الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل الثّاني الْحُجَّةِ فِي إِيجَابِ
قَتْلِ مَنْ سَبَّهُ أَوْ عابه عليه الصّلاة والسّلام
فَمِنَ الْقُرْآنِ لَعْنُهُ تَعَالَى لِمُؤْذِيهِ فِي الدُّنْيَا
وَالْآخِرَةِ وَقِرَانُهُ تَعَالَى أَذَاهُ بِأَذَاهُ.
وَلَا خِلَافَ فِي قَتْلِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ، وَأَنَّ اللَّعْنَ إِنَّمَا
يَسْتَوْجِبُهُ مَنْ هُوَ كَافِرٌ، وَحُكْمُ الْكَافِرِ الْقَتْلُ
فَقَالَ: «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ..» «1» الْآيَةَ
وَقَالَ فِي قَاتِلِ الْمُؤْمِنِ: مِثْلَ ذَلِكَ، فَمِنْ لَعْنَتِهِ فِي
الدُّنْيَا الْقَتْلُ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: «مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا
وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا» «2»
وَقَالَ فِي الْمُحَارِبِينَ وَذَكَرَ عُقُوبَتَهُمْ: «ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ
فِي الدُّنْيا» «3» وقد يقع القتل بمعنى اللعن.
__________
(1) «لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ
عَذاباً مُهِيناً» اية: 57 سورة الاحزاب.
(2) الاية: 61 سورة الاحزاب.
(3) الاية: 45 سورة المائدة.
(2/485)
قال: «قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ» «1» و
«قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ» «2» أَيْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ.
وَلِأَنَّهُ فَرْقٌ بَيْنَ أَذَاهُمَا وَأَذَى الْمُؤْمِنِينَ. وَفِي أَذَى
الْمُؤْمِنِينَ مَا دُونُ الْقَتْلِ مِنَ الضَّرْبِ وَالنَّكَالِ «3»
فَكَانَ حُكْمُ مُؤْذِي اللَّهِ وَنَبِيِّهِ أَشَدَّ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ
الْقَتْلُ.
وقال الله تَعَالَى: «فَلا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ
فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ» «4» الْآيَةَ فَسَلَبَ اسْمَ الْإِيمَانِ عَمَّنْ
وُجِدَ فِي صَدْرِهِ حَرَجًا مِنْ قَضَائِهِ وَلَمْ يُسَلِّمْ لَهُ، وَمَنْ
تَنَقَّصَهُ فَقَدْ نَاقَضَ هَذَا.
وَقَالَ اللَّهُ تعالى: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا
أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ» إلى قوله «أَنْ تَحْبَطَ
أَعْمالُكُمْ «5» » وَلَا يُحْبِطُ الْعَمَلَ إِلَّا الْكُفْرُ «6» ،
وَالْكَافِرُ يُقْتَلُ.
وقال تعالى: «وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ.»
«7»
__________
(1) الاية: 11 سورة الذاريات.
(2) الاية: 32 سورة التوبة.
(3) النكال: العقوبة بغير قتل.
(4) «ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ
وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً» سورة النساء اية: 65.
(5) سورة الحجرات آية 3.
(6) وهذا عند أهل السنة اما المعتزلة فيقولون: ان الكبيرة تحبط العمل.
(7) سورة المجادلة آية 9 يعني اليهود والمنافقين الذين كانوا يقولون: السام
عليك يعنون الدعاء بالموت.
(2/486)
ثُمَّ قَالَ: «حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ
يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ» «1»
وَقَالَ تَعَالَى: «وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ
وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ» «2»
ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ
أَلِيمٌ» «3»
وَقَالَ تَعَالَى: «وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا
نَخُوضُ وَنَلْعَبُ» «4»
إلى قوله: «قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ» «5»
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: «كَفَرْتُمْ» بِقَوْلِكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فقد ذكرناه وأما الاثار فعن الحسين «6» عَلِيٍّ
عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
قَالَ «7» : «مَنْ سَبَّ نَبِيًّا فاقتلوه. ومن أَصْحَابِي فَاضْرِبُوهُ»
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «8» أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ كَعْبِ «9» بْنِ الْأَشْرَفِ وَقَوْلِهِ: مَنْ
لِكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ فَإِنَّهُ يُؤْذِي اللَّهَ وَرَسُولَهُ؟!.
وَوَجَّهَ إِلَيْهِ مَنْ قَتَلَهُ غِيلَةً دُونَ دَعْوَةٍ «10» ، بِخِلَافِ
غَيْرِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ.. وَعَلَّلَ قَتْلَهُ بِأَذَاهُ لَهُ،
فَدَلَّ أَنَّ قَتْلَهُ إياه لغير
__________
(1) سورة المجادلة آية 9
(2) سورة التوبة آية 63.
(3) سورة التوبة آية 63.
(4) سورة التوبة الايات 67- 68
(5) سورة التوبة الايات 67- 68
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «309» رقم «2» .
(7) رواه الطبراني والدارقطني عن علي رضي الله عنه.. ولكنهم قالوا: «إن
سنده ضعيف ولم يروه أصحاب الكتب لكنه اعتضد بالاجماع.
(8) الذي رواه البخاري وغيره مسندا.
(9) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «621» رقم «7» .
(10) دون دعوة للاسلام والرجوع عن الكفر.
(2/487)
الْإِشْرَاكِ، بَلْ لِلْأَذَى.. وَكَذَلِكَ
قَتَلَ أَبَا رَافِعٍ «1» .
قَالَ الْبَرَاءُ «2» وَكَانَ يُؤْذِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَيُعِينُ عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ أَمْرُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ بِقَتْلِ ابْنِ خَطَلٍ «3»
وَجَارِيَتَيْهِ «4» اللَّتَيْنِ كَانَتَا تُغَنِّيَانِ بِسَبِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ «5» : أَنَّ رَجُلًا
كَانَ يَسُبُّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ
يَكْفِينِي عَدُوِّي؟. فَقَالَ خَالِدٌ «6» :
أَنَا، فَبَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فَقَتَلَهُ.
وَكَذَلِكَ أَمَرَ بِقَتْلِ جَمَاعَةٍ مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ مِنَ
الْكُفَّارِ وَيَسُبُّهُ، كَالنَّضْرِ بْنِ «7» الْحَارِثِ، وَعُقْبَةَ
بْنِ أَبِي «8» مُعَيْطٍ وَعَهِدَ بِقَتْلِ جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ قَبْلَ
الْفَتْحِ وَبَعْدَهُ فَقُتِلُوا إِلَّا مَنْ بَادَرَ بِإِسْلَامِهِ قَبْلَ
الْقُدْرَةِ عليه.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «312» رقم «2» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «146» رقم «4» .
(3) ابن خطل: وكانت له قنيتان تغنيان بهجاء المسلمين وذمهم، واسمه عبد الله
وقبل هلال، وقيل عبد العزيز.
(4) واسمهما فرتنا وقريبة.
(5) لا يعرف من رواه.
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «637» رقم «9» .
(7) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «570» رقم «8» .
(8) عقبة بن أبي معيط: وكان شديد العداوة للنبي صلّى الله عليه وسلم وأسر
ببدر فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم عاصما أن يضرب عنقه بمكان يقال له
عرق الظببة فقال: لم تقتلني با محمد؟. قال: بعداوتك لله ورسوله. فقال: من
للصبية؟ قال: النار، فلما ضربت عنقه قال صلّى الله عليه وسلم: الحمد لله
الذي قتلك وأقر عيني منك. وهو من بني أمية بن عبد شمس، وهو الذي القى سلام
الجزور عليه صلّى الله عليه وسلم
(2/488)
وَقَدْ رَوَى الْبَزَّارُ «1» عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ «2» : أَنَّ عُقْبَةَ بْنَ أَبِي مُعَيْطٍ نَادَى «3» : يَا
مَعَاشِرَ قريش.. مالي أقتل من بينكم صيرا «4» ! فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِكُفْرِكَ وَافْتِرَائِكَ عَلَى
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَذَكَرَ عَبْدُ «5» الرَّزَّاقِ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَبَّهُ رَجُلٌ فَقَالَ: مَنْ يَكْفِينِي عَدُوِّي؟
فَقَالَ الزُّبَيْرُ «6» : أَنَا فَبَارَزَهُ فَقَتَلَهُ الزُّبَيْرُ.
وَرَوَى «7» أَيْضًا: أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تَسُبُّهُ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ يكفيني عدوي؟ فَخَرَجَ إِلَيْهَا خَالِدُ
بْنُ الْوَلِيدِ فَقَتَلَهَا.
وَرُوِيَ «8» : أَنَّ رَجُلًا كَذَبَ «9» عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثَ عَلِيًّا «10» وَالزُّبَيْرَ إِلَيْهِ
لِيَقْتُلَاهُ.
وَرَوَى ابْنُ قَانِعٍ «11» : أَنَّ رَجُلًا جَاءَ إِلَى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال: يا رَسُولَ اللَّهِ.. سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ فِيكَ
قَوْلًا قَبِيحًا فَقَتَلْتُهُ.. فَلَمْ يَشُقَّ ذَلِكَ عَلَى النَّبِيِّ
صلّى الله عليه وسلم.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «355» رقم «4» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «52» رقم «6» .
(3) الحديث سنده ضعيف.
(4) صيرا: أي من دون حرب. حبسا.
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «379» رقم «5» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «591» رقم «؟؟؟» .
(7) عبد الرزاق في جامعه عن عكرمة.
(8) رواه عبد الرزاق أيضا في جامعه عن سعيد بن جبير.
(9) كذب هنا معناها افترى كلاما كاذبا فيه تنقيص.
(10) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (54) رقم (4) .
(11) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (340) رقم (1) .
(2/489)
وَبَلَغَ «1» الْمُهَاجِرَ «2» بْنَ أَبِي
أُمَيَّةَ أَمِيرَ الْيَمَنِ لِأَبِي بَكْرٍ «3» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ
أَنَّ امْرَأَةً هُنَاكَ فِي الرِّدَّةِ غَنَّتْ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَطَعَ يَدَهَا، وَنَزَعَ ثَنِيَّتَهَا «4» ،
فَبَلَغَ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ذَلِكَ فَقَالَ لَهُ: لَوْلَا
مَا فَعَلْتَ لَأَمَرْتُكَ بِقَتْلِهَا، لِأَنَّ حَدَّ الْأَنْبِيَاءِ
لَيْسَ يُشْبِهُ الْحُدُودَ.
وَعَنِ ابْنِ «5» عَبَّاسٍ: هَجَتِ امْرَأَةٌ مِنْ خَطْمَةَ «6» النَّبِيَّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: مَنْ لِي بِهَا؟ .. فَقَالَ
رَجُلٌ مِنْ قَوْمِهَا: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ.
فَنَهَضَ فَقَتَلَهَا، فَأَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ فَقَالَ: «لَا يَنْتَطِحُ فِيهَا عنزان «7» .
__________
(1) في اثر رواه ابن سعد وابن عساكر.
(2) المهاجر بن أبي أمية: كان اسمه الوليد فكرهه النبي صلّى الله عليه وسلم
وسماه المهاجر، لان الوليد اسم فرعون مصر.. والمهاجر أخو ام المؤمنين ام
سلمة رضي الله عنها، أرسله رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ إِلَى اليمن الى الحارث بن عبد كلال الحميري، واستعمله على
الصدقات، ثم بعثه ابو بكر رضي الله عنه في خلافته لقتال المرتدين باليمن
ففتح الفتوح وله آثار عظيمة في اليمن.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (156) رقم (1) .
(4) ثنيتها: السن المتقدمة
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (52) رقم (6) .
(6) خطمة: اسم قبيلة، أبناء سعد بن ثعلبة، وخطمة من الانصار بنو عبد الله
بن مالك بن أوس وهذه المرأة هي عصماء بنت مروان من بني أمية، والذي قتلها
عمير بن عدي ابن فراشة بن أبيه الخطمي وكان أعمى، وهو امام قومه وقارئهم
دخل عليها وهي ترضع ولدها فنحاه عنها ثم أغمد سيفه في بطنها حتى أخرجه من
ظهرها.
(7) مثل ضربة رسول الله صلّى الله عليه وسلم للامر الذي يقع من غير خلف
فيه.. والعنزان لا ينتطحان وانما يتشامان ثم يفترقان.
(2/490)
وَعَنِ «1» ابْنِ عَبَّاسٍ «2» : «أَنَّ
أَعْمَى كَانَتْ لَهُ أُمُّ وَلَدٍ تَسُبُّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَزْجُرُهَا فَلَا تَنْزَجِرُ، فَلَمَّا كَانَتْ
ذَاتَ لَيْلَةٍ جَعَلَتْ تَقَعُ فِي النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم
وتشتمه فقتلها، وعلم النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
بِذَلِكَ فَأَهْدَرَ دَمَهَا» .
وَفِي حَدِيثِ أَبِي بَرْزَةَ «3» الْأَسْلَمِيِّ: «كُنْتُ «4» يَوْمًا
جَالِسًا عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ فَغَضِبَ عَلَى رَجُلٍ مِنَ
الْمُسْلِمِينَ- وَحَكَى الْقَاضِي إِسْمَاعِيلُ «5» وَغَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ
الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّهُ سَبَّ أَبَا بَكْرٍ.
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ «6» : أَتَيْتُ أبا بكر وقد أغلظ رجل فَرَدَّ
عَلَيْهِ قَالَ- فَقُلْتُ «7» يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ دَعْنِي
أَضْرِبُ عُنُقَهُ.. فَقَالَ:
اجْلِسْ.. فَلَيْسَ ذَلِكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ «8» بْنُ نصر: «ولم يخالف عليه أحد،
__________
(1) رواه ابو داود والحاكم والبيهقي وصححه.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (152) رقم (6) .
(3) ابو برزة الاسلمي: وهو نفلة بن عبيد بن الحارث أسلم قديما، وشهد مَعَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المشاهد وتوفي بالبصرة
سنة أربع وستين.
(4) رواه ابو داود والحاكم والبيهقي وصححوه.
(5) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (210) رقم (9) .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (195) رقم (7) .
(7) والقائل هو أبو برزة.
(8) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (141) رقم (6) .
(2/491)
فَاسْتَدَلَّ الْأَئِمَّةُ بِهَذَا
الْحَدِيثِ عَلَى قَتْلِ مَنْ أَغْضَبَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ بِكُلِّ مَا أَغْضَبَهُ، أَوْ أَذَاهُ، أَوْ سَبَّهُ» .
وَمِنْ ذَلِكَ كِتَابُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ «1» الْعَزِيزِ إِلَى عَامِلِهِ
«2» بِالْكُوفَةِ:
«وَقَدِ اسْتَشَارَهُ فِي قَتْلِ رَجُلٍ سَبَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عمر.. إنه لا يحل قتل امريء مُسْلِمٍ بِسَبِّ
أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ إِلَّا رَجُلًا سَبَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَمَنْ سَبَّهُ فَقَدْ حَلَّ دَمُهُ» .
وَسَأَلَ الرَّشِيدُ «3» مَالِكًا «4» فِي رَجُلٍ شَتَمَ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذَكَرَ لَهُ أَنَّ فُقَهَاءَ الْعِرَاقِ
أَفْتَوْهُ بِجِلْدِهِ، فَغَضِبَ مَالِكٌ وَقَالَ: «يَا أَمِيرَ
الْمُؤْمِنِينَ. مَا بَقَاءُ الْأُمَّةِ بَعْدَ شَتْمِ نَبِيِّهَا؟! مَنْ
شَتَمَ الْأَنْبِيَاءَ قُتِلَ وَمَنْ شَتَمَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جُلِدَ «5» » .
قَالَ الْقَاضِي أَبُو «6» الْفَضْلِ: كَذَا وَقَعَ فِي هَذِهِ
الْحِكَايَةِ- رَوَاهَا غَيْرُ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِ مَنَاقِبِ مَالِكٍ،
وَمُؤَلِّفِي أَخْبَارِهِ وَغَيْرِهِمْ.
وَلَا أَدْرِي مَنْ هَؤُلَاءِ الْفُقَهَاءُ بِالْعِرَاقِ الَّذِينَ
أَفْتَوُا الرَّشِيدَ بِمَا
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «30» رقم «1» .
(2) هو عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب.
(3) الرشيد: هارون الخليفة العباسي المشهور. وكان قد أخذ الحديث عن الامام
مالك.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(5) وهذا هو مذهبه من غير تفريق بين مسلم وكافر وبين التائب وغيره.
(6) ابو الفضل: المصنف.
(2/492)
ذُكِرَ.. وَقَدْ ذَكَرْنَا مَذْهَبَ
الْعِرَاقِيِّينَ بِقَتْلِهِ.. وَلَعَلَّهُمْ مِمَّنْ لَمْ يُشْهَرْ
بِعِلْمٍ.. أَوْ مَنْ لَا يُوثَقُ بِفَتْوَاهُ.. أَوْ يَمِيلُ بِهِ
هَوَاهُ.. أَوْ يَكُونُ مَا قَالَهُ يُحْمَلُ عَلَى غَيْرِ السَّبِّ..
فَيَكُونُ الْخِلَافُ هَلْ هُوَ سَبٌّ أَوْ غَيْرُ سب.. أو يكون رجع وتاب
عن سَبِّهِ فَلَمْ يَقُلْهُ لِمَالِكٍ «1» عَلَى أَصْلِهِ وَإِلَّا
فَالْإِجْمَاعُ عَلَى قَتْلِ مَنْ سَبَّهُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَيَدُلُّ عَلَى قَتْلِهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ «2» وَالِاعْتِبَارِ «3»
.. أن من سبّه وتنقّصه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَدْ ظَهَرَتْ
عَلَامَةُ مرض قلبه، وبرهان سرطويته وكفره، ولهذا حَكَمَ لَهُ كَثِيرٌ مِنَ
الْعُلَمَاءِ بِالرِّدَّةِ.
وَهِيَ رِوَايَةُ الشَّامِيِّينَ عَنْ مَالِكٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ «4» .
وَقَوْلُ الثَّوْرِيِّ «5» وَأَبِي «6» حَنِيفَةَ وَالْكُوفِيِّينَ
وَالْقَوْلُ الْآخَرُ: «أَنَّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْكُفْرِ فَيُقْتَلُ
حَدًّا، وَإِنْ لَمْ يُحْكَمْ لَهُ بِالْكُفْرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ
مُتَمَادِيًا عَلَى قَوْلِهِ غَيْرَ مُنْكِرٍ لَهُ، وَلَا مُقْلِعٍ عَنْهُ.
فَهَذَا كَافِرٌ» . وَقَوْلُهُ إِمَّا صَرِيحُ كُفْرٍ كَالتَّكْذِيبِ
ونحوه، أو من كلمات الاستهزاء والذم.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(2) النظر: أي التفكر فيما يدل عليه عقلا.
(3) الاعتبار: أي التأمل في موجبات القتل شرعا. والقياس يسمى اعتبارا أيضا
من قوله تعالى: «فاعتبروا يا أولى الابصار» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «111» رقم «6» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «186» رقم «3» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «466» رقم «6» .
(2/493)
فَاعْتِرَافُهُ بِهَا، وَتَرْكُ تَوْبَتِهِ
عَنْهَا، دَلِيلُ اسْتِحْلَالِهِ لِذَلِكَ، وَهُوَ كُفْرٌ أَيْضًا..
فَهَذَا كَافِرٌ بِلَا خِلَافٍ.
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِي مِثْلِهِ: «يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قالُوا،
وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ «1» »
.
قَالَ أَهْلُ التَّفْسِيرِ: هِيَ قَوْلُهُمْ: «إِنْ كَانَ مَا يَقُولُ
مُحَمَّدٌ حَقًّا «2» لَنَحْنُ شَرٌّ مِنَ الْحَمِيرِ» .
وَقِيلَ بَلْ قَوْلُ بَعْضِهِمْ «3» : «مَا مِثْلُنَا وَمِثْلُ مُحَمَّدٍ
إِلَّا قَوْلُ الْقَائِلِ سَمِّنْ كَلْبَكَ يأكلك.. ولئن رجعنا إلى المدينة
ليخرجن الأعن منها الأذل» .
وَقَدْ قِيلَ: إِنَّ قَائِلَ مِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ مُسْتَتِرًا «4» بِهِ
أَنَّ حُكْمَهُ حُكْمُ الزِّنْدِيقِ يقتل.. ولأنه قد غيّر دينه.
__________
(1) سورة التوبة آية 76.
(2) من فتح حصون الشام، وكان القائل لذلك الجلاس بن سويد، أو وديعة بن
ثابت، فقال له عامر بن قيس الانصاري: أجل والله ان محمدا لصادق مصدق، وأنت
شر من الحمير، فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلم وجاء الجلاس فحلف
بالله عند منبر النبي صلّى الله عليه وسلم أنه ما قال وان عامرا لكاذب وحلف
عامر لقد قال. وقال: اللهم انزل على نبيك الصادق شيئا يصدقني. فنزلت الاية
فتاب الجلاس وحسنت توبته.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «224» رقم «7» .
(4) وفي رواية (مستسرا) .
(2/494)
وَقَدْ قَالَ «1» صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ.» وَلِأَنَّ
لِحُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحُرْمَةِ
مَزِيَّةً عَلَى أُمَّتِهِ، وَسَابُّ الْحُرِّ مِنْ أُمَّتِهِ يُحَدُّ،
فَكَانَتِ الْعُقُوبَةُ لِمَنْ سَبَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
الْقَتْلَ لِعَظِيمِ قَدْرِهِ وَشُفُوفِ «2» مَنْزِلَتِهِ عَلَى غيره.
__________
(1) رواه أحمد والبخاري والاربعة بلفظ: «من بدل دينه فاقتلوه» . فلعل
الحديث نقله القاضي بالمعنى أو أن هناك رواية له بالمعنى المذكور.
(2) شفوف: زيادة، يقال شف عليه اذا زاد وهو، بمعنى النقص أيضا فهو من
الاضداد
(2/495)
|