الشفا بتعريف حقوق المصطفى محذوف الأسانيد

الفصل السّابع حكم من تعرّض بساقط قوله وسخيف لفظه لجلال ربّه دُونَ قَصْدٍ
وَأَمَّا مَنْ تَكَلَّمَ مِنْ سَقْطِ الْقَوْلِ وَسُخْفِ اللَّفْظِ مِمَّنْ لَمْ يَضْبِطْ كَلَامَهُ وَأَهْمَلَ لِسَانَهُ بِمَا يَقْتَضِي الِاسْتِخْفَافَ بِعَظَمَةِ رَبِّهِ، وَجَلَالَةِ مَوْلَاهُ..
أَوْ تَمَثَّلَ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ بِبَعْضِ مَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ مَلَكُوتِهِ.. أَوْ نَزَعَ مِنَ الْكَلَامِ لِمَخْلُوقٍ بِمَا لَا يَلِيقُ إِلَّا فِي حَقِّ خَالِقِهِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْكُفْرِ وَالِاسْتِخْفَافِ وَلَا عَامِدٍ لِلْإِلْحَادِ.
فَإِنْ تَكَرَّرَ هَذَا مِنْهُ، وَعُرِفَ بِهِ دَلَّ عَلَى تَلَاعُبِهِ بِدِينِهِ، وَاسْتِخْفَافِهِ بِحُرْمَةِ رَبِّهِ، وَجَهْلِهِ بِعَظِيمِ عِزَّتِهِ وَكِبْرِيَائِهِ.
- وهذا كفر لامرية فِيهِ. وَكَذَلِكَ إِنْ كَانَ مَا أَوْرَدَهُ يُوجِبُ الِاسْتِخْفَافَ وَالتَّنَقُّصَ لِرَبِّهِ.

(2/635)


وَقَدْ أَفْتَى ابْنُ حَبِيبٍ «1» وَأَصْبَغُ «2» بْنُ خَلِيلٍ مِنْ فُقَهَاءِ قُرْطُبَةَ بِقَتْلِ الْمَعْرُوفِ بِابْنِ أَخِي عَجَبٍ «3» ، وَكَانَ خَرَجَ يَوْمًا فَأَخَذَهُ الْمَطَرُ فَقَالَ: «بَدَأَ الْخَرَّازُ «4» يَرُشُّ جُلُودَهُ» .
وَكَانَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ بِهَا.. أَبُو زَيْدٍ «5» صَاحِبُ الثَّمَانِيَةِ «6» ، وَعَبْدُ الْأَعْلَى «7» بن وهب، وأبان «8» بن عيسى. وقد تَوَقَّفُوا عَنْ سَفْكِ دَمِهِ، وَأَشَارُوا إِلَى أَنَّهُ عَبَثٌ مِنَ الْقَوْلِ. يَكْفِي فِيهِ الْأَدَبُ.
وَأَفْتَى بِمِثْلِهِ الْقَاضِي حِينَئِذٍ مُوسَى «9» بْنُ زِيَادٍ. فَقَالَ ابن حبيب:
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «152» رقم «1» .
(2) اصبغ بن خليل يكنى أبا القاسم قرطبي هو من أهل العلم والفقه والورع والرياسة. توفي سنة ثلاث وسبعين ومائتين وعمره ثمان وثمانون سنة..
(3) عجب: اسم زوجة عبد الرحمن الأموي أمير قرطبة.
(4) الخراز: من يثقب الجلود للخياطة والجلود تبل ويرش عليها الماء عند خرزها لتلين.
(5) أبو زيد: وهو محمد بن زيد بن عبد الرحمن بن زيد بن خارجة صاحب الثمانية ولم يفسروه
(6) الثمانية: بوزن العدد المعروف وقيل بمثلثة مضمومة وياء مشدد ولعلها بلدة أو قرية وكان أميرا عليها.
(7) عبد الأعلى بن وهب مولى قريش قرطبي سمع من مطرف بن عبد الله بالمدينة ومن اصبغ وعلي بن معبد بمصر ومن سحنون بافريقيه توفي سنة إحدى وستين في صفر.
(8) إبان بن عيسى سكن قرطبة يكنى أبا القاسم كان فاضلا زاهدا ورعا وهو قاض من قضاة المدينة توفي سنة اثنين وستين ومائة نصف ربيع الأول.
(9) موسى بن زياد: قاض من قضاة المدينة كان معاصرا لابان بن عيسى وعبد الأعلى بن وهب وغيرهما.

(2/636)


دمه في غيض.. أَيُشْتَمُ رَبٌّ عَبَدْنَاهُ ثُمَّ لَا نَنْتَصِرُ لَهُ.. إنا إذا لعبيد سوء ما نَحْنُ لَهُ بِعَابِدِينَ وَبَكَى. وَرُفِعَ الْمَجْلِسُ إِلَى الْأَمِيرِ بِهَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ «1» بْنِ الْحَكَمِ الْأُمَوِيِّ وَكَانَتْ عَجَبُ «2» عَمَّةَ هَذَا الْمَطْلُوبِ مِنْ حَظَايَاهُ «3» ، وَأُعْلِمَ بِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ فَخَرَجَ الْإِذْنُ مِنْ عِنْدِهِ بِالْأَخْذِ بِقَوْلِ ابْنِ «4» حَبِيبٍ وَصَاحِبِهِ وَأَمَرَ بِقَتْلِهِ، فَقُتِلَ وَصُلِبَ بِحَضْرَةِ الْفَقِيهَيْنِ.. وَعُزِلَ الْقَاضِي لِتُهْمَتِهِ بِالْمُدَاهَنَةِ فِي هَذِهِ الْقِصَّةِ.
وَوَبَّخَ بَقِيَّةَ الْفُقَهَاءِ وَسَبَّهُمْ.
- وَأَمَّا مَنْ صَدَرَتْ عَنْهُ مِنْ ذَلِكَ الهنة الواحدة، والفلتة الشاردة ما لم يكن تَنَقُّصًا وَإِزْرَاءً فَيُعَاقَبُ عَلَيْهَا، وَيُؤَدَّبُ بِقَدْرِ مُقْتَضَاهَا، وَشُنْعَةِ مَعْنَاهَا، وَصُورَةِ حَالِ قَائِلِهَا، وَشَرْحِ سَبَبِهَا وَمُقَارِنِهَا.
وَقَدْ سُئِلَ ابْنُ «5» الْقَاسِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ عن رجل نادى رجلا باسمه
__________
(1) عبد الرحمن بن الحكم: بن هشام صاحب الاندل وكان عادلا منقيا مجاهدا توفي سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
(2) تقدمت ترجمتها في ج 2 ص «636» رقم «3» .
(3) حظايا: جمع حظية كهيئة وهي المرأة المقربة عند زوجها وعجب هذه من زوجات عبد الرحمن أمير الاندلس.
(4) تقدمت ترجمته في ج 2 ص «153» رقم «1» .
(5) تقدمت ترجمته في ج 2 ص (13) رقم «6» .

(2/637)


فأجابه لبيك اللهم لبيك. قال: فإن كَانَ جَاهِلًا، أَوْ قَالَهُ عَلَى وَجْهِ سَفَهٍ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ.
قَالَ الْقَاضِي أَبُو «1» الْفَضْلِ: وَشَرْحُ قَوْلِهِ أَنَّهُ لَا قَتْلَ عَلَيْهِ. وَالْجَاهِلُ يُزْجَرُ وَيُعَلَّمُ. وَالسَّفِيهُ يُؤَدَّبُ. وَلَوْ قَالَهَا عَلَى اعْتِقَادِ إِنْزَالِهِ مَنْزِلَةَ رَبِّهِ لَكَفَرَ. هَذَا مُقْتَضَى قَوْلِهِ.
وَقَدْ أَسْرَفَ كَثِيرٌ مِنْ سُخَفَاءِ الشُّعَرَاءِ وَمُتَّهِمِيهِمْ فِي هَذَا الْبَابِ وَاسْتَخَفُّوا عَظِيمَ هَذِهِ الْحُرْمَةِ فَأَتَوْا مِنْ ذَلِكَ بِمَا نُنَزِّهُ كِتَابَنَا وَلِسَانَنَا وَأَقْلَامَنَا عَنْ ذِكْرِهِ، وَلَوْلَا أَنَّا قَصَدْنَا نص مسائل حكيناها لما ذَكَرْنَا شَيْئًا مِمَّا يَثْقُلُ ذِكْرُهُ عَلَيْنَا مِمَّا حكيناه في هذه الفصول. وأما مَا وَرَدَ فِي هَذَا مِنْ أَهْلِ الْجَهَالَةِ وَأَغَالِيطِ اللِّسَانِ كَقَوْلِ بَعْضِ الْأَعْرَابِ
رَبَّ الْعِبَادِ ما لنا ومالكا ... قَدْ كُنْتَ تَسْقِينَا فَمَا بَدَا لَكَا
أَنْزِلْ عَلَيْنَا الْغَيْثَ لَا أَبَا لَكَا.
فِي أَشْبَاهٍ لِهَذَا مِنْ كَلَامِ الْجُهَّالِ، وَمَنْ لَمْ يُقَوِّمْهُ ثِقَافُ «2» تَأْدِيبِ الشَّرِيعَةِ وَالْعِلْمِ فِي هَذَا الْبَابِ. فَقَلَّمَا يَصْدُرُ إِلَّا مِنْ جَاهِلٍ يَجِبُ تَعْلِيمُهُ وَزَجْرُهُ وَالْإِغْلَاظُ لَهُ عَنِ الْعَوْدَةِ إِلَى مِثْلِهِ.
__________
(1) أبو الفضل المصنف
(2) ثقاف: في الأصل معناها تقويم الرماح والخشب المعوج بالنار فاستعير لما يقوم الانسان.

(2/638)


قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ «1» الْخَطَابِيُّ: وَهَذَا تَهَوُّرٌ مِنَ الْقَوْلِ. وَاللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ هَذِهِ الْأُمُورِ.
وَقَدْ رُوِّينَا عَنْ عَوْنِ «2» بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّهُ قَالَ: «لِيُعَظِّمْ أَحَدُكُمْ رَبَّهُ أَنْ يَذْكُرَ اسْمَهُ في كل شيء. حتى لا يَقُولَ. أَخْزَى اللَّهُ الْكَلْبَ.
وَفَعَلَ بِهِ كَذَا وكذا» .
وَكَانَ بَعْضُ مَنْ أَدْرَكْنَا مِنْ مَشَايِخِنَا قَلَّمَا يَذْكُرُ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا فِيمَا يَتَّصِلُ بِطَاعَتِهِ.
وَكَانَ يَقُولُ لِلْإِنْسَانِ: جُزِيتَ خَيْرًا. وَقَلَّمَا يَقُولُ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْرًا. إِعْظَامًا لِاسْمِهِ تَعَالَى أَنْ يُمْتَهَنَ فِي غَيْرِ قُرْبَةٍ.
وَحَدَّثَنَا الثِّقَةُ «3» أَنَّ الْإِمَامَ أَبَا بَكْرٍ «4» الشَّاشِيَّ كَانَ يَعِيبُ على
__________
(1) تقدمت ترجمته في ج 1 ص «64» رقم «6» .
(2) عون بن عبد الله: بن عتبة الهزلي الكوفي الزاهد الفقيه المحدث النابعي توفي في حدود العشرين ومائة.
(3) توثيق المجهول لا فائدة فيه إلا إذا علم بالقرينة كقول أبي بكر بن العربي وسيبويه حدثنا الثقة يعني أبا زيد.
(4) أبو بكر الشاشي: وحيد دهره الامام أبو بكر محمد بن علي بن اسماعيل القفال الشاشي نسبة لشاش مدينة فيما وراء النهر، وهو إمام عظيم له تأليفات جليلة، وهو عمدة في مذهبه واختلف في وفاته فقيل سنة ست وستين وثلاثمائة وقيل سنة ست وثلاثين، وقيل إنه كان أول أمره معتزليا ثم رجع عنه.

(2/639)


أَهْلِ الْكَلَامِ كَثْرَةَ خَوْضِهِمْ فِيهِ تَعَالَى وَفِي ذِكْرِ صِفَاتِهِ إِجْلَالًا لِاسْمِهِ تَعَالَى.
وَيَقُولُ: هَؤُلَاءِ يَتَمَنْدَلُونَ «1» بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.. وَيُنَزِّلُ الْكَلَامَ فِي هَذَا الْبَابِ تَنْزِيلَهُ فِي بَابِ سَابِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. عَلَى الْوُجُوهِ الَّتِي فصلناها.. والله الموفق.
__________
(1) يتمندلون: فعل من المنديل وهو الخرقة التي يمسح بها الأيدي، واشتق الفعل منه وأنكرها بعضهم وقال هذا مولد غير فصيح.

(2/640)