الشفا
بتعريف حقوق المصطفى وحاشية الشمني
القسم الرابع في تصرف وجوه الأحكام فيمن تنقصه أو سبه عليه الصلاة
والسلام
قال القاضى أبو الفضل وفقه الله قد تقدم من الكتاب والسنة وإجماع الأمة
ما يجب من الحقوق للنبى صلى الله عليه وسلم وما يتعين له من بر وتوقير
وتعظيم وإكرام وبحسب هذا حرم الله تعالى أذاه في كتابه وأجمعت الأمة
على قتل متنقصه من المسلمين وسابك قال الله تعالى:
(إن الذى يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم
عذابا مهينا) وقال: (والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب اليم) وقال الله
تعالى: (وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده
أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما) وقال تعالى في تحريم التعريض له: (يا
أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا) الآية، وذلك
أن اليهود كانوا يقولون راعنا يا محمد: أي أرعنا سمعك واسمع منا،
ويعرضون بالكلمة يريدون الرعوبة فنهى الله المؤمنين عن التشبه بهم وقطع
الذريعة بنهي المؤمنين عنها لئلا يتوصل بها الكافر والمنافق إلى سبه
والاستهزاء به وقيل بل لما فيه من مشاركة اللفظ لأنها عند اليهود بمعنى
أسمع لا سمعت، وقيل: بل لما فيها من قلة الأدب وعدم توقير النبي صلى
الله عليه وسلم وتعظيمه لأنها في لغة الأنصار بمعنى ارعنا نرعك فنهوا
عن ذلك إذ مضمنه أنهم لا يرعون إلا برعايته لهم
__________
(قوله وبحسب هذا) بفتح السين أي بقدر (قوله ويعترضون) بتشديد الراء
المكسورة (قوله الرعونة) بضم الراء أي الحمق (قوله إذ مضمنه) بضم الميم
الأولى وفتح الضاد المعجمة (*)
(2/211)
وهو صلى الله
عليه وسلم واجب الرعاية بكل حال وهذا هو صلى الله عليه وسلم قد نهى عن
التكنى بكنيته فقال: (سموا باسمى ولا تكنوا بكنيتي) صيانة لنفسه وحماية
عن أذاه إذ كان صلى الله عليه وسلم استجاب لرجل نادى يا أبا القاسم،
فقال: لم أعنك، إنما دعوت هذا، فنهى حينئذ عن التكنى بكنيته لئلا يتأذى
بإجابة.
دعوة غيره لمن لم يدعه ويجد بذلك المنافقون والمستهزؤن ذريعة إلى أذاه
والإزراء به فينادونه فإذا التفت قالوا: إنما أردنا هذا لسواه.
تعنيتا له واستخفافا بحقه على عادة
المجان والمستهزئين فحمى صلى الله عليه وسلم حمى أذاه بكل وجه، فحمل
محققوا العلماء نهيه عن هذا على مدة حياته وأجازوه بعد وفاته لارتفاع
العلة، وللناس في هذا الحديث مذاهب ليس هذا موضعها وما ذكرناه هو مذهب
الجمهور والصواب إن شاء الله أن ذلك على طريق تعظيمه وتوقيره وعلى سبيل
الندب والاستحباب لا على التحريم ولذلك لم ينه عن اسمه لأنه قد كان
الله منع من ندائه به بقوله: (لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم
بعضا) وإنما كان المسلمون يدعونه يا رسول الله يا نبى الله وقد يدعونه
بكنيته أبا القاسم بعضهم في بعض الأحوال، وقد روى أنس رضى الله عنه عنه
صلى الله عليه وسلم ما يدل على كراهة التسمى باسمه وتنزيهه عن ذلك إذا
لم يوقر، فقال (تسمون أولادكم محمدا ثم تلعنونهم) وروى
__________
(قوله تعنينا) بعين مهملة فنون مكسورة يقال عنته تعنيتا إذا شدد عليه
وألزمه ما يصعب عليه أداؤه، كذا في القاموس (قوله المجان) بضم الميم
وتشديد الجيم في الصحاح المجون أن لا يبالى الإنسان ما صنع وقد مجن
بالفتح يمجن مجونا فهو ماجن (*)
(2/212)
أن عمر رضى
الله عنه كتب إلى أهل الكوفة لا يسمى أحد باسم النبي صلى الله عليه
وسلم) حكاه أبو جعفر الطبري، وحكى محمد بن سعد أنه نظر إلى رجل اسمه
محمد ورجل يسبه ويقول له فعل الله بك يا محمد وصنع، فقال عمر لابن أخيه
محمد بن زيد بن الخطاب: لا أرى محمدا صلى الله عليه وسلم يسب بك والله
لا تدعى محمدا ما دمت حيا وسماه عبد الرحمن وأراد أن يمنع لهذا أن يسمى
أحد بأسماء لأنبياء إكراما لهم بذلك وغير أسماءهم وقال لا تسموا بأسماء
الأنبياء ثم أمسك، والصواب جواز هذا كله بعده
صلى الله عليه وسلم بدليل إطباق الصحابة على ذلك وقد سمى جماعة منهم
ابته محمدا وكناه بأبى القاسم وروى أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن في
ذلك لعلى رضى الله عنه وقد أخبر صلى الله عليه وسلم أن ذلك اسم المهدى
وكنيته وقد سمى به النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن طلحة ومحمد بن
عمرو ابن حزم ومحمد بن ثابت بن قيس وغير واحد وقال: (ما ضر أحدكم أن
يكون في بيته محمد ومحمدان وثلاثة، وقد فصلت الكلام في هذا القسم على
بابين كما قدمناه
__________
(قوله وقد سمى به النبي صلى الله عليه وسلم محمد بن طلحة) قال سمى به
النبي صلى الله عليه وسلم غير محمد بن طلحة قال الذهبي محمد بن خليفة
شهد الفتح فيما يقال وكان اسمه عبد مناف فغيره النبي صلى الله عليه
وسلم، وذكر الحاكم فيمن دخل خراسان من الصحابة محمد مولى رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكان اسمه ناهية وكان مجوسيا فسافر بتجارة إلى الحجاز
فأسلم وسماه النبي صلى الله عليه وسلم محمدا.
قال الذهبي رواه الحاكم بسند مظلم ومحمد بن نبيط بن جابر ولد على عهد
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسماه محمد وحنكه فيما قيل ومحمد بن هلال
بن المعلى سماه النبي صلى الله عليه وسلم وشهد الفتح، قاله أبو موسى
(*)
(2/213)
الباب الأول في بيان ما هو في حقه صلى الله عليه وسلم سب أو نقص من
تعريض أو نقص
اعلم وفقنا
الله وإياك أن جميع من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو عابه أو ألحق به
نقصا في نفسه أو نسبه أو دينه أو خصلة من خصاله أو عرض به أو شبهة بشئ
على طريق السب له أو الإزراء عليه أو التصغير لشأنه أو الغض منه والعيب
له فهو ساب له والحكم فيه حكم الساب يقتل كما نبينه ولا نستثني فصلا من
فصول هذا الباب على هذا المقصد ولا يمترى فيه تصريحا كان أو تلويحا
وكذلك من لعنه أو دعا عليه أو تمنى مضرة له أو نسب إليه ما لا يليق
بمنصبه على طريق الذم أو عبث في جهته العزيزة بسخف من الكلام وهجر
ومنكر من القول وزور أو عيره بشئ مما جرى من البلاء والمحنة عليه أو
غمصه ببعض العوارض البشرية الجائزة والمعهودة لديه وهذا كله إجماع من
العلماء وأئمة الفتوى من لدن الصحابة رضوان الله عليهم إلى هلم جرا،
قال أبو بكر بن
__________
(قوله أو الإزراء عليه) أي النهاون به (قوله أو عبث) بفتح المهملة وكسر
الموحدة بعدها مثلثة أي لعب (قوله وهجر) بضم الهاء وسكون الجيم من
الإهجار وهو الإفحاش في النطق (قوله أو عيره) بفتح العين المهملة
وتشديد المثناة التحتية (قوله أو غمصه) بفتح الغين المعجمة والميم
والصاد المهمل ة: أي عابه أو استصغره (قوله إلى هلم جرا) في الصحاح هلم
بمعنى تعالى.
قال الخليل: أصله لم من قولك لم الله شعثه: أي جمعه.
كأنه أراد لم نفسك إليا أي أقرب وها لتنبيه وإنما حذفت ألفها لكثرة
الاستعمال وجعلا اسما واحدا يستوى فيه الواحد والجمع والتأنيث في لغة
أهل الحجاز وأهل نجد يصرفونها وجرا من الجر وهو السحب وانتصابه على
المصدر أو الحال (*)
(2/214)
المنذر أجمع
عوام أهلى العلم على أن من سب النبي صلى الله عليه وسلم يقتل وممن قال
ذلك مالك بن أنس والليث وأحمد وإسحاق وهو مذهب الشافعي قال القاضى أبو
الفضل وهو مقتضى قول أبى بكر الصديق رضى الله عنه ولا تقبل توبته عند
هؤلاء، وبمثله قال أبو حنيفة وأصحابه
والثوري وأهل الكوفة والأوزاعي في المسلمين لكنهم قالوا: هي ردة، وروى
مثله الوليد بن مسلم عن مالك وحكى الطبري مثله عن أبى حنيفة وأصحابه
فيمن تنقصه صلى الله عليه وسلم أو برئ منه أو كذبه وقال سحنون فيمن
سبه: ذلك ردة كالزندقة وعلى هذا وقع الخلاف في استنابته وتكفيره وهل
قتله حد أو كفر كما سنبينه في الباب الثاني إن شاء الله تعالى، ولا
نعلم خلافا في استباحة دمه بين علماء الأمصار وسلف الأمة وقد ذكر غير
واحد الإجماع على قتله وتكفيره وأشار بعض الظاهرية وهو أبو محمد على بن
أحمد الفارسى إلى الخلاف في تكفير المسخف به والمعروف ما قدمناه قال
محمد بن سحنون أجمع العلماء أن شاتم النبي صلى الله عليه وسلم المتنقص
له كافر والوعيد جار عليه بعذاب
__________
(قوله كالزندقة) قال ابن قرقول: الزنادقة من لا يعتقد ملة من الملل
المعروفة ثم استعمل ذلك فيمن عطل الأديان وأنكر الشرائع وفيمن أظهر
الإسلام وأسر غيره وأصله من كان على مذهب مانى ونسبوا إلى كتابه الذى
وضعه في إبطال النبوة ثم عربته العرب انتهى (قوله وأشار بعض الظاهرية)
هو المعروف بابن حر على بن أحمد ابن سعيد بن حزم اليزيدى الأموي
القرطبى الطاهري توفى سنة خمس وخمسين وأربعمائة (*)
(2/215)
الله له وحكمه
عند الأمة قتل ومن شك في كفره وعذابه كفر، واحتج إبراهيم بن حسين بن
خالد الفقيه في مثل هذا بقتل خالد بن الوليد مالك ابن نويرة لقوله عن
النبي صلى الله عليه وسلم صاحبكم، وقال أبو سليمان الخطابى لا أعلم
أحدا من المسلمين اختلف في وجوب قتله إذا كان مسلما، وقال ابن القاسم
عن مالك في كتاب ابن سحنون والمبسوط والعتبية وحكاه مطرف عن مالك في
كتاب ابن حبيب من سب النبي صلى الله عليه
وسلم من المسلمين قتل ولم يستتب، قال ابن القاسم في العتبية من سبه أو
شتمه أو عابه أو تنقصه فإنه يقتل وحكمه عند الأمة القتل كالزنديق وقد
فرض الله تعالى توقيره وبره وفى المبسوط عن عثمان بن كنانة من شتم
النبي صلى الله عليه وسلم من المسلمين قتل أو صلب حيا ولم يستتب،
والإمام مخير في صلبه حيا أو قتله، ومن رواية أبى المصعب وابن أبى أويس
سمعنا مالكا يقول: من سب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو شتمه أو عابه
أو تنقصه قتل: مسلما كان أو كافرا ولا يستتاب، وفى كتاب محمد أخبرنا
أصحاب مالك أنه قال: من سب النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره من
النبيين من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب، وقال أصبغ، يقتل على كل حال
أسر ذلك أو أظهره ولا يستتاب لأن توبته لا تعرف، وقال عبد الله بن عبد
الحكم من سب النبي صلى الله عليه وسلم من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب)
وحكى الطبري مثله
__________
(قوله ابن نويرة) بضم النون وفتح الواو بعدها مثناة تحتية ساكنة.
(*)
(2/216)
عن أشهب عن
مالك، وروى ابن وهب عن مالك من قال إن رداءه النبي صلى الله عليه وسلم
- ويروى زر النبي صلى الله عليه وسلم - وسخ أراد به عيبه قتل، وقال بعض
علمائنا أجمع العلماء على أن من دعا على نبى من الأنبياء بالويل أو بشئ
من المكروه أنه يقتل بلا استتابة وأفتى أبو الحسن القابسى فيمن قال في
النبي صلى الله عليه وسلم الجمال يتيم أبى طالب بالقتل، وافتى أبو محمد
بن أبى زيد بقتل رجل سمع قوما يتذاكرون صفة النبي صلى الله عليه وسلم
إذ مر بهم رجل قبيح الوجه واللحية فقال لهم تريدون تعرفون صفته هي في
صفة هذا المار في خلقه ولحيته قال ولا تقب لتوبته وقد كذب لعنه الله
وليس يخرج من قلب سليم الإيمان
وقال أحمد بن أبى سليمان صاحب سحنون من قال إن النبي صلى الله عليه
وسلم كان أسود، يقتل، وقال في رجل قيل له لا وحق رسول الله، فقال فعل
الله برسول الله كذا - وذكر كلاما قبيحا - فقيل له ما تقول يا عدو الله
؟ فقال أشد من كلامه الأول ثم قال: إنما أردت برسول الله العقرب فقال
ابن أبى سليمان للذى سأله اشهد عليه وأنا شريكك، يريد في قتله وثواب
ذلك.
قال حبيب بن أبى الربيع لأن ادعاء التأويل في لفظ صراح لا يقبل أنه
استهان وهو غير معزر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولا موقر له فوجب
إباحة دمه، وأفتى أبو عبد الله بن عتاب في عشار قال لرجل أد واشك إلى
النبي صلى الله عليه وسلم وقال إن سألت أو جهلت
__________
(قوله الجمال) بفتح الجيم وتشديد الميم (*)
(2/217)
فقد جهل وسأل
النبي صلى الله عليه وسلم: بالقتل وأفتى فقهاء الأندلس بقتل ابن حاتم
المتفقة الطليطلى وصلبه بما شهد عليه به من استخفافه بحق النبي صلى
الله عليه وسلم وتسميته إياه أثناء مناظرته باليتيم وختن حيدرة وزعمه
أن زهده لم يكن قصدا ولو قدر على الطيبات أكلها إلى أشباه لهذا، وأفنى
فقهاء القيروان وأصحاب سحنون بقتل ابراهيم الفزارى وكان شاعرا متفننا
في كثير من العلوم وكان ممن يحضر مجلس القاضى أبى العباس بن طالب
للمناظرة فرفعت عليه أمور منكرة من هذا الباب في الاستهزاء بالله
وأنبيائه ونبينا صلى الله عليه وسلم فأحضر له القاضى يحيى بن عمر وغيره
من الفقهاء وأمر بقتله وصلبه فطعن بالسكين وصلب منكسا ثم أنزل وأحرق
بالنار، وحكى بعض المؤرخين أنه لما رفعت خشبته وزالت عنها الأيدى
استدارت وحوله عن
القبلة فكان آية للجميع وكبر الناس، وجاء كلب فولغ في دمه فقال يحيى بن
عمر صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر حديثا عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال: (لا يلغ الكلب في دم مسلم) وقال
__________
(قوله الطليطلى) بضم الطائين وفتح اللام الأولى وكسر الثانية (قوله
وختن حيدرة) في الصحاح الختن كل من كان من المرأة مثل الأب والأخ وعند
العامة ختن الرجل زوج ابنته.
وحيدرة بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية الأسد.
والمراد هنا على بن أبى طالب فان أمه فاطمة بنت أسد سمته في أول ولادته
باسم أبيها وكان أبو طالب غائبا فلما قدم سماه عليا فغلب على تسمية أبى
طالب وفى صحيح مسلم من إنشاد على * أنا الذى سمتن أمي حيدره * (قوله لا
يلغ) بفتح أوله وثانيه ويقال ولغ بفتح اللام وكسرها يلغ بفتح اللام (*)
(2/218)
القاضى أبو عبد
الله بن المرابط: (من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم القاضى أبو عبد
الله بن المرابط: (من قال إن النبي صلى الله عليه وسلم هزم يستتاب فإن
تاب وإلا قتل لا أنه تنقص إذ لا يجوز ذلك عليه في خاصته إذ هو على
بصيرة من أمره ويقين من عصمته، وقال حبيب بن ربيع القروى: مذهب مالك
وأصحابه أن من قال فيه صلى الله عليه وسلم ما فيه نقص قتل دون استتابة،
وقال ابن عتاب: الكتاب والسنة موجبان أن من قصد النبي صلى الله عليه
وسلم بأذى أو نقص معرضا أو مصرحا وإن قل فقتله واجب، فهذا الباب كله
مما عده العلماء سبا أو تنقصا يجب قتل قائله لم يختلف في ذلك متقدمهم
ولا متأخرهم وإن اختلفوا في حكم قتله عى ما أشرنا إليه ونبينه بعد
وكذلك أقول حكم من غمصه أو غيره برعاية الغنم أو السهو أو النسيان أو
السحر أو ما أصابه من
جرح أو هزيمة لبعض جيوشه أو أذى من عدوه أو شدة من زمنه أو بالميل إلى
نسائه فحكم هذا كله لمن قصد به نقصه القتل وقد مضى من مذاهب العلماء في
ذلك ويأتى ما يدل عليه.
فصل في الحجة في إيجاب قتل من سبه أو عابه
صلى الله عليه وسلم فمن القرآن لعنه الله تعالى لمؤذيه في
الدنيا والآخرة وقرانه تعالى أذاه بأذاه ولا خلاف في قتل من سب الله
وأن اللعن إنما يستوجبه من هو كافر وحكم الكافر القتل فقال (إن الذين
يؤذون الله ورسوله) الآية وقال في قاتل المؤمن مثل ذلك فمن لعنته في
الدنيا القتل قال الله تعالى
(2/219)
(ملعونين أينما
ثقفوا أخذوا وقتولا تقتيلا) وقال في المحاربين وذكر عقوبتهم (ذلك لهم
خزى في الدنيا) وقد يقع القتل بمعنى اللعن قال (قتل الخراصون) و
(قاتلهم الله أنى يؤفكون) أي لعنهم الله ولأنه فرق بين أذاهما وأذى
المؤمنين وفى أذى المؤمنين ما دون القتل من الضرب والنكال فكان حكم
مؤذى الله ونبيه أشد من ذلك وهو القتل وقال الله تعالى (فلا وربك لا
يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم) الآية فسلب اسم الإيمان عمن وجد في
صدره حرجا من قضائه ولم يسلم له ومن تنقصه فقد ناقض هذا وقال الله
تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي - إلى
قوله - أن تحبط أعمالكم) ولا يحبط العمل إلا الكفر والكافر يقتل وقال
الله تعالى (وإذا جاؤك حيوك بما لم يحيك به الله) ثم قال (حسبهم جهنم
يصلونها فبئس المصير) وقال تعالى (ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو
أذن) ثم قال (والذين يؤذون الرسول الله لهم عذاب
أليم) وقال تعالى (ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نحوذ ونلعب) إلى قوله
(قد كفرتم بعد إيمانكم) قال أهل التفسير كفرتم بقولكم في رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأما الإجماع فقد ذكرناه وأما الآثار فحدثنا الشيخ أبو
عبد الله أحمد بن محمد بن غلبون عن الشيخ أبى ذر الهروي إجازة قال
حدثنا أبو الحسن الدارقطني وأبو عمر بن حيوية حدثنا محمد بن نوح حدثنا
عبد العزيز بن محمد بن الحسن بن زبالة حدثنا
__________
(قوله ابن زبالة) بفتح الزاى وتخفيف الموحدة (*)
(2/220)
عبد الله بن
موسى بن جعفر عن على بن موسى عن أبيه عن جده عن محمد بن على بت الحسين
عن أبيه عن الحسين بن على عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال
(من سب نبيا فاقتلوه ومن سب أصحابي فاضربوه) * وفى الحديث الصحيح أمر
النبي صلى الله عليه وسلم بقتل كعب ابن الأشرف وقوله: (من لكعب بن
الأشرف فإنه يؤذى الله ورسوله) ووجه إليه من قتله غيلة دون دعوة بخلاف
غيره من المشركين وعلل بأذاه له فدل أن قتله إياه لغير الإشراك بل
للأذى وكذلك قتل أبا رافع، قال البراء وكان يؤذى رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويعين عليه وكذلك أمره يوم الفتح بقتل ابن خطل وجاريتيه
اللتين كانتا تغنيان بسبه صلى الله عليه وسلم * وفى حديث آخر أن رجلا
كان يسبه صلى الله عليه وسلم فقال (من يكفيني عدوى ؟) فقال خالد أنا
فبعثه النبي صلى الله عليه وسلم فقتله وكذلك أمر بقتل جماعة ممن كان
يؤذيه من الكفار ويسبه كالنضر بن الحارث وعقبة بن أبى معيط وعهد بقتل
جماعة منهم قبل الفتح وبعده فقتلوا إلا من بادر بإسلامه قبل القدرة
عليه
وقد روى البزار عن ابن عباس أن عقبة بن أبى معيط نادى يا معاشر قريش
مالى أقتل من بينكم صبرا ؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (بكفرك
وافترائك على رسول الله صلى الله عليه وسلم) وذكر عبد الرزاق أن النبي
صلى الله عليه وسلم سبه رجل فقال (من يكفيني عدوى ؟ فقال
__________
(قوله غيلة) بكسر الغين المعجمة (*)
(2/221)
الزبير: أنا،
فبارزه فقتله الزبير.
وروى أيضا أن امرأة كانت تسبه صلى الله عليه وسلم فقال (من يكفيني
عدوتى ؟) فخرج إليها خالد بن الوليد فقتلها، وروى أن رجلا كذب على
النبي صلى الله عليه وسلم فبعث عليا والزبير إليه ليقتلاه، وروى ابن
قانع أن رجلا جاء إلى النبي صلى القه عليه وسلم فقال يا رسول الله سمعت
أبى يقول فيك قولا قبيحا فقتله فلم يشق ذلك على النبي صلى الله عليه
وسلم، وبلغ المهاجر بن أبى أمية أمير اليمن لأبى بكر رضى الله عنه أن
امرأة هناك في الردة غنت بسب النبي صلى الله عليه وسلم فقطع يدها ونزع
ثنيتها فبلغ أبا بكر رضى الله عنه ذلك فقال له لولا ما فعلت لأمرتك
بقتلها لأن حد الأنبياء ليس يشبه الحدود وعن ابن عباس هجت امرأة من
خطمة النبي صلى الله عليه وسلم فقال (من لى بها ؟) فقال رجل من قومها
أنا يا رسول الله فنهض فقتلها فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال (لا
ينتطح فيها عنزان) وعن أبى عباس أن أعمى كانت له أم ولد تسب النبي صلى
الله عليه وسلم فيزجرها فلا تنزجر فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في
النبي صلى الله عليه وسلم وتشتمه فقتلها وأعلم النبي صلى الله عليه
وسلم بذلك فأهدر دمها، وفى حديث أبى برزة الأسلمي كنت يوما جالسا عند
أبى بكر الصديق فغضب على رجل من المسلمين
وحكى القاضى إسماعيل وغير واحد من الأئمة في هذا الحديث أنه سب أبا بكر
ورواه النسائي: أتيت أبا بكر وقد أغلظ لرجل فرد عليه قال فقلت
__________
(قوله ولا ينتطح فيها عنزان) أي لا يجرى فيها خلف ولا نزاع (قوله أبى
برزة) بموحدة مفتوحة وراء ساكنة بعدها زاى اسمه فضلة بن عبيد على
الصحيح (*)
(2/222)
يا خليفة رسول
الله دعني أضرب عنقه فقال: اجلس فليس ذلك لأحد إلا رسول الله صلى الله
عليه وسلم، قال القاضى أبو محمد بن نصر ولم يخالف عليه أحد، فاستدل
الأئمة بهذا الحديث على قتل من أغضب النبي صلى الله عليه وسلم بكل ما
أغضبه أو آداه أو سبه ومن ذلك كتاب عمر بن عبد العزيز إلى عامله
بالكوفة وقد استشاره في قتل رجل سب عمر رضى الله عنه فكتب إليه عمر:
إنه لا يحل قتل امرئ مسلم بسب أحد من الناس إلا رجلا سب رسول الله صلى
الله عليه وسلم فمن سبه فقد حل دمه، وسأل الرشيد مالكا في رجل شتم
النبي صلى الله عليه وسلم وذكر له أن فقهاء العراق أفتوه بجلده فغضب
مالك وقال: يا أمير المؤمنين ما بقاء الأمة بعد شتم نبيها ؟ من شتم
الأنبياء قتل ومن شتم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلد.
قال القاضى أبو الفضل: كذا وقع في هذه الحكاية رواها غير واحد من أصحاب
مناقب مالك ومؤلفي أخباره وغيرهم ولا أدرى من هؤلاء الفقهاء بالعراق
الذين أفتوا الرشيد بما ذكر وقد ذكرنا مذهب العراقيين بقتله ولعلهم ممن
لم يشهر بعلم أو من لا يوثق بفتواه أو يميل به هواه أو يكون ما قاله
يحمل على غير السب فيكون الخلاف هل هو سب أو غير سب أو يكون رجع وتاب
عن سبه فلم يقله لمالك على أصله وإلا فالإجماع على قتل من سبه كما
قدمناه ويدل على قتله من
جهة النظر والاعتبار أن من سبه أو تنقصه صلى الله عليه وسلم فقد ظهرت
علامة مرض قلبه وبرهان سرطويته وكفره، ولهذا ما حكم له كثير من
(2/223)
العلماء بالردة
وهى رواية الشاميين عن مالك والأوزاعي وقول الثوري وأبى حنيفة
والكوفيين والقول الآخر أنه دليل على الكفر فيقتل حدا وإن لم يحكم له
بالكفر إلا أن يكون متماديا على قوله غير منكر له ولا مقلع عنه فهذا
كافر، وقوله إما صريح كفر كالتكذيب ونحوه أو من كلمات الاستهزاء والذم
فاعترافه بها وترك توبته عنها دليل استحلاله لذلك وهو كفر أيضا فهذا
كافر بلا خلاف قال الله تعالى في مثله (يحلفون بالله ما قالوا ولقد
قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم) قال أهل التفسير هي قولهم إن كان
ما يقول محمد حقا لنحن شر من الحمير وقيل بل قول بعضهم ما مثلنا ومثل
محمد إلا قول القائل سمن كلبك يأكلك و (لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن
الأعز منها الأذل) وقد قيل إن قائل مثل هذا إن كان مستترا به أن حكمه
حكم الزنديق يقتل ولأنه قد غير دينه وقد قال صلى الله عليه وسلم (من
غير دينه فاضربوا عنقه) ولأن لحكم النبي صلى الله عليه وسلم في الحرمة
مزية على امته وساب الحر من أمته يحد فكانت العقوبة لمن سبه صلى الله
عليه وسلم القتل لعظيم قدره وشفوف منزلته على غيره
فصل فإن قلت فلم لم يقتل النبي صلى الله
عليه وسلم اليهودي الذى قال له السام عليكم وهذا دعاء عليه ولا
قتل الآخر الذى قال له إن هذه لقسمة
__________
(قوله وشفوف) بضم الشين المعجمة وتخفيف الفاء أي فضل منزلته (*)
(2/224)
ما أريد بها
وجه الله وقد تأذى النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك وقال قد أوذى موسى
بأكثر من هذا فصبر ولا قتل المنافقين الذين كانوا يؤذونه في أكثر
الأحيان ؟ فاعلم وفقنا الله وإياك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أول
الإسلام يستألف عليه الناس ويميل قلوبهم ويميل إليه ويجيب إليهم
الإيمان ويزينه في قلوبهم ويدارئهم ويقول لأصحابه إنما بعثتم ميسرين
ولم تبعثوا منفرين ويقول (يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا) ويقول
(لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه) وكان صلى الله عليه وسلم يدارى
الكفار والمنافقين ويجمل صحبتهم ويغضى عنهم ويحتمل من أذاهم ويصبر على
جفائهم ما لا يجوز لنا اليوم الصبر لهم عليه وكان يرفقهم بالعطاء
والإحسان وبذلك أمره الله تعالى فقال تعالى (ولا تزال تطلع على خائنة
منهم إلا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين) وقال تعالى
(ادفع بالتى هي أحسن فإذا الذى بينك وبينه عداوة كأنه ولى حميم) وذلك
لحاجة الناس للتألف أول الإسلام وجمع الكلمة عليه فلما استقر وأظهره
الله على الدين كله قتل من قدر عليه واشتهر أمره كفعله بابن خطل ومن
عهد بقتله يوم الفتح ومن أمكنه قتله غيلة من يهود وغيرهم أو غلبة ممن
لم ينظمه قبل سلك صحبته والانحراط في جملة مظهرى الإيمان به ممن كان
يؤذيه كابن
__________
(قوله ويرفقهم بالعطاء) في الصحاح الرفق ضد العنف وقد رفق به يرفق.
وحكى أبو زيد رفقت به بمعنى (15 - 2) (*)
(2/225)
الأشرف وأبى
رافع والنظر وعقبة وكذلك ندر دم جماعة سواهم ككعب ابن زهير وابن زبعر
وغيرهما ممن آذاه حتى ألقوا بأيديهم ولقوه مسلمين وبواطن المنافقين
مستترة وحكمه صلى الله عليه وسلم على الظاهر وأكثر تلك الكلمات إنما
كان يقولها القائل منهم خفية ومع أمثاله ويحلفون عليها إذا نميت
وينكرونها ويحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكان مع هذا
يطمع في فيأتهم ورجوعهم إلى الإسلام وتوبتهم فيصبر صلى الله عليه وسلم
على هناتهم وجفوتهم كما صبر أولو العزم من الرسل حتى فاء كثير منهم
باطنا كما فاء ظاهرا وأخلص سرا كما أظهر جهرا ونفع الله بعد بكثير منهم
وقام منهم للدين وزراء وأعوان وحماة وأنصار كما جاءت به الأخبار وبهذا
أجاب بعض أئمتنا رحمهم الله عن هذا السؤال قال ولعله لم يثبت عنده صلى
الله عليه وسلم من أقوالهم ما رفع وإنما نقله الواحد ومن لم يصل رتبة
الشهادة في هذا الباب من صبى أو عبد أو امرإة والدماء لا تستباح إلا
بعدلين وعلى هذا يحمل أمر اليهودي في السلام وأنهم لووا به ألسنتهم ولم
يبينوه ألا ترى كيف نبهت عليه عائشة ولو كان صرح بذلك لم تنفرد بعلمه
ولهذا نبه النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على فعلهم وقلة صدقهم في
فعلهم وقلة صدقهم في
__________
(قوله وابن الزبعرى) بكسر الزاى وفتح الموحدة وسكون العين المهملة
والقصر في الأصل السيئ الخلق، وقال أبو عبيدة: الكثير شعر الوجه
والحاجبين واللحيين (قوله فيأتهم) أي رجوعهم (قوله حتى فاء) بالمد: أي
رجع (*)
(2/226)
سلامهم
وخيانتهم في ذلك ليا بألسنتهم وطعنا في الدين فقال إن اليهود إذا سلم
أحدهم فإنما يقول السام عليكم فقولوا عليكم وكذلك قال بعض
أصحابنا البغداديين إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقتل المنافقين
بعلمه فيهم ولم يأت أنه قامت بينة على نفاقهم فلذلك تركهم وأيضا فإن
الأمر كان سرا وباطنا وظاهرهم الإسلام والإيمان وإن كان من أهل الذمة
بالعهد والجوار والناس قريب عهدهم بالإسلام لم يتميز بعد الخبيث من
الطيب وقد شاع عن المذكورين في العرب كون من يتهم بالنفاق من جملة
المؤمنين وصحابة سيد المرسلين وأنصار الدين بحكم ظاهرهم فلو قتلهم
النبي صلى الله عليه وسلم لنفاقهم وما يبدر منهم وعلمه بما أسروا في
أنفسهم لوجد المنفر ما يقول ولا ارتبا الشارد وأرجف المعاند وارتاع من
صحبة النبي صلى الله عليه وسلم والدخول في الإسلام غير واحد ولزعم
الزاعم وظن العدو الظالم أن القتل إنما كان للعداوة وطلب أخذ الترة وقد
رأيت معنى ما حررته منسوبا إلى مالك بن أنس رحمه الله ولهذا قال صلى
الله عليه وسلم لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه، وقال أولئك الذين
نهانى الله عن قتلهم وهذا بخلاف إجراء الأحكام الظاهرة عليهم من حدود
الزنا والقتل وشبهه لظهورها واستواء الناس في علمها وقد قال محمد بن
المواز لو أظهر المنافقون نفاقهم لقتلهم النبي صلى الله عليه وسلم،
وقاله القاضى أبو الحسن بن القصار، وقال قتادة في تفسير
__________
(قوله أخذ الترة) بكسر المثناة الفوقفية وتره يتره ترة إذا لم يدرك دم
قتيله (*)
(2/227)
قوله تعالى:
(لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة
لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا
وقتلوا تقتيلا سنة الله) الآية، قال معناه إذا أظهروا النفاق، وحكى
محمد بن مسلمة في المبسوط عن زيد بن أسلم أن قوله
تعالى (يا أيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم) نسخها ما
كان قبلها وقال بعض مشايخنا لعل القائل هذه قسمة ما أريد بها وجه الله
وقوله اعدل لم يفهم النبي صلى الله عليه وسلم منه اطعن عليه والتهمة له
وإنما رآها من وجه الغلط في الرأى وأمور الدنيا والاجتهاد في مصالح
أهلها فلم ير ذلك سبا ورأى أنه من الأذى الذى له العفو عنه والصبر عليه
فلذلك لم يعاقبه وكذلك يقال في اليهود إذ قالوا السام عليكم ليس فيه
صريح سب ولا دعاء إلا بما لا بد منه من الموت الذى لا بد من لحاقه جميع
البشر وقيل بل المراد ؟ ؟ ؟ لون دينكم والسأم والسآمة الملال وهذا دعاء
على سآمة الدين ليس بصريح سب ولهذا ترجم البخاري على هذا الحديث (باب
إذا عرض الذمي أو غيره بسب النبي صلى الله عليه وسلم) قال بعض علمائنا
وليس هذا بتعريض بالسب وإنما هو تعريض بالأذى قال القاضى أبو الفضل قد
قدمنا أن الأذى والسب في حقه صلى الله عليه وسلم سواء وقال القاضى أبو
محمد بن نصر مجيبا عن هذا الحديث ببعض ما تقدم ثم قال ولم يذكر
__________
(قوله نسخها ما كان قبلها) كذا في كثير من النسخ والصواب ما في بعضها
وهو (نسخت ما كان قبلها) لأن الناسخ لا يكون قبل المنسوخ (قوله فلم ير
ذلك سبا) بالسين المهملة والموحدة المشددة وفى بعض النسخ شيئا بالمعجمة
والهمزة (*)
(2/228)
في الحديث هل
كان هذا اليهودي من أهل العهد والذمة أو الحرب ولا يترك موجب الأدلة
للأمر المحتمل والأولى في ذلك كله والأظهر من هذه الوجوه مقصد
الاستئلاف والمداراة على الدين لعلهم يؤمنون ولذلك ترجم البخاري على
حديث القسمة والخوارج (باب من ترك قتال الخوارج
للتألف ولئلا ينفر الناس عنه) ولما ذكرنا معناه عن مالك وقررناه قبل
وقد صبر لهم صلى الله عليه وسلم على سحره وسمه وهو أعظم من سبه إلى أن
نصره الله عليهم وأذن له في قتل من حينه منهم وإنزالهم من صياصبهم وقذف
في قلوبهم الرعب وكتب على من شاء منهم الجلاء وأخرجهم من ديارهم وخرب
بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين وكاشفهم بالسب فقال يا إخوة القردة
والخنازير وحكم فيهم سيوف المسلمين وأجلاهم من جوارهم وأورثهم أرضهم
وديارهم وأموالهم لتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى
فإن قلت فقد جاء في الحديث الصحيح عن عائشة رضى الله عنها أنه صلى الله
عليه وسلم (ما انتقم لنفسه في شئ يؤتى إليه قط إلا أن تنتهك حرمة الله
فينتقم لله) فاعلم أن هذا لا يقتضى أنه لم ينتقم ممن سبه أو آذاه أو
كذبه فإن هذه من حرمات الله التى انتقم لها وإنما يكون ما لا ينتقم منه
له فيما تعلق بسوء أدب أو معاملة من القول والفعل بالنفس والمال مما لم
يقصد فاعله به أذاه لكن مما جبلت عليه
__________
(قوله من حينه) بمهملة مفتوحة ومثناة تحتية مشددة ونون أي أراد هلاكه
من الحين بفتح المهملة وهو الهلاك (قوله من صياصهم) أي حصونهم (*)
(2/229)
الأعراب من
الجفاء والجهل أو جبل عليه البشر من السفه كجبذ الأعرابي إزاره حتى أثر
في عنقه وكرفع صوت الآخر عنده وكجحد الأعرابي شراءه منه فرسه التى شهد
فيها خزيمة وكما كان من تظاهر زوجيه عليه وأشباه هذا مما يحسن الصفح
عنه وقد قال بعض علمائنا أن أذى النبي صلى الله عليه وسلم حرام لا يجوز
بفعل مباح ولا غيره وأما غيره فيجوز بفعل مباح مما يجوز للانسان فعله
وإن تأذى به غيره واحتج بعموم قوله
تعالى: (إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة)
وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث فاطمة (إنما بضعة منى يؤذيني ما
يؤذيها ألا وإنى لا أحرم ما أحل الله ولكن لا تجتمع ابنة رسول الله
وابنة عدو الله عند رجل أبدا) أو يكون هذا مما آذاه به كافر رجا بعد
ذلك إسلامه كعفوه عن اليهودي الذى سحره وعن الأعرابي الذى أراد قتله
وعن اليهودية التى سمته وقد قيل قتلها ومثل هذا مما يبلغه من أذى أهل
الكتاب والمنافقين فصفح عنهم رجاء استئلافهم واستئلاف غيرهم كما قررناه
قبل وبالله التوفيق
__________
(قوله كجبذ الأعرابي إزاره) قال المزى لا يصح أن يكون للإزار ذكر هنا
لأن الإزار ما يتزر به الإنسان في وسطه والرداء ما يجعله على عاتقه
وأكتافه والرواية في الحديث بردائه ويقع ذلك في بعض النسخ (قوله زوجيه)
بمثناة تحتية ساكنة (*)
(2/230)
فصل قال القاضى تقدم الكلام في قتل القاصد لسبه والإزراء به
وغمصه بأى وجه كان من ممكن أو محال فهذا وجه بين لا إشكال فيه * الوجه
الثاني لا حق به في البيان والجلاء وهو أن يكون القائل لما قال في جهته
صلى الله عليه وسلم غير قاصد للسب والإزراء ولا معتقد له ولكنه تكلم في
جهته صلى الله عليه وسلم بكلمة الكفر من لعنه أو سبه أو تكذيبه أو
إضافة ما لا يجوز عليه أو نفى ما يجيب له مما هو في حقه صلى الله عليه
وسلم نقيصة مثل أن ينسب إليه إتيان كبيرة أو مداهنة في تبليغ الرسالة
أو في حكم بين الناس أو يغض من مرتبته أو شرف نسبه أو وفور علمه أو
زهده أو يكذب بما اشتهر من أمور أخبر بها صلى الله عليه وسلم وتواتر
الخبر بها عن قصد لرد خبره أو يأتي بسفه من القول أو قبيح من الكلام
ونوع من السب في جهته وإن ظهر بدليل حاله أنه لم يعتمد ذمه ولم يقصد
سبه إما لجهالة حملته على ما قاله أو لضجر أو سكر اضطره إليه أو قلة
مراقبة وضبط للسانه.
وعجرفة وتهور في كلامه فحكم هذا الوجه حكم الوجه الأول القتل دون تلعثم
إذ لا يعذر أحد في الكفر بالجهالة ولا بدعوى زلل اللسان ولا بشئ مما
ذكرناه إذا
__________
(قوله أو لضجر) أي لقلق (قوله وعجرفة) في الصحاح جمل به تعجرف وعجرفة
كان فيه خرقا وقلة مبالاة لسرعته (قوله وتهور في كلامه) التهور الوقوع
في الشئ بقلة مبالاة (قوله دون تلعثم) في الصحاح تلعثم الرجل في الأمر
إذا تمكث فيه (*)
(2/231)
كان عقله في
فطرته سليما إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان وبهذا أفتى الأندلسيون
على ابن حاتم في نفيه الزهد عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله
وسلم الذى قدمناه وقال محمد بن سحنون في المأمور يسب النبي صلى الله
تعالى عليه وسلم في أيدى العدو يقتل إلا أن يعلم تبصره أو إكراهه وعن
أبى محمد ابن أبى زيد لا يعذر بدعوى زلل اللسان في مثل هذا وأفتى أبو
الحسن القابسى فيمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم في سكره يقتل لأنه
يظن به أنه يعتقد هذا ويفعله في صحوه وأيضا فإنه حد لا يسقطه السكر
كالقذف والقتل وسائر الحدود لأنه أدخله على نفسه لأن من شرب الخمر على
علم من زوال عقله بها وإتيان ما ينكر منه فهو كالعامد لما يكون بسببه
وعلى هذا ألزمناه الطلاق والعتاق والقصاص والحدود ولا يعترض على هذا
بحديث حمزة وقوله للنبى صلى الله عليه وسلم وهل أنتم إلا عبيد لأبى قال
فعرف النبي صلى
الله عليه وسلم أنه ثمل فانصرف لأن الخمر كانت حينئذ غير محرمة فلم يكن
في جناياتها إثم وكان حكم ما يحدث عنها معفوا عنه كما يحدث من النوم
وشرب الدواء المأمون
فصل الوجه الثالث أن يقصد إلى تكذيبه فيما
قاله أو أتى به أو وجوده أو يكفر أو ينفى نبوته أو رسالته به
انتقل بقوله ذلك إلى دين آخر غير
__________
ثمل بفتح المثلثة وكسر الميم: أي سكران، يقال ثمل الرجل بالكسر، ثملا:
إذا أخذ فيه الشراب.
(*)
(2/232)
ملته أم لا ؟
فهذا كافر بإجماع يجب قتله ثم ينظر فإن كان مصرحا بذلك كان حكمه أشبه
بحكم المرتد وقوى الخلاف في استتابته وعلى القول الآخر لا تسقط القتل
عنه توبته لحق النبي صلى الله عليه وسلم إن كان ذكره بنقيصة فيما قاله
من كذب أو غيره وإن كان متسترا بذلك فحكمه حكم الزنديق لا تسقط قتله
التوبة عندنا كما سنبينه قال أبو حنيفة وأصحابه من برئ من محمد أو كذب
به فهو مرتد حلال الدم إلا أن يرجع وقال ابن القاسم في المسلم إذا قال
إن محمدا ليس بنبى أو لم يرسل أو لم ينزل عليه قرآن وإنما هو شئ تقوله
يقتل وقال ومن كفر برسول الله صلى الله عليه وسلم وأنكره من المسلمين
فهو بمنزلة المرتد وكذلك من أعلن بتكذيبه أنه كالمرتد يستتاب وكذلك قال
فيمن تنبأ وزعم أنه يوحى إليه وقاله سحنون وقال ابن القاسم دعا إلى ذلك
أو جهرا وقال أصبغ وهو كالمرتد لأنه قد كفر بكتاب الله مع الفرية على
الله وقال أشهب في يهودى تنبأ أو زعم أنه
أرسل إلى الناس أو قال بعد نبيكم نبى أنه يستتاب إن كان معلنا بذلك فإن
تاب وإلا قتل وذلك لأنه مكذب للنبى صلى الله عليه وسلم في قوله لا نبى
بعدى مفتر على الله في دعواه عليه الرسالة والنبوة، وقال محمد بن سحنون
من شك في حرف مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم عن الله فهو كافر
جاحد، وقال: من كذب النبي صلى الله عليه وسلم كان حكمه عند
(2/233)
الأمة القتل،
وقال أحمد بن أبى سليمان صاحب سحنون: من قال إن النبي صلى الله عليه
وسلم أسود قتل.
لم يمكن النبي صلى الله عليه وسلم بأسود وقال نحوه أبو عثمان الحداد
قال: لو قال إنه مات قبل أن يلتحى أو أنه كان بناهرت ولم يكن بتهامة
قتل لأن هذا نفى قال حبيب بن ربيع تبديل صفته ومواضعه كفر والمظهر له
كافر وفيه الاستتابة والمسر له زنديق يقتل دون استتابة
فصل الوجه الرابع أن يأتي من الكلام بمجمل
ويلفظ من القول بمشكل يمكن حمله على النبي صلى الله عليه وسلم
أو غيره أو يتردد في المراد به من سلامته من المكروه أو شره فههنا
متردد النظر وحيرة العبر ومظنة اختلاف المجتهدين ووقفة استبراء
المقلدين ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حى عن بينة فمنهم من غلب حرمة
النبي صلى الله عليه وسلم وحمى حمى عرضه فجسر على القتل ومنهم من عظم
حرمة الدم
__________
ثمل الرجل بالكسر ثملا إذا أخذ فيه الشراب (قوله بتهامة) بكسر الفوقية
اسم لكل ما نزل عن نجد من بلاد الحجاز ومكة من التهم بفتح التاء والهاء
وهو شدة الحر وركود اللريح وقال ابن قرقول سميت بذلك لتغير هوائها يقال
تهم الرهن إذا تغير
(قوله متردد) بفتح الراء والدال الأولى المشددة (قوله وحيرة العبر)
الحيرة بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية والعبر بكسر العين
المهملة وفتح الموحدة (قوله ومظنة) بفتح الميم وكسر الظاء المعجمة
وتشديد النون، في الصحاح مظنة الشئ موضعه ومألفه الذى يظن كونه فيه (*)
(2/234)
ودرأ الحد
بالشبهة لاحتمال القول وقد اختلف أئمتنا في رجل أغضبه غريمه فقال له صل
على محمد صلى الله عليه وسلم فقال له الطالب لا صلى الله على من صلى
عليه فقيل لسحنون هل هو كمن شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو شتم
الملائكة الذين يصلون عليه ؟ قال: لا إذا كان على ما وصفت من الغضب
لأنه لم يكن مضمرا الشتم، وقال أبو إسحاق البرقى وأصبغ بن الفرج لا
يقتل لأنه إنما شتم الناس وهذا نحو قول سحنون لأنه لم يعذره بالغضب في
شتم النبي صلى الله عليه وسلم ولكنه لما احتمل الكلام عنده ولم تكن معه
قرينة تدل على شتم النبي صلى الله عليه وسلم أو شتم الملائكة صلوات
الله عليهم ولا مقدمة يحمل عليها كلامه بل القرينة تدل على أن مراده
الناس غير هؤلاء لأجل قول الآخر له صلى على النبي فحمل قوله وسبه لمن
يصلى عليه الآن لأجل أمر الآخر له بهذا عند غضبه هذا معنى قوله سحنون
وهو مطابق لعلة صاحبيه وذهب الحارث بن مسكين القاضى وغيره في مثل هذا
لإلى القتل وتوقف أبو الحسن القابسى في قتل رجل قال كل صاحب فندق قرنان
ولو كان نبيا مرسلا فأمر بشدة بالقيود والتضييق عليه حتى يستفهم البينة
عن جملة ألفاظه وما يدل على مقصده هل أراد أصحاب الفنادق الآن فمعلوم
أنه ليس فيهم نبى مرسل فيكون أمره أخف قال ولكن
ظاهر لفظه العموم لكل صاحب فندق من المتقدمين والمتأخرين
(2/235)
وقد كان فيمن
تقدم من الأنبياء والرسل من اكتسب المال قال ودم المسلم لا يقدم عليه
إلا بأمر بين وما ترد إليه التأويلات لا بد من إمعان النظر فيه هذا
معنى كلامه وحكى عن أبى محمد بن أبى زيد رحمه الله فيمن قال لعن الله
العرب ولعن الله بنى إسرائيل ولعن الله بنى آدم وذكر أنه لم يرد
الأنبياء وإنما أردت الظالمين منهم أن عليه الأدب بقدر اجتهاد السلطان
وكذلك أفتى فيمن قال: لعن الله من حرم المسكر وقال لم أعلم من حرمه
وفيمن لعن حديث لا يبع حاضر لباد ولعن ما جاء به أنه إن كان يعذر
بالجهل وعدم معرفة السنن فعليه الأدب الوجيع وذلك أن هذا لم يقصد بظاهر
حاله سب الله ولا سب رسوله وإنما لعن من حرمه من الناس على نحو فتوى
سحنون وأصحابه في المسألة المتقدمة ومثل هذا ما يجرى في كلام سفهاء
الناس من قوله بعضهم لبعض - يا ابن ألف خنزير، ويا ابن مائة كلب -
وشبهه من هجر القول ولا شك أنه يدخل في مثل هذا العدد من آبائه وأجداده
جماعة من الأنبياء ولعل بعض هذا العدد منقطع إلى آدم عليه السلام
فيبلغني الزجر عنه وتبيين ما جهل قائله منه وشدة الأدب فيه ولو علم أنه
قصد سب من في آبائه من الأنبياء على علم لقتل وقد يضيق القول في نحو
هذا لو قال لرجل هاشمى لعن الله بنى هاشم، وقال: أردت الظالمين منهم أو
قال لرجل من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم قولا قبيحا في آبائه أو من
نسله أو ولده على علم منه أنه من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم ولم
تكن
(2/236)
قرينة في
المسألتين تقتضي تخصيص بعض آبائه وإخراج النبي صلى الله عليه وسلم ممن
سبه منهم وقد رأيت لأبى موسى بن مناس فيمن قال لرجل لعنك الله إلى آدم
عليه السلام أنه إن ثبت عليه ذلك قتل قال القاضى وفقه الله وقد كان
اختلف شيوخنا فيمن قال لشاهد شهد عليه بشئ ثم قال له تتهمنى ؟ فقال له
الآخر: الأنبياء يتهمون فكيف أنت ؟ فكان شيخنا أبو إسحاق بن جعفر يرى
قتله لبشاعة ظاهر اللفظ وكان القاضى أبو محمد بن منصور يتوقف عن القتل
الاحتمال اللفظ عنده أن يكون خبرا عمن اتهمهم من الكفار وأفتى فيها
قاضى قرطبة أبو عبد الله بن الحاج بنحو من هذا وشدد القاضى أبو محمد
تصفيده وأطال سجنه ثم استحلفه بعد على تكذيب ما شهد به عليه إذ دخل في
شهادة بعض من شهد عليه وهن ثم أطلقه وشاهدت شيخنا القاضى أبا عبد الله
بن عيسى أيام قضائه أتى برجل هاتر رجلا اسمه محمد ثم قصد إلى كلب فضربه
برجله وقال له: قم يا محمد فأنكر الرجل أن يكون قال ذلك وشهد عليه لفف
من الناس فأمر به إلى السجن وتقصى عن حاله وهل يصحب من يستراب بدينه
فلما لم يجد ما يقوى الريبة باعتقاده ضربه بالسوط وأطلقه
__________
(قوله ابن مناس) بفتح الميم وتخفيف النون وفى آخره سين مهملة (قوله
هاتر رجلا) أي فاتحه في القول من الهترة وهو الباطل والسقط من الكلام
(قوله لفيف من الناس) أي ما اجتمع من الناس من قبائل شتى (*)
(2/237)
فصل الوجه الخامس أن لا يقصد نقصا ولا يذكر عيبا
ولا سبا لكنه ينزع بذكر بعض أوصافه أو يستشهد ببعض أحواله صلى الله
عليه وسلم الجائزة عليه في الدنيا على طريق ضرب المثل والحجة لنفسه أو
لغيره أو على التشبه به أو عند هضيمة نالته أو غضاضة لحقته ليس على
طريق التأسي وطريق التحقيق بل على مقصد الترفيع لنفسه أو لغيره أو على
سبيل التمثيل وعدم التوقير لنبيه صلى الله عليه وسلم أو قصد الهزل
والتنذير بقوله كقول القائل إن قيل في السوء فقد قيل في النبي أو إن
كذبت فقد كذب الأنبياء أو إن أذنبت فقد أذنبوا أو أنا أسلم من ألسنة
الناس ولم يسلم منهم أنبياء الله ورسله أو قد صبرت كما صبر أولو العزم
أو كصبر أيوب أو قد صبر نبى الله عن عداه وحلم على أكثر مما صبرت وكقول
المتنى: أنا في أمة تداركها الله غريب كصالح في ثمود
__________
(قوله ولا سبا) بالسين المهملة والموحدة (قوله أو عند هضيمة) بفتح
الهاء وكسر الضاد المعجمة وهى أن يهتضمك القوم شيئا أي يظلمونك أياه
(قوله غضاضة) بغين معجمة وضادين معجمتين أي ذلة ومنقصة (قوله المتنبي)
هو أبو الطلب أحمد بن الحسين الجعفي الكوفى ولد سنة ثلاث وثلاثمائة
ونشأ بالبادية والشام ومات سنة أربع وخمسين وثلاثمائة قال السمعاني في
الأنساب إنما قيل له المتنبي لأنه ادعى النبوة في بادية السماوة وتبعه
كثير من كلب وغيرهم فخرج إليهم لؤلؤ أمير حمص بالأخشيدة فأسره وسجنه
طويلا ثم أشهد عليه أنه تاب وكذب نفسه فيما ادعاه وأطلقه (*)
(2/238)
ونحوه من أشعار
المتعجرفين في القول المتساهلين في الكلام كقول المعرى كنت موسى وافته
بنت شعيب * غير أن ليس فيكما من فقير
على أن آخر البيت شديد وداخل في الإزراء والتحقير بالنبي صلى الله عليه
وسلم وتفضيل حال غيره عليه وكذلك قوله لولا انقطاع الوحى بعد محمد *
قلنا محمد عن أبيه بديل هو مثله في الفضل إلا أنه * لم يأته برسالة
جبريل فصدر البيت الثاني من هذا الفصل شديد لتشبيهه غير النبي صلى الله
عليه وسلم في فضله بالنبي والعجز محتمل لوجهين أحدهما أن هذه الفضيلة
نقصت الممدوح والآخر استغناؤه عنها وهذه أشد ونحو منه قول الآخر وإذا
ما رفعت راياته * صفقت بين جناحى جبرين وقول الآخر من أهل العصر فر من
الخلد واستجار بنا * فصبر الله قلب رضوان وكقول حسان المصيصى من شعراء
الأندلس في محمد بن عباد المعروف بالمعتمد ووزيره أبى بكر بن زيدون
__________
(قوله كقول المعرى) هو أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان توفى سنة
تسع وأربعين وأربعمائة بالمعرة
(2/239)
كأن أبا بكر
أبو بكر الرضا * وحسان حسان وأنت محمد إلى أمثال هذا وإنما أكثرنا
بشاهدها مع استثقالنا حكايتها لتعريف أمثلتها ولتساهل كثير من الناس في
ولوج هذا الباب الضنك واستخفافهم فادح هذا العب ء وقلة علمهم بعظيم ما
فيه من الوزر وكلامهم منه بما ليس لهم به علم وتحسبونه هينا وهو عند
الله عظيم لا سيما الشعراء وأشدهم فيه تصريحا وللسانه تسريحا ابن هانئ
الأندلسى وابن سليمان المعرى بل قد خرج كثير من كلامهما إلى حد
الاستخفاف والنقص وصريح الكفر وقد أجبنا عنه وغضرنا الآن الكلام في هذا
الفصل الذى سقنا أمثلته فإن هذا كلها وإن لم تتضمن سبا ولا أضافت إلى
الملائكة والأنبياء نقصا ولست أعنى عجزي بيتى المعرى ولا قصد قائلها
إزارة وغضا فما وقر النبوة ولا عظم الرسالة ولا غزر حرمة الاصطفاء ولا
عزز حظوة الكرامة حتى شبه من شبه في كرامة نالها أو معرة قصد الانتفاء
منها أو ضرب مثل لتطبيب مجلسه أو إغلاء في وصف لتحسين كلامه بمن عظم
الله خطره وشرف قدره وألزم توقيره وبره ونهى عن جهر
__________
(قوله الضنك) أي الضيق (قوله فادح) بالفاء وبالدال المكسورة أي شاف
(قوله ابن هانئ الأندلسى) هو أبو القاسم محمد الشاعر شاعر العرب
كالمتنبي في الشرق توفى سنة اثنتين وستين وثلاثمائة وعمره ست وثلاثون
سنة وقيل اثنان وأربعون سنة ببرقة متوجها من مصر إلى المغرب أضافه شخص
فعربدوا عليه فقتلوه وقيل بل وجد مخنوقا وقيل بل نام فوجد ميتا (*)
(2/240)
القول له ورفع
الصوت عنده فحق هذا إن درئ عنه القتل: الأدب والسجن وقوة تعزيره بحسب
شنعة مقاله ومقتضى قبح ما نطق به ومألوف عادته لمثله أو ندوره وقرينة
كلامه أو ندمه على ما سبق منه ولم يزل المتقدمون ينكرون مثل هذا ممن
جاء به وقد أنكر الرشيد على أبى نواس قوله فإن يك باقى سحر فرعون فيكم
* فإن عصا موسى بكف خصيب وقال له يابن اللخناء أنت المستهزئ بعصا موسى
وأمر بإخراجه عن عسكره من ليلته وذكر اليقتبى أن مما أخذ عليه أيضا
وكفر
فيه أو قارب قوله في محمد الأمين وتشبيهه إياه بالنبي صلى الله عليه
وسلم حيث قال: تنازع الأحمدان الشبه فاشتبها * خلقا وخلقا كما قد
الشراكان وقد أنكروا عليه أيضا قوله كيف لا يدينك من أمل * من رسول
الله من نفره
__________
(قوله على أبى نواس) هو الحسن بن هانئ بن عبد الأول بن الصباح توفى سنة
خمس وقيل ست وقيل ثمان وتسعين ومائة ببغداد (قوله يا بن اللخناء) لخن
السقاء بالسر أي أنتن وقال ابن الأثير في حديث ابن عمر يا بن اللخناء
هي المرأة التى لم تختن وقيل اللخن النتن وقد لخن السقاء يلخن انتهى
(قوله في محمد الأمين) هو ابن الرشيد بن المهدى (قوله وقد أنكروا) أيضا
عليه أي على أبى نواس (قوله من رسول الله) بفتح الميم (قوله من نفره)
النفرة بالتحريك عدة رجال من ثلاث إلى عشرة (16 - 2) (*)
(2/241)
لأن حق الرسول
وموجب تعظيمه وإناقة منزلته أن يضاف إليه ولا يضاف فالحكم في أمثال هذا
ما بسطناه في طريق الفتيا على هذا المنهج جاءت فتيا إمام مذهبنا مالك
بن أنس رحمه الله وأصحابه في النوادر من رواية ابن أبى مريم في رجل غير
رجلا بالفقر فقال: تعيرني بالفقر وقد رعى النبي صلى الله عليه وسلم
الغنم فقال مالك قد عرض بذكر النبي صلى الله عليه وسلم في غير موضعه
أرى أن يؤدب قال: ولا ينبغى لأهل الذنوب إذا عوتبوا أن يقولوا قد أخطأت
الأنبياء قبلنا، وقال عمر بن عبد العزيز لرجل: (انظر لنا كاتبا يكون
أبوه عربيا) فقال كاتب له: قد كان
أبو النبي كافرا.
فقال: (جعلت هذا مثلا) فعزله وقال: (لا تكتب لى أبدا) وقد كره سحنون أن
يصلى على النبي صلى الله عليه وسلم عند التعجب إلا على طريق الثواب
والاحتساب توقيرا له وتعظيما كما أمرنا الله وسئل القابسى عن رجل قال
لرجل قبيح كأنه وجه نكير، ولرجل عبوس كأنه وجه مالك الغضبان فقال أي شئ
أراد بهذا ونكير أحد فتانى القبر وهما ملكان فما الذى أراد أروع دخل
عليه حين رآه من وجهه أم عاف النظر إليه لدمامة خلقه فإن كان هذا فهو
شديد لأنه جرى مجرى التحقير والتهوين فهو أشد عقوبة وليس فيه تصريح
بالسب للملك
__________
(قوله لدمامة خلقه) الدمامة بتفح الدال المهملة وتخفيف الميم القبح
والحلق بفتح الهاء المهملة قال المزى الدمامة بالدال المهملة في الخلق
بفتح الخاء المعجمة والذمامة بالذال المعجمة في الخلق بضم الخاء
المعجمة (*)
(2/242)
وإنما السب
واقع على المخاطب وفى الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء، قال: (وأما
ذاكر مالك خازن النار فقد جفا الذى ذكره عند ما أنكر حاله من عبوس
الآخر إلا أن يكون المعبس له يد فيرهب بعبسته فيشبهه القائل على طريق
الذم لهذا في فعليه ولزومه في ظلمه صفة مالك الملك المطيع لربه في فعله
فيقول كأنه لله يغضب غضبه مالك فيكون أخف وما كان ينبغى له التعرض لمثل
هذا ولو كان أثنى على العبوس بعبسته واحتج بصفة مالك كان أشد ويعاقب
المعاقبة الشديدة وليس في هذا ذم للملك ولو قصد ذمه لقتل وقال أبو
الحسن أيضا في شاب معروف بالخير قال لرجل شيئا فقال له الرجل اسكت فإنك
أمي فقال الشاب أليس كان النبي صلى الله عليه وسلم أميا فشنع عليه
مقاله وكفره الناس وأشفق الشاب مما قال وأظهر الندم عليه فقال أبو
الحسن
أما إطلاق الكفر عليه فخطأ لكنه مخطئ في استشهادته بصفة النبي صلى الله
عليه وسلم وكون النبي أميا آية له وكون هذا أميا نقيصة فيه وجهالة ومن
جهالته احتجاجه بصفة النبي صلى الله عليه وسلم لكنه إذا استغفر وتاب
واعترف ولجأ إلى الله فيترك لأن قوله: (لا ينتهى إلى حد القتل وما
طريقه الأدب فطوع فاعله بالدم عليه يوجب الكف عنه ونزلت أيضا مسألة
استفتى فيها بعض قضاة الأندلس شيخنا القاضى أبا محمد بن منصور رحمه
الله في رجل تنقصه آخر بشئ فقال له إنما تريد
(2/243)
نقضى بقولك -
وأنا بشر وجميع البشر يلحقهم النقص حتى النبي صلى الله عليه وسلم -
فأفتاه بإطالة سجنه وإيجاع أدبه إذ لم يقصد السب وكان بعض فقهاء
الأندلس أفتى بقتله
فصل الوجه السادس أن يقول القائل ذلك حاكيا
عن غيره وآثرا له عن سواه فهذا ينظر في صورة حكايته وقرينة
مقالته ويختلف الحكم باختلاف ذلك على أربعة وجوه: الوجوب، والندب،
والكراهة، والتحريم فإن كان أخبر به على وجه الشهادة والتعريف بقائله
والإنكار والإعلام بقوله والتنفير منه والتجريح له فهذا مما ينبغى
امتثاله ويحمد فاعله وكذلك إن حكاه في كتاب أو في مجلس على طريق الرد
له والنقض على قائله والفتيا بما يلزمه وهذا منه ما يجب ومنه ما يستحب
بحسب حالات الحاكى لذلك والمحكى عنه فإن كان القائل لذلك ممن تصدى لأن
يؤخذ عنه العلم أو رواية الحديث أو يقطع بحكمه أو شهادته أو فتياه في
الحقوق وجب على سامعه الإشادة بما سمع منه والتنفير للناس عنه والشهادة
عليه بما قاله ووجب على من بلغه ذلك من أئمة المسلمين إنكاره وبيان
كفره وفساد قوله بقطع ضرره عن المسلمين وقياما بحق سيد المرسلين وكذلك
إن كان ممن يعظ العامة أو يؤدب الصبيان فإن من هذه سريرته لا يؤمن على
إلقاء ذلك في قلوبهم فيتأكد في هؤلاء الإيجاب لحق النبي صلى الله عليه
وسلم ولحق شريعته
(2/244)
وإن لم يكن
القائل بهذه السبيل فالقيام بحق النبي صلى الله عليه وسلم واجب وحماية
عرضه متعين ونصرته على الأذى حيا وميتا مستحق على كل مؤمن لكنه إذا قام
بهذا من ظهر به الحق وفصلت به القضية وبان به الأمر سقط عن الباقي
الفرض وبقى الاستحباب في تكثير الشهادة عليه وعضد التحذير منه وقد أجمع
السلف على بيان حال المتهم في الحديث فكيف بمثل هذا وقد سئل أبو محمد
بن أبى زيد عن الشاهد يسمع مثل هذا في حق الله تعالى أيسعه أن لا يؤدى
شهادته قال: إن رجا نفاذ الحكم بشهادته فليشهد وكذلك إن علم أن الحاكم
لا يرى القتل بما شهد به ويرى الاستتابة والأدب فليشهد ويلزمه ذلك وأما
الإباحة لحكاية قوله لغير هذين المقصدين فلا أرى لها مدخلا في هذا
الباب فليس التفكه بعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم والتمضمض بسوء
ذكره لأحد لا ذاكرا ولا آثرا لغير غرض شرعى بمباح وأما للأغراض
المتقدمة فمتردد بين الإيجاب والاستحباب وقد حكى الله تعالى مقالات
المفترين عليه وعلى رسله في كتابه على وجه الإنكار لقولهم والتحذير من
كفرهم والوعيد عليه والرد عليهم بما تلاه الله علينا في محكم كتابه
وكذلك وقع من أمثاله في أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة على
الوجوه المتقدمة وأجمع السلف والخلف من أئمة الهدى على حكايات مقالات
الكفرة والملحدين في كتبهم ومجالسهم ليبينوها للناس وينقضوا شبهها
عليهم وإن كان ورد
(2/245)
لأحمد بن حنبل
إنكار لبعض هذا على الحارث بن أسد فقد صنع أحمد مثله في رده على
الجهمية والقائلين بالمخلوق وهذه الوجوه الشائعة الحكاية عنها فأما
ذكرها على غير هذا من حكاية سبه والإزراء بمنصبه على وجه الحكايات
والأسمار والطرف وأحاديث الناس ومقالاتهم في الغث والسمير ومضاحك
المجان ونوادر السخفاء والخوض في قيل وقال ومالا يعنى فكل هذا ممنوع
وبعضه أشد في المنع والعقوبة من بعض فما كان من قائله الحاكى له على
غير قصد أو معرفة بمقدار ما حكاه أو لم تكن عادته أو لم يكن الكلام من
البشاعة حيث هو ولم يظهر على حاكيه استحسانه واستصوابه زجر عن ذلك ونهى
عن العودة إليه وإن قوم ببعض الأدب فهو مستوجب له وإن كان لفظه من
البشاعة حيث هو كان الأدب أشد، وقد حكى أن رجلا سأل مالكا عمن يقول
القرآن مخلوق فقال مالك كافر فاقتلوه فقال إنما حكيته عن غيرى فقال
مالك إنما سمعناه منك وهذا من مالك رحمه الله على طريق الزجر والتغليظ
بدليل أنه لم ينفذ قتله وإن اتهم هذا الحاكى فيما حكاه أنه اختلقه
ونسبه إلى غيره أو كانت تلك عادة له أو ظهر استحسانه لذلك أو كان مولعا
بمثله والاستخفاف له أو التحفظ لمثله وطلبه ورواية أشعار هجوه صلى الله
__________
(قوله على الجهمية) هم أتباع جهم بن صفوان أبى محرز السمرقندى هلك في
زمان صغار التابعين أعنى من رأى من الصحابة واحدا أو اثنين (قوله
والطرف) بضم الطاء المهملة جمع طرفة (*)
(2/246)
عليه وسلم وسبه
فحكم هذا حكم الساب نفسه يؤاخذ بقوله ولا تنفعه نسبته إلى غيره فيبادر
بقتله ويعجآ إلى الهاوية أمه وقد قال أبو عبيد القاسم بن سلام فيمن حفظ
شطر بيت مما هجى به النبي صلى الله عليه وسلم فهو كفر وقد ذكر بعض من
ألف في الإجماع إجماع المسلمين على تحريم رواية ما هجى به النبي صلى
الله عليه وسلم وكتابته وقراءته وتركه متى وجد دون محو ورحم الله
أسلافنا المتقين المتحرزين لدينهم فقد أسقطوا من أحاديث المغازى والسير
ما كان هذا سبيله وتركوا روايته إلا أشياء ذكروها يسيرة وغير مستبشعة
على نحو الوجوه الأول ليروا نقمة الله من قائلها وأخذه المفترى عليه
بذنبه وهذا أبو عبيد القاسم بن سلام رحمه الله قد تحرى فيما اضطر إلى
الاستشهاد به من أهاجي أشعار العرب في كتبه فكنى عن اسم المهجو بوزن
اسمه استبراء لدينه وتحفظا من المشاركة في ذم أحد بروايته أو نشره فكيف
بما يتطرق إلى عرض سيد البشر صلى الله عليه وسلم
فصل الوجه السابع أن يذكر ما يجوز على
النبي صلى الله عليه وسلم أو يختلف في جوازه عليه وما يطرأ من
الأمور البشرية به ويمكن إضافتها إليه أو يذكر ما امتحن به وصبر في ذات
الله على شدته من مقاساة أعدائه وأذاهم له ومعرفة ابتداء حاله وسيرته
وما لقيه من بؤس
(2/247)
زمنه ومر عليه
من معاياة عيشته كل ذلك على طريق الرواية ومذاكرة العلم ومعرفة ما صحت
منه العصمة للأنبياء وما يجوز عليهم فهذا فن خارج عن هذه الفنون الستة
إذ ليس فيه غمص ولا نقص ولا إزراء ولا استخفاف
لا في ظاهر اللفظ ولا في مقصد اللافظ لكن يجب أن يكون الكلام فيه مع
أهل العلم وفهماء طلبة الدين ممن يفهم مقاصده ويحققون فوائده ويجنب ذلك
من عساه لا يفقه أو يخشى به فتنته فقد كره بعض السلف تلعيم النساء سورة
يوسف لما انطوت عليه من تلك القصص لضعف معرفتهن ونقص عقولهن وإدراكهن
فقد قال صلى الله عليه وسلم مخبرا عن نفسه باستيجاره لرعاية الغنم في
ابتداء حاله وقال (ما من نبى إلا وقد رعى الغنم) وأخبرنا الله تعالى
بذلك عن موسى عليه السلام وهذا لا غضاضة فيه جملة واحدة لمن ذكره على
وجهه بخلاف من قصد به الغضاضة والتحقير بل كانت عادة جميع العرب، نعم
في ذلك للأنبياء حكمة بالغة وتدريج لله تعالى لهم إلى كرامته وتدريب
برعايتها لسياسة أممهم من خليقته بما سبق لهم من الكرامة في الأزل
ومتقدم العلم وكذلك قد ذكر الله يتمه وعيلته على طريق المنة عليه
والتعريف بكرامته له فذكر الذاكر لها على وجه تعريف حاله والخبر عن
مبتدئه والتعجب من منح الله قبله وعظيم منته عنده ليس فيه غضاضة بل فيه
__________
(قوله وفهماء) بضم الفاء والمد (*)
(2/248)
دلالة على
نبوته وصحة دعوته إذ أظهره الله تعالى بعد هذا على صناديد العرب ومن
ناوأه من أشرافهم شيئا فشيئا ونمى أمره حتى قهرهم وتمكن من ملك
مقاليدهم واستباحة مما لك كثير من الأمم غيرهم بإظهار الله تعالى له
وتأييده بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم وإمداده بالملائكة المسومين
ولو كان ابن ملك أو ذا أشياع متقدمين لحسب كثير من
الجهال أن ذلك موجب ظهوره ومقتضى علوه ولهذا قال هرقل حين سأل أبا
سفيان عنه هل في آبائه من ملك ؟ ثم قال: ولو كان في آبائه ملك لقلنا
رجل يطلب ملك أبيه وإذا اليتم من صفته وإحدى علاماته في الكتب المتقدمة
وأخبار الأمم السالفة وكذا وقع ذكره في كتاب أرمياء وبهذا وصفه ابن ذى
يزن لعبد المطلب وبحيرا لأبى طالب وكذلك إذا وصف بأنه أمي كما وصفه
الله فهى مدحة له وفضيلة ثابتة فيه وقاعدة معجزته إذ معجزته العظمى من
القرآن العظيم إنما هي متعلقة بطريق المعارف والعلوم مع ما منح صلى
الله عليه وسلم وفضل به من ذلك كما قدمناه في القسم الأول ووجود مثل
ذلك من رجل لم يقرأ ولم يكتب ولم يدارس ولا لقن مقتضى العجب ومنتهى
العبر ومعجزة البشر وليس في ذلك نقيصة إذ المطلوب من الكتابة والقراءة
المعرفة وإنما هي آلة.
__________
(قوله على صناديد) جمع صنديد وهو الشجاع السيد (قوله ونمى) بتشديد
الميم (قوله في كتاب أرميا) بفتح الهمزة وسكون الراء وكسر الميم والقصر
(قوله وليس فيه ذلك نقيصة) الضمير المجرور بفى عائد إلى الرجل في قوله
ووجود مثل ذلك من رجل والإشارة بذلك راجعة إلى ما أشير إليه بذلك (*)
(2/249)
لها وواسطة
موصلة إليها غير مرادة في نفسها فإذا حصلت الثمرة والمطلوب استغنى عن
الواسطة والسبب، والأمية في غيره نقيصة لأنها سبب الجهالة وعنوان
الغباوة فسبحان من باين أمره من أمر غيره وجعل شرفه فيما فيه محطة سواه
وحياته فيما فيه هلاك من عداه هذا شق قلبه وإخراج حشوته كان تمام حياته
وغاية قوة نفسه وثبات روعه وهو فيمن سواه منتهى هلاكه وحتم موته وفنائه
وهلم جرا إلى سائر ما روى من أخباره وسيره وتقلله من الدنيا ومن الملبس
والمطعم والمركب وتواضعه ومهنته نفسه في أمور وخدمة بيته زهدا ورغبة عن
الدنيا وتسوية بين حقيرها وخطيرها لسرعة فناء أمورها وتقلب أحوالها كل
هذا من فضائله ومآثره وشرفه كما ذكرناه فمن أورد شيئا منها مورده وقصد
بها مقصده كان حسنا ومن أورد ذلك على غير وجهه وعلم منه بذلك سوء قصده
لحق بالفصول التى قدمناه وكذلك ما ورد من أخباره وأخبار سائر الأنبياء
عليهم السلام في الأحاديث مما في ظاهره إشكال يقتضى أمورا لا تليق بهم
بحال وتحتاج إلى تأويل
__________
(قوله وإخراج حشوته) الحشوة بكسر الحاء المهملة وضمها وبالشين المعجمة
الأمعاء (قوله روعه) بضم الراء وفى آخره هاء الضمير أي قلبه - قوله
وحتم موته) بفتح الحاء المهملة وسكون التاء الفوقية (قوله مهنته) بفتح
الميم وحكى الكسائي كسرها وأنكره الأسمعي (قوله ومآثره) أي مكارمه
ومفاخره التى تؤثر عنه (*)
(2/250)
وتردد احتمال
فلا يجب أن يتحدث منها إلا بالصحيح ولا يروى منها إلا المعلوم الثابت
ورحم الله مالكا فلقد كره التحدث بمثل ذلك من الأحاديث الموهمة للتشبيه
والمشكلة المعنى وقال: ما يدعو الناس إلى التحدث بمثل هذا فقيل له إن
ابن عجلان يحدث بها فقال لم يكن من الفقهاء وليت الناس وافقوه على ترك
الحديث بها وساعدوه على طيها فأكثرها ليس تحتع عمل وقد حكى عن جماعة من
السلف بل عنهم على الجملة أنهم كانوا يكرهون الكلام فيما ليس تحته عمل
والنبى صلى الله عليه وسلم أوردها على قوم عرب يفهمون كلام العرب على
وجهه وتصرفاتهم في حقيقته ومجازه واستعارته وبليغه وإيجازه فلم تكن في
حقهم مشكلة ثم جاء من غلبت عليه العجمة وداخلته الأمية فلا يكاد يفهم
من مقاصد
العرب إلا نصها وصريحها ولا يتحقق إشاراتها إلى غرض الإيجاز ووحيها
وتبليغها وتلويحها فتفرقوا في تأويلها أو حملها على ظاهرها شذر مذر
فمنهم من آمن به ومنهم من كفر فأما ما لا يصح من هذه الأحاديث فواجب أن
لا يذكر منها شئ في حق الله ولا في حق أنبيائه ولا يتحدث بها ولا يتكلف
الكلام على معانيها، والصواب طرحها وترك الشغل بها إلا أن تذكر على وجه
التعريف بأنها ضعيفة المقاد واهية الإسناد وقد أنكر الأشياخ على أبى
بكر بن فورك تكلفه في مشكله الكلام على أحاديث ضعيفة
__________
(قوله شذر مذر) بكسر الشين المعجمة والميم وبفتحهما في الصحاح تفرقوا
شذر مذر بالتحريك والنصب وشذر مذر بالكسر إذا ذهبوا في كل وجه (*)
(2/251)
موضوعة لا أصل
لها أو منقولة عن أهل الكتاب الذين يلبسون الحق بالباطل كان يكفيه
طرحها ويعنيه عن الكلام عليها التنبيه على ضعفها إذ المقصود بالكلام
على مشكل ما فيها إزالة اللبس بها واجتثاثها من أصلها وطرحها أكشف
اللبس وأشفى للنفس
فصل ومما يجب على المتكلم فيما يجوز على
النبي صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز والذاكر من حالاته ما
قدمناه في الفصل قبل هذا على طريق المذاكرة والتعليم أن يلتزم في كلامه
عند ذكره صلى الله عليه وسلم وذكر تلك الأحوال الواجب من توقيره
وتعظيمه ويراقب حال لسانه ولا يهمله وتظهر عليه علامات الأدب عند ذكره
فإذا ذكر ما قاساه من الشدائد ظهر عليه الإشفاق والارتماض والغيظ على
عدوه ومودة الفداء للنبى صلى الله عليه وسلم لو قدر عليه والنصرة لو
أمكنته وإذا أخذ في أبواب العصمة وتكلم على مجارى أعماله وأقواله صلى
الله عليه وسلم
تحرى أحسن اللفظ وأدب العبارة ما أمكنه واجتنب بشيع ذلك وهجر من
العبارة ما يقبح كلفظة الجهل والكذب والمعصية فإذا تكلم في الأقوال قال
هل يجوز عليه الخلف في القول والإخبار بخلاف ما وقع سهوا
__________
(قوله يلبسون) بكسر الموحدة أي يخلطون (قوله والارتماض) بالضاد المعجمة
يقال ارتمض الرجل من كذا أي اشتد قلقه (قوله تحرى) بالحاء المهملة أي
توخى وقصد (*)
(2/252)
أو غلطا ونحوه
من العبارة ويتجنب لفظة الكذب جملة واحدة وإذا تكلم على العلم قال هل
يجوز أن لا يعلم إلا ما علم وهل يمكن أن لا يكون عنده علم من بعض
الأشياء حتى يوحى إليه ولا يقول بجهل لقبح اللفظ وبشاعته وإذا تكلم في
الأفعال قال هل يجوز منه المخالفة في بعض الأوامر والنواهي ومواقعة
الصغائر فهو أولى وآدب من قوله هل يجوز أن يعصى أو يذنب أو يفعل كذا
وكذا من أنواع المعاصي فهذا من حق توقيره صلى الله عليه وسلم وما يجب
له من تعزيز وإعظام وقد رأيت بعض العلماء لم يتحفظ من هذا فقبح منه.
ولم استصوب عبارته فيه ووجدت بعض الجائرين قوله لأجل ترك تحفظه في
العبارة ما لم يقله وشنع عليه بما يأباه ويكفر قائله وإذا كان مثل هذا
بين الناس مستعملا في آدابهم وحسن معاشرتهم وخطابهم فاستعماله في حقه
صلى الله عليه وسلم أوجب والتزامة آكد فجودة العبارة تقبح الشئ أو
تحسنه وتحريرها وتهذيبا يعظم الأمر أو يهونه ولهذا قال صلى الله عليه
وسلم إن من البيان لسحرا فأما ما أورده على جهة النفى عنه والتنزيه فلا
حرج في تسريح العبارة وتصريها فيه كقوله لا يجوز عليه الكذب جملة ولا
__________
(قوله إن من البيان لسحرا) قال ابن قرقول قيل أورده مورد
الذم لشبهة بعمل السحر في قلب القلوب وجلب الأفئدة وتزيين القبيح
وتقبيح الحسن وقيل أورده مورد المدح أي يترضى به الساخط ويستزل به
الصعب ولذلك قالوا فيه السحر الحلال ويشهد له (إن من الشعر لحكمة)
الحديث (*)
(2/253)
إتيان الكبائر بوجه ولا الجور في الحكم على حال ولكن مع هذا يجب ظهور
توقيره وتعظيمه وتعزيزه عند ذكره مجردا فكيف عند ذكر مثل هذا وقد كان
السلف تظهر عليهم حالات شديدة عند مجرد ذكره كما قدمناه في القسم
الثاني وكان بعضهم يلتزم مثل ذلك عند تلاوة آى من القرآن حكى الله
تعالى فيها مقال عداه ومن كفر بآياته وافترى عليه الكذب فكان يخفض بها
صوته إعظاما لربه وإجلالا له وإشفاقا من التشبه بمن كفر به |