الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل الثالث أسباب عفو النبيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَعْضِ مَنْ أَذَاهُ
فَإِنْ قُلْتَ:
فَلِمَ لَمْ يَقْتُلِ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلم اليهودي الذي لَهُ: السَّامُ عَلَيْكُمْ «1» وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَيْهِ؟، وَلَا قَتَلَ الْآخَرَ «2» الَّذِي قَالَ لَهُ: «إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ «3» مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ «4» » ، وَقَدْ تَأَذَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذَلِكَ، وَقَالَ: «قَدْ أُوذِيَ مُوسَى بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ؟ وَلَا قَتَلَ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا يُؤْذُونَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْيَانِ؟
فَاعْلَمْ وَفَّقَنَا اللَّهُ وَإِيَّاكَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ يَسْتَأْلِفُ عَلَيْهِ النَّاسَ وَيُمِيلُ قلوبهم إليه، ويحبب إليهم الإيمان ويزينه في
__________
(1) وهذا رواه البخاري وغيره، وقالوا ان عائشة رضي الله عنها تفطنت له فكانوا اذا قالوا: «السام عليكم يا أبا القاسم. قالت: «عليكم السام والذام واللعنة. ولذا قال صلّى الله عليه وسلم: «اذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم. ردا لمقلتهم عليهم»
(2) هو ذو الخويصرة.
(3) وفي نسخة (القسمة) .
(4) وهذا في حديث رواه البخاري أيضا. فلم يقتله رسول الله صلّى الله عليه وسلم

(2/496)


قلوبهم، ويداريهم ويقول لأصحابه: إنما بعثتم ميسّرين ولم تبعثوا منفرين ويقول «1» «بشروا «2» وتعسروا وسكّتوا «3» وَلَا تُنَفِّرُوا» .
وَيَقُولُ: «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ «4» .»
وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُدَارِي الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَيُجْمِلُ صُحْبَتَهُمْ، وَيُغْضِي عَنْهُمْ، وَيَحْتَمِلُ مِنْ أَذَاهُمْ، وَيَصْبِرُ عَلَى جَفَائِهِمْ، مَا لَا يَجُوزُ لَنَا الْيَوْمَ الصَّبْرُ لَهُمْ عَلَيْهِ. وَكَانَ يُرْفِقُهُمْ «5» بِالْعَطَاءِ وَالْإِحْسَانِ «6» ، وَبِذَلِكَ أَمَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى.
فَقَالَ تَعَالَى: «وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ، فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ» «7» .
__________
(1) رواه أحمد والشيخان والنسائي عن أنس رضي الله عنه بلفظ: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا» .
(2) وفي نسخة (يسروا) .
(3) سكنوا: أي اقروا الناس على ما هم عليه، وهذا فيما لم يجب عليهم، والا فمثله لا يتسامح فيه.
(4) وهذا قاله لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما قال في قصة أبي بن سلول: «دعني أضرب عنقه» .
(5) يرفقهم: يصلهم وينفعهم.
(6) وقد ورد «رأس العقل بعد الايمان بالله التحبب الى الناس رواه الطبراني فى الاوسط عن علي كرم الله وجهه ورواه البزار والبيهقي عن أبي هريرة بلفظ؟
(7) سورة المائدة آية 15 وهذه الاية منسوخة نزلت في اليهود الذين كانوا في زمن نبينا صلّى الله عليه وسلم بيانا لانهم من شأنهم الخيانة وأنه موروث آبائهم وأمره بالعفو عنهم بشرط المعاهدة أو نحوها.

(2/497)


وَقَالَ تَعَالَى «ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ، فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ» «1» .
وَذَلِكَ لِحَاجَةِ النَّاسِ لِلتَّأَلُّفِ أَوَّلَ الْإِسْلَامِ، وَجَمْعِ الْكَلِمَةِ عَلَيْهِ.
- فَلَمَّا اسْتَقَرَّ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ قَتَلَ مَنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وَاشْتَهَرَ أَمْرُهُ كَفِعْلِهِ بِابْنِ خَطَلٍ «2» وَمَنْ عَهِدَ بِقَتْلِهِ يَوْمَ الْفَتْحِ. وَمَنْ أَمْكَنَهُ قَتْلُهُ غِيلَةً مِنْ يَهُودَ وَغَيْرِهِمْ، أَوْ غَلَبَةً مِمَّنْ لَمْ يُنْظِمْهُ قَبْلُ سِلْكَ صُحْبَتَهِ، وَالِانْخِرَاطَ «3» فِي جُمْلَةِ مُظْهِرِي الْإِيمَانِ بِهِ مِمَّنْ كَانَ يُؤْذِيهِ، كَابْنِ الْأَشْرَفِ «4» وأبي «5» رافع والنضر «6» وعقبة «7» .
- وكذلك هدر «8» دم جماعة سواهم ككعب «9» بن زهير.
__________
(1) سورة فصلت آية 35 وقيل نسخت باية السيف.
(2) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «488» رقم «7» .
(3) الانخراط: فسر بالدخول، وقد وقع ذلك في كلام الفصحاء الثقات كالسكاكي والزمخشري ولكنه في كتب اللغة لا يوجد بمثل هذا المعنى بل عكسه كخرط القتاد واخترط السيف اذا سله.
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «621» رقم «7» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «312» رقم «2» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «270» رقم «8» .
(7) عقبة بن أبي معيط: من أشد الذين أذوا محمدا عليه الصلاة والسلام وكان الجار الثاني لرسول الله صلّى الله عليه وسلم وفيه أنزل الله قوله «يوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا.» انظر كتاب نور اليقين بحث الايذاء.
(8) وفي نسخة (نذر)
(9) كعب بن زهير: بن أبي سلمى ربيعة بن رياح المزني، وهو وأخوه شاعران مجيدان غير مكثرين، وأخوه أسلم قبله، وكان كعب قال بعد اسلام أخيه شعرا يعرض فيه بالنبي صلّى الله عليه وسلم فكتب اليه أخوه كتابا يذكر له فيه أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم أهدر دماء أعدائه. فضافت به الارض فأتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم تائبا فقبله فأنشده قصيدته المشهورة: بانت سعاد فألبسه صلّى الله عليه وسلم بردته.

(2/498)


وَابْنِ الزَّبَعْرِيِّ «1» ، وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ آذَاهُ حَتَّى أَلْقَوْا بِأَيْدِيهِمْ وَلَقُوهُ مُسْلِمِينَ.
- وَبَوَاطِنُ الْمُنَافِقِينَ مُسْتَتِرَةٌ وَحُكْمُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الظَّاهِرِ..
وَأَكْثَرُ تِلْكَ الْكَلِمَاتِ إِنَّمَا كَانَ يَقُولُهَا الْقَائِلُ مِنْهُمْ خُفْيَةً، وَمَعَ أَمْثَالِهِ وَيَحْلِفُونَ عَلَيْهَا إِذَا نُمِيَتْ «2» وَيُنْكِرُونَهَا، وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ.
- وَكَانَ مَعَ هَذَا يَطْمَعُ فِي فَيْأَتِهِمْ «3» ، وَرُجُوعِهِمْ إِلَى الْإِسْلَامِ وَتَوْبَتِهِمْ، فَيَصْبِرُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى هَنَاتِهِمْ وَجَفْوَتِهِمْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ «4» ، حَتَّى فَاءَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ بَاطِنًا كَمَا فَاءَ ظَاهِرًا وَأَخْلَصَ سِرًّا كَمَا أَظْهَرَ جَهْرًا، وَنَفَعَ اللَّهُ بَعْدُ بِكَثِيرٍ مِنْهُمْ، وَقَامَ مِنْهُمْ لِلدِّينِ وُزَرَاءُ وَأَعْوَانٌ وحماة وأنصار كما جاءت به الأخبار.
__________
(1) ابن الزبعرى: هو عبد الله بن الزبعرى بن سعيد بن سهم القرشي كان شاعرا مجيدا شجاعا، من أشد الناس عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بطول لسانه وسفهه، ولا عقب له أسلم بعد الفتح وحسن اسلامه.
(2) نميت: نقلت وبلغت.
(3) وفي نسخت (فئتهم) أي جماعتهم.
(4) واختلف في اولي العزم منهم فقيل هم خمسة: نوح وابراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين وقيل هم المذكورون في (الشعراء) و (الاعراف) وهم نوح وهود وصالح وسليمان ولوط وموسى، لصبرهم على أذى قومهم، وقيل ثمانية عشر ذكروا في الانعام وعقبهم الله بقوله (اولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده) . وقيل كل الرسل ما عدا أيوب.

(2/499)


وَبِهَذَا أَجَابَ بَعْضُ أَئِمَّتِنَا رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَنْ هذا السؤال «1» . قال:
ولعله لَمْ يَثْبُتْ عِنْدَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَقْوَالِهِمْ مَا رُفِعَ وَإِنَّمَا نَقَلَهُ الْوَاحِدُ «2» ومن لم يصل رتبة الشهادة في هَذَا الْبَابِ مِنْ صَبِيٍّ أَوْ عَبْدٍ أَوِ امرأة.
والدماء لا تستباح إلا بعد لين، وعلى هذا يحمل أمر اليهودي «3» في السلام «4» ، وأنهم لووا به أَلْسِنَتَهُمْ وَلَمْ يُبَيِّنُوهُ. أَلَا تَرَى كَيْفَ نَبَّهَتْ عَلَيْهِ عَائِشَةُ وَلَوْ كَانَ صَرَّحَ بِذَلِكَ لَمْ تَنْفَرِدْ بِعِلْمِهِ.. وَلِهَذَا نَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَصْحَابَهُ عَلَى فِعْلِهِمْ وَقِلَّةِ صِدْقِهِمْ فِي سَلَامِهِمْ وَخِيَانَتِهِمْ فِي ذَلِكَ لَيًّا «5» بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ.. فَقَالَ: إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمَ أَحَدُهُمْ فَإِنَّمَا يَقُولُ السَّامُ عَلَيْكُمْ فَقُولُوا: عَلَيْكُمْ «6» .
وَكَذَلِكَ قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا الْبَغْدَادِيِّينَ «7» .. إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَقْتُلِ الْمُنَافِقِينَ بِعِلْمِهِ فِيهِمْ.. وَلَمْ يَأْتِ أَنَّهُ قَامَتْ بَيِّنَةٌ عَلَى نِفَاقِهِمْ فَلِذَلِكَ تَرَكَهُمْ.. وَأَيْضًا.. فَإِنَّ الْأَمْرَ كَانَ سِرًّا وَبَاطِنًا، وَظَاهِرُهُمُ الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ. وإن كان من أهل الذمة «8» والعهد والجوار. والناس
__________
(1) السابق عن قول اليهود السام عليكم.
(2) والشهادة لا تتم الا باثنين.
(3) وفي نسخة (اليهود) .
(4) وفي نسخة (في السام) .
(5) ليا بألسنتهم: أي تحريفا بها.
(6) وقد قال الفقهاء: لا تبدؤوا بالسلام الكفرة، وانما يرد سلامهم بقول: وعليكم وفي رواية عن الشافعي جوازه.
(7) كالقاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي.
(8) أهل الذمة: هم أهل العهد والامان.

(2/500)


قريب عهدهم بالإسلام لم يَتَمَيَّزْ بَعْدُ الْخَبِيثُ مِنَ الطِّيبِ، وَقَدْ شَاعَ عَنِ الْمَذْكُورِينَ فِي الْعَرَبِ كَوْنُ مَنْ يُتَّهَمُ بِالنِّفَاقِ مِنْ جُمْلَةِ الْمُؤْمِنِينَ وَصَحَابَةِ سَيِّدِ الْمُرْسَلِينَ وَأَنْصَارِ الدِّينِ بِحُكْمِ ظَاهِرِهِمْ.. فَلَوْ قَتَلَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِنِفَاقِهِمْ وَمَا يَبْدُرُ مِنْهُمْ، وَعِلْمِهِ بِمَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ لَوَجَدَ المنفّر ما يقول، ولارتاب الشَّارِدُ، وَأَرْجَفَ «1» الْمُعَانِدُ، وَارْتَاعَ مِنْ صُحْبَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالدُّخُولِ فِي الْإِسْلَامِ غَيْرُ وَاحِدٍ، وَلَزَعَمَ الزَّاعِمُ وَظَنَّ الْعَدُوُّ الظَّالِمُ أَنَّ الْقَتْلَ إِنَّمَا كَانَ لِلْعَدَاوَةِ وَطَلَبِ أَخْذِ التِّرَةِ «2» .
وَقَدْ رَأَيْتُ مَعْنَى مَا حَرَّرْتُهُ مَنْسُوبًا إِلَى مَالِكِ «3» بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «4» «لَا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مْحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ»
وَقَالَ «5» أُولَئِكَ الَّذِينَ نَهَانِي اللَّهُ عَنْ قَتْلِهِمْ. وَهَذَا بِخِلَافِ إِجْرَاءِ الْأَحْكَامِ الظَّاهِرَةِ عَلَيْهِمْ مِنْ حُدُودِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ وَشِبْهِهِ «6» لِظُهُورِهَا «7» وَاسْتِوَاءِ النَّاسِ فِي عِلْمِهَا.
وَقَدْ قَالَ مُحَمَّدُ «8» بْنُ الْمَوَّازِ: لَوْ أَظْهَرَ الْمُنَافِقُونَ نِفَاقَهُمْ لَقَتَلَهَمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
__________
(1) أرجف: أتى بالاقوال الكاذبة.
(2) الترة: الثار.
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(4) قال صلّى الله عليه وسلم لعمر والحديث تقدم في الصحيحين.
(5) لم يخرج هذا الحديث.
(6) شبهه: أي كحد الفذف وشرب الخمر والسرقة.
(7) بالشهادة الشرعية.
(8) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «144» رقم «2» .

(2/501)


وقال الْقَاضِي أَبُو «1» الْحَسَنِ بْنُ الْقَصَّارِ وَقَالَ قَتَادَةُ «2» فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى «لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلَّا قَلِيلًا، مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. سُنَّةَ اللَّهِ» «3» الْآيَةَ قَالَ: مَعْنَاهُ إِذَا أَظْهَرُوا النِّفَاقَ.
وَحَكَى مُحَمَّدُ بْنُ «4» مَسْلَمَةَ فِي الْمَبْسُوطِ «5» عَنْ زَيْدِ «6» بن أسلم أن قوله تعالى «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ» «7» نسخت «8» مَا كَانَ قَبْلَهَا «9» .
وَقَالَ بَعْضُ مَشَايِخِنَا: «لَعَلَّ الْقَائِلَ «10» «هَذِهِ قِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ» وَقَوْلَهُ «اعْدِلْ» لَمْ يَفْهَمِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ الطَّعْنَ عَلَيْهِ وَالتُّهْمَةَ لَهُ، وَإِنَّمَا رَآهَا مِنْ وَجْهِ الْغَلَطِ فِي الرأي وأمور الدنيا،
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «141» رقم «1» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «62» رقم «3» .
(3) سورة الاحزاب الايات 62- 63.
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «158» رقم «5» .
(5) المبسوط: اسم كتاب له
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «77» رقم «7» .
(7) سورة التوبة آية 75.
(8) وفي كثير من النسخ (نسخها) .
(9) من العفو والصفح.
(10) هو واحد من الانصار كما في صحيح البخاري، او مغيث بن قشير كما قاله بعضهم لاذو الخويصره كما توهم الدلجي. وقال الحلبي الذي قال اعدل وذو الخويصرة.

(2/502)


وَالِاجْتِهَادِ فِي مَصَالِحِ أَهْلِهَا فَلَمْ يَرَ ذَلِكَ سببا «1» ، وَرَأَى أَنَّهُ مِنَ الْأَذَى الَّذِي لَهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالصَّبْرُ عَلَيْهِ» فَلِذَلِكَ لَمْ يُعَاقِبْهِ.
- وَكَذَلِكَ يقال في اليهود إذ قَالُوا «السَّامُ عَلَيْكُمْ» لَيْسَ فِيهِ صَرِيحُ «2» سَبٍّ، ولا دعاء الا بما لابد مِنْهُ مِنَ الْمَوْتِ الَّذِي لَا بُدَّ مِنْ لَحَاقِهِ جَمِيعَ الْبَشَرِ.
وَقِيلَ: بَلِ الْمُرَادُ «تَسْأَمُونَ دِينَكُمْ» وَالسَّأْمُ وَالسَّآمَةُ «الْمَلَالُ» وَهَذَا دُعَاءٌ عَلَى سَآمَةِ الدِّينِ لَيْسَ بِصَرِيحِ سَبٍّ.
وَلِهَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ «3» عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ: بَابٌ إِذَا «عَرَّضَ» الذي أَوْ غَيْرُهُ بِسَبِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم.
قال بعض علمائنا: «ليس هَذَا بِتَعْرِيضٍ بِالسَّبِّ، وَإِنَّمَا هُوَ تَعْرِيضٌ بِالْأَذَى»
قَالَ الْقَاضِي أَبُو «4» الْفَضْلِ قَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ الْأَذَى وَالسَّبَّ فِي حَقِّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوَاءٌ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو «5» مُحَمَّدِ بْنُ نصر مجيبا عن هذا الحديث ببعض
__________
(1) وفي نسخة (شيئا) .
(2) وفي نسخة (تصريح) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «158» رقم «3» .
(4) أبو الفضل: المصنف.
(5) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «141» رقم «6» .

(2/503)


مَا تَقَدَّمَ ثُمَّ قَالَ: وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْحَدِيثِ هَلْ كَانَ هَذَا الْيَهُودِيُّ مِنْ أَهْلِ الْعَهْدِ وَالذِّمَّةِ أَوِ الْحَرْبِ؟!، وَلَا يُتْرَكُ مُوجِبُ الأدلة للأمر الْمُحْتَمَلِ، وَالْأَوْلَى فِي ذَلِكَ «1» كُلِّهِ وَالْأَظْهَرُ مِنْ هذه الوجوه مقصد الإستئلاف والمداراة عَلَى الدِّينِ لَعَلَّهُمْ يُؤْمِنُونَ.
وَلِذَلِكَ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ «2» عَلَى حَدِيثِ الْقِسْمَةِ وَالْخَوَارِجِ: بَابٌ مِنْ تَرْكِ قِتَالِ الْخَوَارِجِ لِلتَّأَلُّفِ وَلِئَلَّا يَنْفِرَ النَّاسُ عَنْهُ، وَلِمَا ذَكَرْنَا مَعْنَاهُ عَنْ مَالِكٍ «3» وَقَرَّرْنَاهُ قَبْلُ.
وَقَدْ صَبَرَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى سِحْرِهِ وَسَمِّهِ وَهُوَ أَعْظَمُ مِنْ سَبِّهِ إِلَى أَنْ نَصَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَأَذِنَ لَهُ في قتل من عيّنه مِنْهُمْ، وَإِنْزَالِهِمْ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ، وَكَتَبَ عَلَى مَنْ شَاءَ مِنْهُمُ الْجَلَاءَ وَأَخْرَجَهُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ، وَخَرَّبَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ، وَكَاشَفَهُمْ بِالسَّبِّ فَقَالَ: «يَا إِخْوَةَ الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ» .. وَحَكَّمَ فِيهِمْ «4» سُيُوفَ الْمُسْلِمِينَ وَأَجْلَاهُمْ مِنْ جِوَارِهِمْ، وَأَوْرَثَهُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ «5» .. لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا، وَكَلِمَةُ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى.
__________
(1) وفي نسخة (هذا) .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «158» رقم «3» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(4) في بني قريظة.
(5) كما حدث لبني النضير.

(2/504)


فَإِنْ قُلْتَ: فَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «1» عَنْ عَائِشَةَ «2» رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: «أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا انْتَقَمَ لِنَفْسِهِ فِي شَيْءٍ يُؤْتَى إِلَيْهِ قَطُّ إِلَّا أَنْ تُنْتَهَكَ حُرْمَةُ اللَّهِ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ» .
فَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَنْتَقِمْ مِمَّنْ سَبَّهُ أَوْ آذَاهُ أَوْ كَذَّبَهُ، فَإِنَّ هَذِهِ مِنْ حُرُمَاتِ اللَّهِ الَّتِي انْتَقَمَ لَهَا، وَإِنَّمَا يَكُونُ ما لا ينتقم منه لَهُ فِيمَا تَعَلَّقَ بِسُوءِ أَدَبٍ، أَوْ مُعَامَلَةٍ من القول والفعل بِالنَّفْسِ «3» وَالْمَالِ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْ فَاعِلُهُ بِهِ أَذَاهُ لَكِنْ مِمَّا جُبِلَتْ عَلَيْهِ الْأَعْرَابُ مِنَ الْجَفَاءِ وَالْجَهْلِ «4» ، أَوْ جُبِلَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ مِنَ السفه «5» كجبذ «6» الأعرابي رداءه حَتَّى أَثَّرَ فِي عُنُقِهِ «7» ، وَكَرَفْعِ صَوْتِ الْآخَرِ «8» عِنْدَهُ، وَكَجَحْدِ الْأَعْرَابِيِّ «9» شِرَاءَهُ مِنْهُ فَرَسَهُ «10» الَّتِي شهد فيها
__________
(1) من رواية البخاري وغيره.
(2) تقدمت ترجمتها في ج 1 ص «146» رقم «5» .
(3) وفي نسخة (في النفس) .
(4) كما قال تعالى: (الاعراب أشد كفرا ونفاقا واجدر الا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله) .
(5) وروي (الغفلة) .
(6) جبذ: أي جذب.
(7) وقال: «- كما في البخاري- مرلي من مال الله الذي عندك» .
(8) قال الحلبي: «يحتمل ان يكون ثابت بن قيس بن شماس» .
(9) وهو سواد بن قيس المحاربى، وقيل: «سواد بن الحارث» .
(10) المسمى بالمرتجز وكان ابيض، وقيل النجيب.

(2/505)


خُزَيْمَةُ «1» .. وَكَمَا كَانَ مِنْ تَظَاهُرِ زَوْجَيْهِ «2» عَلَيْهِ، وَأَشْبَاهِ هَذَا مِمَّا يَحْسُنُ الصَّفْحُ عَنْهُ.
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا: «إِنَّ أَذَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرَامٌ لَا يَجُوزُ بِفِعْلٍ مُبَاحٍ وَلَا غَيْرِهِ» .
وَأَمَّا غَيْرُهُ فَيَجُوزُ بِفِعْلٍ مباح مما يَجُوزُ لِلْإِنْسَانِ فِعْلُهُ وَإِنْ تَأَذَّى بِهِ غَيْرُهُ، وَاحْتَجَّ بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى «إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» «3» .
وَبِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي حَدِيثِ «4» فَاطِمَةَ «5» : «إِنَّهَا بِضْعَةٌ مِنِّي يُؤْذِينِي مَا يُؤْذِيهَا.. أَلَا وَإِنِّي لَا أُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ. وَلَكِنْ لَا تَجْتَمِعُ ابْنَةُ رَسُولِ اللَّهِ وَابْنَةُ عَدُوِّ «6» اللَّهِ عِنْدَ رَجُلٍ أَبَدًا»
أَوْ يَكُونُ هذا مما آذاه به كافر رجا «7» بَعْدَ ذَلِكَ إِسْلَامُهُ كَعَفْوِهِ عَنِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سحره وعن الأعرابي «8» الذي أراد قتله
__________
(1) خزيمة: بن ثابت الانصاري بن عمارة. وقد جَعَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شهادته بشهادتين.
(2) وهما عائشة وحفصة رضي الله عنهما.
(3) سورة الاحزاب آية 58.
(4) رواه البخاري
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «63» رقم «12» .
(6) وهي بنت أبي جهل واسمها جويرية.
(7) وفي نسخة (وجاء) بالواو.
(8) وهو غورث بن الحارث.

(2/506)


وَعَنِ الْيَهُودِيَّةِ الَّتِي سَمَّتْهُ. وَقَدْ قِيلَ: «قَتَلَهَا» «1»
وَمِثْلُ هَذَا مِمَّا يَبْلُغُهُ مِنْ أَذَى أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُنَافِقِينَ فَصَفَحَ «2» عَنْهُمْ رَجَاءَ اسْتِئْلَافِهِمْ وَاسْتِئْلَافِ غيرهم كما قررناه قبل وبالله التوفيق
__________
(1) أي آخرا ببشر بن البراء بعد ما عفا عنها أولا لاسلامها او لاعتذارها في كلامها
(2) وفي جمله (وصفح) .

(2/507)