الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل السّادس الحكم فيما لو كان الكلام
يحتمل السّبّ وغيره
الْوَجْهُ الرَّابِعُ:
أَنْ يَأْتِيَ مِنَ الْكَلَامِ بِمُجْمَلٍ وَيَلْفِظُ مِنَ الْقَوْلِ
بِمُشْكِلٍ يُمْكِنُ حَمْلُهُ عَلَى النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره أَوْ
يَتَرَدَّدُ فِي الْمُرَادِ بِهِ مِنْ سَلَامَتِهِ من المكروه، أو شرّه
فههنا مُتَرَدِّدُ النَّظَرِ، وَحَيْرَةُ الْعِبَرِ، وَمَظِنَّةُ
اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَوَقْفَةِ اسْتِبْرَاءِ الْمُقَلِّدِينَ،
لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَا مَنْ حَيَّ عَنْ
بَيِّنَةٍ فَمِنْهُمْ مَنْ غَلَّبَ حُرْمَةَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَمَى حِمَى عِرْضِهِ فَجَسَرَ عَلَى الْقَتْلِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ عَظَّمَ حُرْمَةَ الدَّمِ وَدَرَأَ الْحَدَّ بِالشُّبْهَةِ
لِاحْتِمَالِ الْقَوْلِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ أَئِمَّتُنَا فِي رَجُلٍ أَغْضَبَهُ غَرِيمُهُ فَقَالَ
لَهُ: صَلِّ عَلَى محمد صلّى الله عليه وسلم فَقَالَ لَهُ الطَّالِبُ لَا
صَلَّى اللَّهُ عَلَى مَنْ صَلَّى عَلَيْهِ.
(2/515)
فَقِيلَ لِسُحْنُونٍ «1» : هَلْ هُوَ
كَمَنْ شَتَمَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم؟ أو شتم الملائكة الَّذِينَ
يُصَلُّونَ عَلَيْهِ؟ قَالَ: لَا إِذَا كَانَ عَلَى مَا وَصَفْتَ مِنَ
الْغَضَبِ.. لِأَنَّهُ لَمْ يكن مضمرا الشتم.
وقال أبو اسحق «2» الْبَرْقِيُّ وَأَصْبَغُ «3» بْنُ الْفَرَجِ لَا
يُقْتَلُ لِأَنَّهُ إِنَّمَا شَتَمَ النَّاسَ. وَهَذَا نَحْوُ قَوْلِ
سُحْنُونٍ لِأَنَّهُ لَمْ يَعْذُرْهُ بِالْغَضَبِ فِي شَتْمِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَكِنَّهُ لَمَّا احْتَمَلَ
الْكَلَامَ عِنْدَهُ وَلَمْ تَكُنْ مَعَهُ قَرِينَةٌ تَدُلُّ عَلَى شَتْمِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَوْ شَتْمِ الْمَلَائِكَةِ
صَلَوَاتُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، وَلَا مُقَدِّمَةٌ يُحْمَلُ عَلَيْهَا
كَلَامُهُ، بَلِ الْقَرِينَةُ تَدُلُّ على أن مراده الناس غير هؤلا.
لِأَجْلِ قَوْلِ الْآخَرِ لَهُ صَلِّ عَلَى النَّبِيِّ، فَحُمِلَ قَوْلُهُ
وَسَبُّهُ لِمَنْ يُصَلِّي عَلَيْهِ الْآنَ لِأَجْلِ أَمْرِ الْآخَرِ لَهُ
بِهَذَا عِنْدَ غَضَبِهِ هَذَا مَعْنَى قَوْلِ سُحْنُونٍ وَهُوَ مُطَابِقٌ
لِعِلَّةِ صاحبه.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «188» رقم «1» .
(2) أبو اسحق البرقي: ابراهيم بن عبد الرحمن بن عمرة بن أبي الفياض، توفي
سنة خمس واربعين ومائة.
(3) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «5» .
(2/516)
وَذَهَبَ الْحَارِثُ بْنُ «1» مِسْكِينٍ
الْقَاضِي وَغَيْرُهُ: فِي مِثْلِ هَذَا إِلَى الْقَتْلِ.
وَتَوَقَّفَ أَبُو الْحَسَنِ «2» الْقَابِسِيُّ فِي قَتْلِ رَجُلٍ قَالَ:
كُلُّ صَاحِبِ فُنْدُقٍ قَرْنَانُ «3» وَلَوْ كَانَ نَبِيًّا مُرْسَلًا،
فَأَمَرَ بِشَدِّهِ بِالْقُيُودِ، وَالتَّضْيِيقِ عَلَيْهِ حَتَّى
يُسْتَفْهَمَ الْبَيِّنَةُ عَنْ جُمْلَةِ أَلْفَاظِهِ، وَمَا يَدُلُّ عَلَى
مَقْصِدِهِ، هَلْ أَرَادَ أَصْحَابَ الْفَنَادِقِ الْآنَ فَمَعْلُومٌ
أَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ نَبِيٌّ مُرْسَلٌ فَيَكُونُ أَمْرُهُ أَخَفَّ.
قَالَ: وَلَكِنْ ظَاهِرُ لَفْظِهِ الْعُمُومُ لِكُلِّ صَاحِبِ فُنْدُقٍ
مِنَ الْمُتَقَدِّمِينَ وَالْمُتَأَخِّرِينَ، وَقَدْ كَانَ فِيمَنْ
تَقَدَّمَ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ وَالرُّسُلِ مَنِ اكْتَسَبَ الْمَالَ.
قَالَ: «وَدَمُ الْمُسْلِمِ لَا يُقْدَمُ عَلَيْهِ إِلَّا بأمر بيّن، وما
تردّ إليه التأويلات لابد مِنْ إِمْعَانِ «4» النَّظَرِ فِيهِ.» هَذَا
مَعْنَى كَلَامِهِ.
__________
(1) الحارث بن مسكين: قال الحلبي: هذا فقيه مشهور أموي، مولى مروان، مصري،
أخذ عن ابن عينية وابن وهب وابن القاسم وسأل الليث. وعنه أبو داود والنسائي
وجماعة.. ثعة حجة.. عاش نيفا وتسعين سنة قال الخطيب: كان ثبتا في الحديث
فقيها على مذهب مالك. حمله المأمون الى بغداد أيام المحنة لانه لم يجب الى
القول بخلق القرآن، فلم يزل محبوسا الى ان ولى الخلافة المتوكل فأطلقه فحدث
ببغداد ورجع الى مصر وكتب اليه المتوكل بعهده على قضاء مصر.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «76» رقم (2) .
(3) قرنان: نعت سوء للرجل الذي يتغافل عن فجور امرأته وابنته واخته وقرابته
وهو المسمى بالديوث.
(4) وفي نسخة (انعام) .
(2/517)
وَحُكِيَ عَنْ أَبِي «1» مُحَمَّدِ بْنِ
أَبِي زَيْدٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِيمَنْ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ الْعَرَبَ.
وَلَعَنَ اللَّهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلَعَنَ اللَّهُ بَنِي آدَمَ،
وَذَكَرَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدِ الْأَنْبِيَاءَ، وَإِنَّمَا أَرَدْتُ
الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، أَنَّ عَلَيْهِ الْأَدَبَ بِقَدْرِ اجْتِهَادِ
السُّلْطَانِ.
وَكَذَلِكَ أَفْتَى فِيمَنْ قَالَ: لَعَنَ اللَّهُ مَنْ حَرَّمَ
الْمُسْكِرَ، وَقَالَ:
لَمْ أَعْلَمْ مَنْ حَرَّمَهُ.
وَفِيمَنْ لَعَنَ حَدِيثَ «لَا يَبِعْ حَاضِرٌ لِبَادٍ» وَلَعَنَ مَا جَاءَ
بِهِ أَنَّهُ إِنْ كَانَ يُعْذَرُ بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ مَعْرِفَةِ
السُّنَنِ فَعَلَيْهِ الْأَدَبُ الْوَجِيعُ، وَذَلِكَ أَنَّ هَذَا لَمْ
يَقْصِدْ بِظَاهِرِ حَالِهِ سَبَّ اللَّهِ وَلَا سَبَّ رَسُولِهِ
وَإِنَّمَا لَعَنَ مَنْ حَرَّمَهُ مِنَ النَّاسِ عَلَى نَحْوِ فَتْوَى
سُحْنُونٍ «2» وَأَصْحَابِهِ فِي الْمَسْأَلَةِ المتقدمة.
ومثل هذا يجري في كلام سفهاء الناس من قَوْلِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ يَا
ابْنَ أَلْفِ خِنْزِيرٍ ويا ابن مئة كَلْبٍ وَشِبْهِهِ مِنْ هُجْرِ «3»
الْقَوْلِ، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ يَدْخُلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْعَدَدِ مِنْ
آبَائِهِ وَأَجْدَادِهِ جَمَاعَةٌ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ، وَلَعَلَّ بَعْضَ
هَذَا الْعَدَدِ مُنْقَطِعٌ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فينبغي الزجر
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (144) رقم (1) .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (188) رقم (1) .
(3) هجر: فحش.
(2/518)
عنه، وتبيين ما جهل قَائِلُهُ مِنْهُ،
وَشِدَّةُ الْأَدَبِ فِيهِ.
وَلَوْ عُلِمَ أَنَّهُ قَصَدَ سَبَّ مَنْ فِي آبَائِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ
عَلَى عِلْمٍ لَقُتِلَ.
وَقَدْ يَضِيقُ الْقَوْلُ فِي نَحْوِ هَذَا لَوْ قَالَ لِرَجُلٍ
هَاشِمِيٍّ: لَعَنَ اللَّهُ بَنِي هَاشِمٍ، وَقَالَ: أَرَدْتُ
الظَّالِمِينَ مِنْهُمْ، أَوْ قَالَ لِرَجُلٍ مِنْ ذُرِّيَّةِ النَّبِيِّ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْلًا قَبِيحًا فِي آبَائِهِ أَوْ
مِنْ نَسْلِهِ أَوْ وَلَدِهِ عَلَى عِلْمٍ مِنْهُ أَنَّهُ مِنْ ذُرِّيَّةِ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ تَكُنْ قَرِينَةٌ فِي
الْمَسْأَلَتَيْنِ تَقْتَضِي تَخْصِيصَ بَعْضِ آبَائِهِ وَإِخْرَاجَ
النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِمَّنْ سَبَّهُ مِنْهُمْ،
وَقَدْ رَأَيْتُ لِأَبِي مُوسَى عِيسَى بْنِ «1» مَنَاسَ فِيمَنْ قَالَ
لِرَجُلٍ لَعَنَكَ اللَّهُ إِلَى آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
أَنَّهُ إِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ ذَلِكَ قتل.
قال القاضي وفقه الله: وَقَدْ كَانَ اخْتَلَفَ شُيُوخُنَا فِيمَنْ قَالَ
لِشَاهِدٍ شَهِدَ عَلَيْهِ بِشَيْءٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ: تَتَّهِمُنِي؟ فقال
لَهُ الْآخَرُ..
الْأَنْبِيَاءُ يُتَّهَمُونَ فَكَيْفَ أَنْتَ!
فَكَانَ شيخنا أبو إسحق «2» بْنُ جَعْفَرٍ يَرَى قَتْلَهُ لِبَشَاعَةِ
ظَاهِرِ اللَّفْظِ وَكَانَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدِ «3» بْنُ مَنْصُورٍ
يَتَوَقَّفُ عَنِ الْقَتْلِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ عِنْدَهُ أَنْ يَكُونَ
خبرا عمّن اتهمهم من الكفار.
__________
(1) عيسى بن مناس أبو موسى من أصحاب سحنون وهو من أهل قيروان
(2) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (316) رقم (2) .
(3) ابو محمد بن منصور: عبد الله بن محمد بن منصور، ولد سنة ثمان وخمسين
واربعمائة، وتوفي في شعبان سنة ثلاث عشر وخمسمائة. وهو امام محدث مالكي
المذهب
(2/519)
وَأَفْتَى فِيهَا قَاضِي قُرْطُبَةَ أَبُو
عَبْدِ «1» اللَّهِ بْنُ الْحَاجِّ بِنَحْوٍ مِنْ هَذَا وَشَدَّدَ
الْقَاضِي أبو محمد «2» تصفيده وأطال سجنه ثم استحلفه بَعْدُ عَلَى
تَكْذِيبِ مَا شَهِدَ بِهِ عَلَيْهِ إذ دَخَلَ فِي شَهَادَةِ بَعْضِ مِنْ
شَهِدَ عَلَيْهِ وَهَنٌ ثُمَّ أَطْلَقَهُ.
وَشَاهَدْتُ شَيْخَنَا الْقَاضِي أَبَا عَبْدِ «3» اللَّهِ بْنَ عِيسَى
أَيَّامَ قَضَائِهِ أُتِيَ بِرَجُلٍ هَاتَرَ «4» رَجُلًا اسْمُهُ
مُحَمَّدٌ، ثُمَّ قَصَدَ إِلَى كَلْبٍ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ، وَقَالَ لَهُ
قُمْ يَا مُحَمَّدُ فَأَنْكَرَ الرَّجُلُ أَنْ يَكُونَ قَالَ ذَلِكَ،
وَشَهِدَ عَلَيْهِ لَفِيفٌ مِنَ النَّاسِ فَأَمَرَ بِهِ إِلَى السِّجْنِ،
وَتَقَصَّى عَنْ حَالِهِ، وَهَلْ يَصْحَبُ مَنْ يُسْتَرَابُ بِدِينِهِ
فَلَمَّا لَمْ يَجِدْ مَا يُقَوِّي الرِّيبَةَ بِاعْتِقَادِهِ ضَرَبَهُ
بِالسَّوْطِ وَأَطْلَقَهُ.
__________
(1) أبو عبد الله بن الحاج محمد بن أحمد بن خلف بن ابراهيم التجيبي المالكي
العلامة المحدث الشهيد. ولد سنة ثمان وخمسين واربعمائة، وقتل وهو ساجد
بجامع قرطبة، قتله رجل مجنون يقال أنه ضربه بسكين في خاصرته فقتله، ودفنه
في الموضع الذي قتله فيه وكان ذلك يوم الجمعة سادس عشر شهر رمضان سنة تسع
وعشرين وخمسمائة، وهو غير ابن الحاج صاحب المدخل.
(2) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «519» رقم «3» .
(3) أبو عبد الله بن عيسى: بن حسين التيمي، ولد سنة تسع وعشرين واربعمائة
(4) هاتر: قال سفها من القول.
(2/520)
|