الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل التاسع حكمة المرض والابتلاء لهم
فَإِنْ قِيلَ: فَمَا الْحِكْمَةُ فِي إِجْرَاءِ الْأَمْرَاضِ وَشِدَّتِهَا عَلَيْهِ وَعَلَى غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَى جَمِيعِهِمُ السَّلَامُ؟!.
وَمَا الْوَجْهُ فِيمَا ابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْبَلَاءِ، وَامْتِحَانِهِمْ بِمَا امْتُحِنُوا بِهِ كَأَيُّوبَ، وَيَعْقُوبَ، وَدَانْيَالَ، وَيَحْيَى، وَزَكَرِيَّا، وَعِيسَى، وَإِبْرَاهِيمَ، وَيُوسُفَ وَغَيْرِهِمْ صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ وَهُمْ خِيرَتُهُ مِنْ خَلْقِهِ وَأَحِبَّاؤُهُ وَأَصْفِيَاؤُهُ؟!
فَاعْلَمْ- وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ- أَنَّ أَفْعَالَ اللَّهِ تَعَالَى كُلَّهَا عَدْلٌ، وَكَلِمَاتِهِ جَمِيعَهَا صِدْقٌ، «لَا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ «1» » ، يَبْتَلِي عباده كما قال لهم «لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ «2» » .. و «لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «3» » .. و «وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا «4» »
__________
(1) الاية: 115 سورة الانعام.
(2) الاية: 14 سورة يونس.
(3) الاية: 2 سورة الملك.
(4) الاية: 140 سورة آل عمران.

(2/453)


و. «لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ «1» » و.. «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ «2» » ..
فَامْتِحَانُهُ إِيَّاهُمْ بِضُرُوبِ الْمِحَنِ زِيَادَةٌ فِي مَكَانَتِهِمْ «ورفعة في فِي دَرَجَاتِهِمْ، وَأَسْبَابٌ لِاسْتِخْرَاجِ حَالَاتِ الصَّبْرِ وَالرِّضَى، وَالشُّكْرِ وَالتَّسْلِيمِ، وَالتَّوَكُّلِ وَالتَّفْوِيضِ، وَالدُّعَاءِ وَالتَّضَرُّعِ مِنْهُمْ، وَتَأْكِيدٌ لِبَصَائِرِهِمْ فِي رَحْمَةِ الْمُمْتَحَنِينَ وَالشَّفَقَةِ عَلَى المبتلين، وتذكرة لغيرهم وموعظة لسواهم، ليتاسسوا فِي الْبَلَاءِ بِهِمْ، وَيَتَسَلَّوْا فِي الْمِحَنِ بِمَا جَرَى عَلَيْهِمْ، وَيَقْتَدُوا بِهِمْ فِي الصَّبْرِ، وَمَحْوٌ لِهِنَاتٍ «3» فَرَطَتْ مِنْهُمْ، أَوْ غَفَلَاتٍ سَلَفَتْ لَهُمْ لِيَلْقَوُا اللَّهَ طَيِّبِينَ مُهَذَّبِينَ، وَلِيَكُونَ أَجْرُهُمْ أَكْمَلَ وثوابهم أوفر وأجزل.
عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ «4» عَنْ أَبِيهِ قَالَ «5» : «قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ:
أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل «6» فالأمثل،
__________
(1) الاية: 142 سورة آل عمران.
(2) الاية: 31 سورة محمد صلّى الله عليه وسلم.
(3) هنات: جمع عنه وهي الهفوة الصغيرة.
(4) مصعب بن ابي وقاص ثقة نزل بالكوفة وتوفي سنة ثلاث عشر ومئة وأخرج له الستة. وأبوه سعد أحد العشرة المبشرين بالجنة.
(5) الحديث رواه الترمذي.
(6) الامثل: الافضل.

(2/454)


يُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ الْبَلَاءُ بِالْعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ.»
وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: «وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ «1» » الْآيَاتِ الثَّلَاثَ.
وَعَنْ «2» أَبِي هُرَيْرَةَ «3» : «مَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ فِي نَفْسِهِ وَوَلَدِهِ وَمَالِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»
وَعَنْ «4» أَنَسٍ «5» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الْخَيْرَ عَجَّلَ لَهُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا. وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدِهِ الشَّرَّ أَمْسَكَ عَنْهُ بِذَنْبِهِ حَتَّى يُوَافِيَ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ،»
وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «6» «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ عَبْدًا بتلاه لِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ.»
وَحَكَى السَّمَرْقَنْدِيُّ «7» : «أَنَّ كُلَّ مَنْ كَانَ أَكْرَمَ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى كَانَ بَلَاؤُهُ أَشَدَّ، كَيْ يَتَبَيَّنَ فَضْلُهُ، وَيَسْتَوْجِبَ الثَّوَابَ»
كَمَا رُوِيَ عَنْ لُقْمَانَ «8» أَنَّهُ قَالَ: «يَا بُنَيَّ.. الذهب والفضة
__________
(1) الاية: 146 سورة آل عمران.
(2) في حديث رواه الترمذي وحسنه.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «5» .
(4) في حديث رواه الترمذي أيضا وحسنه.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «47» رقم «1» .
(6) رواه الديلمي عن أبي هريرة رضي الله عنه.
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «51» رقم «2» .
(8) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «187» رقم «6» .

(2/455)


يُخْتَبَرَانِ بِالنَّارِ وَالْمُؤْمِنُ يُخْتَبَرُ بِالْبَلَاءِ»
وَقَدْ حُكِيَ: «أَنَّ ابْتِلَاءَ يَعْقُوبَ بِيُوسُفَ كَانَ سَبَبُهُ الْتِفَاتَهُ في صلاته إِلَيْهِ وَيُوسُفُ نَائِمٌ مَحَبَّةً لَهُ «1» »
وَقِيلَ: «بَلِ اجْتَمَعَ يَوْمًا هُوَ وَابْنُهُ يُوسُفُ عَلَى أَكْلِ حَمَلٍ «2» مَشْوِيٍّ وَهُمَا يَضْحَكَانِ، وَكَانَ لَهُمْ جَارٌ يَتِيمٌ فَشَمَّ رِيحَهُ وَاشْتَهَاهُ وَبَكَى.. وَبَكَتْ لَهُ جَدَّةٌ لَهُ عَجُوزٌ لِبُكَائِهِ وَبَيْنَهُمَا جِدَارٌ، وَلَا عِلْمَ عِنْدَ يَعْقُوبَ وَابْنِهِ، فَعُوقِبَ يَعْقُوبُ بِالْبُكَاءِ أَسَفًا عَلَى يُوسُفَ إِلَى أَنْ سَالَتْ حَدَقَتَاهُ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ، فَلَمَّا عَلِمَ بِذَلِكَ بَقِيَّةَ حَيَاتِهِ يَأْمُرُ مُنَادِيًا يُنَادِي عَلَى سَطْحِهِ: ألا من كان مفطرا فليتغدّ عِنْدَ آلِ يَعْقُوبَ «3» .» وَعُوقِبَ يُوسُفُ بِالْمِحْنَةِ الَّتِي نَصَّ اللَّهُ عَلَيْهَا وَرُوِيَ عَنِ اللَّيْثِ «4» أَنَّ سَبَبَ بَلَاءِ أَيُّوبَ أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ أَهْلِ
__________
(1) وهذا رواه القرطبي في تفسيره غير مسند.
(2) الحمل: بفتح الحاء والسين المهملتين الصغير من الضأن لسنة او أقل.
(3) وقد ذكره هذه القصة الدميري في (حياة الحيوان) وقال: لا ينبغي له ذكره فانه لا صحة له وان رواه الطبراني عن أنس عن شيخه ابن الجهم الباهلي، وهو ضعيف الرواية جدا.. ورواه البيهقي في شعب الايمان.. ومما يدل على عدم صحته ان قوله سالت حدقتاه لا أصل له. وانه مع قوله (لا علم لهما) كيف يصح ان يعاقبا على ما لم يعلما.. كما ان قوله (ابيضت عيناه) بعد قوله (سالت حدقتاه) كلام متناقض وجعله تفسيرا للسيلان تعسف بارد.. والصحيح أنه لم يعم لان العمى لا يجوز على الانبياء عليهم الصلاة والسلام.
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «102» رقم «5» .

(2/456)


قربته عَلَى مَلِكِهِمْ، فَكَلَّمُوهُ فِي ظُلْمِهِ وَأَغْلَظُوا لَهُ إِلَّا أَيُّوبَ فَإِنَّهُ رَفَقَ بِهِ مَخَافَةً عَلَى زَرْعِهِ، فَعَاقَبَهُ اللَّهُ بِبَلَائِهِ «1» .
- وَمِحْنَةُ سُلَيْمَانَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ نِيَّتِهِ فِي كَوْنِ الْحَقِّ فِي جَنْبَةِ «2» أَصْهَارِهِ «3» ، أَوْ لِلْعَمَلِ بِالْمَعْصِيَةِ فِي دَارِهِ وَلَا عِلْمَ عِنْدَهُ.
- وَهَذِهِ فَائِدَةُ شِدَّةِ الْمَرَضِ وَالْوَجَعِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَتْ «4» عَائِشَةُ «5» : «مَا رَأَيْتُ الْوَجَعَ عَلَى أَحَدٍ أَشَدَّ مِنْهُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَعَنْ «6» عَبْدِ اللَّهِ «7» : رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَرَضِهِ يُوعَكُ وَعْكًا شديدا فقلت: إنك لتوعك وَعْكًا شَدِيدًا قَالَ: أَجَلْ إِنِّي أُوعَكُ كَمَا يوعك رجلان منكم.. قلت ذلك أنّ لك الأجر مرتين!!.
قال: أجل.. ذلك كذلك..
__________
(1) وهذا لا ينبغي مطلقا في حق الانبياء عليهم الصلاة والسلام. فليت المصنف رحمه الله تعالى تركه.. كما ذكر الخفاجي.
(2) جنبة: بفتح الجيم والنون وبسكونها أيضا وموحدة بمعنى الجانب. والناحية وفي نسخة (جهته) وفي أخرى (ختة) بنقطة فوق وهو تحريف من الناسخ.
(3) الصهر: الختن وأهل بيت المرأة يقال لهم أصهار وكل محرم كذلك.
(4) في حديث رواه الشيخان.
(5) تقدمت ترجمتها في ج 1 ص «149» رقم «5» .
(6) رواه الشيخان.
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «214» رقم «2» .

(2/457)


وَفِي حَدِيثِ «1» أَبِي سَعِيدٍ «2» أَنَّ رَجُلًا وَضَعَ يَدَهُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: «وَاللَّهِ مَا أُطِيقُ أَضَعُ يَدِي عَلَيْكَ مِنْ شِدَّةِ حُمَّاكَ» .. فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّا مَعْشَرَ الْأَنْبِيَاءِ يُضَاعَفُ لَنَا الْبَلَاءُ.. إِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيُبْتَلَى بِالْقَمْلِ «3» حَتَّى يَقْتُلَهُ، وَإِنْ كَانَ النَّبِيُّ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ وَإِنْ كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون «4» بِالرَّخَاءِ.»
وَعَنْ أَنَسٍ «5» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «6» : «إِنَّ عِظَمَ الْجَزَاءِ مَعَ عِظَمِ الْبَلَاءِ.. وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا أَحَبَّ قَوْمًا ابْتَلَاهُمْ فَمَنْ رَضِيَ فَلَهُ الرِّضَى وَمَنْ سَخِطَ فَلَهُ السَّخَطُ» .
وَقَدْ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: «مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ «7» » إِنَّ الْمُسْلِمَ يُجْزَى بِمَصَائِبِ الدُّنْيَا فَتَكُونُ لَهُ كَفَّارَةً «8» ..
وَرُوِيَ «9» هَذَا عَنْ عَائِشَةَ «10» وَأُبَيٍّ «11» وَمُجَاهِدٍ «12» .
__________
(1) رواه ابن ماجه والحاكم.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «63» رقم «1» .
(3) القمل: بفتح فسكون أو بضم فتشديد وهو معروف.
(4) وفي نسخة (تفرحون) .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «47» رقم «1» .
(6) رواه الترمذي وحسنه.
(7) الاية: 123 سورة النساء.
(8) وهذا التفسير مروي عن أبي بكر رضي الله عنه.
(9) رواه الحاكم.
(10) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «146» رقم «5» .
(11) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «32» رقم «6» .
(12) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «70» رقم «1» .

(2/458)


وَقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ «1» عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «2» : «مَنْ يُرِدِ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ «3» مِنْهُ..»
وَقَالَ «4» فِي رِوَايَةِ عَائِشَةَ: «مَا مِنْ مُصِيبَةٍ تُصِيبُ الْمُسْلِمَ إِلَّا يُكَفِّرُ اللَّهُ بِهَا عَنْهُ، حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا» .
وَقَالَ «5» فِي رِوَايَةِ أَبِي سَعِيدٍ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ نَصَبٍ «6» ولا وصب «7» وَلَا هَمٍّ وَلَا حَزَنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةُ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ.»
وَفِي حَدِيثِ «8» ابْنِ مَسْعُودٍ «9» : «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يُصِيبُهُ أَذًى إِلَّا حَاتَّ «10» اللَّهُ عَنْهُ خَطَايَاهُ كَمَا يُحَتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ.»
وَحِكْمَةٌ أُخْرَى أَوْدَعَهَا اللَّهُ فِي الْأَمْرَاضِ لِأَجْسَامِهِمْ وتعاقب الأوجاع عليها وشدتها عند مماتهم.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «5» .
(2) رواه البخاري.
(3) ويروى (يصب) بالبناء للمفعول. واختلف في أي الروايتين أصح فقال ابن الجوزي: «أن الاصح البناء للفاعل» وقال ابن حجر: «ان الاصح البناء للمفعول اذ فيها أدب مع الله بعدم نسبة المصائب اليه» . وأما الاولى ففيها تسليم وتوكيل الامور كلها اليه.
(4) في حديث رواه الشيخان.
(5) في حديث رواه الشيخان.
(6) النصب: التعب.
(7) الوصب: الوجع.
(8) رواه الشيخان.
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «214» رقم «2» .
(10) حات: وحت بمعنى ازال.

(2/459)


لِتَضْعُفَ قُوَى نُفُوسِهِمْ فَيَسْهُلَ خُرُوجُهَا عِنْدَ قَبْضِهِمْ وتخفّ عليهم موتة النَّزْعِ وَشِدَّةُ السَّكَرَاتِ بِتَقَدُّمِ الْمَرَضِ وَضَعْفِ الْجِسْمِ وَالنَّفْسِ لِذَلِكَ. خِلَافُ مَوْتِ الْفُجْأَةِ وَأَخْذِهِ كَمَا يُشَاهَدُ مِنَ اخْتِلَافِ أَحْوَالِ الْمَوْتَى فِي الشِّدَّةِ وَاللِّينِ، وَالصُّعُوبَةِ وَالسُّهُولَةِ..
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» : «مَثَلُ الْمُؤْمِنِ مَثَلُ خَامَةِ «2» الزَّرْعِ تُفَيِّئُهَا «3» الرِّيحُ هَكَذَا وَهَكَذَا» .
وَفِي «4» رِوَايَةِ أَبِي هريرة «5» مِنْ حَيْثُ أَتَتْهَا الرِّيحُ تَكْفِؤُهَا «6» فَإِذَا سَكَنَتِ اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفؤ بِالْبَلَاءِ، وَمَثَلُ الْكَافِرِ كَمَثَلِ الْأَرْزَةِ «7» صَمَّاءَ مُعْتَدِلَةً حتى يقصمه الله معناه أن المؤمن مرزّأ مُصَابٌ بِالْبَلَاءِ وَالْأَمْرَاضِ، رَاضٍ بِتَصْرِيفِهِ بَيْنَ أَقْدَارِ اللَّهِ تَعَالَى، مُنْطَاعٌ «8» لِذَلِكَ، لَيِّنُ الْجَانِبِ بِرِضَاهُ وقلة سخطه كطاعة خامة الزرع وانقيادها للرباح، وتمايلها لهبوبها، وترنحها
__________
(1) في حديث رواه الشيخان عن كعب بن مالك وجابر رضي الله تعالى عنهما.
(2) خامة: بخاء معجمة وميم العود اللين الذي ليس بغليظ والقصبة الطرية.
(3) تفيئها: بضم التاء الفوقية وكسر الفاء يليها مثناة تحتية ساكنة ثم همزة والمشهور تسديد الياء التحتية وروى بياء تحتية في أوله أي تميعها.
(4) صحيح مسلم.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «31» رقم «5» .
(6) تكفؤها: أي تميلها أيضا.
(7) الارزة: هو شجر الارز المعروف ويكثر في الجبال.
(8) منطاع: منقاد.. والفعل يقبل المطاوعة.

(2/460)


مِنْ حَيْثُ مَا أَتَتْهَا، فَإِذَا أَزَاحَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِ رِيَاحَ الْبَلَايَا وَاعْتَدَلَ صَحِيحًا كَمَا اعْتَدَلَتْ خَامَةُ الزَّرْعِ عِنْدَ سُكُونِ رِيَاحِ الْجَوِّ رَجَعَ إِلَى شُكْرِ رَبِّهِ وَمَعْرِفَةِ نِعْمَتِهِ عَلَيْهِ بِرَفْعِ بَلَائِهِ مُنْتَظِرًا رَحْمَتَهُ وَثَوَابَهُ عَلَيْهِ. فَإِذَا كَانَ بِهَذِهِ السَّبِيلِ لَمْ يَصْعُبْ عَلَيْهِ مَرَضُ الْمَوْتِ وَلَا نُزُولُهُ، وَلَا اشْتَدَّتْ عَلَيْهِ سَكَرَاتُهُ ونزعه لعادته بما تقدّمه من الالام، ومعرفة ماله فِيهَا مِنَ الْأَجْرِ وَتَوْطِينِهِ نَفْسَهُ عَلَى الْمَصَائِبِ وَرِقَّتِهَا وَضَعْفِهَا بِتَوَالِي الْمَرَضِ أَوْ شِدَّتِهِ.
وَالْكَافِرُ بِخِلَافِ هَذَا، مُعَافًى فِي غَالِبِ حَالِهِ، مُمَتَّعٌ بِصِحَّةِ جِسْمِهِ، كَالْأَرْزَةِ الصَّمَّاءِ حَتَّى إِذَا أَرَادَ اللَّهُ هَلَاكَهُ قَصَمَهُ لِحِينِهِ عَلَى غِرَّةٍ «1» وَأَخَذَهُ بَغْتَةً مِنْ غَيْرِ لُطْفٍ وَلَا رِفْقٍ، فَكَانَ مَوْتُهُ أَشُدَّ عَلَيْهِ حَسْرَةً، وَمُقَاسَاةُ نَزْعِهِ مَعَ قُوَّةِ نَفْسِهِ وَصِحَّةِ جِسْمِهِ أَشَدَّ أَلَمًا وَعَذَابًا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ كَانْجِعَافِ «2» الْأَرْزَةِ.
وَكَمَا قَالَ تعالى: «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ «3» »
وَكَذَلِكَ عَادَةُ اللَّهِ تَعَالَى فِي أَعْدَائِهِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى: «فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً، وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ «4» .» الْآيَةَ فَفَجَأَ جَمِيعَهُمْ بِالْمَوْتِ عَلَى حَالِ عُتُوٍّ
__________
(1) غرة: الغفلة.
(2) انجعاف: هو انفعال من الجعف وهو القلع بشدة.
(3) الاية: 95 سورة الاعراف.
(4) الاية: 40 سورة العنكبوت.

(2/461)


وَغَفْلَةٍ، وَصَبَّحَهُمْ بِهِ عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ بَغْتَةً.
وَلِهَذَا ذُكِرَ عَنِ السَّلَفِ «أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ مَوْتَ الْفُجْأَةِ» وَمِنْهُ فِي حَدِيثِ إِبْرَاهِيمَ «1» : «كَانُوا يَكْرَهُونَ أَخْذَةً كَأَخْذَةِ الْأَسَفِ» أَيِ الْغَضَبِ يُرِيدُ مَوْتَ الْفُجْأَةِ «2» .
وَحِكْمَةٌ ثَالِثَةٌ: أَنَّ الْأَمْرَاضَ نَذِيرُ الْمَمَاتِ، وَبِقَدْرِ شِدَّتِهَا شِدَّةُ الْخَوْفِ مِنْ نُزُولِ الْمَوْتِ، فَيَسْتَعِدُّ مَنْ أَصَابَتْهُ وَعَلِمَ تَعَاهُدَهَا لَهُ لِلِقَاءِ رَبِّهِ وَيُعْرِضُ عَنْ دَارِ الدُّنْيَا الْكَثِيرَةِ الْأَنْكَادِ «3» ، وَيَكُونُ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا بِالْمَعَادِ، فَيَتَنَصَّلُ مِنْ كُلِّ مَا يَخْشَى تِبَاعَتَهُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ وَقِبَلِ الْعِبَادِ، وَيُؤَدِّي الْحُقُوقَ إِلَى أَهْلِهَا وَيَنْظُرُ فِيمَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ وَصِيَّةٍ فِيمَنْ يَخْلُفُهُ أَوْ أَمْرٍ يَعْهَدُهُ.
وَهَذَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَغْفُورُ لَهُ مَا تَقَدَّمَ وَمَا تَأَخَّرَ، قَدْ طَلَبَ التَّنَصُّلَ «4» فِي مَرَضِهِ مِمَّنْ كَانَ لَهُ عَلَيْهِ مَالٌ أَوْ حَقٌّ فِي بَدَنٍ. وَأَقَادَ مِنْ نَفْسِهِ وَمَالِهِ وَأَمْكَنَ مِنَ الْقِصَاصِ مِنْهُ عَلَى مَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ «5»
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «361» رقم «11» .
(2) ولكنه ليس على اطلاقه اذ هو راحة للمؤمن وعذاب للكافر.
(3) الانكاد: جمع نكد وهو ما يغم المرء ويسوؤه.
(4) في خطبة خطبها قبل مرضه بأيام.
(5) من انه صلّى الله عليه وسلم ضرب أعرابيا بقضيبه، فلما خطب الناس وقال: من كان له علي حق فليطلبه فقام الاعرابي وقال: يا رسول الله القصاص، فلما كشف له عن بطنه الشريف التزمه وقبله وقال: «انما اردت هذا» .

(2/462)


الْفَضْلِ «1» وَحَدِيثِ الْوَفَاةِ، وَأَوْصَى بِالثَّقَلَيْنِ بَعْدَهُ: كِتَابِ اللَّهِ وَعِتْرَتِهِ وَبِالْأَنْصَارِ عَيْبَتِهِ «2» ، وَدَعَا إِلَى كَتْبِ كِتَابٍ لِئَلَّا تَضِلَّ أُمَّتُهُ بَعْدَهُ، إِمَّا فِي النَّصِّ عَلَى الْخِلَافَةِ، أَوِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ، ثُمَّ رَأَى الْإِمْسَاكَ عَنْهُ أَفْضَلَ وَخَيْرًا.. وَهَكَذَا سِيرَةُ عِبَادِ اللَّهِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَوْلِيَائِهِ الْمُتَّقِينَ وَهَذَا كُلُّهُ يُحْرَمُهُ غَالِبًا الْكُفَّارُ لِإِمْلَاءِ اللَّهِ لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا، وَلِيَسْتَدْرِجَهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ، فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ «3»
وَلِذَلِكَ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» فِي رَجُلٍ مَاتَ فُجْأَةً: «سُبْحَانَ اللَّهِ كَأَنَّهُ عَلَى غَضَبٍ.. الْمَحْرُومُ مَنْ حُرِمَ وَصِيَّتُهُ..»
وَقَالَ «5» «مَوْتُ الفجأة راحة للمؤمن وأخذة أسف للكافر أو «6» الفاجر» .
__________
(1) الفضل بن عباس الهاشمي القرشي من شجعان الصحابة ووجوههم، كان أمن ولد العباس ثبت يوم جنين، وأردفه رسول الله صلّى الله عليه وسلم وراءه في حجة الوداع فلقب «ردف رسول الله» وخرج بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلم مجاهدا إلى الشام فاستشهد في وقعة اجنادين «بفلسطين» وقيل مات بناصية الاردن في طاعون عمواس له (24) حديثا توفي سنة (13) هـ.
(2) عيبته: بعين مهملة مفتوحة وياء ساكنة وموحدة وهو ما يجعل المرء فيه نفيس متاعه. لانهم موضع سره وأمانته ومحل رعايته وعنايته وحراسته ووقايته كعيبة الثياب التي يضع فيها الشخص متاعه النفيس.
(3) الاية: 49 و 50 سورة يس.
(4) في حديث تقدم وروي عن أنس رضي الله تعالى عنه.
(5) في حديث صحيح رواه أحمد عن عائشة رضي الله تعالى عنها.
(6) الشك من الراوي. وجوز بعضهم كونه من الحديث.

(2/463)


وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمَوْتَ يَأْتِي الْمُؤْمِنَ وَهُوَ غَالِبًا مُسْتَعِدٌّ لَهُ مُنْتَظِرٌ لِحُلُولِهِ، فَهَانَ أَمْرُهُ عَلَيْهِ كَيْفَمَا جَاءَ. وَأَفْضَى إِلَى رَاحَتِهِ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا.
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» : «مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ» .
وَتَأْتِي الْكَافِرَ وَالْفَاجِرَ مَنِيَّتُهُ عَلَى غَيْرِ اسْتِعْدَادٍ وَلَا أُهْبَةٍ وَلَا مُقَدِّمَاتٍ مُنْذِرَةٍ مُزْعِجَةٍ، بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ «2» فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون.. فَكَانَ الْمَوْتُ أَشَدَّ شَيْءٍ عَلَيْهِ، وَفِرَاقُ الدُّنْيَا أَفْظَعَ أَمْرٍ صَدَمَهُ وَأَكْرَهَ شَيْءٍ لَهُ..
وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَوْلِهِ «3» : «مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لقاءه» .
__________
(1) في حديث رواه الشيخان عن أبي قتادة رضي الله عنه في جنازة مرت به فقال تقسيما للموتى عند موتهم.
(2) تبهتهم: تدهشهم.
(3) في حديث رواه الشيخان عن عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه.

(2/464)