الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الْفَصْلُ السَّابِعُ حُكْمُ مَنْ وَصَفَ نَفْسَهُ بِصِفَةٍ من صفات الأنبياء رفعا لشأنه أو استصغارا لشأنهم صلوات الله عليهم
الْوَجْهُ الْخَامِسُ:
أَنْ لَا يَقْصِدَ نَقْصًا وَلَا يَذْكُرَ عَيْبًا وَلَا سَبًّا لَكِنَّهُ يَنْزِعُ «1» بِذِكْرِ بَعْضِ أَوْصَافِهِ، أَوْ يَسْتَشْهِدُ بِبَعْضِ أَحْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْجَائِزَةِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا عَلَى طَرِيقِ ضَرْبِ الْمَثَلِ وَالْحُجَّةِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ عَلَى التَّشَبُّهِ بِهِ، أَوْ عِنْدَ هَضِيمَةٍ «2» نَالَتْهُ، أَوْ غَضَاضَةٍ لَحِقَتْهُ، لَيْسَ عَلَى طَرِيقِ التَّأَسِّي وَطَرِيقِ التَّحْقِيقِ، بَلْ عَلَى مَقْصِدِ التَّرْفِيعِ لِنَفْسِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، أَوْ عَلَى سَبِيلِ التَّمْثِيلِ وَعَدَمِ التَّوْقِيرِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أو قصد الهزل والتندير «3» بقوله:
__________
(1) ينزع: يميل.
(2) هضيمة: نقيصة عظيمه
(3) التندير: مصدر ندر معناه قصد الساقط من القول.

(2/521)


كَقَوْلِ الْقَائِلِ: إِنْ قِيلَ فِي السُّوءِ فَقَدْ قيل في النبي، أو إن كُذِّبْتُ فَقَدْ كُذِّبَ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ إِنْ أَذْنَبْتُ فَقَدْ أَذْنَبُوا. أَوْ أَنَا أَسْلَمُ مِنْ أَلْسِنَةِ النَّاسِ، وَلَمْ يَسْلَمْ مِنْهُمْ أَنْبِيَاءُ اللَّهِ وَرُسُلُهُ، أَوْ قَدْ صَبَرْتُ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ، أَوْ كَصَبْرِ أَيُّوبَ، أَوْ قَدْ صَبَرَ نَبِيُّ الله على عِدَاهُ وَحَلُمَ عَلَى أَكْثَرِ مِمَّا صَبَرْتُ وَكَقَوْلِ المتنبي «1»
أنا في أمة تداركها الل ... هـ غَرِيبٌ كَصَالِحٍ فِي ثَمُودِ
وَنَحْوِهِ مِنْ أَشْعَارِ الْمُتَعَجْرِفِينَ فِي الْقَوْلِ الْمُتَسَاهِلِينَ فِي الْكَلَامِ كَقَوْلِ الْمَعَرِّيِّ «2» :
كَنْتُ مُوسَى وَافَتْهُ بِنْتُ شُعَيْبٍ ... غَيْرَ أَنْ لَيْسَ فِيكُمَا مِنْ فَقِيرِ «3»
عَلَى أَنَّ آخر البيت شديد وداخل في الْإِزْرَاءِ وَالتَّحْقِيرِ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وتفضيل حال غيره عليه.
وكذلك قوله:
__________
(1) المتنبي: ابو الطيب الجعفي الكوفي الشاعر، له من بدائع الشعر وحكمه أشياء عجيبة مشتملة على آداب وغيرها. ولد بالكوفة سنة ثلاث وثلاثمائة ونشأ بالشام والبادية، اتصل بسيف الدولة ثم سار الى عضد الدولة بفارس بعد اتصاله بكافور أمير مصر وعاد الى بغداد فقتل بالقرب من النعمانية في شهر رمضان سنة أربع وخمسين وثلاثمائة.
(2) المعري: أبو العلاء اللغوي الشاعر المشهور، كان متضلعا في فنون الادب، وله من النظم (لزوم ما لا يلزم) وذكر ان له كتابا في الادب اسمه (أيك الغصون) في مئة مجلد، وكان يرى رأي الحكماء في الامتناع عن أكل اللحوم. توفي ليلة الجمعة ثالث شهر ربيع الاول سنة تسع وأربعين واربعمائة بالمعرة.
(3) أي انه شبه ممدوحه وزوجته بموسى عليه السلام وزوجته وهي بنت نبى جهلا منه برفيع شأنهم وبديع مكانهم.

(2/522)


لَوْلَا انْقِطَاعُ الْوَحْيِ بَعْدَ مُحَمَّدٍ ... قُلْنَا مُحَمَّدُ عَنْ أَبِيهِ بَدِيلُ
هُوَ مِثْلُهُ فِي الْفَضْلِ إِلَّا أَنَّهُ ... لَمْ يَأْتِهِ بِرِسَالَةٍ جِبْرِيلُ
فَصَدْرُ الْبَيْتِ الثَّانِي مِنْ هَذَا الْفَصْلِ شَدِيدٌ لِتَشْبِيهِهِ غَيْرَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضْلِهِ بِالنَّبِيِّ، وَالْعَجْزُ مُحْتَمِلٌ لِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ نَقَصَتِ الْمَمْدُوحَ
وَالْآخَرُ اسْتِغْنَاؤُهُ عَنْهَا، وهو أَشَدُّ.
وَنَحْوٌ مِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ «1» :
وَإِذَا مَا رُفِعَتْ رَايَاتُهُ ... صَفَّقَتْ بَيْنَ جَنَاحَيْ جَبْرِينْ
وَقَوْلُ الْآخَرِ مِنْ أَهْلِ الْعَصْرِ «2»
فَرَّ مِنَ الْخُلْدِ وَاسْتَجَارَ بِنَا ... فَصَبَّرَ اللَّهُ قَلْبَ رَضْوَانِ
وَكَقَوْلِ حَسَّانَ «3» الْمِصِيصِيِّ مِنْ شُعَرَاءِ الْأَنْدَلُسِ فِي مُحَمَّدِ
__________
(1) قال الحلبي: لا أعرفه. وقال الخفاجي: هو الاديب زيد بن عبد الرحمن بن معانا الاسيوفي المغربي من شعراء الذخيرة. وهو من شعراء المغرب الشهيرين، وهذا البيت من قصيدة له في مدح ابن حموده أولها:
البرق لايح من أنذرين ... ذرفت عيناك بالدمع المعين
(2) أي من عصر المصنف.. وقال الحلبي: لا أعرفه.
(3) حسان المصيصي: نسبة لمصيصة بلدة بالاندلس، وقال أبو بسام في الذخيرة: هو الوزير الكاتب ابو الوليد حسان ابن المصيصي رفيق الوزير ابن عمار من عظماء الدولة العبادية. وله اشعار بديعة. اكثر قصائده في مديح المعتمد، وله تصانيف جليلة ومعان رائعة كقوله:
اذا المرء لم يزهد وقد صبغت له ... بعصفر الدنيا فليس بزاهد

(2/523)


بْنِ «1» عَبَّادٍ الْمَعْرُوفِ بِالْمُعْتَمِدِ وَوَزِيرِهِ أَبِي بَكْرِ «2» بْنِ زَيْدُونٍ:
كَأَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَبُو بَكْرِ الرّضى ... وَحَسَّانَ حَسَّانٌ وَأَنْتَ مُحَمَّدُ
إِلَى أَمْثَالِ هَذَا.
وَإِنَّمَا أَكْثَرْنَا بِشَاهِدِهَا مَعَ اسْتِثْقَالِنَا حِكَايَتَهَا لِتَعْرِيفِ أَمْثِلَتِهَا، وَلِتَسَاهُلِ كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ فِي وُلُوجِ هَذَا الْبَابِ الضَّنْكِ «3» ، وَاسْتِخْفَافِهِمْ فَادِحَ هَذَا الْعِبْءِ وَقِلَّةِ عِلْمِهِمْ بِعَظِيمِ مَا فِيهِ مِنَ الْوِزْرِ، وَكَلَامِهِمْ مِنْهُ بِمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ. «وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ» «4» لا سيما الشُّعَرَاءُ.. وَأَشَدُّهُمْ فِيهِ تَصْرِيحًا وَلِلِسَانِهِ تَسْرِيحًا ابْنُ هانىء «5» الْأَنْدَلُسِيُّ، وَابْنُ «6» سُلَيْمَانَ الْمَعَرِّيُّ.. بَلْ قَدْ خَرَجَ كَثِيرٌ مِنْ كَلَامِهِمَا إِلَى حَدِّ الِاسْتِخْفَافِ وَالنَّقْصِ وَصَرِيحِ الْكُفْرِ.
وَقَدْ أَجَبْنَا عَنْهُ.. وَغَرَضُنَا الْآنَ الكلام في هذا الفصل الذي
__________
(1) محمد بن عباد: تولى الخلافة بعد ان كان قاضيا، وهو القاسم بن محمد بن ذي الوزارتين الوليد بن اسماعيل، وكان أصلهم من حمص.
(2) أبو بكر بن زيدون: هو ذو الوزارتين والشاعر البليغ، وكان مع ابن عمار فرسي رهان.
(3) الضنك: الضيق.
(4) سورة النور آية 16.
(5) ابن هانيء: الاندلسي ابو القاسم محمد بن هانيء الاندلسي الاشبيلي ولد باشبيلية ونشأ فيها واشتغل بعلوم الادب والعربية ففاق فيها أهل عصره الا أنه كان يميل الى مذهب الفلاسفة. ارتحل الى مصر ثم عاد منها فلما نزل برقة وجد ميتا ولا يعرف من قتله وكان ذلك يوم الاربعاء لسبع بقين من رجب سنة اثنين وسبعين وثلاثمائة.
(6) ابن سليمان: أبو العلاء المعري. وقد تقدمت ترجمته في ج 2 ص «522» رقم «2»

(2/524)


سُقْنَا أَمْثِلَتَهُ.. فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا وَإِنْ لَمْ تَتَضَمَّنْ سَبًّا وَلَا أَضَافَتْ إِلَى الْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ نَقْصًا..- وَلَسْتُ أَعْنِي عَجُزَيْ بَيْتَيِ الْمَعَرِّيِّ «1» - وَلَا قَصَدَ قَائِلُهَا إِزْرَاءً وَغَضًّا، فَمَا وَقَّرَ النُّبُوَّةَ ولا عظّم الرسالة، ولا عزّر حُرْمَةَ الِاصْطِفَاءِ، وَلَا عَزَّزَ حُظْوَةَ الْكَرَامَةِ، حَتَّى شَبَّهَ مَنْ شَبَّهَ فِي كَرَامَةٍ نَالَهَا أَوْ معرّة قصد الانتفاء مِنْهَا، أَوْ ضَرْبِ مَثَلٍ لِتَطْيِيبِ مَجْلِسِهِ، أَوْ إِغْلَاءٍ فِي وَصْفٍ لِتَحْسِينِ كَلَامِهِ بِمَنْ عَظَّمَ اللَّهُ خَطَرَهُ وَشَرَّفَ قَدْرَهُ، وَأَلْزَمَ تَوْقِيرَهُ وَبِرَّهُ، وَنَهَى عَنْ جَهْرِ الْقَوْلِ لَهُ، وَرَفْعِ الصَّوْتِ عنده، فحقّ هذا إن درىء عَنْهُ الْقَتْلُ الْأَدَبُ، وَالسِّجْنُ وَقُوَّةُ تَعْزِيرِهِ بِحَسَبِ شُنْعَةِ مَقَالِهِ، وَمُقْتَضَى قُبْحِ مَا نَطَقَ بِهِ، وَمَأْلُوفِ عَادَتِهِ لِمِثْلِهِ، أَوْ نُدُورِهِ، وَقَرِينَةِ كَلَامِهِ أَوْ نَدَمِهِ عَلَى مَا سَبَقَ مِنْهُ.
- وَلَمْ يَزَلِ الْمُتَقَدِّمُونَ يُنْكِرُونَ مِثْلَ هَذَا مِمَّنْ جَاءَ بِهِ وَقَدْ أَنْكَرَ الرَّشِيدُ «2» عَلَى أَبِي نُوَاسٍ «3» قَوْلَهُ:
فَإِنُ يَكُ بَاقِي سِحْرِ فِرْعَوْنَ فِيكُمُ ... فإن عصا موسى بكفّ خصيب
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «522» رقم «2» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «492» رقم «3» .
(3) أبو نواس: كان والده مولى الجراح بن عبد الله الحكمي والي خراسان، ولد بالبصرة ونشأ بها ثم خرج الى الكوفة ثم صار الى بغداد، توفي سنة خمس وتسعين ومائة ببغداد.

(2/525)


وقال له: يا ابن اللخناء «1» .. أنت المستهزىء بِعَصَا مُوسَى!! ..
وَأَمَرَ بِإِخْرَاجِهِ عَنْ عَسْكَرِهِ مِنْ ليلته وذكر القتيبي «2» :
أَنَّ مِمَّا أُخِذَ عَلَيْهِ أَيْضًا وَكُفِّرَ فِيهِ أَوْ قَارَبَ.. قَوْلُهُ فِي مُحَمَّدٍ «3» الْأَمِينِ، وَتَشْبِيهِهِ إِيَّاهُ بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ قَالَ:
تَنَازَعَ الْأَحْمَدَانِ الشَّبَهَ فَاشْتَبَهَا ... خَلْقًا وَخُلُقًا كما قدّ «4» الشراكان «5»
كما أَنْكَرُوا عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلَهُ:
كَيْفَ لَا يُدْنِيكَ مِنْ أَمَلٍ ... مَنْ رَسُولُ اللَّهِ مِنْ نَفَرِهِ
لأن حقّ رسول الله وموجب تعظيمه وإنافة مَنْزِلَتِهِ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ وَلَا يُضَافُ.
- فَالْحُكْمُ فِي أَمْثَالِ هَذَا مَا بَسَطْنَاهُ فِي طَرِيقِ الْفُتْيَا عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ جَاءَتْ فُتْيَا إِمَامِ مَذْهَبِنَا مَالِكِ «6» بْنِ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَأَصْحَابِهِ.
فَفِي النَّوَادِرِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ «7» أَبِي مَرْيَمَ فِي رَجُلٍ عَيَّرَ رَجُلًا بِالْفَقْرِ فَقَالَ: «تُعَيِّرُونِي بِالْفَقْرِ وَقَدْ رَعَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم الغنم» !
__________
(1) اللخناء: المنتنة، واللحن النتن.
(2) القتيبي: قال الحلبي: وقد تقدمت ترجمته في ج 1 ص «470» رقم «4»
(3) محمد الامين: بن هارون الرشيد بن المهدي بويع بالخلافة سنة ثلاث وتسعين ومائة صبيحة وفاة الرشيد وقتل سنة ثمان وتسعين ومائة وكانت خلافته أربع سنين وثمانية أشهر.
(4) قد: قطع
(5) الشراكان: الشراك سير النعل.
(6) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(7) ابن أبي مريم: الجمحي البصري أبو محمد الحافظ يروي عن الليث وطائفة، وعنه ابن معين وأبو حاتم وجماعة، ثقة أخرج له الائمة السته.

(2/526)


فَقَالَ مَالِكٌ «1» : «قَدْ عَرَّضَ بِذِكْرِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ.
أَرَى أن يؤدب» وقال: (وَلَا يَنْبَغِي لِأَهْلِ الذُّنُوبِ إِذَا عُوتِبُوا أَنْ يقولوا: أَخْطَأَتِ الْأَنْبِيَاءُ قَبْلَنَا) .
وَقَالَ عُمَرُ بْنُ «2» عَبْدِ الْعَزِيزِ لِرَجُلٍ: «انْظُرْ لَنَا كَاتِبًا يَكُونُ أَبُوهُ عربيا» . فقال كاتب له: «كَانَ أَبُو النَّبِيِّ كَافِرًا» . فَقَالَ: «جَعَلْتَ هَذَا مَثَلًا! فَعَزَلَهُ» وَقَالَ: «لَا تَكْتُبْ لِي أَبَدًا»
وَقَدْ كَرِهَ سُحْنُونٌ «3» أَنْ يُصَلَّى عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ التَّعَجُّبِ إِلَّا عَلَى طَرِيقِ الثَّوَابِ وَالِاحْتِسَابِ تَوْقِيرًا لَهُ وَتَعْظِيمًا كَمَا أَمَرَنَا اللَّهُ.
وَسُئِلَ الْقَابِسِيُّ «4» عَنْ رَجُلٍ قَالَ لِرَجُلٍ قَبِيحٍ: كَأَنَّهُ وَجْهُ نَكِيرٍ «5» وَلِرَجُلٍ عَبُوسٍ: كَأَنَّهُ وَجْهُ مَالِكٍ «6» الْغَضْبَانِ فَقَالَ: أَيُّ شَيْءٍ أَرَادَ بِهَذَا؟ ..- وَنَكِيرٌ أَحَدُ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ، وَهُمَا مَلَكَانِ- فَمَا الَّذِي أَرَادَ؟ .. أَرَوْعٌ دَخَلَ عَلَيْهِ حِينَ رَآهُ مِنْ وَجْهِهِ أَمْ عَافَ
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص (274) رقم «2» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «3» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «76» رقم «2» .
(5) نكير: اسم لاحد ملائكه القبر والاخر اسمه منكر.
(6) مالك: وهو خازن النار (ونادوا يا مالك لبقض علينا ربك.)

(2/527)


النَّظَرَ إِلَيْهِ لِدَمَامَةِ خَلْقِهِ؟. فَإِنْ كَانَ هَذَا فهو شديد. لأنه جرى مجرى التحقير والتهوبن، فهو أشد عقوبة.
وليس فيه تَصْرِيحٌ بِالسَّبِّ لِلْمَلَكِ، وَإِنَّمَا السَّبُّ وَاقِعٌ عَلَى الْمُخَاطَبِ وَفِي الْأَدَبِ بِالسَّوْطِ وَالسِّجْنِ نَكَالٌ «1» لِلسُّفَهَاءِ قَالَ: وَأَمَّا ذَاكِرُ مَالِكٍ خَازِنِ النَّارِ فَقَدْ جفا الذي ذكره عند ما أَنْكَرَ «2» حَالَهُ مِنْ عُبُوسِ الْآخَرِ إِلَّا أَنْ يَكُونَ الْمُعَبَّسُ لَهُ يَدٌ فَيَرْهَبُ بِعُبْسَتِهِ فَيُشَبِّهُهُ الْقَائِلُ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ لِهَذَا فِي فِعْلِهِ، وَلُزُومِهِ فِي ظُلْمِهِ صِفَةَ مَالِكٍ الْمَلَكِ الْمُطِيعِ لِرَبِّهِ فِي فِعْلِهِ فَيَقُولُ: كَأَنَّهُ لِلَّهِ يَغْضَبُ غَضَبَ مَالِكٍ فَيَكُونُ أَخَفَّ.
وَمَا كَانَ يَنْبَغِي لَهُ التَّعَرُّضُ لِمِثْلِ هَذَا، وَلَوْ كَانَ أَثْنَى عَلَى الْعَبُوسِ بِعُبْسَتِهِ وَاحْتَجَّ بِصِفَةِ مَالِكٍ كَانَ أَشَدَّ وَيُعَاقَبُ الْمُعَاقَبَةَ الشَّدِيدَةَ، وَلَيْسَ فِي هَذَا ذَمٌّ لِلْمَلَكِ، وَلَوْ قَصَدَ ذَمَّهُ لَقُتِلَ.
وَقَالَ أَبُو «3» الْحَسَنِ أَيْضًا فِي شَابٍّ مَعْرُوفٍ بِالْخَيْرِ قال لرجل شيئا فقال له الرَّجُلُ: اسْكُتْ فَإِنَّكَ أُمِّيٌّ.. فَقَالَ الشَّابُّ أَلَيْسَ
__________
(1) نكال: عبرة.
(2) وفي نسخة (رأى) .
(3) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «76» رقم «2» .

(2/528)


كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمِّيًّا! فَشُنِّعَ عَلَيْهِ مَقَالُهُ وَكَفَّرَهُ النَّاسُ، وَأَشْفَقَ الشَّابُّ مِمَّا قَالَ. وَأَظْهَرَ النَّدَمَ عَلَيْهِ فَقَالَ أَبُو الحسن: أما إطلاق الكفر عليه فخطأ لكنه مخطىء فِي اسْتِشْهَادِهِ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَوْنُ النَّبِيِّ أُمِّيًّا آيَةٌ لَهُ، وَكَوْنُ هَذَا أُمِّيًّا نَقِيصَةٌ فِيهِ وَجَهَالَةٌ، وَمِنْ جَهَالَتِهِ احْتِجَاجُهُ بِصِفَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَكِنَّهُ إِذَا اسْتَغْفَرَ وَتَابَ وَاعْتَرَفَ وَلَجَأَ إِلَى اللَّهِ فَيُتْرَكُ.. لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يَنْتَهِي إِلَى حَدِّ الْقَتْلِ.
وَمَا طَرِيقُهُ الْأَدَبُ فَطَوْعُ فَاعِلِهِ بِالنَّدَمِ عَلَيْهِ يُوجِبُ الْكَفَّ عَنْهُ.
وَنَزَلَتْ أَيْضًا مَسْأَلَةٌ اسْتَفْتَى فِيهَا بَعْضُ قُضَاةِ الْأَنْدَلُسِ شَيْخَنَا الْقَاضِيَ أَبَا مُحَمَّدِ «1» بْنَ مَنْصُورٍ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي رَجُلٍ تَنَقَّصَهُ آخَرُ بِشَيْءٍ فَقَالَ لَهُ: إِنَّمَا تُرِيدُ نَقْصِي بِقَوْلِكَ، وَأَنَا بَشَرٌ وَجَمِيعُ الْبَشَرِ يَلْحَقُهُمُ النَّقْصُ حَتَّى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَفْتَاهُ بِإِطَالَةِ سِجْنِهِ وَإِيجَاعِ أَدَبِهِ، إِذْ لَمْ يَقْصِدِ السَّبَّ. وَكَانَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الأندلس أفتى بقتله.
__________
(1) هو شيخ القضاة في عصره اشتهر عنه البراعة في القضاء والدقة في العلم والزهد في الدنيا.

(2/529)