الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الْفَصْلُ السَّادِسُ حُكْمُ ادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ الْكَذِبِ والبهتان عَلَى اللَّهِ
هَذَا حُكْمُ مَنْ صَرَّحَ بِسَبِّهِ وَإِضَافَةِ مَا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ.
فَأَمَّا مُفْتَرِي الْكَذِبِ عَلَيْهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِادِّعَاءِ الْإِلَهِيَّةِ أَوِ الرِّسَالَةِ، أَوِ النَّافِي أَنْ يَكُونَ اللَّهُ خَالِقُهُ، أَوْ رَبُّهُ.. أَوْ قَالَ: «لَيْسَ لِي رَبٌّ» ، أَوِ الْمُتَكَلِّمُ بِمَا لَا يُعْقَلُ مِنْ ذَلِكَ فِي سُكْرِهِ، أَوْ غَمْرَةِ جُنُونِهِ، فَلَا خِلَافَ فِي كُفْرِ قَائِلِ ذَلِكَ وَمُدَّعِيهِ مَعَ سلامة عقله كما قدمناه. لَكِنَّهُ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ عَلَى الْمَشْهُورِ، وَتَنْفَعُهُ إِنَابَتُهُ، وتنجيه من القتل فيأته، لَكِنَّهُ لَا يَسْلَمُ مِنْ عَظِيمِ النَّكَالِ، وَلَا يُرَفَّهُ «1» عَنْ شَدِيدِ الْعِقَابِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ زَجْرًا لِمِثْلِهِ عَنْ قَوْلِهِ، وَلَهُ عَنِ الْعَوْدَةِ لِكُفْرِهِ أو جهله إِلَّا مَنْ تَكَرَّرَ مِنْهُ ذَلِكَ وَعُرِفَ اسْتِهَانَتُهُ بما أتى به، فهو دليل على
__________
(1) يرفه: ينفس عنه ويخفف.

(2/630)


سُوءِ طَوِيَّتِهِ، وَكَذِبِ تَوْبَتِهِ،، وَصَارَ كَالزِّنْدِيقِ الَّذِي لَا نَأْمَنُ بَاطِنَهُ، وَلَا نَقْبَلُ رُجُوعَهُ.. وَحُكْمُ السَّكْرَانِ فِي ذَلِكَ حُكْمُ الصَّاحِي.. وَأَمَّا الْمَجْنُونُ وَالْمَعْتُوهُ فَمَا عُلِمَ أَنَّهُ قَالَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ غَمْرَتِهِ، وَذَهَابِ مَيْزِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَلَا نَظَرَ فِيهِ، وَمَا فَعَلَهُ مِنْ ذَلِكَ فِي حَالِ مَيْزِهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهُ عَقْلُهُ وَسَقَطَ تَكْلِيفُهُ أُدِّبَ عَلَى ذَلِكَ لِيَنْزَجِرَ عَنْهُ كَمَا يُؤَدَّبُ عَلَى قَبَائِحِ الْأَفْعَالِ وَيُوَالَى أَدَبُهُ على ذلك حتى ينكفّ عَنْهُ، كَمَا تُؤَدَّبُ الْبَهِيمَةُ عَلَى سُوءِ الْخُلُقِ حَتَّى تُرَاضَ.
- وَقَدْ أَحْرَقَ عَلِيُّ «1» بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنِ ادَّعَى «2» لَهُ الْإِلَهِيَّةَ.
- وَقَدْ قَتَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ «3» بْنُ مَرْوَانَ الْحَارِثَ «4» الْمُتَنَبِّي وَصَلَبَهُ وَفَعَلَ ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ من الخلفاء والملوك بأشباههم وأجمع علماء
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «54» رقم «4» .
(2) وهو كما في تاريخ الصفدي نصير مولى علي رضي الله عنه لما قال له أنت إله فحرقه بالنار فقال وهو يحترق بالنار: لو لم تكن إلها لم تعذب بالنار. واليه تنسب النصيرية.
(3) عبد الملك بن مروان: أحد ملوك بني مروان توفي سنة 86 هـ وولد سنة 26 هـ ولكنه في هذه المسائل لا يستدل بأقواله وأفعاله فلعل المصنف استأنس به لأنه في عصر السلف ولم ينكروا عليه ذلك.
(4) الحارث المتنبي: ادعى النبوة وهو الحارث بن سعيد الكذاب.

(2/631)


وَقْتِهِمْ عَلَى صَوَابِ فِعْلِهِمْ.. وَالْمُخَالِفُ فِي ذَلِكَ مِنْ كُفْرِهِمْ كَافِرٌ.
وَأَجْمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ أَيَّامَ الْمُقْتَدِرِ «1» مِنَ الْمَالِكِيَّةِ، وَقَاضِي قُضَاتِهَا أَبُو عُمَرَ «2» الْمَالِكِيُّ عَلَى قَتْلِ الْحَلَّاجِ «3» وَصَلْبِهِ لِدَعْوَاهُ الْإِلَهِيَّةَ «4» ، وَالْقَوْلِ بِالْحُلُولِ «5» وَقَوْلِهِ «أَنَا الْحَقُّ» مَعَ تَمَسُّكِهِ في الظاهر بالشريعة، ولم يقبلوا توبته.
__________
(1) المقتدر: بالله أبو الفضل جعفر بن المعتضد بالله أبو العباس احمد بن طلحة الموفق بن جعفر المتوكل بن محمد المعتصم بن هارون الرشيد. وقد توفي المقتدر مقتولا سنة عشرين وثلاثمائة.
(2) أبو عمر المالكي: محمد بن يوسف بن يعقوب بن اسماعيل بن حماد بن زيد. كان من خيار القضاة جلالة وقدرا توفي سنة عشرين وثلاثمائة.
(3) الحلاج: الحسين بن منصور، ولقب بالحلاح لأنه جلس يوما على حانوت حلاج واستفضاه حاجة فقال الحلاج أنا مشتغل الحلج فقال له: اقض لي حاجتي حتى أحلج لك، فمضى الحلاج في حاجته فلما عاد وجد قطنه كله محلوجا، وكان لا يحلجه عشرة رجال في أيام متعددة. وقد صحب الجنيد والسري والمشايخ ولزوم العبادة ببغداد. ووقع بينه وبين الشبلي وداود الظاهري والوزير علي بن عيسى خلاف فاتهم بالسحر وقتل..
(4) أي قوله: أنا الله كما هو مشهور عنه.
(5) الحلول: أي قولهم إن الله يحل في بعض الناس ويظهر بصورته كما ظهر جبريل عليه الصلاة والسلام بصورة دحية رضي الله عنه.، وليس هذا وحدة الوجود التي ذهب إليها بعض الصوفية كما بينه السيد الشريف في شرح التجديد.

(2/632)


وَكَذَلِكَ حَكَمُوا فِي ابْنِ أَبِي «1» الْفَرَاقِيدِ، وَكَانَ عَلَى نَحْوِ مَذْهَبِ الْحَلَّاجِ بَعْدَ هَذَا أَيَّامِ الرَّاضِي «2» بِاللَّهِ.. وَقَاضِي قُضَاةِ بَغْدَادَ يَوْمَئِذٍ أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ «3» أَبِي عُمَرَ الْمَالِكِيُّ.
وَقَالَ ابْنُ عَبْدِ «4» الْحَكَمِ فِي الْمَبْسُوطِ: «مَنْ تَنَبَّأَ قُتِلَ» .
وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ «5» وَأَصْحَابُهُ: «مَنْ جَحَدَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَالِقُهُ أَوْ رَبُّهُ أَوْ قَالَ: لَيْسَ لِي رَبٌّ فَهُوَ مُرْتَدٌّ» .
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ «6» فِي كِتَابِ ابْنِ «7» حَبِيبٍ وَمُحَمَّدٍ «8» فِي
__________
(1) ابن أبي الفراقيد: وفي نسخة (الفراقير) . والأول أصوب وهو محمد ابن علي بن أبي الفراقيد شاع أمره في بغداد وادعى الألوهية وأنه يحيي الموتى فطلبه الراضي فهرب سنين ثم عاد فهجم عليه ابن مقلة وامسكه فأثبت كفره وكتب عليه القضاة وأمتوا بقتله فقتل وأحرقت جثته سنة اثنين وعشرين وثلاثمائة. وتبعه على حاله ابن أبي عون صاحب كتاب التنبيه فقتل معه.
(2) الراضي بالله بن المقتدر بالله جعفر بن المعتضد بالله أحمد أبو العباس، الراضي بالله خليفة عباسي دامت خلافته ست سنين وعشرة أيام توفي سنة (329) هـ.
(3) أبو الحسين بن أبي عمر قاضي القضاة واسمه عمر بن أبي عمر قاضي القضاة كان ذكيا فطنا حاذقا بالمذهب المالكي ولي قضاء بغداد وتوفي لثمان خلون من ذي القعدة سنة ست وخمسين وثلاثمائة.
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (628) رقم (5) .
(5) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «499» رقم «6» .
(6) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «152» رقم «6» .
(7) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «1» .
(8) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «609» رقم «10» .

(2/633)


الْعُتْبِيَّةِ فِيمَنْ تَنَبَّأَ يُسْتَتَابُ أَسَرَّ ذَلِكَ أَوْ أعلنه، وهو كالمرتد..
وقاله سُحْنُونٌ «1» وَغَيْرُهُ وَقَالَهُ أَشْهَبُ «2» فِي يَهُودِيٍّ تَنَبَّأَ وَادَّعَى أَنَّهُ رَسُولٌ إِلَيْنَا.. إِنْ كَانَ مُعْلِنًا بِذَلِكَ اسْتُتِيبَ فَإِنْ تَابَ وَإِلَّا قُتِلَ.
وَقَالَ أَبُو مُحَمَّدِ «3» بْنُ أَبِي زَيْدٍ فِيمَنْ لَعَنَ بَارِئَهُ وَادَّعَى أَنَّ لِسَانَهُ زَلَّ.. وَإِنَّمَا أَرَادَ لَعْنَ الشَّيْطَانِ يُقْتَلُ بِكُفْرِهِ وَلَا يُقْبَلُ عُذْرُهُ، وَهَذَا عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ مِنْ أَنَّهُ لَا تقبل توبته.
وقال أبو الحسين «4» الْقَابِسِيُّ فِي سَكْرَانَ قَالَ: أَنَا اللَّهُ أَنَا اللَّهُ.
إِنْ تَابَ أُدِّبَ فَإِنْ عَادَ إِلَى مِثْلِ قَوْلِهِ طُولِبَ مُطَالَبَةَ الزِّنْدِيقِ لِأَنَّ هَذَا كفر المتلاعبين.
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «3» .
(2) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «154» رقم «3» .
(3) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «144» رقم «1» .
(4) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «76» رقم «2» .

(2/634)