الشفا
بتعريف حقوق المصطفى وحاشية الشمني
الباب الثالث في حكم من سب الله تعالى وملائكته وأنبياءه وكتبه وآل
النبي صلى الله عليه وسلم وأزواجه وصحبه
لا خلاف أن ساب الله تعالى من المسلمين كافر حلال الدم واختلف في
استتابته فقال ابن القاسم في المبسوط وفى كتاب ابن سحنون ومحمد ورواه
ابن القاسم عن مالك في كتاب إسحاق بن يحى يمن سب الله تعالى من
المسلمين قتل ولم يستتب إلا أن يكون افتراء على الله بارتداده إلى دين
دان به وأظهره فيستتاب وإن لم يظهره لم يستتب، وقال في المبسوطة مطرف
(2/270)
وعبد الملك
مثله، وقال المخزومى ومحمد بن مسلمة وابن أبى حازم لا يقتل الملم بالسب
حتى يستتاب وكذلك اليهودي والنصراني فإن تابوا قبل منهم وإن لم يتوبوا
قتلوا ولا بد من الاستتابة وذلك كله كالردة وهو الذى حكاه القاضى ابن
نصر عن المذهب وأفتى أبو محمد بن أبى زيد فيما حكى عنه في رجل لعن رجلا
ولعن الله فقال إنما أردت أن ألعن الشيطان فزل لساني فقال يقتل بظاهر
كفره ولا يقبل عذره وأما فيما
بينه وبين الله تعالى فمعذور واختلف فقهاء قرطبة في مسألة هارون ابن
حبيب أخى عبد الملك الفقيه وكان ضيق الصدر كثير التبرم وكان قد شهد
عليه بشهادات منها أنه قال عند استلاله من مرض لقيت في مرضى هذا ما لو
قتلت أبا بكر وعمر لم استوجب هذا كله فأفتى إبراهيم ابن حسين بن خالد
بقتله وأن مضمن قوله تجوير لله تعالى وتظلم منه والتعريض فيه كالتصريح
وأفتى أخوه عبد الملك بن حبيب وإبراهيم بن حسين بن عاصم وسعيد بن
سليمان القاضى بطرح القتل عنه إلا أن القاضى رأى عليه التثقيل في الحبس
والشدة في الأدب لاحتمال كلامه وصرفه إلا التشكى فوجه من قال في ساب
الله بالاستتابة أنه كفر وردة محضة لم يتعلق بها حق لغير الله فأشبه
قصد الكفر بغير سب الله وإظهار الانتقال إلى دين آخر من الأديان
المخالفة للإسلام
__________
(قوله كثير التبرم) بفتح المثناة الفوقية والموحدة مصدر تبرم بمعنى
تشاءم (*)
(2/271)
ووجه ترك
استتابته أنه لما ظهر منه ذلك بعد إظهار الإسلام قبل اتهمناه وظننا أن
لسانه لم ينطق به إلا وهو معتقد له إذ لا يتساهل في هذا أحد فحكم له
بحكم الزنديق ولم تقبل توبته وإذا انتقل من دين إلى دين آخر وأظهر السب
بمعنى الارتداد فهذا قد أعلم أنه خلع ربقة الإسلام من عنقه بخلاف الأول
المستمسك به وحكم هذا حكم المرتد يستتاب على مشهور مذاهب أكثر العلماء
وهو مذهب مالك وأصحابه على ما بيناه قبل وذكرنا الخلاف في فصوله
فصل وأما من أضاف إلى الله تعالى ما لا
يليق به ليس على طريق السب ولا الردة وقصد الكفر ولكن على طريق
التأويل والاجتهاد والخطإ المفضى إلى الهوى والبدعة من تشبيه أو نعت
بجارحة أو نفى صفة كمال فهذا مما اختلف السلف والخلف في تكفير قائله
ومعتقده واختلف قول مالك وأصحابه في ذلك ولم يختلفوا في قتالهم إذا
تحيزوا فئة وأنهم يستتابون فإن تابوا وإلا قتلوا وإنما اختلفوا في
المنفرد منهم فأكثر قول مالك وأصحابه ترك القول بتكفيرهم وترك قتلهم
والمبالغة في عقوبتهم وإطالة سجنهم حتى يظهر إقلاعهم وتستبين توبتهم
كما فعل
__________
(قوله ربقة الإسلام) بكسر الراء وسكون الموحدة أي أحكام الإسلام وأصل
الربقة عروة في حبل يجعل في عنق البهيمة أو يدها بمسكها (*)
(2/272)
عمر رضى الله
عنه بصبيغ وهذا قول محمد بن المواز في الخوارج وعبد الملك بن الماجشون
وقول سحنون في جميع أهل الأهواء، وبه فسر قوله مالك في الموطإ وما رواه
عن عمر بن عبد العزيز وجده وعمه من قولهم في القدرية يستتابون فإن
تابوا وإلا قتلوا، وقال عيسى بن القاسم في أهل الأهواء من الإباضية
والقدرية وشبههم ممن خالف الجماعة من أهل البدع والتحريف لتأويل كتاب
الله يستتابون أظهروا ذلك أو أسروه فإن تابوا وإلا قتلوا وميراثهم
لورثتهم، وقال مثله أيضا ابن القاسم في كتاب محمد في أهل القدر وغيرهم
قال واستتابتهم أن يقال لهم اتركوا ما أنتم عليه ومثله في المبسوط في
الإباضية والقدرية وسائر أهل البدع قال وهم مسلمون وإنما لرأيهم السوء
وبهذا عمل عمر ابن عبد العزيز، قال ابن القاسم: (من قال إن الله لم
يكلم موسى تكليما استتيب فإن تاب وإلا قتل) وابن حبيب وغيره من أصحابنا
يرى تكفيرهم
__________
(قوله بصبيغ) بفح الصاد المهملة وكسر الموحدة وفى آخره غين معجمة هو
ابن عسل بكسر العين وسكون السين المهملتين قال يحيى بن معين كان يتبع
مشكل القرآن ويسأل عنه عمر فضربه عمر وأمر أن لا يجالس (قوله من
الإباضية) بكسر الهمزة وتخفيف الموحدة والضاد المعجمة وتشديد المثناة
أصحاب عبد الله بن إباض التميمي الخارجي ظهر في زمن مروان بن محمد آخر
بنى أمية وقيل في آخر أمره، يزعمون أن مخالفيهم من أهل القبلة كفار غير
مشركين يجوز قتالهم وغنيمة سلاحهم وكراعم عند الحرب دون غيره ودارهم
دار الإسلام إلا معسكر سلطانهم وتقبل شهادة مخالفيهم عليهم كذا في
المواقف (18 - 2) (*)
(2/273)
وتكفير أمثالهم
من الخوارج والقدرية والمرجئة، وقد روى أيضا عن سحنون مثله فيمن قال
ليس لله كلام أنه كافر واختلفت الروايات عن مالك فأطلق في رواية
الشاميين أبى مسهر ومروان بن محمد الطاطرى: (الكفر عليهم) وقد شوور في
زواج القدري فقال: لا تزوجه) قال الله تعالى: (ولعبد مؤمن خير من مشرك)
وروى عند أيضا أهل الأهواء كلهم كفار وقال من وصف شيئا من ذات الله
تعالى وأشار إلى شئ من جسده يد أو سمع أو بصر قطع ذلك منه لأنه شبه
الله بنفسه وقال فيمن قال القرآن مخلوق كافر فاقتلوه وقال أيضا في
رواية ابن نافع يجلد ويوجع ضربا ويحبس حتى يتوب وفى رواية بشر بن بكر
التنيسى عنه يقتل ولا تقبل توبته قال القاضى أبو عبد الله البرنكانى
والقاضى أبو عبد الله التسترى من أئمة العراقيين جوابه مختلف يقتل
المستبصر الداعية وعلى
__________
(قوله والقدرية) هم طائفة ينكرون أن الله قدر الأشياء في القدم وقد
انقرضوا وصار القدرية
لقبا للمعتزلة لإسنادهم أفعال العباد إلى قدرتهم وإنكارهم القدر فيها
كذا في شرح مسلم للنووي (قوله والمرجئة) لقبوا بذلك لأنهم يرجئون العمل
عن النية أي يؤخرون في الرتبة عنها وعن الاعتقاد من أرجاء آخره ومنه
قوله تعالى (أرجه وأخاه) أو لأنهم يقولون لا تضر مع الإيمان معصية كما
لا ينفع مع الكفر طاعة فهم يعطلون الرجاء وعلى هذا ينبغى أن يهمز لفظ
المرجئة كذا في المواقف (قوله الطاطرى) بطائين مهملتين ثانيهما مفتوحة
نسبة إلى نوع من الثياب البيض كان يبيعها (قوله بشر التنيسى) بشر
بالموحدة والشين المعجمة الساكنة والتنيسى بمثناة فوقية ونون مشددة
مكسورة وسين مهملة نسبه إلى تنيس قرية بقرب تونة وكلاهما بقرب دمياط
وقد أكلهما البحر وصارا بحيرة ماء (قوله بقتل المستبصر) بقتل بالباء
الموحدة في أوله (*)
(2/274)
هذا الخلاف
اختلف قوله في إعادة الصلاة خلفهم وحكى ابن المنذر عن الشافعي لا
يستتاب القدري وأكثر أقوال السلف تكفيرهم وممن قال به الليث وابن عيينة
وبن لهيعة روى عنهم ذلك فيمن قال بخلق القرآن وقاله ابن المبارك
والأودي ووكيع وحفص بن غياث وأبو إسحاق الفزارى ؟ ؟ ؟ ؟ وعلى بن عاصم
في آخرين وهو من قول أكثر المحدثين والفقهاء والمتكلمين فيهم وفى
الخوارج والقدرية وأهل الأهواء المضلة وأصحاب البدع المتأولين وهو قول
أحمد بن حنبل وكذلك قالوا في الوافقة والشاكة في هذه الأصول وممن روى
عنه معنى القول الآخر بترك تكفيرهم على بن أبى طالب وابن عمر والحسن
البصري وهو رأى جماعة من الفقهاء النظار والمتكلمين واحتجوا بتوريث
الصحابة والتابعين ورثة أهل حروراء ومن عرف بالقدر ممن مات منهم ودفنهم
في مقابر المسلمين وجرى أحكام الإسلام عليهم، قال
إسماعيل القاضى وإنما قال مالك في القدرية وسائر أهل البدع يستتابون
فإن تابوا وإلا قتلوا لأنه من الفساد في الأرض كما قال في المحارب إن
رأى الإمام قتله وإن لم يقتل قتله وفساد المحارب إنما هو في الأموال
__________
بقتل بالباء الموحدة في أوله (قوله وحفص بن غياث) بالغين المعجمة
المكسورة والمثناة التحتية الخفيفة (قوله حروراء) بفتح الحاء المهملة
والمد قرية بقرب الكوفة على ميلين فيها اجتمع الخوارج وتعاقدوا فنسبوا
إليها (*)
(2/275)
ومصالح الدنيا
وإن كان قد يدخل أيضا في أمر الدين من سبيل الحج والجهاد، وفساد أهل
البدع معظمه على الدين وقد يدخل في أمر الدنيا بما يلقون بين المسلمين
من العداوة
فصل في تحقيق القول في إكفار المتأولين
* قد ذكرنا مذاهب السلف في إكفار أصحاب البدع والأهواء المتأولين ممن
قال قولا يؤديه مساقه إلى كفر هو إذا وقف عليه لا يقول بما يؤديه قوله
إليه وعلى اختلافهم اختلف الفقهاء والمتكلمون في ذلك فمنهم من صوب
التكفير الذى قال به الجمهور من السلف ومنهم من أباه ولم ير إخراجهم من
سواد المؤمنين وهو قول أكثر الفقهاء والمتكلمين وقالوا هم فساق عصاة
ضلال ونورثهم من المسلمين ونحكم لهم بأحكامهم ولهذا قال سحنون لا إعادة
على من صلى خلفهم قال وهو قول جميع أصحاب مالك المغيرة وابن كنانة
وأشهب قال لأنه مسلم وذنبه لم يخرجه من الإسلام واضطرب آخرون في ذلك
ووقفوا عن القول بالتكفير أو ضده واختلاف قولى مالك في ذلك وتوقفه عن
إعادة الصلاة خلفهم منه وإلى نحو من هذا ذهب القاضى أبو بكر إمام أهل
التحقيق والحق وقال إنها من المعوصات إذا القوم لم يصرحوا باسم
__________
(قوله المعوصات) بضم الميم وسكون العين المهملة وكسر الواو من التعويض
في المسائل وغيرها وهو استخراج ما يصعب معناه (*)
(2/276)
الكفر وإنما
قالوا قولا يؤدى إليه واضطرب قوله في المسألة على نحو اضطراب قول إمامه
مالك بن أنس حتى قاله في بعض كلامه إنهم على رأى من كفرهم بالتأويل لا
تحل مناكحتهم ولا أكل ذبائحهم ولا الصلاة على ميتهم ويختلف في موارثتهم
على الخلاف في ميراث المرتد وقال أيضا نورث ميتهم ورثتهم من المسلمين
ولا نورثهم من المسلمين وأكثر ميله إلى ترك التكفير بالمآل وكذلك اضطرب
فيه قول شيخه أبى الحسن الأشعري وأكثر قوله ترك التكفير وأن الكفر خصلة
واحدة وهو الجهل بوجود الباري تعالى وقال مرة من اعتقد أن الله جسم أو
المسيح أو بعض من يلقاه في الطرق فليس بعارف به وهو كافر ولمثل هذا ذهب
أبو المعالى رحمه الله في أجوبته لأبى محمد عبد الحق وكان سأله عن
المسألة فاعتذر له بأن الغلط فيها يصعب لأن إدخال كافر في الملة وإخراج
مسلم عنها عظيم في الدين وقال غيرهما من المحققين: الذى يجب الاحتراز
من التكفير في أهل التأويل فإن استباحة دماء المصلين الموحدين خطر
والخطا في ترك ألف كافر أهون من الخطإ في سفك محجمة من دم مسلم واحد
وقد قال صلى الله عليه وسلم فإذا قالوها يعنى الشهادة عصموا منى دماءهم
وأموالهم إلا بححقها وحسابهم على الله
__________
(قوله في أجوبته لأبى محمد عبد الحق) هو عن صاحب الأحكام لأن الإمام
كانت وفاته قبل مولد عبد الحق صاحب الأحكام (قوله محجمة) بكسر الميم
الأولى هي قارورة الحجام (*)
(2/277)
فالعصمة مقطوع
بها مع الشهادة ولا ترتفع ويستباح خلافها إلا بقاطع ولا قاطع من شرع
ولا قياس عليه وألفاظ الأحاديث الواردة في الباب معرضة للتأويل فما جاء
منها في التصريح بكفر القدرية وقوله لا سهم لهم في الإسلام وتسميته
الرافضة بالشرك وإطلاق اللعنة عليهم وكذلك في الخوارج وغيرهم من أهل
الأهواء فقد يحتج بها من يقول بالتكفير وقد يجيب الآخر بأنه قد ورد مثل
هذه الألفاظ في الحديث في غير الكفرة على طريق التغليظ وكفر دون كفر
وإشراك دون إشراك وقد ورد مثله في الرياء وعقوق الوالدين والزوج والزور
وغير معصية وإذا كان محتملا للأمرين فلا يقطع على أحدهما إلا بدليل
قاطع، وقوله في الخوارج هم من شر البرية وهذه صفة الكفار، وقال شر قبيل
تحت أديم السماء طوبى لمن قتلهم أو قتلوه، وقال: (فإذا وجدتموهم
فاقتلوهم قتل عاد) وظاهر هذا الكفر لا سيما مع تشبيههم بعاد فيحتج به
من يرى تكفيرهم فيقول له الآخر إنما ذلك من قتلهم لخروجهم على المسلمين
وبغيهم عليهم بدليله من الحديث نفسه يقتلون أهل الإسلام فقتلهم ههنا حد
لا كفر وذكر عاد تشبيه للقتل وحله لا للمقتول وليس كل من حكم بقتله
يحكم بكفره ويعارضه بقول خالد في الحديث دعني أضرب عنقه يا رسول الله
فقال لعله يصلى فإن احتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم يقرؤن القرآن لا
يجاوز حناجرهم فأخبر
(2/278)
أن الإيمان لم
يدخل قلوبهم وكذلك قوله (يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ثم لا
يعودون إليه حتى يعود السهم على فوقه) وبقوله (سبق الفرث والدم) يدل
على أنه لم يتعلق من الإسلام بشئ أجابه الآخرون أن معنى لا يجاوز
حناجرهم لا يفهمون معانيه بقلوبهم ولا تنشرح له صدورهم ولا تعمل به
جوارحهم وعارضوهم بقوله ويتمارى في الفوق وهذا يقتضى التشكك في حاله
وإن احتجوا بقول أبى سعيد الخدرى في هذا الحديث.
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يخرج في هذه الأمة) ولم يقل
(من هذه) وتحرير أبى سعيد الرواية وإتقانه اللفظ أجابهم الآخرون بأن
العبارة بفى لا تقتضي تصريحا بكونهم من غير الأمة بخلاف لفظة من - التى
هي للتبعيض وكونهم من الأمة مع أنه قد روى عن أبى ذر وعلى وأبى أمامة
وغيرهم في هذا الحديث يخرج من أمتى، وسيكون من أمتى، وحروف المعاني
مشتركة فلا تعويل على إخراجهم من الأمة ؟ ؟ ؟ ولا على إدخالهم فيما بمن
لكن أبا سعيد رضى الله عنه أجاد ما شاء في التنبيه الذى نبه عليه وهذا
مما يدل على سعة فقه الصحابة وتحقيقهم للمعانى واستنباطها من الألفاظ
وتحريرهم لها وتوقيهم في الرواية هذه المذاهب المعروفة لأهل السنة
ولغيرهم
__________
(قوله من الرمية) أي المرمية من الصيد (قوله على فوقه) الفوق بضم الفاء
موضع الوتر من السهم (قوله سبق الفرث والدم) أي مر سريعا فلم يعلق بشئ
من دمها وفرثها (*)
(2/279)
من الفرق فيها
منالات كثيرة مضطربة سخيفة أقربها قول جهم ومحمد
ابن شبيب إن الكفر بالله الجهل به لا يكفر أحد بغير ذلك وقال أبو
الهذيل إن كل متأول كان تأوليه تشبيها لله بخلقه وتجويرا له في فعله
وتكذيبا لخبره فهو كافر وكل من اثبت شيئا قديما لا يقال له الله فهو
كافر وقال بعض المتكلمين إن كان ممن عرف الأصل وبنى عليه وكان فيما هو
من أوصاف الله فهو كافر وإن لم يكن من هذا الباب ففاسق إلا أن يكون ممن
لم يعرف الأصل فهو مخطئ غير كافر وذهب عبيد الله بن الحسن العنبري إلى
تصويب أقوال المجتهدين في أصول الدين فيما كان عرضة للتأويل وفارق في
دلك فرق الأمة إذ أجمعوا سواه على أن الحق في أصول الدين في واحد
والمخطئ فيه آثم عاص فاسق وإنما الخلاف في تكفيره وقد حكى القاضى أبو
بكر الباقلانى مثل قول عبيد الله عن داود الأصبهاني وقال وحكى قوم
عنهما أنهما قالا ذلك في كل من علم الله سبحانه من حاله استفراغ الوسع
في طلب الحق من أهل ملتنا أو من غير هم وقال نحو هذا القول الجاحظ
وثمامة في أن كثيرا من العامة والنساء والبله ومقلدة النصارى واليهود
__________
(قوله عن داود الأصبهاني) هو إمام أهل الظاهر (قوله الجاحظ) هو عمرو بن
بحر، إليه تنسب الجاحظية من المعتزلة، توفى سنة خمس وخمسين ومائتين
بالبصرة (قوله وثمامة) هو ابن اشر بن أبى معين التميرى قال الذهبي كان
من كبار المعتزلة ورؤس الضلالة وكان له أيضا اتصال بالرشيد ثم المأمون
وكان ذا نوادر وملح (*)
(2/280)
وغيرهم لا حجة
لله عليهم إذ لم تكن لهم طباع يمكن معها الاستدلال وقد نحا الغزالي
قريبا من هذا المنحى في كتاب التفرقة وقائل هذا كله كافر بالإجماع على
كفر من لم يكذر أحدا من النصارى واليهود
وكل من فارق دين المسلمين أو وقف في تكفير هم أوشك قال القاضى أبو بكر
لأن التوقيف والإجماع اتفقا على كفرهم فمن وقف في ذلك فقد كذب النص
والتوقيف أو شك فيه والتكذيب أو الشك فيه لا يقع إلا من كافر
__________
(قوله الغزالي) بفتح العين المعجمة وتشديد الزاى قال النووي في التبيان
في أداه حملة القرآن بتخفيف الزاى نسبة إلى غزالة قرية من قرى طوس وقال
ابن الأثير إن التخفيف خلاف المشهور قال وأظن أن هذه النسبة في التشديد
إلى الغزال على عادة أهل جرجان وخوارزم كالقصارى إلى القصار، قال وحكى
لى بعض من ينسب إليه من أهل طوس أنه منسوب إلى غزالة بنت كعب الأحبار
انتهى وفى الطبقات للسبكي وكان والده يغزل الصوف ويبيعه بدكان بطوس
ولما حضرته الوفاة أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير
وقال له إن لى تأسفا على تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في ولدى
فعلهما الخط ولا عليك ان تنفد في ذلك جميع ما خلفته لهما فلما مات
أبوهما أقبل الصوفى على تعليمهما إلى أن فنى الذى خلفه لهما أبوهما
وتعذر على الصوفى القيام يفوتهما قال لهما أرى أن تلجأ إلى مدرسة
كأنكما من طلبة العلم فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما ففعلا ذلك
فكان السبب في سعادتهما وكان الغزالي يقول طلبنا العلم لغير الله فأبى
أن يكون إلا لله، ولد رحمه الله سنة خمسين وأربعمائة بطوس وتوفى سنة
خمس وخمسمائة (*)
(2/281)
فصل في بيان ما هو من المقالات كفر
وما يتوقف أو يختلف فيه وما ليس بكفر اعلم أن تحقيق هذا الفصل وكشف
اللبس فيه مورده الشرع ولا مجال للعقل فيه والفصل البين في هذا أن كل
مقالة صرحت بنفى الربوبية أو الوحدانية أو عبادة أحد غير الله أو مع
الله فهى كفر كمقالة الدهرية وسائر فرق أصحاب الاثنين من الديصانية
والمانوية وأشباههم من الصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا بعبادة
الأوثان أو الملائكة أو الشيطاين أو الشمس أو النجوم أو النار أو أحد
غير الله من مشركي العرب وأهل الهند والصين والسودان وغيرهم ممن لا
يرجع إلى كتاب وكذلك القرامطة وأصحاب الحلول والتناسخ من الباطنية
والطيارة من الروافض وكذلك من اعترف بإلاهية الله
__________
(قوله الدهرية) بفتح الدال طائفه مخلدون جمع دهري بفتحها والدهرى بالضم
الشيخ الكبير، قال ثعلب هما جميعا منسوبان إلى الدهر وإنما غيروا في
النسب كما قالوا سهلى المنسوب إلى الأرض السهلة (قوله من الديصانية)
بكسر الدال المهملة وسكون المثناة التحتية وتخفيف الصاد قوم يقولون
بالنور والظلمة كالمانية إلا أن المانية يقولون النور والظلمة حيان
والديصانة يقولون النور حى والظلمة ميت (قوله المانية) وفى بعض النسخ
المانوية نسبة إلى مانى الزنديق ظهر في زمن سابور بن أردشير وادعى
النبوة وادعى أن للعالم أصلين نورا وظلمة وهما قديمان فقبل قوله سابور
فلما ملك بهرام ساخه وحشا حلده تبنا وقتل أصحابه وهرب بعضهم إلى الصين
(*)
(2/282)
ووحدانيته
ولكنه اعتقد أنه غير حى أو غير قديم وأنه محدث أو مصور أو ادعى له ولدا
أو صاحبة أو والدا أو متولد من شئ أو كائن عنه أو أن معه في الأزل شيئا
قديما غيره أو أنثم صانعا للعالم سواه أو مدبرا غيره فذلك كله كفر
بإجماع المسلمين كقول الإلهيين من الفلاسفة والمنجمين والطبائعيين
وكذلك من ادعى مجالسة الله والعروج
إليه ومكالمته أو حلوله في أحد الأشخاص كتول بعض المتصوفة والباطنية
النصارى والقرامطة وكذلك نقطع على كفر من قال بقدم العالم أو بقائه أو
شك في ذلك على مذهب بعض الفلاسفة والدهرية أو قال بتناسخ الأرواح
وانتقالها أبد الآباد في الأشخاص وتعذيبها أو تنعمها فيها بحسب زكائها
وخبثها وكذلك من اعترف بالإلهية والوحدانية ولكنه جحد النبوة من أصلها
عموما أو نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم خصوصا أو أحد من الأنبياء
الذين نص الله عليهم بعد علمه بذلك فهو كافر بلا ريب كالبراهمة ومعظم
اليهود والأروسية من النصارى والغرابية من الروافض الزاعمين أن عليا
كان المبعوث إليه جبريل وكالمعطلة والقرامطة والإسماعيلية والعنبرية من
الرافضة وإن كان بعض هؤلاء قد أشركوا في كفر آخر مع من قبلهم وكذلك من
دان بالوحدانية وصحة النبوة
__________
(قوله والغرابية) بضم الغين المعجمة قالوا محمد بعلى أشبه من الغراب
بالغراب والدواب بالدواب وبعث الله جبريل إلى على فغلظ فيلعنون - لعنهم
الله - صاحب الريش ويعنون به جبريل عليه السلام (*)
(2/283)
ونبوة نبينا
صلى الله عليه وسلم ولكن جوز على الأنبياء الكذب فيما أتوا به ادعى في
ذلك المصلحة نزعمه أو لم يذعها فهو كافر بإجماع كالمتفلسفين وبعض
الباطنية والروافض وغلاة المتصوفة وأصحاب الإباحة فإن هؤلاء زعموا أن
ظواهر الشرع وأكثر ما جاءت به الرسل من الأخبار عما كان ويكون من أمور
الآخرة والحشر، والقيامة، والجنة، والنار ليس منها شئ على مقتضى لفظها
ومفهوم خطابها وإنما خاطبوا بها الخلق على جهة المصلحة لهم إذ لم
يمكنهم التصريح لقصور
أفهامهم فمضمن مقالاتهم إبطال الشرائع وتعطيل الأوامر والنواهي وتكذيب
الرسل والارتياب فيما أتوا به وكذلك من أضاف إلى نبينا صلى الله عليه
وسلم تعمد الكذب فيما بلغه وأخبر به أو شك في صدقه أو سبه أو قال إنه
لم يبلغ أو استخف به أو بأحد من الأنبياء أو أزرى عليهم أو آذاهم أو
قتل نبيا أو حاربه فهو كافر بإجماع وكذلك نكفر من ذهب مذهب بعض القدماء
في أن في كل جنس من الحيوان نذيرا ونبيا من القردة، والخنازير والدواب
والدود ووغير ذلك، ويحتج بقوله تعالى (وإن من أمة إلا خلا فيها نذير)
إذ ذلك يؤدى إلى أن يوصف أنبياء هذه الأجناس بصفاتهم المذمومة وفيه من
الإزراء على هذا المنصف المنيف ما فيه مع إجماع المسلمين على خلافه
وتكذيب قائله وكذلك نكفر من اعترف من الأصول الصحيحة بما تقدم ونبوة
نبينا صلى الله عليه وسلم
(2/284)
ولكن قال كان
أسود أو مات قبل أن يلتحى أو ليس الذى كان بمكة والحجاز أو ليس بقرشي
لأن وصفه بغير صفاته المعلومة نفى له وتكذيب به وكذلك من ادعى نبوة أحد
مع نبينا صلى الله عليه وسلم أو بعده كالعيسوية من اليهود القائلين
بتخصيص رسالته إلى العرب وكالخرمية القائلين بتواتر الرسل وكأكثر
الرافضة القائلين بمشاركة على في الرسالة للنبى صلى الله عليه وسلم
وبعده فكذلك كل إمام عند هؤلاء يقوم مقامه في النبوة والحجة وكالبزيغية
والبيانية منهم القائلين بنبوة بزيغ وبيان وأشباه هؤلاء أو من ادعى
النبوة لنفسه أو جوز اكتسابها والبلوغ بصفاء القلب إلى مرتبتها
كالفلاسفة وغلاة المتصوفة وكذلك من ادعى منهم أنه يوحى إليه وإن لم يدع
النبوة أو أنه يصعد إلى السماء ويدخل الجنة ويأكل من ثمارها ويعانق
الحور العين فهؤلاء كلهم كفار مكذبون للنبى صلى الله عليه وسلم لأنه
أخبر صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين لا نبى بعده وأخبر عن الله
__________
(قوله كالعيسوية) نسبة إلى أبى عيسى بن إسحاق بن يعقوب الأصبهاني كان
موجودا في خلافة المنصور وخالف اليهود في أشياء منها أنه حرم الذبائح
(قوله وكخرمية) بالخاء المعجمة المضمومة في الصحاح: تخرم: دان بدين
الخرمية وهم أصحاب التناسخ والإباحة (قوله وكالبزيغية والبيانية)
البزيغية بالموحدة والزاى المكسورة والغين المعجمة نسبة إلى بزيغ
والبيانية إلى بيان بن سمعان النهدي التميمي قال إن روح الله جل وعلا
حلت في على ثم في ابنه محمد بن الحنفية ثم في ابنه أبى هاشم ثم في بيان
(*)
(2/285)
تعالى أنه خاتم
النبيين وأنه أرسل كافة للناس وأجمعت الأمة على حمل هذا الكلام على
ظاهره وأن مفهومه المراد به دون تأويل ولا تخصيص فلا شك في كفر هؤلاء
الطوائف كلها قطعا إجماعا وسمعا وكذلك وقع الإجماع على تكفير كل من
دافع نص الكتاب أو خص حديثا مجمعا على نقله مقطوعا به مجمعا على حمله
على ظاهره كتكفير الخوارج بإبطال الرجم ولهذا نكفر من لم يكفر من دان
بغير ملة المسلمين من الملل أو وقف فيهم أو شك أو صحح مذهبهم وإن أظهر
مع ذلك الإسلام واعتقده واعتقد إبطال كل مذهب سواه فهو كافر بإظهاره ما
أظهر من خلاف ذلك وكذلك نقطع بتكفير كل قائل قال قولا يتوصل به إلى
تضليل الأمة وتكفير جميع الصحابة كقول الكميلية من الرافضة بتكفير جميع
الأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم إذ لم تقدم عليا وكفرت عليا إذ لم
يتقدم ويطلب حقه في التقديم فهؤلاء قد كفروا من وجوه
لأنهم أبطلوا الشريعة بأسرها إذ قع انقطع نقلها ونقل القرآن إذ ناقلوه
كفرة على زعمهم وإلى هذا والله أعلم أشار مالك في أحد قوليه بقتل من
كفر الصحابة ثم كفروا من وجه آخر بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم على
__________
(قوله الكميلية) ليس من الفرق ما يلقب بالكميلية وإنما منهم فرقة من
الشيعة ثلقب بالكاملية نسبة إلى أبى كامل قال بكفر الصحابة بترك بيعة
على وبكفر على بترك طلب الحق وقال بالتناسخ في الأرواح عند الموت وإنما
الإمامة نور ينتقل من شخص إلى آخر وقد يصير في شخص نبوة بعد ما كانت في
آخر إمامة (*)
(2/286)
مقتضى قولهم
وزعمهم أنه عهد إلى على رضى الله عنه وهو يعلم أنه يكفر بعده على قولهم
لعنة الله عليهم وصلى الله على رسوله وآله وكذلك نكفر بكل فعل أجمع
المسلمون أنه لا يصدر إلا من كافر وإن كان صاحبه مصرحا بالإسلام مع
فعله ذلك الفعل كالسجود للصنم وللشمس والقمر والصليب والنار والسعى إلى
الكنائس والبيع مع أهلها والتزيى بزيهم من شد الزنانير وفحص الرؤس فقد
أجمع المسلمون أن هذا لا يوجد إلا من كافر وأن هذه الأفعال علامة على
الكفر وإن صرح فاعلها بالإسلام وكذلك أجمع المسلمون على تكفير كل من
استحل القتل أو شرب الخمر أو الزنا مما حرم الله بعد علمه بتحريمه
كأصحاب الإباحة من القرامطة وبعض غلاة المتصوفة وكذلك نقطع بتكفير كل
من كذب وأنكر قاعدة من قواعد الشرع وما عرف يقينا بالنقل المتواتر من
فعل الرسول ووقع الإجماع المتصل عليه كمن أنكر وجوب الصلوات الخمس وعدد
ركعاتها وسجداتها ويقول إنما أوجب الله علينا في كتابه الصلاة على
الجملة وكونها خمسا وعلى هذه الصفات والشروط لا أعلمه
إذ لم يرد فيه في القرآن نص جلى والخبر به عن الرسول صلى الله عليه
وسلم خبر واحد وكذلك أجمع على تكفير من قال من الخوارج إن
__________
(قوله وفحص الرؤس) بفاء مفتوحة وحاء وصاد مهملتين في الصحاح، وفى
الحديث فحصوا عن رؤسهم: كأنهم حلقوا وسطها وتركوها مثل أفاحيص القطا
(*)
(2/287)
الصلاة طرفي
النهار وعلى تكفير الباطنية في قولهم إن الفرائض أسماء رجال أمروا
بولايتهم والخبائث والمحارم أسماء رجال أمروا بالبراءة منهم وقول بعض
المتصوفة إن العبادة وطول المجاهدة إذا صفت نفوسهم أفضت بهم إلى
إسقاطها وإباحة كل شئ لهم ورفع عهد الشرائع.
عنهم وكذلك إن أنكر منكر مكة أو البيت أو المسجد الحرام أو صفة الحج أو
قال الحج واجب في القرآن واستقبال القبلة كذلك ولكن كونه على هذه
الهيأة المتعارفة وأن تلك البقعة هي مكة والبيت والمسجد الحرام لا أدرى
هل هي تلك أو غيرها ولعل الناقلين أن النبي صلى الله عليه وسلم فسرها
بهذه التفاسير غلطوا ووهموا فهذا ومثله لا مرية في تكفيره إن كان ممن
يظن به علم ذلك وممن خالط المسلمين وامتدت صحبته لهم إلا أن يكون حديث
عهد بإسلام فيقال له سبيلك أن تسأل عن هذا الذى لم تعلمه بعد كافة
المسلمين فلا تجد بينهم خلافا كافة عن كافة إلى معاصر الرسول صلى الله
عليه وسلم أن هذه الأمور كما قيل لك وإن تلك البقعة هي مكة والبيت الذى
فيها هو الكعبة والقبلة التى صلى لها الرسول صلى الله عليه وسلم
والمسلمون وحجوا إليها وطافوا بها وأن تلك الأفعال هي صفات
عبادة الحج والمراد به وهى التى فعلها النبي صلى الله عليه وسلم
والمسلمون وإن صفات الصلوات المذكورة هي التى فعل النبي صلى الله عليه
وسلم
(2/288)
وشرح مراد الله
بذلك وأبان حدودها فيقع لك العلم كما وقع لهم ولا ترتاب بذلك بعد
والمرتاب في ذلك والمنكر بعد البحث وصحبته المسلمين كافر باتفاق ولا
يعذر بقوله لا أدرى ولا يصدق فيه بل ظاهره التستر عن التكذيب إذ لا
يمكن أنه لا يدرى وأيضا فإنه إذا جوز على جميع الأمة الوهم والغلط فيما
نقلوه من ذلك وأجمعوا أنه قول الرسول وفعله وتفسير مراد الله به أدخل
الاسترابة في جميع الشريعة إذ هم الناقلون لها وللقرآن وانحلت عرى
الدين كرة ومن قال هذا كافر وكذلك من أنكر القرآن أو حرفا منه أو غير
شيئا منه أو زاد فيه كفعل الباطنية والإسماعيلية أو زعم أنه ليس بحجة
للنبى صلى الله عليه وسلم أو ليس فيه حجة ولا معجزة كقول هشام الفوطى
ومعمر الصيمري إنه لا يدل على الله ولا حجة فيها لرسوله ولا يدل على
ثواب ولا عقاب ولا حكم ولا محالة في كفرهما بذلك القول وكذلك نكفرهما
بإنكارهما أن يكون في سائر معجزات النبي صلى الله عليه وسلم حجة له أو
في خلق السموات والأرض دليل على الله لمخالفهتهم الإجماع والنقل
المتواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم باحتجاجه بهذا كله وتصريح القرآن
به وكذلك من أنكر شيئا مما نص فيه القرآن بعد علمه أنه من القرآن الذى
في أيدى الناس ومصاحف لمسلمين ولم يكن
__________
(قوله كرة) بفتح الكاف وتشديد الراء هي المرة (19 - 2) (*)
(2/289)
جاهلا به ولا
قريب عهد بالإسلام واحتج لإنكاره أما بأنه لم يصبح النقل عنده ولا بلغه
العلم به أو لتجويز الوهم على نافله فنتكفره بالطريقين المتقدمين لأنه
مكذب للقرآن مكذب للنبى صلى الله عليه وسلم لكنه تستر بدعواه وكذلك من
أنكر الجنة أو النار أو البعث أو الحساب أو القيامة فهو كافر بإجماع
للنص عليه وإجماع الأمة على صحة نقله متواترا وكذلك من اعترف بذلك
ولكنه قال إن المراد بالجنة والنار والحشر والنشر والثواب والعقاب معنى
غير ظاهره وأنها لذات روحانية ومعان باطنة كقول النصارى والفلاسفة
والباطنية وبعض المتصوفة وزعم أن معنى القيامة الموت أو فناه محض
ولتنقاض هيئة الأفلاك وتحليل العالم كقول بعض الفلاسفة وكذلك نقطع
بتكفير غلاة الرافضة في قولهم إن الأئمة أفضل من الأنبياء فأما من أنكر
ما عرف بالتواتر من الأخبار والسير والبلاد التى لا يرجع إلى أبطال
شريعة ولا يفضى إلى إنكار قاعدة من الدين كإنكار غزوة تبوك أو مؤنة أو
وجود أبى بكر وعمر أو قتل عثمان أو خلافة على مما علم بالنقل ضرورة
وليس في إنكار وجحد شريعة فلا سبيل إلى تكفيره بجحد ذلك وإنكار وقوع
العلم له إذ ليس في ذلك أكثر من المباهتة كإنكار هشام وعباد وقعه الجمل
ومحاربة على من خالفه فأما إن ضعف ذلك من أجل تهمة
__________
(قوله وأنها لذات) بفتح اللام وتشديد الذال المعجمة: جمع لذة (*)
(2/290)
الناقلين ووهم
المسلمين أجمع فنكفره بذلك لسريانه إلى إبطال الشريعة فأما من أنكر
الإجماع المجرد الذى ليس طريقه النقل المتواتر عن الشارع
فأكثر المتكلمين ومن الفقهاء والنظار في هذا الباب قالوا بتكفير كل من
خالف الإجماع الصحيح الجامع لشروط الإجماع المتفق عليه عموما وحجتهم
قوله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى) الآية وقوله
صلى الله عليه وسلم (من خالف الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من
عنقه) وحكوا الإجماع على تكفير من خالف الإجماع وذهب آخرون إلى الوقوف
عن القطع بتكفير من خالف الإجماع الذى يختص بنقله العلماء وذهب آخرون
إلى التوقف في تكفير من خالف الإجماع الكائن عن نظر كتكفير النظام
بإنكاره الإجماع لأنه بقوله هذا مخالف إجماع السلف على احتجاجهم به
خارق للإجماع، قال القاضى أبو بكر القول عندي أن الكفر بالله هو الجهل
بوجوده والإيمان بالله هو العلم - بوجوده وأنه لا يكفر أحد بقول ولا
رأى إلا أن يكون هو الجهل بالله فإن عصى بقول أو فعل نص الله ورسوله أو
أجمع المسلمون أنه لا يوجد إلا من كافر أو يقوم دليل على ذلك فقد كفر
ليس لأجل قوله أو فعله لكن لما يقارنه من الكفر فالكفر بالله لا يكون
إلا بأحد
__________
(قوله كتكفير النظام) هو إبراهيم بن سيار مولى بنى الحارث بن عباد كان
أحد فرسان المتكلمين من المعتزلة وكان في دولة المعتصم (*)
(2/291)
ثلاثة أمور
أحدها الجهل بالله تعالى والثانى أن يأتي فعلا أو يقول قولا يخبر الله
ورسوله أو يجمع المسلمون أن ذلك لا يكون إلا من كافر كالسجود للصنم
والمشى إلى الكنائس بالتزام الزنار مع أصحابها في أعيادهم أو يكون ذلك
القول أو الفعل لا يمكن معه العلم بالله قال فهذان الضربان وإن لم
يكونا جهلا بالله فهما علم أن فاعلهما كافر منسلخ من الإيمان فأما من
نفى صفة من صفات الله تعالى الذاتية
أو جحدها مستبصرا في ذلك كقوله: ليس بعالم ولا قادر ولا مريد ولا متكلم
وشبه ذلك من صفات الكمال الواجبة له تعالى فقد نص أئمتنا على الإجماع
على كفر من نفى عنه تعالى الوصف بها وأعراه عنها وعلى هذا حمل قول
سحنون من قال ليس لله كلام فهو كافر وهو لا يكفر المتأولين كما قدمناه
فأما من جهل صفة من هذه الصفات فاختلف العلماء ههنا فكفره بعضهم وحكى
ذلك عن أبى جعفر الطبري وغيره وقال به أبو الحسن الأشعري مرة وذهبت
طائفة إلى أن هذا لا يخرجه عن اسم الإيمان وإليه رجع الأشعري قال: لأنه
لم يعتقد ذلك اعتقادا يقطع بصوابه ويراه دينا وشرعا وإنما يكفر من
اعتقد أن مقاله حق واحتج هؤلاء بحديث السوداء وأن النبي صلى الله عليه
وسلم إنما
__________
(قوله وهو لا يكفر) بسكون الهاء وفتح الواو ضمير غيبة عائد على سحنون
(قوله لحديث السوداء) هو ما رواه أبو داود في الإيمان والنسائي في
الوصايات من حديث الشريد بن سويد الثقفى أن أمه أوصته أن يعتق عنها
رقبة مؤمنة فأتى النبي صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله إن أمي
أوصت أن أعتق عنها رقبة مؤمنة وعندي جارية سوداء نوبية فذكر نحو حديث
معاوية بن الحكم السلمى إلى أن قال أين الله ؟ قالت في السماء، قال من
أنا ؟ قالت: أنت رسول الله، قال أعتقها فإنها مؤمنة (*)
(2/292)
طلب منها
التوحيد لا غير وبحديث القائل لئن قدر الله على وفى رواية فيه لعلى أضل
الله ثم قال: فغفر الله له قالوا ولو بوحث أكثر الناس عن الصفات
وكوشفوا عنها لما وجد من يعلمها إلا الأقل، وقد أجاب الآخر عن هذا
الحديث بوجوه منها أن قدر بمعنى قدر ولا يكون شكه في القدرة على إحيائه
بل في نفس البعث الذى لا يعلم إلا بشرع ولعله
لم يكن ورد عندهم به شرع يقطع عليه فيكون الشك فيه حينئذ كفرا فأما ما
لم يرد به شرع فهو من مجوزات العقول أو يكون قدر بمعنى ضيق ويكون ما
فعله بنفسه إزراء عليها وغضبا لعصيانها وقيل: إنما قال ما قاله وهو غير
عاقل لكلامه ولا ضابط للفظه مما استولى عليه من الجزع والخشية التى
أذهبت لبه فلم يؤاخذ به وقيل كان هذا في زمن الفترة وحيث ينفع مجرد
التوحيد وقيل بل هذا من مجاز كلام العرب الذى صورته الشك ومعناه
التحقيق وهو يسمى تجاهل العارف وله أمثلة في كلامهم كقوله تعالى (لعله
يتذكر أو يخشى) وقوله (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين) فأما
من أثبت الوصف ونفى الصفة فقال أقول عالم
__________
(قوله لعلى أضل الله) قال صاحب الصحاح: أضل عنه أي: أخفى عليه وأغيب،
من قوله تعالى (أئذا ضللنا في الأرض) أي خفينا وغبنا، وقال ابن الأثير:
لعلى أضل الله: أفوته ويخفى عليه مكاني، وقيل: لعلى أغيب عن عذاب الله
(*)
(2/293)
ولكن لا علم له
ومتكلم ولكن لا كلام له وهكذا في سائر الصفات على مذهب المعتزلة فمن
قال بالمأل لما يؤديه إليه قوله ويسوقه إليه مذهبه كفره لأنه إذا نفى
العلم انتفى وصف عالم إذ لا يوصف بعالم إلا من له علم فكأنهم صرحوا
عنده بما أدى إليه قولهم وهكذا عند هذا سائر فرق أهل التأويل من
المشبهة والقدرية وغيرهم ومن لم ير أخذهم بمأل قولهم ولا ألزمهم موجب
مذهبم لم ير إكفارهم قال لأنهم إذا وقفوا على هذا قالوا لا نقول ليس
بعالم ونحن ننتفى من القول بالمأل الذى ألزمتموه لنا ونعتقد نحن وأنتم
أنه كفر بل نقول إن قولنا لا يؤول إليه على ما أصلناه فعلى هذين
المأخذين اختلف الناس في إكفار أهل التأويل وإذا فهمته اتضح لك الموجب
لاختلاف الناس في ذلك والصواب ترك إكفارهم
والإعراض عن الحتم عليهم بالخسران وإجراء حكم الإسلام عليهم في قصاصهم
ووراثاتهم ومناكحاتهم ودياتهم والصلواة عليهم ودفنهم في مقابر المسلمين
وسائر معاملاتهم لكنهم يغلظ عليهم بوجيع الأدب وشديد الزجر والهجر حتى
يرجعوا عن بدعتهم وهذه كانت سيرة الصدر الأول فيهم فقد كان نشأ على زمن
الصحابة وبعدهم في التابعين من قال بهذه الأقوال من القدر ورأى الخوارج
والاعتزال فما أزاحوا لهم قبرا ولا قطعوا لأحد منهم ميراثا لكنهم
هجروهم وأدبوهم بالضرب والنفى والقتل على قدر أحوالهم لأنهم فساق ضلال
عصاة أصحاب كبائر
(2/294)
عند المحققين
وأهل السنة ممن لم يقل بكفرهم منهم خلافا لمن رأى غير ذلك والله الموفق
للصواب قال القاضى أبو بكر وأما مسائل الوعد والوعيد والرؤية والمخلوق
وخلق الأفعال وبقاء الأعراض والتولد وشبهها من الدقائق فالمنع في إكفار
المتأولين فيها أوضح إذ ليس في الجهل بشئ منها جهل بالله تعالى ولا
أجمع المسلمون على إكفار من جهل شيئا منها وقد قدمنا في الفصل قبله من
الكلام وصورة الخلاف في هذا ما أغنى عن إعادته بحول الله تعالى
فصل هذا حكم المسلم الساب لله تعالى وأما
الذمي
فروى عن عبد الله ابن عمر في ذمى تناول من حرمة الله تعالى غير ما هو
عليه من دينه وحاج فيه فخرج ابن عمر عليه بالسيف فطلبه فهرب وقال مالك
في كتاب ابن حبيب والمبسوطة، وابن القاسم في المبسوط وكتاب محمد وابن
سحنون: من شتم الله من اليهود والنصارى بغير الوجه الذى كفر به قتل ولم
يستتب قال ابن القاسم إلا أن يسلم قال في المبسوطة طوعا قال أصبغ لأن
الوجه الذى به كفروا هو دينهم وعليه عوهدوا من دعوى الصاحبة والشريك
والولد وأما غير هذا من الفرية والشتم فلم يعاهدوا عليه فهو نقض للعهد
قال ابن القاسم في كتاب محمد ومن شتم من غير
(2/295)
أهل الأديان
الله تعالى بغير الوجه الذى ذكر في كتابه قتل إلا أن يسلم وقال
المخزومى في المبسوطة ومحمد بن مسلمة وابن أبى حازم لا يقتل حتى
يستتاب، مسلما كان أو كافرا فإن تاب وإلا قتل وقال مطرف وعبد الملك مثل
قول مالك وقال أبو محمد بن أبى زيد من سب الله تعالى بغير الوجه الذى
به كفر قتل إلا أن يسلم وقد ذكرنا قول ابن الجلاب قبل وذكرنا قول عبيد
الله وابن لبابة وشيوخ الأندلسيين في النصرانية وفتياهم بقتلها لسبها
بالوجه الذى كفرت به الله والنبى وإجماعهم على ذلك وهو نحو القول الآخر
فيمن سب النبي صلى الله عليه وسلم منهم بالوجه الذى كفر به ولا فرق في
ذلك بين سب الله وسب نبيه لأنا عاهدناهم على أن لا يظهروا لنا شيئا من
كفرهم وأن لا يسمعونا شيئا من ذلك فمتى فعلوا شيئا منه فهو نقض لعهدهم
واختلف العلماء في الذمي إذا تزندق فقال مالك ومطرف وابن عبد الحكم
وأصبغ لا يقتل لأنه خرج من كفر إلى كفر وقال عبد الملك بن الماجشون
يقتل لأنه دين لا يقر عليه أحد ولا يوخذ عليه جزية قال ابن حبيب وما
أعلم من قاله غيره
فصل هذا حكم من صرح بسبه وإضافة ما
لا يليق بجلاله وإلهيته * فأما مفترى الكذب عليه تبارك وتعالى بادعاء
الإلهية أو الرسالة أو النافي
(2/296)
أن يكون الله
خالقه أو ربه أو قال ليس لى رب أو المتكلم بما لا يعقل من ذلك في سكره
أو غمرة جنونه فلا خلاف في كفر قائل ذلك ومدعيه مع سلامة عقله كما
قدمناه لكنه تقبل توبته على المشهور وتنفعه إنابته وتنجيه من القتل
فيأته لكنه لا يسلم من عظيم النكال ولا يرفه عن شديد العقاب ليكون ذلك
زجرا لمثله عن قوله وله عن العودة لكفره أو جهله إلا من تكرر منه ذلك
وعرف استهانته بما أتى به فهو دليل على سوء طويته وكذب توبته وصار
كالزنديق الذى لا نامن باطنه ولا نقبل رجوعه وحكم السكران في ذلك حكم
الصاحى وأما المجنون والمعتوة فما علم أنه قال من ذلك في حال غمرته
وذهاب ميزه فلا نظر فيه وما فعله من ذلك في حال ميزه وإن لم يكن معه
عقله وسقط تكليفه أدب على ذلك لينزجر عنه كما يؤدب على قبائح الأفعال
ويوالى أدبه على ذلك حتى ينكف عنها كما تؤدب البهيمة على سوء الخلق حتى
تراض وقد أحرق على بن أبى طالب رضى الله عنه من ادعى له الإلهية وقد
قتل عبد الملك بن مروان الحارث المتنب وصلبه وفعل ذلك غير واحد من
الخلفاء والملوك بأشباههم وأجمع علماء وقتهم على صواب فعلهم والمخالف
في ذلك من كفرهم كافر وأجمع فقهاء بغداد أيام المقتدر من
__________
(قوله فيأته) بفتح الفاء وكسرها أي رجوعه (قوله طويته) بفتح الطاء
المهملة أي: ضمرته (*)
(2/297)
المالكية وقاضي
قضاتها أبو عم المالكى على قتل الحلاج وصلبه
لدعواه الإلهية والقول بالحلول وقوله: - أنا الحق - مع تمسكه في الظاهر
بالشريعة ولم يقبلوا توبته وكذلك حكموا في ابن أبى العزافير وكان على
نحو مذهب الحلاج بعد هذا أيام الراضي بالله وقاضي قضاة بغداد يومئذ أبو
الحسين بن أبى عمر المالكى، وقال ابن عبد الحكم في المبسوط من تنبأ
قتل، وقال أبو حنيفة وأصحابه: من جحد أن الله تعالى خالقه أو ربه أو
قال ليس لى رب فهو مرتد، وقال ابن القاسم في كتاب ابن حبيب ومحمد في
العتبية فيمن تنبأ يستتاب أسر ذلك أو أعلنه وهو كالمرتد وقاله سحنون
وغيره وقاله أشهب في يهودى تنبأ وادعى أنه رسول إلينا إن كان ؟ ؟ ؟ ؟ ؟
بذلك استتيب فإن تاب وإلا قتل.
وقال أبو محمد بن أبى زيد فمن لعن بارئه وادعى أن لسانه زل وإنما أراد
لعن الشيطان يقتل بكفره ولا يقبل عذره وهذا على القول الآخر من أنه لا
تقبل توبته وقال أبو الحسن القابسى في سكران قال: أنا الله أنا الله إن
تاب أدب فإن عاد إلى
__________
(قوله الحلاج) هو الحسين بن منصور من أهل البيضاء بلدة بفارس نشأ بواسط
والعراق وصحب الجنيد وغيره، ضرب ألف سوط وقطعت أطرافه وحز رأسه وأحرقت
جثته في ذى القعدة سنة تسع وثلاثمائة بأمر المقتدر (قوله وكذلك حكموا
في ابن أبى العزافير) بفتح المهملة وتخفيف الزاى وبعد الألف فاء مكسورة
فمثناة تحتية ساكنة فراء: هكذا في النسخ، وفى تاريخ الذهبي محمد بن على
أبو جعفر محمد بن أبى العزافر بغير ياء الزنديق أحدث مذهبا في الرفض
ببغداد ثم قال بالتناسخ ومخرق على الناس وظهر منه ادعاء الربوبية (*)
(2/298)
مثل قوله طولب
مطالبة الزنديق لأن هذا كفر المتلاعبين
فصل وأما من تكلم من سقط القول وسخف اللفظ
ممن لم يضبط كلامه وأهمل لسانه بما يقتضى الاستخفاف بعظمة ربه وجلالة
مولاه أو تمثل في بعض الأشياء ببعض ما عظم الله من ملكوته أو نزع من
الكلام لمخلوق بما لا يليق إلا في حق خالقه غير قاصد للكفر والاستخفاف
ولا عامد للإلحاد فإن تكرر هذا منه وعرف به دل على تلاعبه بدينه
واستخفافه بحرمة ربه وجهله بعظيم عزته وكبريائه وهذا كفر لا مرية فيه
وكذلك إن كان ما أورده يوجب الاستخفاف والتنقص لربه وقد أفتى ابن حبيب
وأصبغ بن خليل من فقهاء قرطبة بقتل المعروف بابن أخى عجب وكان خرج يوما
فأخذه المطر فقال: بدأ الخراز يرش جلوده، وكان بعض الفقهاء بها أبو زيد
صاحب الثمانية وعبد الأعلى بن وهب وأبان بن عيسى قد توقفوا عن سفك دمه
وأشاروا إلى أنه عبث من القول يكفى فيه الأدب وأفتى بمثله القاضى حينئذ
موسى بن زياد فقال ابن حبيب: دمه في عنقي، أيشتم رب عبدناه ثم لا ننتصر
له ؟ إنا إذا لعبيد سوء ما نحن له بعابدين، وبكى ورفع المجلس إلى
الأمير بها عبد الرحمن
__________
(قوله الخراز) بالخاء المعجمة والراء المشددة وفى آخره زاى (قوله صاحب
الثمانية) بضم المثلثة في أوله وكسر النون وتشديد المثناة تحتية (*)
(2/299)
ابن الحكم
الأموي وكانت عجب عمة هذا المطلوب من حظاياه وأعلم باختلاف الفقهاء
فخرج الإذن من عنده بالأخذ لقول ابن حبيب وصاحبه وأمر بقتله فقتل وصلب
بحضرة الفقيهين وعزل القاضى لتهمته بالمداهنة في هذه القصة ووبخ بقية
الفقهاء وسبهم.
وأما من صدرت عنه من ذلك الهنة الواحدة والفلتة الشاردة ما لم يكن تقصا
وإزراء فيعاقب
عليها ويؤدب بقدر مقتضاها وشنعة معناها وصورة حال قائلها وشرح سببها
ومقارنها، وقد سئل ابن القاسم رحمه الله عن رجل نادى رجلا باسمه فأجابه
لبيك اللهم لبيك قال إن كان جاهلا أو فاله على وجه سفه فلا شئ عليه قال
القاضى أبو الفضل وشرح قوله أنه لا قتل عليه والجاهل يزجر ويعلم
والسفيه يؤدب ولو قالها على اعتقاد إنزاله منزلة ربه لكفر، هذا مقتضى
قوله وقد أسرف كثير من سخفاء الشعراء ومتهميهم في هذا الباب واستخفوا
عظيم هذه الحرمة فأتوا من ذلك بما ننزه كتابنا ولساننا وأقلامنا عن
ذكره ولولا أنا قصدنا نص مسائل حكيناها لما ذكرنا شيئا مما يثقل ذكره
علينا مما حكيناه في هذه الفصول، وأما ما ورد في هذا من أهل الجهالة
وأغاليط اللسان كقول بعض الأعراب
__________
(قوله من سخفاء) جمع سخيف أي رقيقا العقل (قوله كقول بعض الأعراب) قال
ابن الأثير وسمع سليمان رجلا من الأعراب في سنة مجدبة يقول رب العباد
إلى آخره فحمله سليمان أحسن محمل وقال أشهد أن لا أبا له ولا صاحبة ولا
ولد انتهى قال ابن الأثير وأكثر ما يستعمل لا أبا لك في المدح أي لا
كافى لك غير نفسك وقد يذكر في معرض الذم وقد يذكر في معرض التعجب ودفع
العين وقد يذكر في معنى جد في أمرك وشمر له (*)
(2/300)
رب العباد
مالنا ومالكا * قد كنت تسقينا فما بدا لكا أنزل علينا الغيث لا أبا لكا
في أشباه لهذا من كلام الجهال ومن لم يقومه ثقاف تأديب الشريعة والعلم
في هذا الباب فلما يصدر إلا من جاهل يجب تعليمه وزجره والإغلاظ له عن
العودة إلى مثله قال أبو سليمان الخطابى وهذا تهور من القول والله منزه
عن هذه الأمور وقد روينا عن عون بن عبد الله
أنه قال ليعظم أحدكم ربه أن يذكر اسمه في كل شئ حتى لا يقول أخزى الله
الكلب وفعل به كذا وكذا وكان بعض من أدركنا من مشايخنا فلما يذكر اسم
الله تعالى إلا فيما يتصل بطاعته وكان يقول للإنسان جزيت خيرا وقلما
يقول جزاك الله خيرا إعظاما لاسمه تعالى أن يمتهن في غير قربة، وحدثنا
الثقة أن الإمام أبا بكر الشاشى كان يعيب على أهل الكلام كثرة خوضهم
فيه تعالى وفى ذكر صفاته إجلالا لاسمه تعالى يقول هؤلاء يتمندلون بالله
عز وجل وينزل الكلام في هذا الباب تنزيله في باب ساب النبي صلى الله
عليه وسلم على الوجوه التى فصلناها والله الموفق
__________
(قوله ثقاف) بكسر المثلثة وتخفيف الفاء وهو في الأصل اسم لما يسوى به
الرماح (قوله تهور من القول) التهور بفتح المثناة الفوقية والهاء وضم
الواو تشديدها الوقوع في الشئ بقلة مبالاة (قوله يتمندلون) في الصحاح
المنديل معروف تقول منه تمندلت بالمنديل (*)
(2/301)
(فصل) وحكم من سب سائر أنبياء الله تعالى وملائكته
واستخف بهم أو كذبهم فيما أتوا به أو أنكرهم وجحدهم حكم نبينا صلى الله
عليه وسلم على مساق ما قدمناه قال الله تعالى (إن الذين يكفرون بالله
ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله) الآية وقال تعالى (قولوا آمنا
بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم) الآية إلى قوله (لا نفرق
بين أحد منهم) وقال (كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين
أحد من رسله) قال مالك في كتاب ابن حبيب ومحمد وقال ابن القاسم وابن
الماجشون وابن عبد الحكم وأصبغ وسحنون فيمن شتم الأنبياء أو أحدا منهم
أو تنقصه قتل ولم يستتب ومن سبهم من أهل الذمة قتل إلا أن يسلم وروى
سحنون عن ابن القاسم: من سب الأنبياء من اليهود والنصارى بغير الوجه
الذى به كفر فاضرب عنقه إلا أن يسلم وقد تقدم الخلاف في هذا الأصل وقال
القاضى بقرطبة سعيد بن سليمان في بعض أجوبته من سب الله وملائكته قتل،
وقال سحنون من شتم ملكا من الملائكة فعليه القتل، وفى النوادر عن مالك
فيمن قال إن جبريل أخطأ بالوحى وإنما كان النبي على بن أبي طالب استتيب
فإن تاب وإلا قتل ونحوه عن سحنون وهذا قول الغرابية من الروافض سموا
بذلك لقولهم كان النبي صلى الله عليه وسلم أشبه بعلى من الغراب بالغراب
وقال أبو حنيفة وأصحابه على أصلهم من كذب بأحد من الأنبياء أو تنقص
(2/302)
أحدا منهم أو
يرى منهم فهو مرتد وقال أبو الحسن القابسى في الذى قال لآخر كأنه وجه
مالك الغضبان لو عرف أنه قصد ذم الملك قتل قال القاضى أبو الفضل وهذا
كله فيمن تكلم فيهم بما قلناه على جملة الملائكة والنبيين أو على معين
ممن حققنا كونه من الملائكة والنبيين ممن نص الله عليه في كتابه أو
حققنا عليه بالخبر المتواتر والمشتهر المتفق عليه بالإجماع القاطع
لجبريل وميكائيل ومالك وخزنة الجنة وجهنم والزبانية وحملة العرش
المذكورين في القرآن من الملائكة ومن سمى فيه من الأنبياء وكعزرائيل
وإسرافيل ورضوان والحفظة ومنكر ونكير من الملائكة المتفق على قبول
الخبر بهما فأما من لم تثبت الأخبار بتعيينه ولا وقع الإجماع على كونه
من الملائكة أو الأنبياء كهاروت وماروت في الملائكة والخضر ولقمان وذى
القرنين ومريم وآسية وخالد بن سنان المذكورة أنه نبى أهل الرس وزرادشت
الذى تدعى المجوس والمؤرخون نبوته فليس الحكم في سابهم والكافر بهم
كالحكم فيمن قدمناه إذ لم تثبت لهم تلك الحرمة ولكن يزجر من تنقصهم
وآذاهم ويؤدب بقدر حال المنقول
فيه لا سيما من عرفت صديقيته وفضله منهم وإن لم تثبت نبوته وأما إنكار
نبوتهم أو كون الآخر من الملائكة فإن كان المتكلم في ذلك
__________
(قوله ومنكر) بفتح الكاف كذا قيده ابن العربي المكى القاضى أبو بكر
(قوله وزرادشت) بزاى مفتوحة وراء فألف فدال مضمومة فشين معجمة فمثناة
صاحب كتاب المجوس (*)
(2/303)
من أهل العلم
فلا حرج لاختلاف العلماء في ذلك وإن كان من عوام الناس زجر عن الخوض في
مثل هذا فإن عاد أدب إذ ليس لهم الكلام في مثل هذا وقد كره السلف
الكلام في مثل هذا مما ليس تحته عمل لأهل العلم فكيف للعامة ؟
(فصل) واعلم أن من استخف بالقرآن أو المصحف
أو بشئ منه أو سبهما أو جحده أو حرفا منه أو آية أو كذب به أو بشئ منه
أو كذب بشئ مما صرح به فيه من حكم أو خبر أو أثبت ما نفاه أو نفى ما
أثبته على علم منه بذلك أو شك في شئ من ذلك فهو كافر عند أهل العلم
بإجماع قال الله تعالى (وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه
ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد) حدثنا الفقيه أبو الوليد هشام بن أحمد
رحمه الله حدثنا أبو على حدثنا ابن عبد البر حدثنا ابن عبد المؤمن
حدثنا ابن داسة حدثنا أبو داود حدثنا أحمد بن حنبل حدثنا يزيد بن هارون
حدثنا محمد بن عمرو عن أبى سلمة عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم قال (المراء في القرآن كفر) تؤول بمعنى الشك وبمعنى الجدال، وعن
ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم (من جحد آية من كتاب الله من
المسلمين فقد حل ضرب عنقه) وكذلك إن جحد التوراة والإنجيل وكتب الله
المنزلة أو كفر بها أو لعنها أو سبها أو استخف بها فهو كافر وقد أجمع
المسلمون أن القرآن المتلو في جميع أقطار الأرض المكتوب
(2/304)
في المصحف
بأيدى المسلمين مما جمعه الدفتان من أول (الحمد لله رب العالمين - إلى
آخر - قل أعوذ برب الناس) أنه كلام الله ووحيه المنزل على نبيه محمد
صلى الله عليه وسلم وأن جميع ما فيه حق وأن من نقص منه حرفا قاصدا لذلك
أو بدله بحرف آخر مكانه أو زاد فيه حرفا مما لم يشتمل عليه المصحف الذى
وقع الإجماع عليه وأجمع على أنه ليس من القرآن عامدا لكل هذا أنه كافر
ولهذا رأى مالك قتل من سب عائشة رضى الله عنها بالفرية لأنه خالف
القرآن ومن خالف القرآن قتل أي لأنه كذب بما فيه، وقال ابن القاسم من
قال إن الله تعالى لم يكلم موسى تكليما يقتل وقاله عبد الرحمن بن مهدى
وقال محمد بن سحنون فيمن قال المعوذتان ليستا من كتاب الله يضرب عنقه
إلا أن يتوب وكذلك كل من كذب بحرف منه قال وكذلك إن شهد شاهد على من
قال إن الله لم يكلم موسى تكليما وشهد آخر عليه أنه قال إن الله لم
يتخذ إبراهيم خليلا لأنهما اجتمعا على أنه كذب النبي صلى الله عليه
وسلم وقال أبو عثمان الحداد جميع من ينتحل التوحيد متفقون أن الجحد
لحرف من التنزيل كفر وكان أبو العالية إذا قرأ عنده رجل لم يقل له ليس
كما قرأت ويقول أما
__________
(قوله المعوذتان) قال النووي أجمع المسلمون على أن المعوذتين والفاتحة
وسائر السور المكتوبة في المصحف قرآن وأن من جحد شيئا منها كفر وما نقل
عن ابن مسعود في الفاتحة والمعوذتين باطل ليس بصحيح عنه، قال ابن حزم
في أول كتاب المجلى هذا كذب على ابن مسعود موضوع وإنما صح عنه قراءة
عاصم عن زيد بن حنيس عن عبد الله بن مسعود وفيها الفاتحة والمعوذتان
انتهى (*)
(2/305)
أنا فأقرأ كذا
فبلغ ذلك إبراهيم فقال أراه سمع أنه من كفر بحرف منه فقد كفر به كله
وقال عبد الله بن مسعود من كفر بآية من القرآن فقد كفر به كله وقال
أصبغ بن الفرج من كذب ببعض القرآن فقد كذب به كله ومن كذب به فقد كفر
به ومن كفر به فقد كفر بالله وقد سئل القابسى عمن خاضم يهوديا فحلف له
بالتوراة فقال الآخر لعن الله التوراة فشهد عليه بذلك شاهد ثم شهد آخر
أنه سأله عن القضية فقال إنما لعنت توراة اليهود فقال أبو الحسن الشاهد
الواحد لا يوجب القتل والثانى علق الأمر بصفة تحتمل التأويل إذ لعله لا
يرى اليهود متمسكين بشئ من عند الله لتبديلهم وتحريفهم ولو اتفق
الشاهدان على لعن التوراة مجرد لضاق التأويل، وقد اتفق فقهاء بغداد على
استتابة ابن شنبوذ المقرئ أحد أئمة المقرئين المتصدرين بها مع ابن
مجاهد لقراءته وإقرائه بشواذ من الحروف مما ليس في المصحف وعقدوا عليه
__________
(قوله ابن شنبوذ) قيل إنه بإسكان النون وهو الحسن محمد بن أحمد بن أيوب
بن الصلت المقرئ ء البغدادي قال ابن خلكان كان من مشاهير القراء ذادين
وسلامة صدر وقيل كان كثيرا اللحن قليل العلم تفرد بقراءة من الشواذ كان
يقرأ بها في المحراب فانكب على وبلغ أمره الوزير بن مقلة في شهر ربيع
الآخر سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة فاعتقله بداره واستحضره هو والقاضى
أبا الحسين عمر بن محمد وأبا بكر أحمد بن موسى بن مجاهد المقرئ وجماعة
من أهل الفرات فأغلظ القول عليهم فأمر الوزير بضربه فضرب سبع ؟ ؟ ؟
فدعا على الوزير بقطع يده وتشتيت شمله فكان الأمر كذلك ثم كتب محضرا
بما كان يقرؤه واستتيب أن لا يقرأ إلا بمصحف أمير المؤمنين عثمان وكتب
خطه في آخره وأطلق
(2/306)
بالرجوع عنه
والتوبة منه سجلا أشهد فيه بذلك على نفسه في مجلس الوزير أبى على بن
مقلة سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة وكان فيمن أفتى عليه بذلك أبو بكر
الأبهري وغيره وأفتى أبو محمد بن أبى زيد بالأدب فيمن قال لصبى لعن
الله معلمك وما علمك وقال أردت سوء الأدب ولم أرد القرآن قال أبو محمد
وأما من لعن المصحف فإنه يقتل
(فصل) وسب آل بيته وأزواجه وأصحابه
صلى الله عليه وسلم وتنقصهم حرام ملعون فاعله * حدثنا القاضى الشهيد
أبو على رحمه الله حدثنا أبو الحسين الصيرفى وأبو الفضل العدل حدثنا
أبو يعلى حدثنا أبو على السنجى حدثنا ابن محبوب حدثنا الترمذي حدثنا
محمد بن يحيى حدثنا يعقوب ابن إبراهيم حدثنا عبيدة بن أبى رابطة عن عبد
الرحمن بن زياد عن عبد الله ابن مغفل قال قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم (الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضا بعدى فمن أحبهم فبحبي أحبهم
ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم
__________
(قوله الوزير أبى على) هو محمد بن على بن الحسين بن مقلة الكاتب كان في
أول أمره يتولى بعض أعمال فارس ويجبى خراجها ويتقلب أحواله إلى أن
استوزره المقتدر سنة ست عشرة وثلاثمائة ثم قبض عليه في جمادى الأولى
سنة ثمان عشرة وثلاثمائة ونفاه إلى فارس بعد أن صادره ولما ولى القاهرة
أحضره في يوم الأضحى سنة عشرين وخلع عليه ولم يزل وزيره إلى أن اتهمه
على الفتك به وبلغ ابن مقلة الخبر فاستتر في أول شعبان سنة إحدى وعشرين
ولما ولى الراضي بالله في جمادى الأولى سنة اثنين وعشرين استوزره أيضا
توفى رحمه الله سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة (قوله عبيدة بن أبى رابطة)
بفتح العين المهملة وكسر الموحدة نص عليه ابن ماكولا (*)
(2/307)
ومن آذاهم فقد
آذانى ومن آذانى فقد آذى الله ومن آذى الله يوشك أن
يأخذه) وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أصحابي فمن سبهم
فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل الله منه صرفا ولا
عدلا) وقال صلى الله عليه وسلم (لا تسبوا أصحابي فإنه يجئ قوم في آخر
الزمان يسبون أصحابي فلا تصلوا عليهم ولا تصلوا معهم ولا تناكحوهم ولا
تجالسوهم وإن مرضوا فلا تعودوهم) وعنه صلى الله عليه وسلم (من سب
أصحابي فاضربوه) وقد أعلم النبي صلى الله عليه وسلم أن سبهم وآذاهم
يؤذيه وأذى النبي صلى الله عليه وسلم حرام فقال (لا تؤذوني في أصحابي
ومن آذاهم فقد آذانى) وقال (لا تؤذوني في عائشة) وقال في فاطمة (بضعة
منى يؤذيني ما آذاها وقد اختلف العلماء في هذا فمشهور مذهب مالك في ذلك
الاجتهاد والأدب الموجع، قال مالك رحمه الله من شتم النبي صلى الله
عليه وسلم قتل ومن شتم أصحابه أدب وقال أيضا من شتم أحدا من أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر أو عمر أو عثمان أو معاوية أو عمرو
بن العاص فإن قال كانوا على ضلال وكفر قتل وإن شتمهم بغير هذا من
مشاتمة الناس نكل نكالا شديدا، وقال ابن حبيب من غلا من الشيعة إلى بغض
عثمان والبراءة منه أدب أدبا شديدا ومن زاد إلى بغض أبى بكر وعمر
فالعقوبة عليه
__________
(قوله بضعة منى) بفتح الموحدة أي قطعة (*)
(2/308)
أشد ويكرر ضربه
ويطال سجنه حتى يموت ولا يبلغ به القتل إلا في سب النبي صلى الله عليه
وسلم وقال سحنون من كفر أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عليا
أو عثمان أو غيرهما يوجع ضربا وحكى أبو محمد ابن أبى زيد عن سحنون فيمن
قال في أبى بكر وعمر وعثمان وعلى إنهم كانوا على ضلال وكفر قتل ومن شتم
غيرهم من الصحابة بمثل هذا نكل
النكال الشديد * وروى عن مالك من سب أبا بكر جلد ومن سب عائشة قتل، قيل
له لم ؟ قال من رماها فقد خالف القرآن وقال ابن شعبان عنه لأن الله
يقول (يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين) فمن عاد لمثله
فقد كفر * وحكى أبو الحسن الصقلى أن القاضى أبا بكر ابن الطيب قال إن
الله تعالى إذا ذكر في القرآن ما نسبه إليه المشركون سبح نفسه لنفسه
كقوله: (وقالوا اتخذ الرحمن ولدا سبحانه) في آى كثيرة وذكر تعالى ما
نسبه المنافقون إلى عائشة فقال (ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن
نتكلم بهذا سبحانك) سبح نفسه في تبرئتها من السوء كما سبح نفسه في
تبرته من السوء وهذا يشهد لقول مالك في قتل من سب عائشة ومعنى هذا
والله أعلم أن الله لما عظم سبها كما عظم سبه وكان سبها سبا لنبيه وقرن
سب نبيه وأذاه بأذاه تعالى وكان حكم مؤذيه تعالى القتل كان مؤذى نبيه
كذلك كما قدمناه، وشتم رجل عائشة بالكوفة فقدم إلى موسى بن عيسى
(2/309)
العباسي فقال
من حضر هذا فقال ابن أبى ليلى أنا فجلد ثمانين وحلق رأسه وأسلمه
للحجامين وروى عن عمر بن الخطاب أنه نذر قطع لسان عبيد الله ابن عمر إذ
شتم المقداد بن الأسود فكلم في ذلك فقال دعوني أقطع لسانه حتى لا يشتم
أحد بعد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وروى أبو ذر الهروي أن عمر بن
الخطاب أتى بأعرابى يهجو الأنصار فقال لولا أن له صحبة لكفيتكموه قال
مالك من انتقص أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فليس له في هذا
الفئ حق قد قسم الله الفئ في ثلاثة أصناف فقال (للفقراء المهاجرين)
الآية ثم قال (والذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم) الآية وهؤلاء هم
الأنصار ثم قال (والذين جاؤا من بعدهم يقولون ربنا
اغفر لنا ولاخواننا الذين سبقونا بالإيمان) الآية فمن تنقصهم فلا حق له
في فئ المسلمين، وفى كتاب ابن شعبان من قال في واحد منهم إنه ابن زانية
وأمه مسلمة حد عند بعض أصحابنا حدين حدا له وحدا لأمه ولا أجعله كقاذف
الجماعة في كلمة لفضل هذا على غيره ولقوله صلى الله عليه وسلم (ومن سب
أصحابي فاجلدوه) قال ومن قذف أم أحدهم وهى كافرة حد حد الفرية لأنه سب
له فإن كان أحد من ولد هذا الصحابي حيا قام بما يجب له وإلا فمن قام من
المسلمين كان على الامام قبول قيامه قال وليس هذا كحقوق غير الصحابة
لحرمة هؤلاء بنبيهم صلى الله عليه وسلم ولو سمعه
(2/310)
الامام وأشهد
عليه كان ولى القيام به قال ومن سب غير عائشة من أزواج النبي صلى الله
عليه وسلم ففيها قولان أحدهما يقتل لأنه سب النبي صلى الله عليه وسلم
بسب حليلته والآخر أنها كسائر الصحابة يجلد حد المفترى قال وبالأول
أقول وروى أبو مصعب عن مالك فيمن سب من انتسب إلى بيت النبي صلى الله
عليه وسلم يضرب ضربا وجيعا ويشهر ويحبس طويلا حتى تظهر توبته لأنه
استخفاف بحق الرسول صلى الله عليه وسلم وأفنى أبو المطرف الشعبى فيه ما
لفة في رجل أنكر تحليف امرأة بالليل وقال لو كانت بنت أبى بكر الصديق
ما حنفت إلا بالنهار وصوب قوله بعض المتسميين بالفقه فقال أبو المطرف
ذكر هذا لابنة أبى بكر في مثل هذا يوجب عليه الضرب الشديد والسجن
الطويل والفقيه الذى صور قوله هو أخص باسم الفسق من اسم الفقه فيتقدم
إليه في ذلك ويزجر ولا تقبل فتواه ولا شهادته وهى جرحة ثابتة فيه ويبغض
في الله وقال أبو عمران في رجل قال لو شهد على أبو بكر الصديق أنه إن
كان أراد أن شهادته في مثل هذا لا يجوز فيه الشاهد الواحد فلا شئ عليه
وإن كان أراد غير هذا فيضرب ضربا يبلغ به حد الموت وذكروها رواية * قال
القاضى أبو الفضل هنا انتهى القول بنا فيما حررناه وانتجز الغرض
__________
(قوله وانتجز الغرض) أي انقضى (*)
(2/311)
الذى انتحيناه
واستوفى الشرط الذى شرطناه مما أرجو أن في كل قسم منه للمريد مقنع وفى
كل باب منهج إلى بغيته ومنزع وقد سفرت فيه عن نكت تستغرب وتستبدع وكرعت
في مشارب من التحقيق لم يورد لها قبل في أكثر التصانيف مشرع وأودعته
غير ما فضل وددت لو وجدت من بسط قبلى الكلام فيه أو مقتدى يفيدنيه عن
كتابه أو فيه لأكتفى بما أرويه عما أرويه والى الله تعالى جزيل الضراعة
والمنة بقبول ما منه لوجهه ولعفو عما تخلله من تزين وتصنع لغيره وأن
يهب لنا ذلك بجميل كرمه وعفوه لما أودعناه من شرف مصطفاه وأمين وحيه
وأسهرنا به جفوتنا لتتبع فضائله وأعملنا فيه خواطرنا من إبراز خصائصه
ووسائله ويحمى أعراضنا عن ناره الموقدة لحمايتنا كريم عرضه ويجعلنا ممن
__________
(قوله انتحيناه) بالحاء أي اعتمدناه (قوله بغيته) بكسر الموحدة أي
حاجته (قوله ومنزع) بفتح الميم والزاى (قوله مشرع) بفتح الميم والراء
مورد الشاربة (قوله وددت) بكسر الدال الأولى (قوله بما أرويه عما
أرويه) الأولى بفتح الهمزة وسكون الراء والثانية بضم الهمزة وفتح الراء
وتشديد الواو
(قوله الضراعة) بضاد معجمة أي الخضوع (*)
(2/312)
لا يذاد إذا
ذيد المبدل عن حوضه ويجعله لنا ولمن تهمم باكتتابه واكتسابه سبيا يصلنا
بأسبابه وذخيرة نجدها يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا نحوز بها
رضاه وجزيل ثوابه ويخصنا بخصيصى زمرة نبينا وجماعته ويحشرنا في الرعيل
الأول وأهل الباب الأيمن من أهل شفاعته، ونحمده تعالى على ما هدى إليه
من جمعه وألهم وفتح البصيرة لدرك حقائق ما أودعناه وفهم، ونستعيذه جل
اسمه من دعاء لا يسمع وعلم لا ينفع وعمل لا يرفع فهو الجواد الذى لا
يخيب من أمله ولا ينتصر من
__________
(قوله لا يذاد) بذال معجمة ثم دال مهملة (قوله بخصيصى) بكسر الخاء
المعجمة وبصادين مهملتين الأولى مكسورة مشددة والثانية مفتوحة مخففة،
في الصحاح خصه بالشئ خصوصا وخصوصية وخصوصية والفتح أفصح وخصيصى (قوله
في الرعل) بتفح الراء وكسر العين المهملة في الصحاح الرعلة القطعة من
الخيل وكذلك الرعيل (قوله الجواد) بتخفيف الواو (قوله لا يخيب) بضم
أوله وفتح ثانيه وتشديد ثالثه وكسره والحمد لله رب العالمين وصلواته
على سيد المرسلين وإمام المتقين وخاتم النبيين سيدنا محمد وآله وصحبه
وسلم ومجد.
تم بحمد الله وعونه كتاب مزيل الخفاء عن الفاظ الشفاء في العشر الأخير
من ذى القعدة سنة سبع وأربعين وثمانمائة (*)
(2/313)
خذله ولا يرد
دعوة القاصدين ولا يصلح عمل المفسدين وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلاته
على سيدنا ونبينا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين وسلم تسليما
كثيرا والحمد لله رب العالمين تم الجزء الثاني من كتاب الشفا، وبه تم
الكتاب
(2/314)
|