الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الْفَصْلُ الْعَاشِرُ الْأَدَبُ اللَّازِمُ عِنْدَ ذِكْرِ أَخْبَارِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وَمِمَّا يَجِبُ عَلَى الْمُتَكَلِّمِ فِيمَا يَجُوزُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا لَا يَجُوزُ، وَالذَّاكِرُ مِنْ حَالَاتِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ فِي الْفَصْلِ قَبْلَ هَذَا عَلَى طَرِيقِ الْمُذَاكَرَةِ وَالتَّعْلِيمِ أَنْ يَلْتَزِمَ فِي كَلَامِهِ عِنْدَ ذِكْرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَذِكْرِ تِلْكَ الْأَحْوَالِ الْوَاجِبِ مِنْ تَوْقِيرِهِ وَتَعْظِيمِهِ، وَيُرَاقِبُ حَالَ لِسَانِهِ وَلَا يُهْمِلُهُ وَتَظْهَرُ عَلَيْهِ عَلَامَاتُ الْأَدَبِ عِنْدَ ذِكْرِهِ، فَإِذَا ذَكَرَ مَا قَاسَاهُ مِنَ الشَّدَائِدِ ظَهَرَ عَلَيْهِ الْإِشْفَاقُ وَالِارْتِمَاضُ «1» وَالْغَيْظُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَمَوَدَّةُ الْفِدَاءِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَوْ قَدَرَ عَلَيْهِ، وَالنُّصْرَةُ لَهُ لَوْ أَمْكَنَتْهُ.. وَإِذَا أَخَذَ فِي أَبْوَابِ الْعِصْمَةِ، وَتَكَلَّمَ عَلَى مَجَارِي أَعْمَالِهِ وَأَقْوَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَحَرَّى أَحْسَنَ اللَّفْظِ، وَأَدَبَ الْعِبَارَةِ مَا أَمْكَنَهُ.. وَاجْتَنَبَ بَشِيعَ ذَلِكَ..
وَهَجَرَ مِنَ الْعِبَارَةِ مَا يَقْبُحُ، كَلَفْظَةِ الْجَهْلِ وَالْكَذِبِ والمعصية..
__________
(1) الارتماض: القلق والشدة. وأصله من الاحتراق ومنه الرمضاء.

(2/544)


فَإِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأَقْوَالِ قَالَ: هَلْ يَجُوزُ عليه الخلف في القول، والإحبار بِخِلَافِ مَا وَقَعَ سَهْوًا أَوْ غَلَطًا؟ .. وَنَحْوَهُ مِنَ الْعِبَارَةِ.. وَيَتَجَنَّبُ لَفْظَةَ الْكَذِبِ جُمْلَةً وَاحِدَةً.. وَإِذَا تَكَلَّمَ عَلَى الْعِلْمِ قَالَ: هَلْ يَجُوزُ ألا يعلم إلا ما علّم؟ وهل يمكن ألا يَكُونَ عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنْ بَعْضِ الْأَشْيَاءِ حَتَّى يُوحَى إِلَيْهِ..؟ وَلَا يَقُولَ: بِجْهَلٍ لِقُبْحِ اللَّفْظِ وَبَشَاعَتِهِ.. وَإِذَا تَكَلَّمَ فِي الْأَفْعَالِ قَالَ: هَلْ يَجُوزُ مِنْهُ الْمُخَالِفَةُ فِي بَعْضِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي وَمُوَاقَعَةُ الصَّغَائِرِ؟ .. فَهُوَ أَوْلَى وَآدَبُ مِنْ قَوْلِهِ:
هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَعْصِيَ، أَوْ يُذْنِبَ، أَوْ يَفْعَلَ كَذَا وَكَذَا مِنْ أَنْوَاعِ الْمَعَاصِي.
فَهَذَا مِنْ حَقِّ تَوْقِيرِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا يَجِبُ لَهُ مِنْ تَعْزِيزٍ وَإِعْظَامٍ وَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ لَمْ يَتَحَفَّظْ مِنْ هَذَا فَقُبِّحَ مِنْهُ، وَلَمْ أَسْتَصْوِبْ عِبَارَتَهُ فِيهِ، وَوَجَدْتُ بَعْضَ الْجَائِرِينَ قَوَّلَهُ- لِأَجْلِ تَرْكِ تَحَفُّظِهِ فِي الْعِبَارَةِ- مَا لَمْ يَقُلْهُ، وَشَنَّعَ عَلَيْهِ بِمَا يَأْبَاهُ وَيَكْفُرُ قَائِلُهُ.
وَإِذَا كَانَ مِثْلُ هَذَا بَيْنَ النَّاسِ مُسْتَعْمَلًا فِي آدَابِهِمْ وَحُسْنِ مُعَاشَرَتِهِمْ وَخِطَابِهِمْ. فَاسْتِعْمَالُهُ فِي حَقِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْجَبُ.. وَالْتِزَامُهُ آكَدُ..
فَجَوْدَةُ الْعِبَارَةِ تُقَبِّحُ الشيء أو تحسّنه.. وتحريرها وتهذيبها يعظّم الأمر أو يهوّنه.

(2/545)


وَلِهَذَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «1» : «إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا «2» » فَأَمَّا مَا أَوْرَدَهُ عَلَى جِهَةِ النَّفْيِ عَنْهُ وَالتَّنْزِيهِ. فَلَا حَرَجَ فِي تَسْرِيحِ «3» الْعِبَارَةِ، وَتَصْرِيحِهَا فِيهِ كَقَوْلِهِ: لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ الْكَذِبُ جُمْلَةً.. وَلَا إِتْيَانُ الْكَبَائِرِ بِوَجْهٍ وَلَا الْجَوْرُ فِي الْحُكْمِ عَلَى حَالٍ.. وَلَكِنْ مع هذا يجب ظهور توقيره وتعظيمه، وتعزيزه عِنْدَ ذِكْرِهِ مُجَرَّدًا فَكَيْفَ عِنْدَ ذِكْرِ مِثْلِ هَذَا
وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ تَظْهَرُ عَلَيْهِمْ حَالَاتٌ شَدِيدَةٌ عِنْدَ مُجَرَّدِ ذِكْرِهِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ فِي القسم الثاني.
وكان بَعْضُهُمْ يَلْتَزِمُ مِثْلَ ذَلِكَ عِنْدَ تِلَاوَةِ آيٍ مِنَ الْقُرْآنِ حَكَى اللَّهُ تَعَالَى فِيهَا مَقَالَ عِدَاهُ، وَمَنْ كَفَرَ بِآيَاتِهِ وَافْتَرَى عَلَيْهِ الْكَذِبَ.
فَكَانَ يَخْفِضُ بِهَا صَوْتَهُ إِعْظَامًا لِرَبِّهِ وَإِجْلَالًا لَهُ، وَإِشْفَاقًا مِنَ التَّشَبُّهِ بِمَنْ كَفَرَ «4» بِهِ.
***
__________
(1) رواه مالك، وأحمد، والبخاري، وأبو داود، والترمذي، عن ابن عمر.
(2) والحديث يحتمل معنيين الذم أو المدح. وقد أورده الامام مالك تحت باب ما يكره من الكلام، ولعله اختار المعنى الاول والله أعلم.
(3) تسريح: ارسال.
(4) فعن ابراهيم النخعي انه كان اذا قرأ قوله تعالى «وقالت اليهود يد الله مغلولة» يخفض بها صوته أي بمقولهم وأمثال ذلك من كفرياتهم.

(2/546)