذَهُ بِاللَّهِ مِنْهُ ولعنه
له.. «ثم أردت أن آخذه» «10» وذكر
__________
(1) ويروى (فأسره) .
(2) أي الاحاديث الصحيحة المروية في البخاري ومسلم وغيرهما.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «5» .
(4) وفي نسخة (تعرض لي) .
(5) عبد الرزاق:
بن همام الامام الحافظ ... وذلك من زيادته على الصحيحين
(6) ذعته: أي خنقته خنقا شديدا، او دفعته دفعا عنيفا، او معكته في التراب
كالغطس في الماء.
(7) « ... لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ
سورة ص آية (35)
(8) أبو الدرداء: هو عويمر واختلف في اسم أبيه على اقوال فقيل عامر وقيل
مالك وقيل قيس وقيل ثعلبة وهو أنصاري خزرجي أسلم عقب بدر وتوفي سنة 32 هـ
واخرج له أحمد والستة وله مناقب مشهورة.
(9) رواه البيهقي عن عبد الرحمن بن جيش.
(10) وفي نسخة (اردت اخذه) .
(2/277)
نحوه وقال: «لأصبح موثقا بتلاعب بِهِ
وِلْدَانُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ..
وَكَذَلِكَ فِي حَدِيثِهِ فِي الْإِسْرَاءِ: وَطَلَبِ عِفْرِيتٍ لَهُ
بِشُعْلَةِ نَارٍ فَعَلَّمَهُ جِبْرِيلُ مَا يَتَعَوَّذُ بِهِ مِنْهُ»
ذَكَرَهُ فِي الْمُوَطَّأِ وَلَمَّا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى أَذَاهُ
بِمُبَاشَرَتِهِ تَسَبَّبَ بِالتَّوَسُّطِ إِلَى عِدَاهُ كَقَضِيَّتِهِ
مَعَ قُرَيْشٍ فِي الِائْتِمَارِ بِقَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَصَوُّرِهِ فِي صُورَةِ الشَّيْخِ النَّجْدِيِّ.
- ومرة أخرى في غزوة يوم بَدْرٍ «1» فِي صُورَةِ سُرَاقَةَ «2» بْنِ
مَالِكٍ وَهُوَ قوله: «وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ..»
«3» الْآيَةَ.
- وَمَرَّةً يُنْذِرُ بِشَأْنِهِ عِنْدَ بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ.. وكل هذا
فقد كفاه أَمْرَهُ، وَعَصَمَهُ ضُرَّهُ وَشَرَّهُ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» : «إِنَّ عِيسَى
عَلَيْهِ السَّلَامُ كُفِيَ مِنْ لَمْسِهِ، فَجَاءَ لِيَطْعَنَ بِيَدِهِ
فِي خاصرته حين ولد فطعن في الحجاب «5» » .
__________
(1) في حديث رواه ابن أبي حاتم عن ابن عباس كما قاله السيوطي رحمه الله
تعالى ولم يورد في الحديث.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «130» رقم «5» .
(3) «.. وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ.» الانفال (48) .
(4) في حديث رواه الشيخان عن ابي هريرة.
(5) الحجاب: قيل هو المشيمية وقيل حجبه الله بحجوب خاص. وقيل ما حجبته امه
به والحديث في مسلم (ما من مولود يولد الا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من
نخسه) قال القرطبي في شرحه أي في اول وقت ولادته يسلط عليه بنخسه الا مريم
وابنها عليهما السلام لدعوة ام مريم.
(2/278)
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
حِينَ لُدَّ»
في مرضه «2» ، وفيل لَهُ: خَشِينَا أَنْ يَكُونَ بِكَ ذَاتُ الْجَنْبِ..
فَقَالَ: «إِنَّهَا مِنَ الشَّيْطَانِ وَلَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيُسَلِّطَهُ
عَلَيَّ «3» ..
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ
مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «4» ..» الاية!! ..
فَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: إِنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى قوله:
«وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «5» » ثُمَّ قَالَ: «وَإِمَّا
يَنْزَغَنَّكَ» أَيْ يَسْتَخِفَّكَ غَضَبٌ يَحْمِلُكَ عَلَى تَرْكِ
الْإِعْرَاضِ عَنْهُمْ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ..
وقيل: «النزغ» هنا الفساد.
كما قال «مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي
«6» ..»
وَقِيلَ «يَنْزَغَنَّكَ» يُغْرِيَنَّكَ وَيُحَرِّكَنَّكَ «وَالنَّزْغُ»
أَدْنَى الْوَسْوَسَةِ «7»
__________
(1) لد: أي وضع له دواه بمائع من ماء واجزاء حارة في احد شقي الفم يتغرغر
به ثم يشربه.
(2) في مرضه الذي مات فيه: ولما أرادوا ان يلدوه صلّى الله عليه وسلم أشار
عليهم أن لا تفعلوا فظنوه لكراهة المريض الدواء فلما أفاق قال: لم يبق أحد
في البيت لا لد) عقوبة لهم لما تألم..
(3) وهذا الحديث في الموطأ..
(4) «.. إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ» الاعراف اية (200) .
(5) «.. خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ
الْجاهِلِينَ» الاعراف (199)
(6) «.. إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ
الْحَكِيمُ» يوسف (100) .
(7) الوسوسة: الصوت الخفي. ويقال لصوت الحلي وسوسة، والعامة تقول وشوشة بدل
وسوسة.
(2/279)
فَأَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُ مَتَى
تَحَرَّكَ عَلَيْهِ غَضَبٌ عَلَى عَدُوِّهِ أَوْ رَامَ الشَّيْطَانُ مِنْ
إغرائه به وخواطر أدنى وساوسه ما لَمْ يُجْعَلْ لَهُ سَبِيلٌ إِلَيْهِ أَنْ
يَسْتَعِيذَ مِنْهُ. فَيُكْفَى أَمْرُهُ وَيَكُونُ سَبَبَ تَمَامِ
عِصْمَتِهِ إِذْ لَمْ يُسَلَّطْ عَلَيْهِ بِأَكْثَرَ مِنَ التَّعَرُّضِ
له.. ولم يجعل له قُدْرَةٌ عَلَيْهِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ غَيْرُ هَذَا..
وَكَذَلِكَ لَا يَصِحُّ أَنْ يَتَصَوَّرَ لَهُ الشَّيْطَانُ فِي صُورَةِ
الْمَلَكِ وَيُلَبِّسَ عَلَيْهِ لَا فِي أَوَّلِ الرِّسَالَةِ وَلَا
بَعْدَهَا.. وَالِاعْتِمَادُ فِي ذَلِكَ دَلِيلُ الْمُعْجِزَةِ بَلْ لَا
يَشُكُّ النَّبِيُّ أَنَّ مَا يَأْتِيهِ مِنَ اللَّهِ الْمَلَكُ
وَرَسُولُهُ حَقِيقَةً.. إِمَّا بِعِلْمٍ ضَرُورِيٍّ يَخْلُقُهُ اللَّهُ
لَهُ.. أَوْ بِبُرْهَانٍ يُظْهِرُهُ لَدَيْهِ لِتَتِمَّ كَلِمَةُ رَبِّكَ
صِدْقًا وَعَدْلًا.. لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ..
فَإِنْ قِيلَ فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: «وَما أَرْسَلْنا مِنْ
قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى «1» أَلْقَى
الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ «2» » الْآيَةَ!!
فَاعْلَمْ أَنَّ لِلنَّاسِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ أَقَاوِيلَ «3» ،
مِنْهَا السَّهْلُ وَالْوَعْثُ «4» ، وَالسَّمِينُ، وَالْغَثُّ «5» .
__________
(1) التمني: هنا بمعنى التلاوة وذكر الكسائي والفراء انه يقال تمنى اذا حدث
نفسه، قال القرطبي وهو المعروف في اللغة.
(2) : فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ
آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ» الحج (52)
(3) أقاويل: جمع اقوال فهو جمع الجمع.
(4) الوعث: المكان الكثير الرمل الذي يشق المشي فيه ثم استعمل لمعنى الشاق
ومنه دعاؤه صلّى الله عليه وسلم (اللهم اني أعوذ بك من وعثاء السفر)
(5) الغث: الناقة الهزيلة.
(2/280)
وَأَوْلَى مَا يُقَالُ فِيهَا مَا عَلَيْهِ
الْجُمْهُورُ من المفسرين: أن «التمني» ههنا التِّلَاوَةُ.. وَإِلْقَاءَ
الشَّيْطَانِ فِيهَا إِشْغَالُهُ بِخَوَاطِرَ وَأَذْكَارٍ من أمور الدنيا
للتّالي، حَتَّى يُدْخِلَ عَلَيْهِ الْوَهْمَ وَالنِّسْيَانَ فِيمَا
تَلَاهُ، أَوْ يُدْخِلَ غَيْرَ ذَلِكَ عَلَى أَفْهَامِ السَّامِعِينَ مِنَ
التَّحْرِيفِ، وَسُوءِ التَّأْوِيلِ، مَا يُزِيلُهُ اللَّهُ وَيَنْسَخُهُ،
وَيَكْشِفُ لَبْسَهُ، وَيُحْكِمُ آيَاتِهِ.
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ على هذه الاية بعد بِأَشْبَعَ مِنْ هَذَا إِنْ
شَاءَ اللَّهُ.
وَقَدْ حكي السمرقندي «1» إنكار قول من قال بتسلط الشيطان على ملك سليمان
وغلبته.. وَأَنَّ مِثْلَ هَذَا لَا يَصِحُّ. وَقَدْ ذَكَرْنَا قِصَّةَ
سُلَيْمَانَ مُبَيَّنَةً بَعْدَ هَذَا، وَمَنْ قَالَ إِنَّ الْجَسَدَ هُوَ
الْوَلَدُ الَّذِي وُلِدَ لَهُ..
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدٍ «2» مَكِّيٌّ فِي قِصَّةِ أَيُّوبَ وقوله: «أَنِّي
مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ «3» » : إِنَّهُ لَا يَجُوزُ
لِأَحَدٍ أَنْ يَتَأَوَّلَ أَنَّ الشَّيْطَانَ هُوَ الَّذِي أَمْرَضَهُ،
وَأَلْقَى الضُّرَّ فِي بَدَنِهِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِفِعْلِ
اللَّهِ وأمره ليبتليهم ويثيبهم «4» ..
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «51» رقم «2» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «67» رقم «7» .
(3) «.. وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ
الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ سورة ص اية (41) .
(4) وفي نسخة (ويثبتهم) .
(2/281)
قال مكي: وقيل: إن الذي أصابه الشَّيْطَانُ
مَا وَسْوَسَ بِهِ إِلَى أَهْلِهِ فَإِنْ قلت: فما معنى قوله تعالى في يوشع
«1» : «وَما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ «2» ..» وَقَوْلِهِ عَنْ
يُوسُفَ: «فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ «3» » وَقَوْلِ
نَبِيِّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ نام عن الصَّلَاةِ
يَوْمَ الْوَادِي «4» : «إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ.. وَقَوْلِ
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي وَكْزَتِهِ «5» : «هذا مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطانِ «6» » !!
فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ قَدْ يَرِدُ فِي جميع هَذَا عَلَى
مَوْرِدِ مُسْتَمِرِّ كَلَامِ الْعَرَبِ فِي وَصْفِهِمْ كُلَّ قَبِيحٍ مِنْ
شَخْصٍ أَوْ فِعْلٍ بالشيطان أو فعله.
__________
(1) يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف بن يعقوب وهو نبي وكان في زمن موسى
عليه السلام، وهو الذي اقام لبني اسرائيل احكام التوراة بعده وقاتل
الجبارين وردت له الشمس، وهو فتى موسى المذكور في سورة الكهف.
(2) «.. أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً»
الكهف اية (63) .
(3) «.. فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ» يوسف (42) .
(4) كما في الموطأ.. وفي البخاري عن عمران بن حصين: (كنافي سفر مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حتى كنا في اخر الليل.
رقدنا رقدة لا أحلى منها عند المسافر فما ايقظنا الا حر الشمس فكبر عمر حتى
استيقظ رسول الله صلّى الله عليه وسلم وكانوا قالوا له لو عرشت بنا يا رسول
الله.. فقال: اخاف أن تناموا عن الصلاة فقال بلال: انا اوقظكم فاضطجعوا
وأسند بلال ظهره لراحلته فغلبته عيناه فنام حتى طلعت الشمس وقال: ما ألقيت
علي نومة مثلها قط، فأمرهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالارتحال عن؟؟؟
ثم نزل وتوضأ وصلّى بهم) وفي مصنف عبد الرزاق عن عطاء بن يسار انه كان ببطن
تبوك.. ونحوه في دلائل البيهقي، وقيل انه بغزوة مؤتة.
(5) وفي نسخة (وكزه) .
(6) «.. إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ» القصص (15)
(2/282)
كما قال تعالى: «طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ
الشَّياطِينِ «1» » .
وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» : «فَلْيُقَاتِلْهُ
فَإِنَّمَا هُوَ شَيْطَانٌ» .
وَأَيْضًا «3» فَإِنَّ قَوْلَ يُوشَعَ لَا يَلْزَمُنَا الْجَوَابُ عَنْهُ،
إِذْ لَمْ يَثْبُتْ لَهُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ نُبُوَّةٌ مَعَ مُوسَى.
قَالَ الله تعالى: «وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ «4» » .
والمروي أنه إنما نبيء بَعْدَ مَوْتِ مُوسَى. وَقِيلَ: قُبَيْلَ «5»
مَوْتِهِ.
وَقَوْلُ مُوسَى كَانَ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ بِدَلِيلِ الْقُرْآنِ وَقِصَّةُ
يُوسُفَ قَدْ ذُكِرَ أَنَّهَا كَانَتْ قَبْلَ نُبُوَّتِهِ.
وقد قال المفسرون في قوله: «فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ» «6» قَوْلَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَنَّ الَّذِي أَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ أَحَدُ
صَاحِبَيِ السِّجْنِ «وَرَبُّهُ» الْمَلِكُ.. أَيْ أَنْسَاهُ أَنْ يَذْكُرَ
لِلْمَلِكِ شَأْنَ يُوسُفَ عَلَيْهِ السلام.
__________
(1) الصافات. (65) وقد عرض هذا الاشكال على ابي عبيدة معمر بن المثنى في ان
العرب لا تعرف رؤوس الشياطين فلم شبه ثمر شجرة الزقوم بشيء لا تعرفه العرب»
فقال: ان العرب تشبه القبيح من الشيء او القول او الفعل بشيء قبيح اخر وان
لم يروه وذلك مثل قول امرىء القيس: ومسنونة زرق كأنياب اغوال.. مع انهم لم
يروا الغول حتما ولا أنيابه، ولكن لما توارد قبحه عنده في قصصهم شبهوا به
(2) في حديث رواه الشيخان رحمهما الله في المار بين يدي المصلي.
(3) أيضا: مشتقة من آضي يئيض اذا رجع.
(4) «.. لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ
حُقُباً.. الكهف (60)
(5) وفي نسخة (قبل) .
(6) «.. ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ» يوسف (42)
.
(2/283)
وَأَيْضًا.. فَإِنَّ مِثْلَ هَذَا مِنْ
فِعْلِ الشَّيْطَانِ ليس فيه تسلط على يوسف عليه السلام وَيُوشَعَ
بِوَسَاوِسَ وَنَزْغٍ، وَإِنَّمَا هُوَ بِشَغْلِ خَوَاطِرِهِمَا بأمور أخر،
وتذكير هما من أمور هما مَا يُنْسِيهِمَا مَا نَسِيَا.
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ هَذَا وَادٍ
بِهِ شَيْطَانٌ» فَلَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ تَسَلُّطِهِ عَلَيْهِ وَلَا
وَسْوَسَتِهِ لَهُ.. بَلْ إِنْ كَانَ بِمُقْتَضَى ظَاهِرِهِ فَقَدْ بَيَّنَ
أَمْرَ ذَلِكَ الشَّيْطَانِ بِقَوْلِهِ «1» : «إِنَّ الشَّيْطَانَ أَتَى
بِلَالًا فَلَمْ يَزَلْ يُهَدِّئُهُ كَمَا يُهَدَّأُ الصَّبِيُّ حَتَّى
نَامَ..»
فَاعْلَمْ أَنَّ تَسَلُّطَ الشَّيْطَانِ فِي ذَلِكَ الْوَادِي إِنَّمَا
كَانَ عَلَى بِلَالٍ الْمُوَكَّلِ بِكَلَاءَةِ «2» الْفَجْرِ. هَذَا إِنْ
جَعَلْنَا قَوْلَهُ: «إِنَّ هَذَا وَادٍ بِهِ شَيْطَانٌ» تَنْبِيهًا عَلَى
سَبَبِ النَّوْمِ عَنِ الصَّلَاةِ.
وَأَمَّا إِنْ جَعَلْنَاهُ تَنْبِيهًا عَلَى سَبَبِ الرَّحِيلِ عَنِ
الْوَادِي، وَعِلَّةً لِتَرْكِ الصَّلَاةِ بِهِ، وَهُوَ دَلِيلُ مَسَاقِ
حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ «3» ، فَلَا اعْتِرَاضَ بِهِ في هذا الباب
لبيانه وارتفاع اشكاله..
__________
(1) في رواية مالك والبيهقي عن زيد بن أسلم.
(2) وفي نسخة (بكلاءته) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «770» رقم «7» .
(2/284)
|