الشفا
بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد الفصل التاسع ذكر الْحَالَاتِ الَّتِي
تَجُوزُ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلّم على طريق التّعليم
الْوَجْهُ السَّابِعُ:
أَنْ يَذْكُرَ مَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَوْ يُخْتَلَفُ فِي جَوَازِهِ عَلَيْهِ، وَمَا يَطْرَأُ مِنَ
الْأُمُورِ الْبَشَرِيَّةِ بِهِ وَيُمْكِنُ إِضَافَتُهَا إِلَيْهِ أَوْ
يَذْكُرَ مَا امْتُحِنَ بِهِ وَصَبَرَ فِي ذَاتِ اللَّهِ عَلَى شِدَّتِهِ
مِنْ مُقَاسَاةِ أَعْدَائِهِ وَأَذَاهُمْ لَهُ وَمَعْرِفَةِ ابْتِدَاءِ
حَالِهِ وَسِيرَتِهِ، وَمَا لَقِيَهُ مِنْ بؤس زمنه ومر عليه من معاناة
عيشته.. كُلُّ ذَلِكَ عَلَى طَرِيقِ الرِّوَايَةِ، وَمُذَاكَرَةِ
الْعِلْمِ، وَمَعْرِفَةِ مَا صَحَّتْ مِنْهُ الْعِصْمَةُ لِلْأَنْبِيَاءِ،
وَمَا يَجُوزُ عَلَيْهِمْ.
فَهَذَا فَنٌّ خَارِجٌ عَنْ هَذِهِ الْفُنُونِ السِّتَّةِ.. إِذْ لَيْسَ
فِيهِ غَمْصٌ «1» ، وَلَا نَقْصٌ، وَلَا إِزْرَاءٌ، وَلَا اسْتِخْفَافٌ لَا
فِي ظَاهِرِ اللَّفْظِ. وَلَا فِي مَقْصِدِ اللَّافِظِ.. لَكِنْ يَجِبُ
أَنْ يَكُونَ الْكَلَامُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ العلم
__________
(1) غمص: عيب.
(2/536)
وَفُهَمَاءِ طَلَبَةِ الدِّينِ مِمَّنْ
يَفْهَمُ مَقَاصِدَهُ، وَيُحَقِّقُونَ فَوَائِدَهُ، وَيُجَنِّبُ ذَلِكَ
مَنْ عَسَاهُ لَا يَفْقَهُ أَوْ يُخْشَى بِهِ فِتْنَتُهُ.
- فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ السّلف تعليم النساء سورة يُوسُفَ لِمَا انْطَوَتْ
عَلَيْهِ مِنْ تِلْكَ الْقَصَصِ لِضَعْفِ مَعْرِفَتِهِنَّ وَنَقْصِ
عُقُولِهِنَّ وَإِدْرَاكِهِنَّ.
فَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُخْبِرًا عَنْ نَفْسِهِ
باستئجاره «1» لِرِعَايَةِ الْغَنَمِ فِي ابْتِدَاءِ حَالِهِ وَقَالَ «2» :
«مَا مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا وَقَدْ رَعَى الْغَنَمَ»
وَأَخْبَرْنَا اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ عَنْ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ،
وَهَذَا لَا غَضَاضَةَ فِيهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً لِمَنْ ذَكَرَهُ عَلَى
وَجْهِهِ.
- بِخِلَافِ مَنْ قَصَدَ بِهِ الْغَضَاضَةَ وَالتَّحْقِيرَ، بَلْ كَانَتْ
عَادَةُ جَمِيعِ الْعَرَبِ.
نَعَمْ فِي ذَلِكَ لِلْأَنْبِيَاءِ حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ وَتَدْرِيجٌ لِلَّهِ
تَعَالَى لَهُمْ إِلَى كَرَامَتِهِ، وَتَدْرِيبٌ بِرِعَايَتِهَا
لِسِيَاسَةِ أُمَمِهِمْ مِنْ خَلِيقَتِهِ بِمَا سَبَقَ لَهُمْ مِنَ
الْكَرَامَةِ فِي الْأَزَلِ وَمُتَقَدِّمِ الْعِلْمِ.
وَكَذَلِكَ قَدْ ذَكَرَ اللَّهُ يُتْمَهُ، وَعَيْلَتَهُ عَلَى طَرِيقِ
الْمِنَّةِ عَلَيْهِ وَالتَّعْرِيفِ بِكَرَامَتِهِ لَهُ.
فَذِكْرُ الذَّاكِرِ لَهَا عَلَى وَجْهِ تَعْرِيفِ حَالِهِ، وَالْخَبَرِ
عَنْ مبتدئه
__________
(1) أي بايجاره نفسه لقريش في صغره.
(2) كما رواه الشيخان عن جابر، والبخاري عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه.
(2/537)
وَالتَّعَجُّبِ مِنْ مِنَحِ اللَّهِ
قِبَلَهُ. وَعَظِيمِ مِنَّتِهِ عِنْدَهُ لَيْسَ فِيهِ غَضَاضَةٌ، بَلْ
فِيهِ دَلَالَةٌ عَلَى نُبُوَّتِهِ وَصِحَّةِ دَعْوَتِهِ، إِذْ أَظْهَرَهُ
اللَّهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذَا عَلَى صَنَادِيدِ الْعَرَبِ وَمَنْ
نَاوَأَهُ «1» مِنْ أَشْرَافِهِمْ شَيْئًا فَشَيْئًا وَنَمَى أَمْرُهُ
حَتَّى قَهَرَهُمْ، وَتَمَكَّنَ مِنْ مِلْكِ مَقَالِيدِهِمْ،
وَاسْتِبَاحَةِ مَمَالِكِ كَثِيرٍ مِنَ الْأُمَمِ غَيْرِهِمْ بِإِظْهَارِ
اللَّهِ تَعَالَى لَهُ وَتَأْيِيدِهِ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ
وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَإِمْدَادِهِ بِالْمَلَائِكَةِ
الْمُسَوِّمِينَ «2» .
وَلَوْ كَانَ ابْنَ مَلِكٍ أَوْ ذَا أَشْيَاعٍ مُتَقَدِّمِينَ لِحَسِبَ
كَثِيرٌ مِنَ الْجُهَّالِ أَنَّ ذَلِكَ مُوجِبُ ظُهُورِهِ، وَمُقْتَضَى
عُلُوِّهِ.
وَلِهَذَا قَالَ هِرَقْلُ «3» حِينَ سَأَلَ أَبَا سُفْيَانَ «4» عَنْهُ:
«هَلْ فِي آبَائِهِ مِنْ مَلِكٍ» ؟! ثُمَّ قَالَ: «وَلَوْ كَانَ فِي
آبَائِهِ مَلِكٌ لقلنا: رجل يطلب ملك أبيه» ، وإذا «اليتيم» مِنْ صِفَتِهِ
وَإِحْدَى عَلَامَاتِهِ فِي الْكُتُبِ الْمُتَقَدِّمَةِ، وَأَخْبَارِ
الْأُمَمِ السَّالِفَةِ. وَكَذَا وَقَعَ ذِكْرُهُ فِي كتاب
__________
(1) ناواه: مفاعله من النوء وهو النهوض فأصله الهمز وابدل أي عاداه.
(2) مسومين: بكسر الواو أي معلمين بسيما خاصة.
(3) هرقل: عظيم الروم وكان في حمص من بلاد الشام عند ما كانت تحت الروم.
وقيل كان بابليا.
(4) أبو سفيان: ويكنى بأبي حنظلة، واسمه صخر بن حرب بن أمية. ولد قبل الفيل
بعشر سنين وأسلم ليلة الفتح وشهد الطائف وحنينا، وفقئت احدى عينيه يوم
اليرموك وتوفي بالمدينة سنة احدى او اربع وثلاثين وهو ابن ثمان وثمانين سنة
وصلّى عليه عثمان رضي الله عنهما.
(2/538)
أَرْمِيَاءَ «1» ، وَبِهَذَا وَصَفَهُ
ابْنُ «2» ذِي يَزَنٍ لِعَبْدِ «3» الْمُطَّلِبِ..
وَبَحِيرَا «4» لِأَبِي «5» طَالِبٍ.
وَكَذَلِكَ إِذَا وُصِفَ بأنه أمي كما وصفه الله فَهِيَ مِدْحَةٌ لَهُ
وَفَضِيلَةٌ ثَابِتَةٌ فِيهِ، وَقَاعِدَةُ معجزته.. إذ معجزته العظمى من
الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ إِنَّمَا هِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِطَرِيقِ الْمَعَارِفِ
وَالْعُلُومِ مَعَ مَا مُنِحَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفُضِّلَ
بِهِ مِنْ ذَلِكَ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْقِسْمِ الْأَوَّلِ وَوُجُودُ
مِثْلِ ذَلِكَ مِنْ رَجُلٍ لَمْ يَقْرَأْ وَلَمْ يَكْتُبْ وَلَمْ يُدَارِسْ
وَلَا لُقِّنَ.. مُقْتَضَى الْعَجَبِ وَمُنْتَهَى الْعِبَرِ، وَمُعْجِزَةُ
الْبَشَرِ. وَلَيْسَ فِي ذَلِكَ نَقِيصَةٌ، إِذِ الْمَطْلُوبُ مِنَ
الْكِتَابَةِ وَالْقِرَاءَةِ الْمَعْرِفَةُ، وَإِنَّمَا هِيَ آلَةٌ لَهَا،
وَوَاسِطَةٌ مُوَصِّلَةٌ إِلَيْهَا غَيْرُ مُرَادَةٍ فِي نَفْسِهَا،..
فَإِذَا حَصَلَتِ الثَّمَرَةُ وَالْمَطْلُوبُ اسْتُغْنِيَ عَنِ
الْوَاسِطَةِ وَالسَّبَبِ.
وَالْأُمِّيَّةُ فِي غَيْرِهِ نَقِيصَةٌ لِأَنَّهَا سَبَبُ الْجَهَالَةِ،
وَعُنْوَانُ الْغَبَاوَةِ.
فَسُبْحَانَ مَنْ بَايَنَ «6» أَمْرَهُ مِنْ أَمْرِ غَيْرِهِ، وَجَعَلَ
شَرَفَهُ فِيمَا فيه
__________
(1) ارميا: هو ابن حلقيا وهو من انبياء بني اسرائيل.
(2) ابن ذي يزن: واسمه سيف وهو ملك اليمن استولت الحبشة على بلاده فاستعان
بالروم في اخراجهم.
(3) عبد المطلب: جد النبي صلّى الله عليه وسلم.
(4) بحيرا: هو الراهب الذي أبصر النبي صلّى الله عليه وسلم في بلاد الشام
عند بصرى، وقد عد من الصحابه عند بعض الاعلام.
(5) أبو طالب: عم النبي صلّى الله عليه وسلم. وقد آزره ونصره على قومه
وتحمل معه الايذاء عند ما عزل المسلمون في الشعب وقوطعوا.
(6) باين: غاير.
(2/539)
محطة سواه، وحياته فِيمَا فِيهِ هَلَاكُ
مَنْ عَدَاهُ.. هَذَا شَقُّ قَلْبِهِ، وَإِخْرَاجُ حُشْوَتِهِ «1» كَانَ
تَمَامَ حَيَاتِهِ، وَغَايَةَ قُوَّةِ نَفْسِهِ، وَثَبَاتَ رَوْعِهِ،
وَهُوَ فِيمَنْ سِوَاهُ مُنْتَهَى هَلَاكِهِ، وَحَتْمُ مَوْتِهِ
وَفَنَائِهِ، وَهَلُمَّ جَرَّا إِلَى سَائِرِ مَا رُوِيَ مِنْ أَخْبَارِهِ
وَسِيَرِهِ، وَتَقَلُّلِهِ مِنَ الدُّنْيَا، وَمِنَ الْمَلْبَسِ
وَالْمَطْعَمِ وَالْمَرْكَبِ.. وَتَوَاضُعِهِ وَمِهْنَتِهِ نَفْسَهُ فِي
أُمُورِهِ وَخِدْمَةِ بَيْتِهِ زُهْدًا وَرَغْبَةً عَنِ الدُّنْيَا،
وَتَسْوِيَةً بَيْنَ حَقِيرِهَا وَخَطِيرِهَا لِسُرْعَةِ فَنَاءِ
أُمُورِهَا، وَتَقَلُّبِ أَحْوَالِهَا.. كُلُّ هَذَا مِنْ فَضَائِلِهِ
وَمَآثِرِهِ وَشَرَفِهِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ.. فَمَنْ أَوْرَدَ شَيْئًا
مِنْهَا مَوْرِدَهُ، وَقَصَدَ بِهَا مَقْصِدَهُ كَانَ حَسَنًا، وَمَنْ
أَوْرَدَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، وَعُلِمَ مِنْهُ بِذَلِكَ سُوءُ
قَصْدِهِ، لَحِقَ بِالْفُصُولِ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا،..
وَكَذَلِكَ مَا وَرَدَ مِنْ أَخْبَارِهِ وَأَخْبَارِ سَائِرِ
الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ فِي الْأَحَادِيثِ مِمَّا فِي
ظَاهِرِهِ إِشْكَالٌ يَقْتَضِي أُمُورًا لَا تَلِيقُ بِهِمْ بِحَالٍ
وَتَحْتَاجُ إِلَى تَأْوِيلٍ، وَتَرَدُّدِ احْتِمَالٍ، فَلَا يَجِبُ أَنْ
يَتَحَدَّثَ مِنْهَا إِلَّا بِالصَّحِيحِ وَلَا يُرْوَى مِنْهَا إِلَّا
الْمَعْلُومُ الثَّابِتُ.. وَرَحِمَ اللَّهُ مَالِكًا «2» فَلَقَدْ كَرِهَ
التحدث بمثل ذلك من الأحاديث الموهمة
__________
(1) حشوته: ما حشي به صدره، والمراد هنا العلقة السوداء كما فى البخاري وهي
حظ الشيطان.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «341» رقم «7» .
(2/540)
للتشبيه «1» والمشكلة المعنى «2» وقال: ما
يدعو الناس إِلَى التَّحَدُّثِ بِمِثْلِ هَذَا؟ فَقِيلَ لَهُ: إِنَّ ابْنَ
«3» عَجْلَانَ يُحَدِّثُ بِهَا.. فَقَالَ: لَمْ يَكُنْ من الفقهاء، وليست
النَّاسَ وَافَقُوهُ عَلَى تَرْكِ الْحَدِيثِ بِهَا وَسَاعَدُوهُ عَلَى
طَيِّهَا فَأَكْثَرُهَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ.
وَقَدْ حُكِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ السَّلَفِ.. بَلْ عَنْهُمْ عَلَى
الْجُمْلَةِ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ
تَحْتَهُ عَمَلٌ.
وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْرَدَهَا عَلَى قَوْمٍ
عَرَبٍ يَفْهَمُونَ كَلَامَ الْعَرَبِ عَلَى وَجْهِهِ. وَتَصَرُّفَاتِهِمْ
فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ، واستعارته وبليغه وإيجازه
__________
(1) المحتاجة الى التأويل المقتضية للتنزيه.
(2) المبنية على استعارة في المبنى كحديث البخاري وغيره «ينزل ربنا تبارك
وتعالى كل ليلة الى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الاخير فيقول: هل من
داع فأستجيب له؟ هل من سائل فأعطيه؟ هل من مستغفر فاغفر له..» فان نزوله
سبحانه وتعالى كناية عن تنزلات رحمته وموجبات اجابة دعوته وأسباب مغفرته.
أو يقال: انه سبحانه وتعالى له نزول يليق بشأنه مع اعتقاد التنزيه له عن
انتقال وتغير ووجود مكان وزمان في ذته. وكذا الحكم في الايات المتشابهات
وسائر الاحاديث المشكلات فللسلف والخلف مذهبان.. فالمتقدمون على التسليم
والتوكيل. ومنهم أبو حنيفة ومالك وأحمد ابن حنبل. والمتأخرون على التاويل.
والكل قائلون بالتنزيه ومانعون عن التشبيه.. وبالغ الامام مالك حتى منع
السؤال عن ذلك كما صرح بقوله: «الاستواء معلوم والكيف مجهول والايمان به
واجب والسؤال عنه بدعة» .
(3) ابن عجلان: كان شيخ مالك، ومن أعلام التابعين بالمدينة وروى عن أبيه
وأنس بن مالك وغيرهما.. وعنه شعبه ويحيى بن سعيد القطان ونحوهما.. وثقة
احمد وابن معين. وقال غيرهما. سيء الحفظ روى انه حملت به أمه ثلاثة أعوام
فشق بطنها لما ماتت فاخرج وقد نبتت أسنانه.
(2/541)
فَلَمْ تَكُنْ فِي حَقِّهِمْ مُشْكِلَةً..
ثُمَّ جَاءَ مَنْ غَلَبَتْ عَلَيْهِ الْعُجْمَةُ وَدَاخَلَتْهُ
الْأُمِّيَّةُ، فَلَا يَكَادُ يَفْهَمُ مِنْ مَقَاصِدِ الْعَرَبِ إِلَّا
نَصَّهَا وصريحها. ولا يتحقق إشارتها إِلَى غَرَضِ الْإِيجَازِ وَوَحْيِهَا
وَتَبْلِيغِهَا وَتَلْوِيحِهَا..
فَتَفَرَّقُوا في تأويلها أو حملها عَلَى ظَاهِرِهَا شَذَرَ «1» مَذَرَ..
فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ.
فَأَمَّا مَا لَا يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ فَوَاجِبٌ أَلَّا
يُذْكَرَ مِنْهَا شَيْءٌ فِي حَقِّ اللَّهِ، وَلَا فِي حَقِّ
أَنْبِيَائِهِ، وَلَا يُتَحَدَّثُ بِهَا، وَلَا يُتَكَلَّفُ الْكَلَامُ
عَلَى مَعَانِيهَا، وَالصَّوَابُ طَرْحُهَا، وَتَرْكُ الشُّغْلِ بِهَا،
إِلَّا أَنْ تُذْكَرَ عَلَى وَجْهِ التَّعْرِيفِ بِأَنَّهَا ضَعِيفَةُ
الْمَقَادِ، وَاهِيَةُ الْإِسْنَادِ.
وَقَدْ أَنْكَرَ الْأَشْيَاخُ عَلَى أَبِي بَكْرِ بْنِ «2» فُورَكٍ
تَكَلُّفَهُ فِي مُشْكِلِهِ الْكَلَامَ عَلَى أَحَادِيثَ ضَعِيفَةٍ
مَوْضُوعَةٍ «3» لَا أَصْلَ لَهَا، أَوْ مَنْقُولَةٍ عَنْ أَهْلِ
الْكِتَابِ الَّذِينَ يُلَبِّسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ.. كَانَ
يَكْفِيهِ طرحها ويغنيه عن الكلام عليها التنبيه على ضعفها.. إذ المقصود
__________
(1) شذر مذر: اسمان جعلا اسما واحدا فبنيا على الفتح كخمسة عشر. ومحلهما
النصب على الحال أي تفرقوا متشتتين.
(2) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «119» رقم «4» .
(3) كان الاولى به أن يقول: أو موضوعة.. لان الضعيف خلاف الموضوع يعمل به
في فضائل الاعمال.
(2/542)
بِالْكَلَامِ عَلَى مُشْكِلِ مَا فِيهَا
إِزَالَةُ اللَّبْسِ بها، وَاجْتِثَاثُهَا «1» مِنْ أَصْلِهَا وَطَرْحُهَا
أَكْشَفُ لِلَّبْسِ وَأَشْفَى للنفس.
__________
(1) اجتثاثها: اقتلاعها.
(2/543)
|