الشفا بتعريف حقوق المصطفى وحاشية الشمني

الباب الثاني فيما يخصهم في الأمور الدنيوية وما يطرأ عليهم من العوارض البشرية

قد قدمنا أنه صلى الله عليه وسلم وسائر الأنبياء والرسل من البشر وأن جسمه وظاهره خالص للبشر يجوز عليه من الآفات والتغييرات والآلام والأسقام وتجزع كأس الحمام ما يجوز على البشر وهذا كله ليس بنقيصة فيه لأن الشئ إنما يسمى ناقصا بالإضافة إلى ما هو أتم منه وأكمل من نوعه وقد كتب الله تعالى على أهل هذه الدار فيها يحيون وفيها يموتون ومنها يخرجون وخلق جميع البشر بمدرجة الغير فقد مرض صلى الله عليه وسلم واشتكى وأصابه الحر والقر وأدركه الجوع والعطش ولحقه الغضب والضجر وناله الإعياء والتعب ومسسه الضعف والكبر وسقط فجحش شقه وشجه الكفار وكسروا رباعيته وسقى السم وسحر وتداوى واحتجم وتنشر وتعوذ ثم قضى نحبه فتوفى صلى الله عليه وسلم ولحق بالرفيق الأعلى وتخلص من دار الامتحان والبلوى وهذه سمات البشر
__________
(قوله بمدرجة الغير) المدرجة بفتح الميم وسكون الدال: المذهب والمسلك، والغير بكسر الغين المعجمة وفتح المثناة التحتية: الاسم من قولك غيرت الشئ فتغير (قوله فجحش) بضم الجيم وكسر الحاء المهملة بعدها شين معجمة: أي خدش (قوله السم)
بتثليث السين والأفصح فتحها ويليه بضم (قوله وتنشر) من النشرة وهى الرقية والتعويذ (قوله بالرفيق الأعلى) قال ابن الأثير وهو الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون وقيل هو مرتفق الجنة، وقيل الرفيق الأعلى: الله تعالى لأنه رفيق بعباده وقال ابن قرقول: أهل اللغة لا يعرفون هذا، ولعله تصحيف من الرفيع (*)

(2/178)


التى لا محيص عنها وأصاب غيره من الأنبياء ما هو أعظم منه فقتلوا قتلا ورموا في النار ونشروا بالمناشير ومنهم من وقاه الله ذلك في بعض الأوقات ومنهم من عصمه كما عصم بعد نبينا من الناس فلئن لم يكف نبينا ربه يد ابن قمئة يوم أحد ولا حجبه عن عيون عداه عند دعوته أهل الطائف فلقد أخذ على عيون قريش عند خروجه إلى ثور وأمسك عنه سيف غورث وحجر أبى جهل وفرس سراقة ولئن لم يقه من سحر ابن الأعصم فلقد وقاه ما هو أعظم من سم اليهودية وهكذا سائر أنبيائه مبتلى ومعافى وذلك من تمام حكمته ليظهر شرفهم في هذه المقامات ويبين أمرهم ويتم كلمته فيهم وليحقق بامتحانهم بشريتهم ويرتفع الالتباس عن أهل الضعف فيهم لئلا يضلوا بما يظهر من العجائب على أيديهم ضلال النصارى بعيسى ابن مريم وليكون في محنهم تسلية لأممهم ووفور لأجورهم عند ربهم تماما على الذى أحسن إليهم، قال بعض المحققين وهذه الطوارى والتغييرات المذكورة إنما تختص بأجسامهم البشرية المقصود بها مقاومة البشر ومعناة بنى آدم لمشاكلة الجنس وأما بواطنهم فمنزهة غالبا عن ذلك معصومة منه متعلقة بالملأ الأعلى والملائكة لأخذها عنهم وتلقيها الوحى منهم قال وقد قال صلى الله عليه وسلم (إن عينى تنامان ولا ينام قلبى) وقال (إنى لست كهيئتكم إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقيني) وقال (لست
أنسى ولكن أنسى ليستن بى) فأخبر أن سره وباطنه وروحه خلاف جسمه وظاهره وأن الآفات التى تحل ظاهره من ضعف وجوع وسهر
__________
(قوله ووشروا) يقال أشرت الخشبة إشراء ووشرتها وشرا: إذا شققتها، مثل نشرتها، والمئشار بالهمزة: المنشار بالنون، وقد تترك الهمزة (*)

(2/179)


ونوم لا يحل منها شئ باطنه بخلاف غيره من البشر في حكم الباطن لأن غيره إذا نام استغرق النوم جسمه وقلبه وهو صلى الله عليه وسلم في نومه حاضر القلب كما هو في يقظته حتى قد جاء في بعض الآثار أنه كان محروسا من الحدث في نومه لكون قلبه يقظان كما ذكرناه وكذلك غيره إذا جاع ضعف لذلك جسمه وخارت قوته فبطلت بالكلية جملته وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه لا يعتريه ذلك وأنه بخلافهم لقوله (إنى لست كهيئتكم إنى أبيت يطعمنى ربى ويسقيني وكذلك أقول إنه في هذه الأحوال كلها من وصب ومرض وسحر وغضب لم يجر على باطنه ما يخل به ولا فاض منه على لسانه وجوارحه ما لا يليق به كما يعترى غيره من البشر مما نأخذ بعد في بيانه
فصل فإن قلت فقد جاءت الأخبار الصحيحة أنه صلى الله عليه وسلم سحر كما حدثنا الشيخ أبو محمد العتابى بقراءتي عليه قال نا حاتم بن محمد نا أبو الحسن على بن خلف نا محمد بن أحمد نا محمد بن يوسف نا البخاري نا عبيد ابن اسماعيل نا أبو أسامة عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضى الله عنها قالت سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشئ وما فعله وفى رواية أخرى حتى كان يخيل إليه أنه كان يأتي النساء ولا يأتيهن (الحديث) وإذا كان هذا من التباس الأمر على المسحور
__________
(قوله وخارت) بالخاء المعجمة: أي ضعفت (قوله من وصب) بفتح الواو والصاد المهملة: أي مرض (*)

(2/180)


فكيف حال النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك وكيف جاز عليه وهو معصوم ؟ فاعلم وفقنا الله وإياك أن هذا الحديث صحيح متفق عليه وقد طعنت فيه الملحدة وتدرعت به لسخف عقولها وتلبيسها على أمثالها إلى التشكيك في الشرع وقد نزه الله الشرع والنبى عما يدخل في أمره لبسا وإنما السحر مرض من الأمراض وعارض من العلل يجوز عليه كأنواع الأمراض مما لا ينكر ولا يقدح في نبوته * وأما ما ورد أنه كان يخيل إليه أنه فعل الشئ ولا يفعله فليس في هذا ما يدخل عليه داخلة في شئ من تبليغه أو شريعته أو يقدح في صدقه لقيام الدليل والإجماع على عصمته من هذا وإنما هذا فيما يجوز طروه عليه في أمر دنياه التى لم يبعث بسببها ولا فضل من أجلها وهو فيها عرضة للآفات كسائر البشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمورها ما لا حقيقة له ثم ينجلى عنه كما كان وأيضا فقد فسر هذا الفضل الحديث الآخر من قوله (حتى يخيل إليه أنى يأتي أهله ولا يأتيهن) وقد قال سفيان: هذا أشد ما يكون من السحر ولم يأت في خير منها أنه نقبل عنه في ذلك قول بخلاف ما كان أخبر أنه فعله ولم يفعله وإنما كانت خواطر وتخييلات.
وقد قيل إن المراد بالحديث أنه كان يتخيل الشئ أنه فعله وما فعله لكنه تخييل لا يعتقد صحته فتكون اعتقاداته كلها على السداد وأقواله على الصحة، هذا ما وقفت عليه لأئمتنا من الأجوبة عن هذا الحديث مع
ما أوضحنا من معنى كلامهم وزدناه بيانا من تلويحاتهم وكل وجه منها مقنع لكنه قد ظهر لى في الحديث تأويل أجلى وأبعد من مطاعن
__________
(قوله وتدرعت) أي لبست الدرع (*)

(2/181)


ذوى الأضاليل يستفاد من نفس الحديث وهو أن عبد الرزاق قد روى هذا الحديث عن ابن المسيب وعروة بن الزبير، وقال فيه عنهما سحر يهود بنى زريق رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوه في بئر حتى كاد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينكر بصره ثم دله الله على ما صنعوا فاستخرجه من البئر، وروى نحوه عن الواقدي وعن عبد الرحمن بن كعب وعمر بن الحكم وذكر عن عطاء الخراساني عن يحيى بن يعمر حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة سنة فبينا هو نائم أتاه ملكان فقعد أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه (الحديث)، قال عبد الرزاق: حبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عائشة خاصة سنة حتى أنكر بصره، وروى محمد بن سعد عن ابن عباس مرض رسول الله صلى الله عليه وسلم فحبس عن النساء والطعام والشراب فهبط عليه ملكان وذكر القصة، فقد استبان لك من مضمون هذه الروايات أن السحر إنما تسلط على ظاهره وجوارحه لا على قلبه واعتقاده وعقله وأنه إنما أثر في بصره وحبسه عن وطء نسائه وطعامه وأضعف جسمه وأمرضه ويكون معنى قوله: يخيل إليه أنه يأتي أهله ولا يأتيهن، أي: يظهر له من نشاطه ومتقدم عادته القدرة على النساء فإذا دنا منهن أصابته أخذة السحر فلم يقدر على إتيانهن كما يعترى من أخذ واعترض، ولعله لمثل هذا أشار سفيان بقوله: وهذا أشد ما يكون
__________
(قوله عطاء الخراساني) هو ابن أبى مسلم مولى المهلب بن أبى صفرة (قوله ابن
يعمر) بفتح أوله وضم ثالثه (قوله أتاه ملكان) في سيرة الدماطى أنهما جبريل وميكائيل (قوله أخذة السحر (بضم الهمزة وسكون الخاء المعجمة بعدها ذال معجمة، في الصحاح الأخذة بالضم رقية السحر وخرزة تؤخذ النساء بها الرجال من التأخيذ (*)

(2/182)


من السحر ويكون قوله عائشة في الرواية الأخرى إنه ليخيل إليه أنه فعل الشئ وما فعله من باب اما اختل من بصره كما ذكر في الحديث فيظن أنه رأى شخصا من بعض أزواجه أو شاهد فعلا من غيره ولم يكن على ما يخيل إليه لما أصابه في بصره وضعف نظره لا لشئ طرأ عليه في ميزه وإذا كان هذا لم يكن فيما ذكر من إصابة السحر له وتأثيره فيه ما يدخل لبسا ولا يجد به الملحد المعترض أنسا
فصل هذا حاله في جسمه، فأما أحواله في أمور الدنيا فنحن نسبرها على أسلوبها المتقدم بالعقد والقول والفعل، أما العقد منها فقد يعتقد في أمور الدنيا الشئ على وجه ويظهر خلافه أو يكون منه على شك أو ظن بخلاف أمور الشرع كما حدثنا أبو بحر سفيان بن العاص وغير واحد سماعا وقراءة قالوا حدثنا أبو العباس أحمد بن عمر، قال حدثنا أبو العباس الرازي حدثنا أبو أحمد بن عمرويه حدثنا ابن سفيان حدثنا مسلم حدثنا عبد الله بن الرومي وعباس العنبري وأحمد المعقرى قالوا حدثنا النضر بن محمد قال حدثنى عكرمة حدثنا أبو النجاشي قال حدثنا رافع
__________
(قوله في ميزه) بفتح الميم وسكون المثناة التحتية بعدها زاى وهاء للضمير أي تمييزه وإفرازه (قوله نسبرها) بنون في أوله مفتوحة أو مضمومة وسين مهملة ساكنة بعدها
موحدة يقال سبرته وأسبرته أي حزبته وجربته (قوله وعباس العنبري) عباس بباء موحدة وسين مهملة هو ابن عبد المنعم ابن اسماعيل بن نوبة (قوله المعقرى) بفتح الميم وسكون العين وكسر القاف، ويقال أيضا بكسر الميم وفتح القاف ويقال أيضا بضم الميم وفتح العين وكسر القاف المشددة: منسوب إلى معقرة، ناحية باليمن (قوله أبو النجاشي) بفتح النون وتخفيف الجيم والشين المعجمة: هو عطاء بن صهيب يروى عن مولاه رافع بن خديج ويروى عنه الأوزاعي وغيره (*)

(2/183)


ابن خديج قال: قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يأبرون النخل فقال: (ما تصنعون ؟) قالوا: كنا نصنعه، قال: (لعلكم لو لم تفعلوا كان خيرا) فتركوه فنفضت، فذكروا ذلك له فقال: (إنما أنا بشر إذا أمرتكم بشئ من دينكم فخذوا به وإذا أمرتكم بشئ من رأى فإنما أنا بشر) وفى رواية أنس (أنتم أعلم بأمر دنياكم) وفى حديث آخر (إنما ظننت ظنا فلا تؤاخذني بالظن) وفى حديث ابن عباس في قصة الخرص فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بشر فما حدثتكم عن الله فهو حق وما قلت فيه من قبل نفسي فإنما أنا بشر أخطئ وأصيب) وهذا على ما قررناه فيما قاله من قبل نفسه في أمور الدنيا وظنه من أحوالها لا ما قاله من قبل نفسه واجتهاده في شرع شرعه وسنة سنها وكما حكى ابن إسحاق أنه صلى الله عليه وسلم لما نزل بادنى مياه بدر قال له الحباب ابن المنذر: أهذا منزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدمه أم هو الرأى والحرب والمكيدة ؟ قال (لا بل هو الرأى والحرب والمكيدة) قال فإنه ليس بمنزل، انهض حتى نأتى أدنى ماء من القوم فننزله ثم نغور ما وراءه
__________
(قوله ابن خديج)
بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة وفى آخره جيم (قوله يأبرون) بموحدة مخففة قبل الراء، وفى رواية الطبري يؤبرون بهمزة مفتوحة وموحدة مشددة (قوله فنفضت) بنون وفاء وضاد معجمة أي أسقطت حملها، قال ابن قرقول ما عدا هذا الرواية تصحيف (قوله الخرص) بفتح الخاء المعجمة وسكون الراء بعدها صاد مهملة: أي الحزر والتقدير (قوله الحباب) بضم الحاء المهملة وبموحدتين (قوله حتى تعور) بالعين المهملة أو المعجمة وتشديد الواو، قال السهيلي بضم العين المهملة وسكون الواو، قال وقد جاء على لغة من يقول قول القول وبوع للباع انتهى وقال الحافظ المرى تعوير القلب - بالعين المهملة - إفساده وتغويره بالمعجمة - إزالة المأمنة وليس هذا من مقدور البشر بخلاف الأول (*)

(2/184)


من القلب فنشرب ولا يشربون، فقال (أشرت بالرأى) وفعل ما قاله، وقد قال الله تعالى له صلى الله عليه وسلم (وشاورهم في الأمر) وأراد مصالحة بعض عدوه على ثلث تمر المدينة فاستشار الأنصار فلما أخبروه برأيهم رجع عنه، فمثل هذا وأشباهه من أمور الدنيا التى لا مدخل فيها لعلم ديانة ولا اعتقادها ولا تعليمها يجوز عليه فيها ما ذكرناه، إذ ليس في هذا كله نقيصة ولا محطة وإنما هي أمور اعتيادية يعرفها من جربها وجعلها همه وشغل نفسه بها والنبى صلى الله عليه وسلم مشحون القلب بمعرفة الربوبية ملان الجوانح بعلوم الشريعة مقيد البال بمصالح الأمة الدينية والدنيوية ولكن هذا إنما يكون في بعض الأمور ويجوز في النادر وفيما سبيله التدقيق في حراسة الدنيا واستثمارها لا في الكثير المؤذن بالبله والغفلة وقد تواتر بالنقل عنه صلى الله عليه وسلم من المعرفة بأمور الدنيا ودقائق مصالحها وسياسة فرق أهلها ما هو معجز في البشر مما قد نبهنا عليه في باب معجزاته من هذا الكتاب.
فصل وأما ما يعتقده في أمور أحكام البشر الجارية على يديه وقضاياهم ومعرفة المحق من المبطل وعلم المصلح من المفسد فبهذه السبيل لقوله صلى الله عليه وسلم (إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو مما أسمع،
__________
(قوله ألحن بحجته) في الصحاح اللحن - بالتحريك - الفطنة وقد لحن وفى الحديث (ولعل أحدكم ألحن بحجته) أي أفطن بها، ومنه قول عمر بن عبد العزيز: عجبت لمن لاحن الناس كيف لا يعرف جوامع الكلم فاطنهم انتهى (*)

(2/185)


فمن قضيت له من حق أخيه بشئ فلا يأخذ منه شيئا فإنما أقطع له قطعة من النار) * حدثنا الفقيه أبو الوليد رحمه الله حدثنا الحسين بن محمد الحافظ حدثنا أبو عمر حدثنا أبو محمد حدثنا أبو بكر حدثنا أبو داود حدثنا محمد بن كثير أخبرنا سفيان عن هشام بن عروة عن أبيه عن زينب بنت أم سلمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (الحديث) وفى رواية الزهري عن عروة) فلعل بعضكم أن يكون أبلغ من بعض فأحسب أنه صادق فأقضى له) ويجرى أحكامه صلى الله عليه وسلم على الظاهر وموجب غلبات الظن بشهادة الشاهد ويمين الحالف ومراعاة الأشبه ومعرفة العفاص والوكاء مع مقتضى حكمة الله في ذلك فإنه تعالى لو شاء لأطلعه على سرائر عباده ومخبآت ضمائر أمته فتولى الحكم بينهم بمجرد يقينه وعلمه دون حاجة إلى اعتراف أو بينة أو يمين أو شبهة ولكن لما أمر الله أمته باتباعه والاقتداء به في أفعاله وأحواله وقضاياه وسيره وكان هذا
لو كان مما يختص بعلمه ويؤثره الله به لم يكن للأمة سبيل إلى الاقتداء به في شئ من ذلك ولا قامت حجة بقضية من قضاياه لأحد في شريعته لأنا لا نعلم ما أطلع عليه هو في تلك القضية بحكمه هو إذا في ذلك
__________
(قوله ابن كثير) هو بفتح الكاف وكسر المثلثة (قوله العفاص) بكسر العين المهملة وتخفيف الفاء وفى آخره صاد مهملة: هو الوعاء الذى يكون فيه الشئ وفيه عفاص القارورة للجلد أي بلبسه رأسها (قوله والوكاء) بكسر الواو والمد هو الخيط الذى يشد به الوعاء، ثم استعمل في كل ما يربط به: صرة أو غيرها (*)

(2/186)


بالمكنون من إعلام الله له بما أطلعه عليه من سرائرهم وهذا ما لا تعلمه الأمة فأجرى الله تعالى أحكامه على ظواهرهم التى يستوى في ذلك هو وغيره من البشر ليتم اقتداء أمته به في تعيين قضاياه وتنزيل أحكامه ويأتون ما أتوا من ذلك على علم ويقين من سنته، إذ البيان بالفعل أوقع منه بالقول وأرفع الاحتمال اللفظ وتأويل المتأول وكان حكمه على الظاهر أجلى في البيان وأوضح في وجوه الأحكام وأكثر فائدة لموجبات التشاجر والخصام وليقتدى بذلك كله حكام أمته ويستوثق بما يؤثر عنه وينضبط قانون شريعته وطى ذلك عنه من علم الغيب الذى استأثر به عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فيعلمه منه بما شاء ويستأثر بما شاء ولا يقدح هذا في نبوته ولا يفصم عروة من عصمته
فصل وأما أقواله الدنيوية من أخباره عن أحواله وأحوال غيره وما يفعله أو فعله فقد قدمنا أن الخلف فيها ممتنع عليه في كل حال وعلى أي وجه من عمد أو سهو أو صحة أو مرض أو رضى أو غضب وأنه معصوم منه صلى الله عليه وسلم.
هذا فيما طريقه الخبر المحض مما يدخله الصدق والكذب فأما المعاريض الموهم ظاهرها خلاف باطنها فجائز ورودها منه في الأمور الدنيوية لا سيما لقصد المصلحة كتوريته عن وجه
__________
(قوله بما أتوا) بقصر الهمزة أي بما جاؤا (قوله ولا يفصم) بالفاء والصاد المهملة: من فصم الشئ كسره من غير أن بين (*)

(2/187)


مغازيه لئلا يأخذ العدو حذره وكما روى من ممازحته ودعابته لبسط أمته وتطبيب قلوب المؤمنين من صحابته وتأكيدا في تحببهم ومسرة نفوسهم كقوله لأحملنك على ابن الناقة وقوله للمرأة التى سألته عن زوجها: (أهو الذى بعينه بياض ؟) وهذا كله صدق لأن كل جمل ابن ناقة وكل إنسان بعينه بياض ؟) وقد قال صلى الله عليه وسلم (إنى لأمزح ولا أقول إلا حقا، هذا كله فيما بابه الخبر * فأما ما بابه غير الخبر مما صورته صورة الأمر والنهى في الأمور الدنيوية فلا يصح منه أيضا ولا يجوز عليه أن يأمرا أحدا بشئ أو ينهى أحدا عن شئ وهو يبطن خلافه وقد قال صلى الله عليه وسلم (ما كان لنبى أن تكون له خائنة الأعين) فكيف أن تكون له خائنة قلب ؟ فإن قلت فما معنى قوله تعالى في قصة زيد (وإذ تقول للذى أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك) الآية ؟ فاعلم أكرمك الله ولا تسترب في تنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن هذا الظاهر وأن يأمر زيدا بإمساكها وهو يحب تطليقه إياها كما ذكر عن جماعة من المفسرين وأصح ما في هذا ما حكاه أهل التفسير عن على بن حسين أن الله تعالى كان أعلم نبيه أن زينب ستكون من أزواجه فلما
__________
(قوله ودعابته) بضم الدال المهملة أي مزاحه (قوله لأحملنك على ابن الناقة) هو بكسر الكاف خطاب لحاضنته أم أيمن لما روى سعد بإسناده أن أم أيمن جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت احملني قال (احملك على ولد الناقة) فقالت إليه إنه لا يطيقني.
فقال (لا أحملك إلا على ولد الناقة والإبل كلها ولد النوق) (قوله خائنة الأعين) قال ابن الصلاح في مشكله قيل هي الإيماء بالعين وقيل مفارقة النظر (قوله في قصة زيد) هو ابن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجهه في غزوة مؤنة (قوله أن زينب) هي بنت جحش وفى أزواجه عليه السلام زينب أخرى بنت (*)

(2/188)


شكاها إليه زيد قال له (أمسك عليك زوجك واتق الله) وأخفى منه في نفسه ما أعلمه الله به من أنه يتزوجها بما الله مبديه ومظهره بتمام التزويج وطلاق زيد لها، وروى نحو عمرو بن فائد عن الزهري قال نزل جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم يعلمه أن الله يزوجه زينب بنت جحش فذلك الذى أخفى في نفسه، ويصحح هذا قول المفسرين في قوله تعالى بعد هذا (وكان أمر الله مفعولا) أي لا بد لك أن تتزوجها، ويوضح هذا أن الله لم يبد من أمره معها غير زواجه لها، فدل أنه الذى أخفاه صلى الله عليه وسلم مما كان أعلمه به تعالى وقوله تعالى في القصة: (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله) الآية، فدل أنه لم يكن عليه حرج في الأمر، قال الطبري ما كان الله ليؤثم نبيه فيما أحل له مثال فعله لمن قبله من الرسل، قال الله تعالى: (سنة الله في الذين خلوا من قبل) أي من النبيين فيما أحل لهم ولو كان على ما روى في حديث قتادة من وقوعها من قلب النبي صلى الله عليه وسلم عند ما أعجبته ومحبته طلاق زيد لها لكان فيه أعظم الحرج وما لا يليق به من مد عينيه لما
نهى عنه من زهرة الحياة الدنيا ولكان هذا نفس الحسد المذموم الذى لا يرضاه ولا يتسم به الأتقياء، فكيف سيد الأنبياء ؟ قال القشيرى وهذا إقدام عظيم من قائله وقلة معرفة بحق النبي صلى الله عليه وسلم وبفضله وكيف يقال رآها فأعجبته وهى بنت عمته ولم يزل يراها
__________
خريمة تزوجها في شهر رمضان على رأس أخذ وثلاثين شهرا من الهجرة ومكثت عنده ثمانية أشهر وتوفيت ودفنت بالبقيع (قوله ابن فائد) بالفاء وكذا ذكره ابن ماكولا (قوله وهى بنت عمته) لأن أمها أمية بنت عبد المطلب (*)

(2/189)


منذ ولدت ولا كان النساء يحتجبن منه صلى الله عليه وسلم وهو زوجها لزيد ؟ وإنما جعل الله طلاق زيد لها وتزويج النبي صلى الله عليه وسلم إياها لإزالة حرمة التبني وإبطال سنته كما قال: (ما كان محمد أبا أحد من رجالكم) * وقال (لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم)، ونحوه لابن فورك، وقال أبو الليث السمرقندى فإن قيل فما الفائدة في أمر النبي صلى الله عليه وسلم لزيد بإمساكها فهو أن الله أعلم نبيه أنها زوجته فنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن طلاقها إذ لم تكن بينهما ألفة وأخفى في نفسه ما أعلمه الله به فلما طلقها زيد خشى قول الناس يتزوج امرأة ابنه فأمره الله بزواجها ليباح مثل ذلك لأمته كما قال تعالى (لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم) وقد قيل كان أمره لزيد بإمساكها قمعا للشهوة وردا للنفس عن هواها وهذا إذا جوزنا عليه أنه رآها فجأة واستحسنها ومثل هذا لا نكرة فيه لما طبع عليه ابن آدم من استحسانه الحسن ونظرة الفجأة معفو عنها ثم قمع نفسه عنها وأمر زيدا بإمساكها وإنما تنكر
تلك الزيادات التى في القصة والتعويل والأولى ما ذكرناه عن على بن حسين وحكاه السمرقندى وهو قول ابن عطاء واستحسنه القاضى القشيرى وعليه عول أبو بكر بن فورك وقال إنه معنى ذلك عند المحققين من أهل التفسير، قال والنبى صلى الله عليه وسلم منزه عن استعمال النفاق في ذلك وإظهار خلاف ما في نفسه وقد نزهه الله عن ذلك بقوله تعالى (ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له) قال ومن ظن ذلك
__________
(قوله فجأة) بفتح الفاء وسكون الجيم بعدها همزة.
وبضم الفاء وفتح الجيم والمد (*)

(2/190)


بالنبي صلى الله عليه وسلم فقد أخطأ قال وليس معنى الخشية هنا الخوف وإنما معناه الاستحياء أي يستحيى منهم أن يقولوا تزوج زوجة ابنه وأن خشيته صلى الله عليه وسلم من الناس كانت من إرجاف المنافقين واليهود تشغيبهم على المسلمين بقولهم تزوج زوجة ابنه بعد نهيه عن نكاح حلائل الأبناء كما كان فعتبه الله على هذا ونزهه عن الالتفات إليهم فيما أحله له كما عتبه على مراعاة رضى أزواجه في سورة التحريم بقوله: (لم تحرم ما أحل الله لك) الآية، كذلك قوله: له ههنا (وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه) وقد روى عن الحسن وعائشة: لو كتم رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا لكتم هذا الآية لما فيها من عتبه وإبداء ما أخفاه
فصل فإن قلت قد تقررت عصمته صلى الله عليه وسلم في أقواله في جميع أحواله وأنه لا يصح منه فيها خلف ولا اضطراب في عمد ولا سهو ولا صحة ولا مرض ولا جد ولا مزح ولا رضى ولا غضب ولكن ما معنى الحديث في وصيته صلى الله عليه وسلم الذى حدثنا به القاضى الشهيد أبو على رحمه الله قال حدثنا القاضى أبو الوليد حدثنا أبو ذر حدثنا أبو محمد وأبو الهيثم وأبو إسحاق قالوا حدثنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا على بن عبد الله حدثنا عبد الرزاق بن همام أخبرنا معمر عن الزهري عن عبيد الله
__________
(قوله عبد الرزاق) عن همام عن معمر) هذا يقع في كثير من النسخ والصواب ما في بعضها وهو عبد الراق بن همام أو عبد الرزاق عن معمر لأن عبد الرزاق لا يروى = (*)

(2/191)


ابن عبد الله عن ابن عباس قال لما احتضر رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى البيت رجال فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هلموا أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده) فقال بعضهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع (الحديث) وفى رواية (آتونى أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعدى أبدا) فتنازعوا فقالوا ماله أهجر: استفهموه، فقال (دعوني فإن الذى أنا فيه خير) وفى بعض طرقه: إن النبي صلى الله عليه وسلم يهجر.
وفى رواية هجر ويروى أهجر، ويروى أهجرا، وفيه فقال عمر إن النبي صلى الله عليه وسلم قد اشتد به الوجع وعندنا كتاب الله حسبنا وكثر اللعط فمال قوموا عنى وفى رواية واختلف أهل البيت واختصموا فمنهم من يقول قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا ومنهم من يقول ما قال عمر، قال أئمتنا في هذا الحديث إن النبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم من الأمراض وما يكون من عوارضها من شدة وجع غشى ونحوه مما يطرأ على جسمه معصوم أن يكون منه من القول أثناء ذلك ما يطعن في معجزته ويؤدى إلى فساد في شريعته من هذيان أو اختلال في الكلام.
وعلى هذا لا يصح ظاهر رواية من روى في الحديث هجر
__________
= عن همام واسم أبيه همام.
ويروى عن معمر.
ومعمر بفتح الميمين وسكون العين المهملة (قوله أهجر) بفتح الهمزة والهاء والجيم وفى رواية هجر بفتح الهاء والجيم من غير همزة.
وفى رواية أهجر بفتح الهمزة وضم الهاء قال ابن الأثير أي هل تغير كلامه واختلط لما به من المرض.
وهذا أحسن ما يقال فيه ولا يجعل إخبارا فيكون من الفحش والهذيان والقائل كان عمر لا يظن به ذلك انتهى، وقد أفرد ابن دحية هذه اللفظة بتأليف (*)

(2/192)


إذ معناه هذى يقال هجر هجرا إذ هذى، وأهجر هجرا إذا أفحش، وأهجر تعدية هجر، وإنما الأصح والأولى أهجر ؟ على طريق الإنكار على من قال لا يكتب، هكذا روايتنا فيه في صحيح البخاري من رواية جميع الرواة في حديث الزهري المتقدم، وفى حديث محمد بن سلام عن ابن عيينة وكذا ضبطه الأصيلي بخطه في كتابه وغيره من هذه الطرق وكذا رويناه عن مسلم في حديث سفيان وعن غيره وقد تحمل عليه رواية من رواه هجر على حذف ألف الاستفهام والتقدير أهجر ؟ أو أن يحمل قول القائل هجر أو أهجر دهشة من قائل ذلك وحيرة لعظيم ما شاهد من حال الرسول صلى الله عليه وسلم وشدة وجعه والمقام الذى اختلف فيه عليه والأمر الذى هم بالكتاب فيه حتى لم يضبط هذا القائل لفظه وأجرى الهجر مجرى شدة الوجع لا أنه اعتقد أنه يجوز عليه الهجر كما حملهم الإشفاق على حراسته والله يقول (والله يعصمك من الناس) ونحو هذا * وأما على رواية أهجرا - وهى رواية أبى إسحاق المستملى في الصحيح في حديث ابن جبير عن ابن عباس من رواية قتيبة - فقد يكون هذا راجعا إلى المختلفين عنده صلى الله عليه وسلم ومخاطبة لهم من بعضهم أي
جئتم باختلافكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين يديه هجرا ومنكرا
__________
(قوله في حديث محمد بن سلام) هو السكندرى، قال الذهبي ما ذكر فيه الخطيب ولا ابن ماكولا سوى التخفيف، وقال ابن قرقول والمصنف في المشارق نقله الأكثر (قوله وأجرى الهجر) بفتح الهاء وإسكان الجيم وهو الهذيان (قوله مجرى) بضم الميم لأنه من أجرى (قوله أهجرا) بفتح الهاء (قوله المستملى) بمثناة فوقية بعد السين المهملة (قوله هجرا) بضم الهاء وسكون الجيم: اسم من الإهجار (13 - 2) بمعنى الإفحاش في النطق (*)

(2/193)


من القول، والهجر بضم الهاء: الفحش في المنطق وقد اختلف العلماء في معنى هذا الحديث وكيف اختلفوا بعد أمره صلى الله عليه وسلم أن يأتوه بالكتاب، فقال بعضهم أوامر النبي صلى الله عليه وسلم يفهم إيجابها من ندبها من إباحتها بقرائن، فلعل قد ظهر من قرائن قوله صلى الله عليه وسلم لبعضهم ما فهموا أنه لم تكن منه عزمة بل أمر رده إلى اختيارهم وبعضهم لم يفهم ذلك فقال: استفهموه، فلما اختلفوا كف عنه إذ لم يكن عزمه ولما رأوه من صواب رأى عمر: ثم هؤلاء قالوا ويكون امتناع عمر إما إشفاقا على النبي صلى الله عليه وسلم من تكليفه في تلك الحال إملاء الكتاب وأن تدخل عليه مشقة من ذلك كما قال إن النبي صلى الله عليه وسلم اشتد به الوجع، وقيل خشى عمر أن يكتب أمورا يعجزون عنها فيحصلون في الحرج بالمخالفة ورأى أن الأرفق بالأمة في تلك الأمور سعة الاجتهاد وحكم النظر وطلب الصواب فيكون المصيب والمخطئ مأجورا، وقد علم عمر تقرر الشرع وتأسيس الملة وأن الله تعالى قال: (اليوم أكملت لكم
دينكم) وقوله صلى الله عليه وسلم (أوصيكم بكتاب الله وعترتي) وقوله عمر: حسبنا كتاب الله رد على ما نازعه لا على أمر النبي صلى الله عليه وسلم، وقد قيل: إن عمر خشى تطرق المنافقين ومن في قلبه مرض لما كتب في ذلك الكتاب في الخلوة وأن يتقولوا في ذلك الأقاويل كادعاء الرافضة الوصية وغير ذلك، وقيل إنه كان من النبي صلى الله عليه وسلم لهم على طريق المشورة والاختبار وهل يتفقون على ذلك أم يختلفوا)
__________
(قوله المشورة) في الصحاح: المشورة الشورى وكذلك المشورة بضم الشين، تقول منه شاورته واستشرته (*)

(2/194)


فلما اختلفوا تركه، وقالت طائفة أخرى: أن معنى الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان مجيبا في هذا الكتاب لما طلب منه لا أنه ابتدا بالأمر به بل اقتضاه منه بعض أصحابه فأجاب رغبتهم وكره ذلك غيرهم للعلل التى ذكرناها، واستدل في مثل هذه القصة بقول العباس لعلى: انطلق بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كان الأمر فينا علمناه، وكراهة على هذا وقوله: والله لا أفعل - الحديث - واستدل بقوله دعوني فإن الذى أنا فيه خير: أي الذى أنا فيه خير من إرسال الأمر وترككم وكتاب الله وأن تدعوني مما طلبتم، وذكر أن الذى طلب كتابه أمر الخلافة بعده وتعيين ذلك
فصل فإن قيل فما وجه حديثه أيضا الذى حدثنا الفقيه أبو محمد الخشنى بقراءتي عليه حدثنا أبو على الطبري حدثنا عبد الغافر الفارسى حدثنا أبو أحمد الجلودى قال حدثنا إبراهيم بن سفيان حدثنا مسلم بن الحجاج حدثنا قتيبة حدثنا ليث عن سعيد بن أبى سعيد عن سالم مولى النصريين قال: سمعت أبا هريرة يقول سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم إنما محمد بشر يغضب كما يغضب البشر وإنى قد اتخذت عندك عهدا لن تخلفنيه فأيما مؤمن آذيته أو سببته أو جلدته فأجعلها له كفارة وقربة تقربه بها إليك يوم القيامة) * وفى رواية (فأيما أحد دعوت عليه
__________
(قوله مولى النصريين) بنون وصاد مهملة هو سالم بن عبد الله النصرى بالنون والصاد المهملة (*)

(2/195)


دعوة، وفى رواية (ليس لها بأهل)، وفى رواية (فأيما رجل من المسلمين سببته أو لعنته أو جلدته فأجعلها له زكاة وصلاة ورحمة) وكيف يصح أن يلعن النبي صلى الله عليه وسلم من لا يستحق اللعن ويسب من لا يستحق السب ويجلد من لا يستحق الجلد أو يفعل مثل ذلك عند الغضب وهو معصوم من هذا كله، فاعلم شرح الله صدرك أن قوله صلى الله عليه وسلم أولا (ليس لها بأهل) أي عندك يا رب في باطن أمره فإن أمره فإن حكمه صلى الله عليه وسلم على الظاهر كما قال وللحكمة التى ذكرناها فحكم صلى الله عليه وسلم بجلده أو أدبه بسبه أو لعنه بما اقتضاه عنده حال ظاهره ثم دعا له صلى الله عليه وسلم لشفقته على أمته ورأفته ورحمته للمؤمنين التى وصفه الله بها وحذره أن يتقبل الله فيمن دعا عليه دعوته أن يجعل دعاءه وفعله له رحمة وهو معنى قوله (ليس لها بأهل)، لا أنه صلى الله عليه وسلم يحمله الغضب ويستفزه الضجر لأن يفعل مثل هذا بمن لا يستحقه من مسلم، وهذا معنى صحيح، ولا يفهم من قوله (أغضب كما يغضب البشر أن الغضب حمله على ما لا يجب بل يجوز أن يكون المراد بهذا أن الغضب لله حمله على معاقبته بلعنه أو سبه وأنه مما كان يحتمل ويجوز عفوه عنه
أو كان مما خير بين المعاقبة فيه والعفو عنه، وقد يحمل على أنه خرج مخرج الإشفاق وتعليم أمته الخوف والحذر من تعدى حدود الله وقد يحمل ما ورد من دعائه هنا ومن دعواته على غير واحد في غير موطن على غير العقد والقصد بل بما جرت به عادة العرب وليس المراد بها الإجابة

(2/196)


كقوله، تربت يمينك، ولا أشبع الله بطنك، وعقرى حلقى) وغيرها من دعواته، وقد ورد في صفته في غير حديث أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن فحاشا، وقال أنس لم يكن سبابا ولا فاحشا ولا لعانا وكان يقول لأحدنا عند المعتبة (ما له ؟ ترب جبينه) فيكون حمل الحديث على هذا المعنى، ثم أشفق صلى الله عليه وسلم من موافقة أمثالها إجابة فعاهد ربه كما قال في الحديث أن يجعل ذلك للمقول له زكاة ورحمة وقربة، وقد يكون ذلك إشفاقا على المدعو عليه وتأنيسا له لئلا يلحقه من استشعار الخوف والحذر من لعن النبي صلى الله عليه وسلم وتقبل دعائه ما يحمله على اليأس والقنوط، وقد يكون ذلك سؤالا منه لربه لمن جلده أو سبه على حق وبوجه صحيح أن يجعل ذلك له كفارة لما أصابه وتمحية لما اجترم وأن تكون عقوبته له في الدنيا سبب العفو والغفران كما جاء في الحديث الآخر (ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدنيا فهو له كفارة، فإن قلت فما معنى حديث الزبير وقول النبي صلى الله عليه وسلم له حين تخاصمه مع الأنصاري في شراج الحرة (اسق يا زبير حتى يبلغ الكعبين) فقال له
__________
(قوله تربت يمينك) قاله لأم سلمة وفى رواية لعائشة (قوله ولا أشبع الله بطنك) الذى في صحيح مسلم في كتاب الأدب عن ابن عباس قال كنت ألعب مع الصبيان فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فتواريت خلف باب فجاء فخطاني خطاه وقال اذهب ادع
لى معاوية، قال فجئت فقلت هو يأكل، قال: ثم قال لى اذهب فادع لى معاوية، قال فجئت فقلت هو يأكل، فقال لا أشبع الله بطنه (قوله عقرى حلقى) قاله لصفية بنت حبى بن أخطب في حجة الوداع (قوله عند المعتبة) بفتح المثناة الفوقية وكسرها (قوله في شراج الحرة) الشراج بكسر الشين المعجمة وتخفيف الراء وفى آخره جيم جمع شرجة وهى مسيل الماء والحرة بفتح الحاء المهملة: أرض ذات حجارة سود (*)

(2/197)


الأنصاري أن كان يا رسول الله ابن عمتك ؟ فتلون وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: (اسق يا زبير ثم احبس حتى يبلغ الجدر) الحديث فالجواب أن النبي صلى الله عليه وسلم منزه أن يقع بنفس مسلم منه في هذه القصة أمر يريب ولكنه صلى الله عليه وسلم ندب الزبير أولا إلى الاقتصار على بعض حقه على طريق التوسط والصلح فلما لم يرض بذلك الآخر ولج وقال ما لا يجب استوفى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث: (باب إذا أشار الإمام بالصلح فأبى) حكم عليه بالحكم: وذكر في آخر الحديث: فاستوعى رسول الله صلى الله عليه وسلم حينئذ للزبير حقه.
وقد جعل المسلمون هذا الحديث أصلا في قضيته، وفيه الاقتداء به صلى الله عليه وسلم في كل ما فعله في حال غضبه ورضاه وأنه وإن نهى أن يقضى القاضى وهو غضبان فإنه في حكمه في حال الغضب والرضى سواء لكونه فيها معصوما، وغضب النبي صلى الله عليه وسلم في هذا إنما كان لله تعالى لا لنفسه كما جاء في الحديث الصحيح، وكذلك الحديث في إقادته عكاشة من نفسه لم يكن لتعمد حمله الغضب عليه بل وقع في الحديث نفسه أن عكاشة قال له: وضربتني بالقضيب، فلا أدرى أعمدا أم أردت ضرب الناقة ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم (أعيذك
بالله يا عكاشة أن يتعمدك رسول الله صلى الله عليه وسلم) وكذلك في حديثه الآخر مع الأعرابي حين طلب عليه السلام الاقتصاص منه، فقال الأعرابي
__________
(قوله أن كان ابن عمتك) أي من أجل ذلك حكمت له، وعمته هي صفية أم الزبير (قوله ولج) بفتح اللام وتشديد الجيم (*)

(2/198)


قد عفوت عنك، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد ضربه بالسوط لتعلقه بزمام ناقته مرة بعد أخرى والنبى صلى الله عليه وسلم ينهاه ويقول له (تدرك حاجتك) وهو يأتي فضربه بعد ثلاث مرات، وهذا منه صلى الله عليه وسلم لمن لم يقف منذ نهيه صواب وموضع أدب، لكنه عليه السلام أشفق إذ كان حق نفسه من الأمر حتى عفا عنه: وأما حديث سواد بن عمرو: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا متخلق فقال (ورس ورس حط حط) وغشيني بقضيب في يده في بطني فأوجعني، قلت القصاص يا رسول الله، فكشف لى عن بطنه: إنما ضربه صلى الله عليه وسلم لمنكر رآه به ولعله لم يرد بضربه بالقضيب إلا تنبيهه، فلما كان منه إيجاع لم يقصده طلب التحلل منه عن ما قدمناه
فصل وأما أفعاله صلى الله عليه وسلم الدنيوية فحكمه فيها من ترقى المعاصي والمكروهات ما قدمناه ومن جواز السهو والغلط في بعضها ما ذكرناه وكله غير قادح في النبوة بل إن هذا فيها على الندور إذ عامة أفعله على السداد والصواب بل أكثرها أو كلها جارية مجرى العبادات والقرب على ما بينا إذ كان صلى الله عليه وسلم لا يأخذ منها لنفسه إلا ضرورته وما يقيم رمق جسمه وفيه مصلحة ذاته التى بها يعبد ربه ويقيم شريعته ويسوس أمته
__________
(قوله سواد بن عمرو) سواد بتخفيف الواو، قال ابن عبد البر سواد بن عمرو القارى الأنصاري روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن الحلوق مرة أو ثلاثة وأنه رآه متحلقا فطعنه في بطنه بجريدة وليست هذه القصة لسواد بن عمر انتهى (*)

(2/199)


وما كان فيما بينه وبين الناس من ذلك فبين معروف يصنعه أو بر يوسعه أو كلام حسن يقوله أو يسمعه أو تألف شارد أو قهر معاند، أو مداراة حاسد وكل هذا لاحق بصالح أعماله منتظم في زاكى وظائف عباداته وقد كان يخالف في أفعاله الدنيوية بحسب اختلاف الأحوال ويعد للأمور أشباهها فيركب في تصرفه لما قرب الحمار وفى أسفاره الراحلة ويركب البغلة في معارك الحرب دليلا على الثبات ويركب الخيل ويعدها ليوم الفزع وإجابة الصارخ وكذلك في لباسه وسائر أحواله بحسب اعتبار مصالحه ومصالح أمته وكذلك يفعل الفعل من أمور الدنيا مساعدة لأمته وسياسة وكراهية لخلافها وإن كان قد يرى غيره خيرا منه كما يترك الفعل لهذا وقد يرى فعله خيرا منه وقد يفعل هذا في الأمور الدينية مما له الخيرة في أحد وجهيه كخروجه من المدينة لأحد وكان مذهبه التحصن بها وتركه قتل المنافقين وهو على يقين من أمرهم مؤالفة لغيرهم ورعاية للمؤمنين من قرابتهم وكراهة لأن يقول الناس إن محمدا يقتل أصحابه كما جاء في الحديث وتركه بناء الكعبة على قواعد إبراهيم مراعاة لقلوب قريش وتعظيمهم لتغيرها وحذرا من نفار قلوبهم لذلك وتحريك متقدم عداوتهم للدين وأهله فقال لعائشة في الحديث الصحيح: (لولا حدثان قومك بالكفر لأتممت البيت على قواعد إبراهيم) ويفعل الفعل ثم يتركه لكون
__________
(قوله وبعدها بضم أوله (قوله الخيرة) بكسر الخاء المعجمة وفتح المثناة التحتية (*)

(2/200)


غيره خيرا منه كانتقاله من أدنى مياه بدر إلى أقربها للعدو من قريش وكقوله: (لو استقبلت من أمرى ما استدبرت ما سقت الهدى) ويبسط وجهه للكاف والعدو رجاء استئلافه ويصبر للجاهل ويقول: (إن من شر الناس من اتقاه الناس لشر) ويبذل له الرغائب ليحبب إليه شريعته ودين ربه ويتولى في منزله ما يتولى الخادم من مهنته، ويتسمت في ملاءته حتى لا يبدو منه شئ من أطرافه وحتى كأن على رؤس جلسائه الطير ويتحدث مع جلسائه بحديث أولهم ويتعجب مما يتعجبون منه ويضحك مما يضحكون منه وقد وسع الناس بشره وعدله لا يستفزه الغضب ولا يقصر عن الحق ولا يبطن على جلسائه يقول: (ما كان لنبى أن تكون له خائنة الأعين) فإن قلت فما معنى قوله لعائشة رضى الله عنها في الداخل عليه (بئس ابن العشيرة) فلما دخل الآن له القول وضحك معه، فلما خرج سألته عن ذلك قال: (إن من شر الناس من اتقاه الناس لشره، وكيف جاز أن يظهر له خلاف ما يبطن ويقول في ظهره ما قال ؟ فالجواب أن فعله صلى الله عليه وسلم كان استئلافا لمثله وتطييبا لنفسه ليتمكن إيمانه ويدخل في الإسلام بسببه أتباعه ويراه مثله فينجذب بذلك إلى الإسلام، ومثل هذا على هذا الوجه قد خرج من حد مداراة الدنيا إلى السياسة الدينية وقد كان يستألفهم بأموال الله العريضة فكيف بالكلمة اللينة ؟ قال صفوان لقد أعطاني وهو أبغض الخلق إلى فما زال يعطينى حتى صار أحب
__________
(قوله في مهنته) بفتح الميم وكسرها: أي خدمته (قوله ويتسمت) أي يقصد سمته (قوله في ملاءته بضم الميم والمد (*)

(2/201)


الخلق إلى، قوله فيه بئس ابن العشيرة هو غير غيبة بل هو تعريف ما علمه منه لمن لم يعلم ليحذر حاله ويحترز منه ولا يوثق بجانبه كل الثقة لا سيما وكان مطاعا متبوعا، ومثل هذا إذا كان لضرورة ودفع مضرة لم يكن بغيبة بل كان جائزا بل واجبا في بعض الأحيان كعادة المحدثين في تجريح الرواة والمزكين في الشهود، فإن قيل فما معنى المعضل الوارد في حديث بريرة من قوله صلى الله عليه وسلم لعائشة وقد أخبرته أن موالى بريرة أبوا بيعها إلا أن يكون لهم الولاء فقال لها صلى الله عليه وسلم (اشتريها واشترطي لهم الولاء) ففعلت، ثم قام خطيبا فقال: (ما بال أقوام يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ؟ كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل) والنبى صلى الله عليه وسلم قد أمرها بالشرط لهم وعليه باعوا ولولاه والله أعلم لما باعوها من عائشة كما لم يبيعوها قبل حتى شرطوا ذلك عليها ثم أبطله صلى الله عليه وسلم وهو قد حرم الغش والخديعة ؟ فاعلم أكرمك الله أن النبي صلى الله عليه وسلم منزه عما يقع في بال الجاهل من هذا ولتنزيه النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ما قد أنكر قوم هذا الزيادة قوله (اشترطي لهم الولاء) إذ ليس في أكثر طرق الحديث ومع ثباتها فلا اعتراض بها إذ يقع لهم بمعنى عليهم قال الله تعالى: (أولئك لهم اللعنة) وقال (وإن أسأتم فلها) فعلى هذا اشترطي عليهم الولاء لك ويكون قيام النبي صلى الله عليه وسلم ووعظه
__________
(قوله المعضل) بكسر الضاد المعجمة، اسم فاعل.
وهو الذى لا يهتدى وجهه (قوله بريرة) هي بنت صفوان، قيل كانت قبطية وقيل حبشية (*)

(2/202)


لما سلف لهم من شرط الولاء لأنفسهم قبل ذلك * ووجه ثان أن قوله صلى الله عليه وسلم (اشترط لهم الولاء) ليس على معنى الأمر لكن على معنى التسوية والإعلام بأن شرطه لهم لا ينفعهم بعد بيان النبي صلى الله عليه وسلم لهم قبل أن الولاء لمن أعتق فكأنه قال: (اشترطي أولا تشترطي فإنه شرط غير نافع، وإلى هذا ذهب الداوودى وغيره وتوبيخ النبي صلى الله عليه وسلم لهم وتقريعهم على ذلك يدل على علمهم به قبل هذا * الوجه الثالث أن معنى قوله (اشترطي لهم الولاء) أي: أظهري لهم حكمه وبيني عندهم سنته أن الولاء إنما هو لمن أعتق، ثم بعد هذا قام هو صلى الله عليه وسلم مبينا ذلك وموبخا على مخالفة ما تقدم منه فيه، فإن قيل فما معنى فعل يوسف عليه السلام بأخيه إذ جعل السقاية في رحله وأخذه باسم سرقتها وما جرى على إخوته في ذلك وقوله إنكم لسارقون ولم يسرقوا ؟ فاعلم أكرمك الله أن الآية تدل على أن فعل يوسف كان من أمر الله لقومه تعالى (كذلك ؟ ؟ ؟ ؟ ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله) الآية فإذا كان كذلك فلا اعتراض به كان فيه ما فيه، وأيضا فإن يوسف كان أعلم أخاه بأنى انا أخوك فلا تبتئس فكان ما جرى عليه بعد هذا من وفقه ورغبته وعلى يقين من عقى الخير له به وإزاحة السوء والمضرة عنه بذلك، وأما قوله (أيتها العير إنكم لسارقون) فليس من قول يوسف فيلزم عليه جواب يحل شبهه ولعل قائله
__________
(قوله كان فيه ما فيه) هو بدل من قوله فلا اعتراض به جواب لإذا، والذى فيه هو أنه كيف يجوز أن يأمر الله بمثل هذا ؟ (*)

(2/203)


إن حسن له التأويل كائنا من كان ظن على صورة الحال ذلك وقد قيل قال
ذلك لفعلهم قبل بيوسف وبيعهم له وقيل غير هذا ولا يلزم أن نقول الأنبياء ما لم يأت أنهم قالوه حتى يطلب الخلاص منه ولا يلزم الاعتذار عن زلات غيرهم.
فصل فإن قيل فما الحكمة في إجراء الأمراض وشدتها عليه وعلى غيره من الأنبياء على جميعهم السلام، وما الوجه فيما ابتلاهم الله به من البلاء وامتحانهم بما امتحنوا به كأيوب ويعقوب ودنيال ويحيى وزكريا وعيسى وإبراهيم ويوسف وغيرهم صلوات الله عليهم وهم خيرته من خلقه وأحباؤه وأصفياؤه ؟ فاعلم وفقنا الله وإياك أن أفعال الله تعالى كلها عدل وكلماته جميعا صدق لا مبدل لكلماته يبتلى عباده كما قال لهم لننظر كيف تعلمون، (وليبلوكم أيكم أحسن عملا) وليعلم الله الذين آمنوا منكم، ولما يعلم الله الذين جاهوا منكم ويعلم الصابرين، ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم) فامتحانه إياهم بضروب المحن زيادة في مكانتهم ورفعة في درجاتهم وأسباب لاستخراج حالات الصبر والرضى والشكر والتسليم والتوكل والتفويض والدعاء والتضرع منهم وتأكيد لبصائرهم في رحمة الممتحنين والشفقة على المسلمين وتذكرة لغيرهم وموعظة لسواهم ليتأسوا في البلاء بهم ويتسلوا

(2/204)


في المحن بما جرى عليهم ويقتدوا بهم في الصبر محو لهنات فرطت منهم أو غفلات سلفت لهم ليلقوا الله طيبين مهذبين وليكون أجرهم أكمل وثوابهم أوفر وأجزل.
حدثنا القاضى أبو على الحافظ حدثنا أبو الحسين الصيرفى وأبو الفضل بن خيرون قالا حدثنا أبو يعلى البغدادي
حدثنا أبو على السنجى حدثنا محمد بن محبوب حدثنا أبو عيسى الترمذي حدثنا قتيبة حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن مصعب بن سعد عن أبيه قال قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء ؟ قال (الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض وما عليه خطيئته)، وكما قال تعالى (وكأين من نبى قاتل معه ربيون كثير) الآيات الثلاث وعن أبى هريرة ما يزال البلاء بالمؤمن في نفسه وولده وماله حتى يلقى الله وما عليه خطيئة، وعن أنس عنه صلى الله عليه وسلم (إذ أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عنه بذنبه حتى يوافي به يوم القيامة) وفى حديث آخر (إذا أحب الله عبدا ابتلاه ليسمع تضرعه) وحكى السمرقندى أن كل من كان أكرم على الله تعالى كان بلاؤه أشد كى يتبين فضله ويستوجب الثواب كما روى عن لقمان أنه قال يا بنى الذهب والفضة يختبران بالنار والمؤمن يختبر بالبلاء، وقد حكى أن ابتلاء يعقوب بيوسف كان سببه التفاته في صلاته إليه ويوسف نائم
__________
(قوله عن عاصم بن بهدلة) قال الذهبي في ترجمته قال يحيى القطان ما وجدت رجلا اسمه عاصم إلا وجدته ردئ الحفظ (*)

(2/205)


محبة له، وقيل: بل اجتمع يوما هو وابنه يوسف على أكل حمل مشوى وهما يضحكان وكان لهم جار يتيم فشم ريحه واشتهاه وبكى وبكت له جدة له عجوز لبكائه وبينهما جدار ولا علم عند يعقوب وابنه فعوقب يعقوب بالبكاء أسفا على يوسف إلى أن سألت حدثتاه وابيضت عيناه من الحزن فلما علم بذلك كان بقية حياته يأمر مناديا ينادى على سطحه
الا من كان مفطرا فليتغد عند آل يعقوب وعوقب يوسف بالمحنة التى نص الله عليها، وروى عن الليث أن سبب بلاء أيوب أنه دخل مع أهل قريته على ملكهم فكلموه في ظلمه وأغلظوا له إلا أيوب فإنه رفق به مخافة على زرعه فعاقبه الله ببلائه، ومحنة سليمان لما ذكرناه من نيته في كون الحق في جنبة أصهاره أو للعمل بالمعصية في داره ولا علم عنده وهذه فائدة شدة المرض والوجع بالنبي صلى الله عليه وسلم، قالت عائشة ما رأيت الوجع على أحد أشد منه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعن عبد الله رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في مرضه يوعك وعكا شديدا فقلت إنك لتوعك وعكا شديدا، قال أجل إنى أوعك كما يوعك رجلان منكم) قلت ذلك أن لك الأجر مرتين قال (أجل ذلك كذلك) وفى حديث أبى سعيد أن رجلا وضع يده على النبي صلى الله عليه وسلم فقال والله ما أطيق
__________
(قوله أكل حمل) بفتح الحاء المهملة والميم، وهو من الضأن الجذع أو دونه، قال ابن دريد والجذع من الضأن ما تمت له سنة وقيل أقل منها (قوله بالمحنة) بنون بعد الحاء المهملة (قوله في جنبة أصهاره) بجيم ونون وموحدة: في القاموس.
الجنبة والجانبة والجنب، شق إنسان (قوله وعن عبد الله هو ابن مسعود (*)

(2/206)


أضع يدى عليك من شدة حماك فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنا معشر الأنبياء يضاعف لنا البلاء إن كان النبي ليبتلى بالقمل حتى يقتله وإن كان النبي ليبتلى بالفقر وإن كانوا ليفرحون بالبلاء كما يفرحون بالرخاء) وعن أنس عنه صلى الله عليه وسلم (إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله
أحب قوما ابتلاهم فمن رضى فله الرضى ومن سخط فله السخط) وقد قال المفسرون في قوله تعالى (من يعمل سوءا يجز به) أن المسلم يجزى بمصائب الدنيا فتكون له كفارة، وروى هذا عن عائشة وأبى ومجاهد، وقال أبو هريرة عنه صلى الله عليه وسلم (من يرد الله به خيرا يصب منه) وقال في رواية عائشة (ما من مصيبة تصيب المسلم إلا يكفر الله بها عنه حتى الشوكة يشاكها) وقال في رواية أبى سعيد (ما يصيب المؤمن من نصف ولا وصب ولا هم ولا حزن ولا أذى ولا غم حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه) وفى حديث ابن مسعود (ما من مسلم يصيبه أذى إلا حات الله عنه خطاياه كما يحت ورق الشجر) وحكمة أخرى أودعها الله في الأمراض لأجسامهم ونعاقب الأوجاع وشدتها عند مماتهم لتضعف قوى نفوسهم فيسهل خروجها عند قبضهم وتخف عليهم مونة النزع وشدة السكرات بتقدم المرض وضعف الجسم والنفس لذلك خلاف موت الفجأة وأخذه كما يشاهد من اختلاف أحوال الموتى في الشدة واللين والصعوبة وقد قال صلى الله عليه وسلم (مثل
__________
(قوله وعكا) بفتح العين وإسكانها (قوله من نصب) بفتح الصاد المهملة أي تعب (قوله ولا وصب) بفتحتين أي مرض (*)

(2/207)


المؤمن مثل خامة الزرع تفيئها الريح هكذا وهكذا) وفى رواية أبى هريرة (من حيث أتتها الريح تكفؤها فإذا سكنت اعتدلت، وكذلك المؤمن يكفأ بالبلاء، ومثل الكافر كمثل الأرزة صماء معتدلة حتى يقصمه الله) معناه أن المؤمن مرزء مصاب بالبلاء والأمراض راض بتصريفه بين أقدار الله تعالى منطاع لذلك لين الجانب برضاه وقلة سخطه
كطاعة خامة الزرع وانقيادها للرياح وتمايلها لهبوبها وترنحها من حيث ما أتتها فإذا أزاح الله عن المؤمن رياح البلايا واعتدل صحيحا كما اعتدلت خامة الزرع عند سكون رياح الجو رجع إلى شكر ربه ومعرفة نعمته عليه برفع بلائه منتظرا رحمته وثوابه عليه، فإذا كان بهذه السبيل لم يصعب عليه مرض الموت ولا نزوله ولا اشتدت عليه سكراته ونزعه لعادته بما تقدمه من الآلام ومعرفة ما له فيها من الأجر وتوطينه نفسه على المصائب ورقتها وضعفها بتوالى المرض أو شدته والكافر بخلاف هذا معافى في غالب حاله ممتع بصحة جسمه كالأرزة الصماء حتى إذا أراد الله هلاكه قصمه لحينه
__________
(قوله خامة الزرع) بخاء معجمة: في الصحاح: الخامة الغضة الرطبة من النبات، وفى الحديث (مثل المؤمن مثل الخامة من الزرع يميلها الريح) (قوله تكفؤها بفتح أوله وسكون ثانيه وكسر ثالثه أي تقلبها (قوله مثل الأرزة) قال ابن قرقول: الأرزة بفتح الهمزة وسكون الراء، كذا الرواية، هي الصنوبر، وقال أبو عبيد إنما هو الآرزة على وزن الفاعلة ومعناه النابتة في الأرض، وأنكر هذا أبو عبيد، انتهى وقال ابن الأثير الأرزة بسكون الراء وفتحها: شجرة الأرز وهو خشب معروف وقيل هو الصنوبر (قوله معتدلة) أي مكنزة ولا يجلجل فيها، قاله ابن الأثير (*)

(2/208)


على غرة وأخذه بغتة من غير لطف ولا رفق فكان موته أشد عليه حسرة ومقاساة نزعه مع قوة نفسه وصحة جسمه أشد ألما وعذابا ولعذاب الآخرة أشد كانجعاف الأرزة وكما قال تعالى (فأخذناهم بغتة وهم لا يشعرون) وكذلك عادة الله تعالى في أعدائه كما قال الله تعالى (فكلا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبا ومنهم من أخذته الصيحة)
الآية، ففجأ جميعهم بالموت على حال عتو وغفلة وصبحهم به على غير استعداد بغتة ولهذا ذكر عن السلف أنهم كانوا يكرهون موت الفجأة ومنه في حديث إبراهيم كانوا يكرهون أخذة كأخذة الأسف أي الغضب يريد موت الفجأة * وحكمة ثالثة أن الأمراض نذير الممات وبقدر شدتها شدة الخوف من نزول الموت فيستعد من إصابته وعلم تعهدها له للبقاء ربه ويعرض عن دار الدنيا الكثيرة الأنكاد ويكون قلبه معلقا بالمعاد فيتنصل من كل ما يخشى تباعته من قبل الله وقبل العباد ويؤدى الحقوق إلى أهلها وينظر فيما يحتاج إليه من وصية فيمن يخلفه أو أمر يعهده وهذا نبينا صلى الله عليه وسلم المغفور له ما تقدم وما تأخر قد طلب التنصل في مرضه ممن كان له عليه مال أو حق في بدن وأقاد من نفسه وماله وأمكن من القصاص منه على ما ورد في حديث الفضل وحديث
__________
(قوله كانجعاف) بكسر الجيم: أي كانقلاع (قوله ولهذا ما كره السلف موت الفجاءة) (ما) هنا زائدة وكذلك فيما يقع في بعض النسخ ولهذا ما ذكر عن السلف أنهم كانوا يكرهون موت انفجاءة (قوله كأخذة الأسف) الأخذة بفتح الهمزة وسكون الخاء المعجمة، والأسف بفتح السين المهملة الغضب (قوله تباعته) بكسر أوله: أي تبعته (قوله من قبل) بكسر القاف وفتح الموحدة (14 - 2) (*)

(2/209)


الوفاة وأوصى بالثقلين بعده: كتاب الله وعترته، وبالأنصار عيبته، ودعا إلى كتب كتاب لئلا تضل أمته بعده إما في النص عليه الخلافة أو الله أعلم بمراده ثم رأى الإمساك عنه أفضل وخيرا وهكذا سيرة عباد الله المؤمنين وأوليائه المتقين وهذا كله يحرمه غالبا الكفار لإملاء الله لهم
ليزدادوا إثما وليستدرجهم من حيث لا يعلمون، قال الله تعالى (ما ينظرون إلا صيحة واحدة تأخذهم وهم يخصمون فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون) ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في رجل مات فجأة: (سبحان الله كأنه على غضب المحروم من حرم وصيته) وقال: (موت الفجأة راحة للمؤمن وأخذه أسف للكافر أو الفاجر) وذلك لأن الموت يأتي المؤمن غالبا مستعد له منتظر لحلوله فهان أمره عليه كيفما جاء وأفضى إلى راحته من نصب الدنيا وأذاها كما قال صلى الله عليه وسلم (مستريح ومستراح منه، وتأتى الكافر والفاجر منيته على غير استعداد ولا أهبة ولا مقدمات منذرة مزعجة (بل تأتيهم بغتة فتبهتهم فلا يستطيعون ردها ولا هم ينظرون) فكان الموت أشد شئ عليه وفراق الدنيا أفظع أمر صدمه وأكره شئ له.
وإلى هذا المعنى أشار صلى الله عليه وسلم بقوله: (من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه، ومنكره لقاء الله كره الله لقاءه)
__________
(قوله بالأنصار عيبته) بفتح العين المهملة وسكون المثناة التحتية أراد أنهم موضع سره وأمانته كعيبة الثياب التى يضع فيها الشخص متاعه (قوله أفظع) بالفاء والظاء المعجمة أي أعظم وأشد (*)

(2/210)