الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل الثالث أحواله في أمور الدّنيا
هذا حَالُهُ فِي جِسْمِهِ، فَأَمَّا أَحْوَالُهُ فِي أُمُورِ الدنيا فنحن
نسبرها «1» على أسلوبها «2» الْمُتَقَدِّمِ بِالْعَقْدِ «3» وَالْقَوْلِ
وَالْفِعْلِ.
أَمَّا الْعَقْدُ مِنْهَا: فَقَدْ يَعْتَقِدُ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا
الشَّيْءَ عَلَى وَجْهٍ وَيَظْهَرُ خِلَافُهُ، أَوْ يَكُونُ مِنْهُ عَلَى
شك أو ظن، بخلاف أمور الشرع.
قال رافع «4» بن خديج «5» قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ المدينة وهم يؤبّر «6» النخل فقال: ما تصنعون؟ قالوا: كما
نَصْنَعُهُ..
قَالَ: لَعَلَّكُمْ لَوْ لَمْ تَفْعَلُوا كَانَ خيرا فتركوه فنقصت.
فَذَكَرُوا ذَلِكَ لَهُ.. فَقَالَ: إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ.. إذا أمرتكم
بشيء من دينكم
__________
(1) نسبرها: نختبرها.
(2) ويروى (اسلوبنا) .
(3) العقد: الاعتقاد.
(4) رافع بن خديج: أنصاري شهد أحدا. اخرج له الستة وتوفي سنة أربع وتسعين
من الهجرة.
(5) كما رواه مسلم.
(6) أي يلقحونها وهو ان يؤخذ من طلع النخلة الذكر ويوضع على طلع غيرها حين
ينشق فتلقح.
(2/416)
فخذوا به وإذا أمرتكم بشيء من رأي
فَإِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ.
وَفِي رِوَايَةِ «1» أَنَسٍ «2» : أَنْتُمْ أَعْلَمُ بِأَمْرِ دُنْيَاكُمْ.
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «3» إِنَّمَا ظَنَنْتُ ظَنًّا فَلَا تُؤَاخِذُونِي
بِالظَّنِّ وَفِي حَدِيثِ ابْنِ «4» عَبَّاسٍ فِي قِصَّةِ الْخَرْصِ «5» :
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «6» :
«إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ.. فَمَا حَدَّثْتُكُمْ عَنِ اللَّهِ فَهُوَ حَقٌّ،
وَمَا قُلْتُ فِيهِ مِنْ قِبَلِ نَفْسِي فَإِنَّمَا أنا بشر، أخطىء
وَأُصِيبُ وَهَذَا عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ فِيمَا قَالَهُ مِنْ قِبَلِ
نَفْسِهِ فِي أُمُورِ الدُّنْيَا، وَظَنِّهِ مِنْ أَحْوَالِهَا، لَا مَا
قَالَهُ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي شَرْعٍ شَرَعَهُ،
وَسُنَّةٍ سَنَّهَا.
وَكَمَا حَكَى ابْنُ إِسْحَاقَ «7» : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَ بِأَدْنَى مِيَاهِ بَدْرٍ قَالَ لَهُ الْحُبَابُ
«8» بْنُ الْمُنْذِرِ: أَهَذَا مَنْزِلٌ أَنْزَلَكَهُ اللَّهُ لَيْسَ لَنَا
أَنْ نَتَقَدَّمَهُ.. أَمْ هُوَ الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ؟
قَالَ: لَا.. بَلْ هو
__________
(1) لمسلم عن أنس.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «47» رقم «1» .
(3) رواه مسلم عن طلحة رضي الله تعالى عنه في هذه القصة.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(5) الخرص: هو الحذر والتخمين لما على النخل والكرم من الرطب والعنب.
(6) كما رواه البزار بسند حسن.
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «72» رقم «2» .
(8) الحباب بن المنذر: بن جموج بن زيد بن جز بن حرام بن غنم بن كعب بن سلمة
الخزرجي الانصاري الصحابي الذي يقال له: ذو الرأي. توفي كهلا في خلافة عمر
رضي الله تعالى عنه.
(2/417)
الرَّأْيُ وَالْحَرْبُ وَالْمَكِيدَةُ..
قَالَ: فَإِنَّهُ لَيْسَ بِمَنْزِلٍ.. انْهَضْ حَتَّى نَأْتِيَ أَدْنَى
مَاءٍ مِنَ الْقَوْمِ فَنَنْزِلَهُ، ثُمَّ نُغَوِّرَ مَا وَرَاءَهُ مِنَ
الْقَلْبِ «1» . فَنَشْرَبَ وَلَا يَشْرَبُونَ. فَقَالَ: «أَشَرْتَ
بِالرَّأْيِ» وَفَعَلَ مَا قَالَهُ.
وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ: «وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ «2» » .
وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث تمر الْمَدِينَةِ «3» فَاسْتَشَارَ
الْأَنْصَارَ «4» .
فَلَمَّا أَخْبَرُوهُ بِرَأْيِهِمْ رَجَعَ عَنْهُ. فَمِثْلُ هَذَا
وَأَشْبَاهِهِ مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَا مَدْخَلَ فِيهَا
لِعِلْمِ دِيَانَةٍ، وَلَا اعتقادها، ولا تعليمها يجوز عليه فيها مَا
ذَكَرْنَاهُ.. إِذْ لَيْسَ فِي هَذَا كُلِّهِ نَقِيصَةٌ وَلَا مَحَطَّةٌ،
وَإِنَّمَا هِيَ أُمُورٌ اعْتِيَادِيَّةٌ يَعْرِفُهَا مَنْ جَرَّبَهَا
وَجَعَلَهَا هَمَّهُ. وَشَغَلَ نَفْسَهُ بِهَا وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَشْحُونُ الْقَلْبِ بِمَعْرِفَةِ الرُّبُوبِيَّةِ،
مَلْآنُ الْجَوَانِحِ «5» بِعُلُومِ الشَّرِيعَةِ، قصيد الْبَالِ
بِمَصَالِحِ الْأُمَّةِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
وَلَكِنْ هَذَا إِنَّمَا يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ وَيَجُوزُ فِي
النادر.
وفيما سَبِيلُهُ التَّدْقِيقُ فِي حِرَاسَةِ الدُّنْيَا وَاسْتِثْمَارِهَا،
لَا في الكثير المؤذن بالعلة، والغفلة.
__________
(1) القلب: جمع قليب وهو البئر الذي لم تبن أطرافه بالحجارة.
(2) الاية 159 آل عمران.
(3) وذلك في غزوة الخندق.
(4) المستشار منهم سعد بن معاذ وسعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهم.
(5) الجوانح: جمع جانحة وهي الضلوع التي تلي الصدر.
(2/418)
وَقَدْ تَوَاتَرَ «1» بِالنَّقْلِ عَنْهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَعْرِفَةِ بِأُمُورِ
الدُّنْيَا وَدَقَائِقِ مَصَالِحِهَا، وَسِيَاسَةِ فِرَقِ أَهْلِهَا مَا
هُوَ مُعْجِزٌ فِي الْبَشَرِ مِمَّا قَدْ نَبَّهْنَا عَلَيْهِ فِي بَابِ
معجزاته من هذا الكتاب.
__________
(1) أي تواترا معنويا على الجملة لا في مادة بخصوصها كتواتر كرم حاتم
وشجاعة علي كرم الله وجهه.
(2/419)
|