الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الْفَصْلُ الْخَامِسُ صِدْقُ أَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم في جميع أحواله
وأما أقواله صلّى الله عليه وسلم، فقد قامت الدَّلَائِلُ «1» الْوَاضِحَةُ بِصِحَّةِ الْمُعْجِزَةِ عَلَى صِدْقِهِ، وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ فِيمَا كَانَ طَرِيقُهُ الْبَلَاغَ أَنَّهُ مَعْصُومٌ فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنْ شَيْءٍ مِنْهَا بِخِلَافِ مَا هُوَ بِهِ لَا قَصْدًا وَلَا عَمْدًا وَلَا سَهْوًا وَلَا غَلَطًا.
أَمَّا تَعَمُّدُ الْخُلْفِ فِي ذَلِكَ فَمُنْتَفٍ بِدَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ الْقَائِمَةِ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ: صَدَقَ فِيمَا قَالَ اتِّفَاقًا، وَبِإِطْبَاقِ أَهْلِ الْمِلَّةِ إِجْمَاعًا.
وَأَمَّا وُقُوعُهُ عَلَى جِهَةِ الْغَلَطِ فِي ذَلِكَ فَبِهَذِهِ السَّبِيلِ عِنْدَ الْأُسْتَاذِ»
أبي إسحق «3» الإسفرائيني، ومن قال بقوله، ومن جهة الإجماع
__________
(1) الدلائل: لا يجمع الدليل على دلائل. ولكن الدلالة تجمع على دلائل.
(2) الاستاذ: كلمه معربة معناها الرئيس في علم او صناعة.
(3) أبو اسحق الاسفرائيني: هو ابراهيم بن محمد بن ابراهيم بن مهران، واسفرائن بلدة بخراسان. وهو امام جليل متبحر في علوم الدين كلاما وفروعا واصولا، توفي في بنيسابور في يوم عاشوراء سنة ثمان عشرة وأربعمائة.

(2/285)


فقط. وورود الشرع بانتفاء ذلك وعصمة النبي لَا مِنْ مُقْتَضَى الْمُعْجِزَةِ نَفْسِهَا عِنْدَ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ «1» الْبَاقِلَّانِيِّ وَمَنْ وَافَقَهُ لِاخْتِلَافٍ بَيْنَهُمْ فِي مُقْتَضَى دَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ لَا نُطَوِّلُ بِذِكْرِهِ فنخرج عن غرض الكتاب، فلنعتمد مَا وَقَعَ عَلَيْهِ إِجْمَاعُ الْمُسْلِمِينَ.
- أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ خُلْفٌ فِي الْقَوْلِ فِي إِبْلَاغِ الشَّرِيعَةِ وَالْإِعْلَامِ بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ رَبِّهِ، وَمَا أَوْحَاهُ إِلَيْهِ مِنْ وَحْيِهِ، لَا عَلَى الْعَمْدِ وَلَا عَلَى غَيْرِ عَمْدٍ، وَلَا فِي حَالَيِ الرِّضَى وَالسَّخَطِ، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ.
وَفِي حَدِيثِ «2» عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو «3» : «قُلْتُ يَا رَسُولَ الله..
أأكتب كُلَّ مَا أَسْمَعُ مِنْكَ؟ قَالَ: نَعَمْ.. قُلْتُ: فِي الرِّضَى وَالْغَضَبِ؟ .. قَالَ نَعَمْ فَإِنِّي لَا أَقُولُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِلَّا حَقًّا، وَلْنَزِدْ «4» مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ دَلِيلِ الْمُعْجِزَةِ عَلَيْهِ بَيَانًا.
- فَنَقُولُ: إِذَا قَامَتِ الْمُعْجِزَةُ عَلَى صِدْقِهِ وَأَنَّهُ لَا يَقُولُ إِلَّا حَقًّا، وَلَا يُبَلِّغُ عَنِ اللَّهِ إِلَّا صِدْقًا، وَأَنَّ الْمُعْجِزَةَ قَائِمَةٌ مَقَامَ قَوْلِ اللَّهِ لَهُ:
صَدَقْتَ فِيمَا تَذْكُرُهُ عني.. وهو يقول: «اني رسول الله إليكم
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «385» رقم «1» .
(2) هذا الحديث رواه عنه الامام احمد وأبو داود والحاكم وصححوه.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «72» رقم «1» .
(4) وفي نسخة (ولنرد) من الورود أي الذكر.

(2/286)


لأبلّغكم ما أرسلت به اليكم وأبيّن لَكُمْ مَا نُزِّلَ عَلَيْكُمْ» .. «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1» » «قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ «2» » «وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «3» » فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُوجَدَ مِنْهُ فِي هَذَا الْبَابِ خَبَرٌ بِخِلَافِ مُخْبَرِهِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ.
فَلَوْ جَوَّزْنَا عَلَيْهِ الْغَلَطَ وَالسَّهْوَ لَمَا تميّز لنا من غيره، ولاختلط الْحَقُّ بِالْبَاطِلِ.
فَالْمُعْجِزَةُ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى تَصْدِيقِهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً مِنْ غَيْرِ خُصُوصٍ..
فَتَنْزِيهُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ وَاجِبٌ برهانا وإجماعا كما قاله أبو إسحق «4»
__________
(1) «.. سورة النجم الايتان (3 و 4)
(2) «.. فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً. النساء (170) .
(3) «.. وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ» سورة الحشر اية (7) .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «584» رقم «2» .

(2/287)