الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد القسم الرابع في تعرّف وُجُوهِ
الْأَحْكَامِ فِيمَنْ تَنَقَّصَهُ أَوْ سَبَّهُ عَلَيْهِ الصّلاة والسّلام
في بابين وخمسة عشر فصلا وباب ثالث يبحث فيما يتعلّق بالله والرّسل
والملائكة والال
(2/465)
مُقَدِّمَةُ
قَالَ الْقَاضِي أَبُو الْفَضْلِ وَفَّقَهُ اللَّهُ: قَدْ تَقَدَّمَ مِنَ
الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ مَا يَجِبُ مِنَ
الْحُقُوقِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا
يَتَعَيَّنُ لَهُ مِنْ بِرٍّ وَتَوْقِيرٍ، وَتَعْظِيمٍ وَإِكْرَامٍ،
وَبِحَسَبِ هَذَا حَرَّمَ اللَّهُ تَعَالَى أَذَاهُ فِي كِتَابِهِ،
وَأَجْمَعَتِ الْأُمَّةُ عَلَى قتل متنقّصه مِنَ الْمُسْلِمِينَ
وَسَابِّهِ..
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ
لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً
مُهِيناً «1» » .
وقال: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ «2» »
.
وَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ
اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ
ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً «3» » .
وقال تعالى في تحريم التعريض له: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا
تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا «4» » الاية.
__________
(1) سورة الاحزاب آية 57.
(2) سورة التوبة آية 61.
(3) سورة الاحزاب آية 53.
(4) «وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ» سورة البقرة آية 104.
(2/467)
وَذَلِكَ أَنَّ الْيَهُودَ كَانُوا
يَقُولُونَ «رَاعِنَا» يَا مُحَمَّدُ. أَيْ أَرْعِنَا سَمْعَكَ وَاسْمَعْ
مِنَّا، وَيُعَرِّضُونَ بِالْكَلِمَةِ يُرِيدُونَ الرُّعُونَةَ «1» ،
فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِمْ، وَقَطَعَ
الذَّرِيعَةَ بِنَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْهَا لِئَلَّا يَتَوَصَّلَ بِهَا
الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ إِلَى سَبِّهِ وَالِاسْتِهْزَاءِ بِهِ..
وَقِيلَ: «بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ مُشَارَكَةِ اللَّفْظِ، لِأَنَّهَا
عِنْدَ الْيَهُودِ بِمَعْنَى اسْمَعْ لَا سَمِعْتَ» .
وَقِيلَ: (بَلْ لِمَا فِيهَا مِنْ قِلَّةِ الْأَدَبِ، وَعَدَمِ تَوْقِيرِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَعْظِيمِهِ، لِأَنَّهَا
فِي لُغَةِ الْأَنْصَارِ بِمَعْنَى «ارْعُنَا نَرْعَكَ» فَنُهُوا عَنْ
ذَلِكَ.. إِذْ مُضَمَّنُهُ أَنَّهُمْ لَا يَرْعَوْنَهُ إِلَّا
بِرِعَايَتِهِ لَهُمْ.. وَهُوَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاجِبُ
الرِّعَايَةِ بكل حال «2» .
وهذا هو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ نَهَى عَنِ
التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ فَقَالَ:
«تَسَمَّوْا بِاسْمِي وَلَا تَكَنُّوا بِكُنْيَتِي» . صِيَانَةً لِنَفْسِهِ
وَحِمَايَةً عَنْ أَذَاهُ. إِذْ كَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
«3» اسْتَجَابَ لِرَجُلٍ نَادَى: «يَا أَبَا الْقَاسِمِ» فَقَالَ: «لَمْ
أَعْنِكَ.. إِنَّمَا دَعَوْتُ هَذَا» .. فَنَهَى حِينَئِذٍ عَنِ
التَّكَنِّي بِكُنْيَتِهِ لِئَلَّا يَتَأَذَّى بِإِجَابَةِ دَعْوَةِ
غَيْرِهِ لِمَنْ لم يدعه..
__________
(1) الرعونة: خفة العقل.
(2) وهذا القول فيه نسبة ما لا يليق بالصحابة وهم اعرف الناس بمقام النبوة
واجل عن وقوع تقصير منهم في التأدب معه.
(3) كما في الحديث الذي رواه البخاري ومسلم.
(2/468)
ويجد بذلك المنافقون والمستهزؤون ذَرِيعَةً
إِلَى أَذَاهُ وَالْإِزْرَاءِ بِهِ فَيُنَادُونَهُ، فَإِذَا الْتَفَتَ
قَالُوا: إِنَّمَا أَرَدْنَا هَذَا- لِسِوَاهُ- تَعْنِيتًا لَهُ
وَاسْتِخْفَافًا بِحَقِّهِ عَلَى عَادَةِ الْمُجَّانِ «1»
وَالْمُسْتَهْزِئِينَ. فَحَمَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَى
أَذَاهُ بِكُلِّ وَجْهٍ «فَحَمَلَ مُحَقِّقُو الْعُلَمَاءِ نَهْيَهُ عَنْ
هَذَا عَلَى مُدَّةِ حَيَّاتِهِ، وَأَجَازُوهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ
لِارْتِفَاعِ الْعِلَّةِ» .
وَلِلنَّاسِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ مَذَاهِبُ لَيْسَ هَذَا مَوْضِعَهَا
وَمَا ذَكَرْنَاهُ هُوَ مَذْهَبُ الجمهور والصواب- إن شاء الله- وأن ذَلِكَ
عَلَى طَرِيقِ تَعْظِيمِهِ وَتَوْقِيرِهِ، وَعَلَى سَبِيلِ النَّدْبِ
وَالِاسْتِحْبَابِ لَا عَلَى التَّحْرِيمِ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يَنْهَ عَنِ اسْمِهِ لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ اللَّهُ مَنَعَ
مِنْ نِدَائِهِ بِهِ بِقَوْلِهِ:
«لَا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً
«2» » وإنما كان المسلمون يدعونه يا رسول الله يا نبي الله، وقد يدعونه «3»
بكنيته أبا القاسم بعضهم فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ.
وَقَدْ رَوَى «4» أَنَسٌ «5» رَضِيَ الله عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ. مَا يَدُلُّ على كراهة
__________
(1) المجان جمع ماجن من المجون وهو الهزل والسخرية.
(2) الاية: 63 سورة النور.
(3) وروي (يدعوه) بالافراد قيل ووجهه يدعوه الداعي.
(4) في حديث رواه الحاكم والبزار وأبو يعلى وحسنوه.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «47» رقم «1» .
(2/469)
التَّسَمِّي بِاسْمِهِ وَتَنْزِيهِهِ عَنْ
ذَلِكَ إِذَا لَمْ يُوَقَّرْ فَقَالَ: «تُسَمُّونَ أَوْلَادَكُمْ
مُحَمَّدًا ثُمَّ تَلْعَنُونَهُمْ» .
وَرُوِيَ أَنَّ عُمَرَ «1» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ
الْكُوفَةِ..
«لَا يُسَمَّى أَحَدٌ بِاسْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ» حَكَاهُ أَبُو جَعْفَرٍ «2» الطَّبَرِيُّ «3» وَحَكَى مُحَمَّدُ
«4» بْنُ سَعْدٍ أَنَّهُ «5» نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ اسْمُهُ مُحَمَّدٌ
وَرَجُلٌ يَسُبُّهُ وَيَقُولُ لَهُ فَعَلَ اللَّهُ بِكَ يَا مُحَمَّدُ
وَصَنَعَ» فَقَالَ عُمَرُ لِابْنِ أَخِيهِ مُحَمَّدِ بْنِ زَيْدِ بْنِ
الْخَطَّابِ. «لَا أَرَى مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُسَبُّ بِكَ وَاللَّهِ لَا تُدْعَى مُحَمَّدًا مَا دُمْتَ حَيًّا»
وَسَمَّاهُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ «6» وَأَرَادَ أَنْ يَمْنَعَ لِهَذَا أَنْ
يُسَمَّى أَحَدٌ بِأَسْمَاءِ الْأَنْبِيَاءِ إِكْرَامًا لَهُمْ بِذَلِكَ
وَغَيَّرَ أَسْمَاءَهُمْ وَقَالَ: «لَا تُسَمُّوا بِأَسْمَاءِ
الْأَنْبِيَاءِ ثُمَّ أَمْسَكَ» ..
- وَالصَّوَابُ جَوَازُ هَذَا كُلِّهِ «7» بَعْدَهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِدَلِيلِ إِطْبَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى ذَلِكَ، وَقَدْ
سَمَّى جَمَاعَةٌ مِنْهُمُ ابْنَهُ مُحَمَّدًا وكناه بأبي القاسم.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «113» رقم «4» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «182» رقم «2» .
(3) الا ان عمر رجع عنه لما روى له انه صلّى الله عليه وسلم سمى ابن أبي
طلحة محمدا وغيره فقال: «لا سبيل اليكم» .. يعني في المنع.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «155» رقم «3» .
(5) أي عمر.
(6) فهو عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب العدوي، وأمه بنت أبي لبانه، ولد في
عهد النبي صلّى الله عليه وسلم وسمي محمدا فغير عمر اسمه. روى عن أبيه وعمه
عمر ورجال من الصحابة وعنه ابنه عبد الحميد وأبو القاسم حسين بن حريث
وغيرهما، مات في زمن ابن الزبير.
(7) أي التسمية باسمه مع الكنية وبدونها. وكذا التسمية بأسماء الانبياء
والملائكة
(2/470)
وَرُوِيَ «1» أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ فِي ذَلِكَ لِعَلِيٍّ «2» رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ وَقَدْ أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «3»
أَنَّ ذَلِكَ اسْمُ الْمَهْدِيِّ وَكُنْيَتُهُ.
وَقَدْ سَمَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
مُحَمَّدَ «4» بْنَ طَلْحَةَ، وَمُحَمَّدَ «5» بْنَ عَمْرِو بْنِ حَزْمٍ،
وَمُحَمَّدَ «6» بْنَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ، وَغَيْرَ وَاحِدٍ وَقَالَ: «مَا
ضَرَّ أَحَدَكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ مُحَمَّدٌ، وَمُحَمَّدَانِ
وَثَلَاثَةٌ» !!
وَقَدْ فَصَّلْتُ الْكَلَامَ فِي هذا القسم في بابين كما قدمناه.
***
__________
(1) في حديث رواه ابو داود والترمذي عن علي رضي الله عنه.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «54» رقم «4» .
(3) والحديث رواه أبو سعيد الخدري رضي الله تعالى عَنْهُ قَالَ: قَالَ
رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: «يصيب هذه الامة بلاء حتى لا
يجد الرجل ملجأ يلجأ اليه من الظلم فيبعث الله رجلا من عترتي- وفي رواية من
أهل بيتي- يوافق اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي وكنيته كنيتي فيملأ الارض
عدلا وقسطا. ويكثر المطر والنبات. ويعيش؟؟؟ سبع سنين، او ثمان، او تسع» .
وفيه أحاديث كثيرة أفردت بالتأليف.
(4) محمد بن طلحة التميمي جيء به له صلّى الله عليه وسلم فمسح رأسه وسماه
باسمه وكناه بكنيته.. وهو المعروف بالسجاد.. قتل في وقعة الجمل.
(5) محمد بن عمرو بن حزم ابن زيد بن لوذان الانصاري، ولد سنة عشر وقتل في
وقعة الحرة سنة ثلاث وستين.. وهو من الفقهاء. وروي عنه أحاديث في السنن
(6) محمد بن ثابت بن قيس بن شماس الخزرجي، أنى به أبوه النبي صلّى الله
عليه وسلم فحنكه وسماه محمدا، وهو ممن قتل بالحرة أيضا، وروي عنه أحاديث في
السنن.
(2/471)
|