الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الْفَصْلُ الثَّانِي حَالَتُهُمْ
بِالنِّسْبَةِ لِلسِّحْرِ
فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ جَاءَتِ الْأَخْبَارُ الصَّحِيحَةُ «1» أَنَّهُ
صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم سحر
فعن عَائِشَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ «3» : «سُحِرَ رَسُولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ
إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ» .
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ
يَأْتِي النِّسَاءَ وَلَا يَأْتِيهِنَّ» الْحَدِيثَ.
وَإِذَا كَانَ هَذَا مِنَ الْتِبَاسِ الْأَمْرِ عَلَى الْمَسْحُورِ
فَكَيْفَ حَالُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ؟!
وَكَيْفَ جَازَ عَلَيْهِ وَهُوَ مَعْصُومٌ؟!.
فَاعْلَمْ: وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ هَذَا الحديث صحيح، متفق
عليه
__________
(1) كما في حديث رواه البخاري.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «146» رقم «5» .
(3) كما في الصحيحين.
(2/411)
وقد طعنت فيه الملحدة، وتذرعت «1» بِهِ
لِسُخْفِ عُقُولِهَا، وَتَلْبِيسِهَا عَلَى أَمْثَالِهَا، إِلَى
التَّشْكِيكِ فِي الشَّرْعِ..
وَقَدْ نَزَّهَ اللَّهُ الشَّرْعَ وَالنَّبِيَّ عَمَّا يُدْخِلُ فِي
أَمْرِهِ لَبْسًا وَإِنَّمَا السِّحْرُ مَرَضٌ مِنَ الْأَمْرَاضِ وَعَارِضٌ
«2» مِنَ الْعِلَلِ يَجُوزُ عَلَيْهِ كَأَنْوَاعِ الْأَمْرَاضِ «3» مِمَّا
لَا يُنْكَرُ وَلَا يَقْدَحُ فِي نُبُوَّتِهِ..
وَأَمَّا مَا وَرَدَ من أَنَّهُ كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَ
الشَّيْءَ وَلَا يَفْعَلُهُ فَلَيْسَ فِي هَذَا مَا يُدْخِلُ عَلَيْهِ
دَاخِلَةً فِي شَيْءٍ مِنْ تَبْلِيغِهِ أَوْ شَرِيعَتِهِ، أَوْ يَقْدَحُ
فِي صِدْقِهِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى عِصْمَتِهِ مِنْ
هَذَا.
وَإِنَّمَا هَذَا فِيمَا يَجُوزُ طُرُوُّهُ عَلَيْهِ فِي أَمْرِ «4»
دُنْيَاهُ الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِسَبَبِهَا، وَلَا فُضِّلَ مِنْ أجلها،
وهو فيها عرضة لِلْآفَاتِ كَسَائِرِ الْبَشَرِ، فَغَيْرُ بَعِيدٍ أَنْ
يُخَيَّلَ إليه من أمورها مالا حَقِيقَةَ لَهُ ثُمَّ يَنْجَلِي عَنْهُ
كَمَا كَانَ..
وَأَيْضًا فَقَدْ فَسَّرَ هَذَا الْفَصْلَ الْحَدِيثُ الْآخَرُ
__________
(1) تذرعت وتوسلت.
(2) عارض: هو عند الاطباء ما يزول بسرعة من الامراض. وعند الحكماء
المتكلمين ما لا يقوم بنفسه.
(3) فالسحر بهذا له حقيقة مؤثرة ينشأ عنه تغيرات وامراض وهو مذهب الجمهور
ويشهد له القرآن والسنة خلافا لمن قال انه تخيل لا حقيقة له. واليه ذهب ابن
حزم وغيره. والسحر اذا لم تكن له حقيقة سمي شعبذة.
(4) وفي نسخة (امور) . وفي أخرى (من امور) .
(2/412)
مِنْ قَوْلِهِ: «حَتَّى يُخَيَّلَ إِلَيْهِ
أَنَّهُ يَأْتِي أهله ولا يأتيهن» .
وقال سفيان «1» : «هذا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ «2» » ..
وَلَمْ يَأْتِ فِي خَبَرٍ مِنْهَا أَنَّهُ نُقِلَ عَنْهُ فِي ذَلِكَ قَوْلٌ
بِخِلَافِ مَا كَانَ أَخْبَرَ أَنَّهُ فعله ولم يفعله، وإنما كانت خواطر
وتخييلات.
وَقَدْ قِيلَ: «إِنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يَتَخَيَّلُ
الشَّيْءَ أَنَّهُ فَعَلَهُ وَمَا فَعَلَهُ لَكِنَّهُ تَخْيِيلٌ لَا
يَعْتَقِدُ صِحَّتَهُ، فَتَكُونُ اعْتِقَادَاتُهُ كُلُّهَا عَلَى
السَّدَادِ وَأَقْوَالُهُ عَلَى الصِّحَّةِ» .
هَذَا مَا وقفت عليه من الأجوبة لأئمتنا عن «3» هذا الحديث مع ما أوضحنا
مِنْ مَعْنَى كَلَامِهِمْ، وَزِدْنَاهُ بَيَانًا مِنْ تَلْوِيحَاتِهِمْ «4»
وَكُلُّ وَجْهٍ مِنْهَا مُقْنِعٌ، لَكِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ لي في الحديث
تأويل أجلى وأبعد عن مَطَاعِنِ ذَوِي الْأَضَالِيلِ، يُسْتَفَادُ مِنْ
نَفْسِ الْحَدِيثِ وَهُوَ أَنَّ عَبْدَ الرَّزَّاقِ «5» قَدْ رَوَى هَذَا
الْحَدِيثَ «6» عَنِ ابْنِ الْمُسَيَّبِ «7» وَعُرْوَةَ «8» بْنِ
الزُّبَيْرِ وقال فيه عنهما، سحر يهودي بني زريق
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «191» رقم «5» .
(2) ولذا قالت عائشة رضي الله عنها حتى يخيل.. و (حتى) حرف غابة. فلا غاية
بعدها.
(3) وفي نسخة (في) .
(4) تلويحات: هي الاشارات بغير تصريح.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «379» رقم «5» .
(6) في مصنفه عن الزهري عن ابن المسيب.
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «252» رقم «3» .
(8) عروة بن الزبير بن العوام تابعي ثقة كثير الحديث كان نقيا عالما ثقا
مأمونا ولد لست خلون من خلافة عثمان وتوفي في سنة أربع وتسعين من الهجرة.
(2/413)
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَجَعَلُوهُ «1» فِي بِئْرٍ «2» حَتَّى كَادَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى الله عليه وسلم يُنْكِرَ بَصَرَهُ.. ثُمَّ دَلَّهُ اللَّهُ عَلَى
مَا صَنَعُوا فَاسْتَخْرَجَهُ «3» مِنَ الْبِئْرِ.
وَرُوِيَ نَحْوُهُ عَنِ الْوَاقِدِيِّ «4» ، وَعَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ «5»
بْنِ كَعْبٍ، وَعُمَرَ «6» بْنِ الْحَكَمِ.
وَذُكِرَ: عَنْ عَطَاءٍ «7» الْخُرَاسَانِيِّ عَنْ يَحْيَى «8» بْنِ
يَعْمُرَ: حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ
عَائِشَةَ سَنَةً فَبَيْنَا هُوَ نَائِمٌ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَقَعَدَ
أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِهِ وَالْآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيْهِ. الْحَدِيثَ
قَالَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ «9» : حُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ عَائِشَةَ خَاصَّةً سَنَةً حَتَّى أَنْكَرَ
بَصَرَهُ.
وَرَوَى «10» مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ «11» عَنِ ابْنِ عباس «12» مرض رسول
__________
(1) أي السحر.
(2) بئر ذروان.
(3) كما في رواية. وقيل انه صلّى الله عليه وسلم امر بدفنه ولم يخرجه من
البئر
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «155» رقم «3» .
(5) عبد الرحمن بن كعب بن مالك السلمي يروي عن أبيه وعائشة وعنه الزهري
وهشام بن عروة. ثقة مكثر اخرج له اصحاب الكتب الستة توفي في خلافة سليمان
بن عبد الملك.
(6) عمر بن الحكم: تابعي جليل مات سنة سبع عشرة ومائة وله ثمانون سنة
(7) عطاء الخراساني بن أبي مسلم: من أكابر التابعين روى عنه الاوزاعي ومالك
وشعبه. قال ابن جابر. كنا نغزو معه وكان يحيي الليل صلاة الى نومة السحر.
اخرج له الأئمة الستة مات سنة خمس وثلاثين ومائة
(8) يحيى بن يعمر: قاضي مرو. يروي عن عائشة وابن عباس مقرىء ثقة. مات سنة
تسع وعشرين ومائه
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «379» رقم «5» .
(10) رواه البيهقي بسند ضعيف.
(11) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «155» رقم «2» .
(12) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(2/414)
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَحُبِسَ عَنِ النِّسَاءِ وَالطَّعَامِ وَالشَّرَابِ فَهَبَطَ عَلَيْهِ
مَلَكَانِ..
وَذَكَرَ الْقِصَّةَ.
- فَقَدِ اسْتَبَانَ لَكَ مِنْ مَضْمُونِ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ
السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى ظَاهِرِهِ وَجَوَارِحِهِ، لَا عَلَى
قَلْبِهِ. وَاعْتِقَادِهِ وَعَقْلِهِ، وَأَنَّهُ إِنَّمَا أَثَّرَ فِي
بَصَرِهِ وَحَبَسَهُ عَنْ وَطْءِ نِسَائِهِ وَطَعَامِهِ، وَأَضْعَفَ
جِسْمَهُ وَأَمْرَضَهُ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ
أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِنَّ أَيْ يَظْهَرُ لَهُ مِنْ
نَشَاطِهِ وَمُتَقَدَّمِ عَادَتِهِ الْقُدْرَةُ عَلَى النِّسَاءِ، فَإِذَا
دَنَا مِنْهُنَّ أَصَابَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ فَلَمْ يَقْدِرْ عَلَى
إِتْيَانِهِنَّ كَمَا يَعْتَرِي مَنْ أُخِذَ وَاعْتُرِضَ «1» وَلَعَلَّهُ
لِمِثْلِ هَذَا أَشَارَ سُفْيَانُ «2» بِقَوْلِهِ:
وَهَذَا أَشَدُّ مَا يَكُونُ مِنَ السِّحْرِ، وَيَكُونُ قَوْلُ عَائِشَةَ
فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى: «إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ
فَعَلَ الشَّيْءَ وَمَا فَعَلَهُ» مِنْ بَابِ مَا اخْتَلَّ مِنْ بَصَرِهِ
كَمَا ذُكِرَ فِي الْحَدِيثِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ رَأَى شَخْصًا مِنْ بَعْضِ
أَزْوَاجِهِ أَوْ شَاهَدَ فِعْلًا مِنْ غَيْرِهِ وَلَمْ يَكُنْ عَلَى مَا
يُخَيَّلُ إِلَيْهِ لِمَا أَصَابَهُ فِي بَصَرِهِ وَضَعْفِ نَظَرِهِ لَا
لِشَيْءٍ طَرَأَ عَلَيْهِ فِي مَيْزِهِ «3» .
وَإِذَا كَانَ هَذَا لَمْ يَكُنْ فِيمَا ذُكِرَ مِنْ إِصَابَةِ السِّحْرِ
لَهُ وَتَأْثِيرِهِ فِيهِ مَا يُدْخِلُ لَبْسًا، وَلَا يَجِدُ بِهِ
الْمُلْحِدُ المعترض أنسا..
__________
(1) اعترض: أي اصابه العارض.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «191» رقم «5»
(3) ميزه: تمييزه.
(2/415)
|