الشفا
بتعريف حقوق المصطفى وحاشية الشمني
الباب الثاني في حكم سابه وشانئه ومتنقصه مؤذبه وعقوبته وذكر استتباته
ووراثته
قد قدمنا ما هو سب وأذى في حقه صلى الله عليه وسلم وذكرنا إجماع
العلماء على قتل فاعل ذلك وقائله وتخيير الإمام في قتله أو صلبه على ما
ذكرناه وقررنا الحجج عليه وبعد فاعلم أن مشهور مذهب مالك وأصحابه وقول
السلف وجمهور العلماء قتله حدا لا كفرا إن أظهر التوبة منه ولهذا لا
تقبل عندهم توبته ولا تنفعه استقالته ولا فيأته كما قدمناه قبل وحكمه
حكم الزنديق ومسر الكفر في هذا القول وسواء كانت توبته على هذا بعد
القدرة عليه والشهادة على قوله (أو جاء تائبا من قبل نفسه لأنه حد وجب
لا تسقطه التوبة كسائر الحدود قال الشيخ أبو الحسن القابسى رحمه الله
إذا
(2/254)
أقر بالسب وتاب
منه وأظهر التوبة قتل بالسب لأنه هو حده وقال أبو محمد بن أبى زيد مثله
وأما ما بينه وبين الله فتوبته تنفعه، وقال ابن سحنون من شتم النبي صلى
الله عليه وسلم من الموحدين ثم تاب عن ذلك لم تزل توبته عنه القتل
وكذلك قد اختلف في الزنديق إذا جاء تائبا فحكى القاضى أبو الحسن بن
القصار في ذلك قولين، قال من شيوخنا: من قال أقتله بإقراره لأنه كان
يقدر على ستر نفسه فلما اعترف خفنا أنه خشى الظهور عليه فبادر لذلك
ومنهم من قال أقبل توبته لأنى أستدل على صحتها بمجيئة فكأننا وقفنا على
باطنه بخلاف من أسرته البينة قال القاضى أبو الفضل وهذا قول أصبغ
ومسألة ساب النبي صلى الله عليه وسلم أقوى لا يتصور فيها الخلاف على
الأصل المتقدم لأنه حق متعلق للنبى صلى الله عليه وسلم ولأمته بسببه لا
تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين والزنديق إذا تاب بعد القدرة عليه
فعند مالك والليث وإسحاق وأحمد لا تقبل توبته وعند الشافعي تقبل واختلف
فيه عن أبى حنيفة وأبى يوسف وحكى ابن المنذر عن على بن أبى طالب رضى
الله عنه يستتاب، قال محمد بن سحنون ولم يزل القتل عن المسلم بالتوبة
من سبه صلى الله عليه وسلم لأنه لم ينتقل من دين إلى غيره وإنما فعل
__________
(قوله وأبى يوسف) هو القاضى صاحب أبى حنفية يعقوب بن إبراهيم بن خبيب
بن حبيش بن سعد بن خيثمة الأنصاري توفى سنة اثنين وثمانين ومائة وهو
ابن تسع وستين سنة روى عنه أحمد بن حنبل وابن معين وغيرهما (*)
(2/255)
شيئا حده عندنا
القتل لا عفو فيه لأحد كالزنديق لأنه لم ينتفل من
ظاهر إلى ظاهر، وقال القاضى أبو محمد بن نصر محتجا لسقوط اعتبار توبته
والفرق بينه وبين من سب الله تعالى على مشهور القول باستتابته أن النبي
صلى الله عليه وسلم بشر والبشر جنس تلحقه المعرة إلا من أكرمه الله
بنبوته والبارى تعالى منزه عن جميع المعايب قطعا وليس من جنس تلحق
المعرة بجنسه وليس سبه صلى الله عليه وسلم كالارتداد المقبول فيه
التوبة لأن الارتداد معنى ينفرد به المرتد لا حق فيه لغيره من الآدميين
فقبلت توبته ومن سب النبي صلى الله عليه وسلم تعلق فيه حق لآدمي فكان
كالمرتد يقتل حين ارتداده أو يقذف فإن توبته لا تسقط عنه حد القتل
والقذف وأيضا فإن توبة المرتد إذا قبلت لا تسقط ذنوبه من ؟ ؟ ؟ وسرقة
وغيرها ولم يقتل ساب النبي صلى الله عليه وسلم لكفره لكن لمعنى يرجع
إلى تعظيم حرمته وزوال المعرة به وذلك لا تسقطه التوبة، قال القاضى أبو
الفضل يريد والله أعلم لأن سبه لم يكن بكلمة تقتضي الكفر ولكن بمعنى
الإزراء والاستخفاف أو لأن بتوبته وإظهار إنابته ارتفع عنه اسم الكفر
ظاهرا والله أعلم بسريرته وبقى حكم السب عليه، وقال أبو عمران العابسى
من سب النبي صلى الله عليه وسلم ثم ارتد عن الإسلام قتل ولم يستتب، لأن
السب من
__________
(قوله كالمرد يقتل) هو بفتح المثناة التحتية في أوله (*)
(2/256)
حقوق الآدميين
التى لا تسقط عن المرتد وكلام شيوخنا هؤلاء مبنى على القول بقتله حدا
لا كفرا وهو يحتاج إلى تفصيل * وأما على رواية الوليد ابن مسلم عن مالك
ومن وافقه على ذلك ممن ذكرناه وقال به من أهل العلم فقد صرحوا أنه ردة
قالوا ويستتاب منها فإن تاب نكل وإن أبى قتل فحكم له بحكم المرتد مطلقا
في هذا الوجه والوجه الأول أشهر وأظهر
لما قدمناه ونحن نبسط الكلام فيه فنقول من لم يره ردة فهو يوجب القتل
فيه حدا وإنما نقول ذلك مع فصلين: إما مع إنكاره ما شهد عليه به أو
إظهاره الإقلاع والتوبة عنه فنقتله حدا لثبات كلمة الكفر عليه في حق
النبي صلى الله عليه وسلم وتحقيره ما عظم الله من حقه وأجرينا حكمه في
ميراثه وغير ذلك حكم الزنديق إذا ظهر عليه وأنكر أو تاب فإن قيل فكيف
تثبتون عليه الكفر ويشهد عليه بكلمة الكفر ولا تحكمون عليه بحكمه من
الاستتابة وتوابعها قلنا نحن وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا
نقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد والنبوة وإنكاره ما شهد به عليه أو
زعمه أن ذلك كان منه وهلا ومعصية وأنه مقلع عن ذلك نادم عليه ولا يمتنع
إثبات بعض أحكام الكفر على بعض الأشخاض وإن لم تثبت له خصائصه كقتل
تارك الصلاة وأما من علم أنه سبه معتقدا لاستحلاله فلا
__________
(قوله وهلا) في الصحاح الوهل بالتحريك الفزع قال أبو زيد: وهل يوهل في
الشئ وعن الشئ وهلا إذا غلط فيه وسها (17 - 2) (*)
(2/257)
شك في كفره
بذلك وكذلك إن كان سبه في نفسه كفر كتكذيبه أو تكفير، ونحوه فهذا مما
لا إشكال فيه ويقتل وإن تاب منه لأنا لا نقبل توبته ونقتله بعد التوبة
حدا لقوله ومتقدم كفره وأمره بعد إلى الله المطلع على صحة إقلاعه
العالم بسره وكذلك من لم يظهر التوبة واعترف بما شهد به عليه وصمم عليه
فهذا كافر بقوله وباستحلاله هتك حرمة الله وحرمه نبيه صلى الله عليه
وسلم يقتل كافرا بلا خلاف فعلى هذه التفضيلات خذ كلام العلماء ونزل
مختلف عباراتهم في الاحتجاج عليها وأجر
اختلافهم في الموارثة وغيرها على ترتيبها تتضح لك مقاصدهم إن شاء الله
تعالى
فصل إذا قلنا بالاستتابة حيث تصح
فالاختلاف على الاختلاف في توبة المرتد إذ لا فرق بينهما وقد اختلف
السلف في وجوبها وصورتها ومدتها فذهب جمهور أهل العلم إلى أن المرتد
يستتاب وحكى ابن القصار أنه إجماع من الصحابة على تصويب قول عمر في
الاستتابة ولم ينكره واحد منهم وهو قول عثمان وعلى وابن مسعود وبه قال
عطاء بن أبى رباح والنخعي والثوري ومالك وأصحابه والأوزاعي والشافعي
وأحمد وإسحاق وأصحاب الرأى وذهب طاوس وعبيد بن عمير والحسن في إحدى
الروايتين عنه أنه
(2/258)
لا يستتاب
وقاله عبد العزيز بن أبى سلمة وذكره عن معاذ وأنكره سحنون عن معاذ
وحكاه الطحاوي عن أبى يوسف وهو قول أهل الظاهر قالوا وتنفعه توبته عند
الله ولكن لا ندرأ القتل عنه لقوله صلى الله عليه وسلم من بدل دينه
فاقتلوه وحكى عن عطاء أنه إن كان ممن ولد في الإسلام لم يستتب ويستتاب
الإسلامي وجمهور العلماء على أن المرتد والمرتدة في ذلك سواء وروى عن
على رضى الله عنه لا تقتل المرتدة وتسترق قاله عطاء وقتادة وروى عن ابن
عباس لا تقتل النساء في الردة وبه قال أبو حنيفة قال مالك والحر والعبد
والذكر والأنثى في ذلك سواء وأما مدتها فمذهب الجمهور وروى عن عمر أنه
يستتاب ثلاثة أيام يحبس فيها وقد اختلف فيه عن عمر وهو أحد قولى
الشافعي وقول أحمد وإسحاق واستحسنه مالك وقال لا يأتي الاستظهار
إلا بخير وليس عليه جماعة الناس قال الشيخ أبو محمد بن أبى زيد يريد في
الاستيناء ثلاثا وقال مالك أيضا الذى آخذ به في المرتد قول عمر يحبس
ثلاثة أيام ويعرض عليه كل يوم فإن تاب وإلا قتل وقال أبو الحسن بن
القصار في تأخيره ثلاثا روايتان عن مالك هل ذلك واجب أو مستحب واستحسن
الاستتابة والاستيناء ثلاثا أصحاب الرأى وروى عن أبى بكر الصديق أنه
استتاب امرأة فلم نتب فقتلها، وقال الشافعي مرة فقال إن لم يتب مكانه
قتل واستحسنه المزني وقال الزهري يدعى
(2/259)
إلى الإسلام
ثلاث مرات فإن أبى قتل وروى عن على رضى الله عنه يستتاب شهرين، وقال
النخعي يستتاب أبدا وبه أخذ الثوري ما رجيت توبته، وحكى ابن القصار عن
أبى حنيفة أنه يستتاب ثلاث مرات في ثلاثة أيام أو ثلاث جمع كل يوم أو
جمعة مرة وفى كتاب محمد عن ابن القاسم يدعى المرتد إلى الإسلام ثلاث
مرات فإن أبى ضربت عنقه واختلف على هذا هل يهدد أو يشدد عليه أيام
الاستتابة ليتوب أم لا فقال مالك ما علمت في الاستتابة تجويعا ولا
تعطيشا ويؤتى من الطعام بما لا يضره وقال أصبغ يخوف أيام الاستتابة
بالقتل وبعرض عليه الإسلام وفى كتاب أبى الحسن الطابثى يوعظ في تلك
الأيام ويذكر بالجنة ويخوف بالنار قال أصبغ وأى المواضع حبس فيها من
السجون مع الناس أو وحده إذا استوثق منه سواء ويوقف ماله إذا خيف أن
يتلفه على المسلمين ويطعم منه ويسقى وكذلك يستتاب أبدا كلما رجع وارتد
وقد استتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نبهان الذى ارتد أربع مرات أو
خمسا قال ابن وهب عن مالك يستتاب أبدا كلما رجع وهو قول الشافعي وأحمد
وقاله ابن القاسم وقال إسحاق يقتل في الرابعة وقال أصحاب الرأى إن لم
يتب في الرابعة قتل دون استتابة وإن تاب ضرب ضربا وجيعا ولم يخرج من
السجن حتى يظهر عليه خشوع التوبة قال ابن المنذر ولا نعلم أحدا
__________
(قوله أبى الحسن الطابثى) هو بطاء مهملة وباء موحدة مكسورة وثاء مثلثة
(*)
(2/260)
أوجب على
المرتد في المرة الأولى أدبا إذا رجع وهو على مذهب مالك والشافعي
والكوفي
فصل هذا حكم من ثبت عليه ذلك بما
يجب ثبوته من إقرار أو عدول لم يدفع فيهم فأما من لم تتم الشهادة عليه
بما شهد عليه الواحد أو اللفيف من الناس أو ثبت قوله لكن احتمل ولم يكن
صريحا وكذلك إن تاب على القول بقبول توبته فهذا يدرأ عنه القتل ويتسلط
عليه اجتهاد الإمام بقدر شهرة حاله وقوة الشهادة عليه وضعفها وكثرة
السماع عنه وصورة حاله من التهمة في الدين والنبر بالسفه والمجون فمن
قوى أمره أذاقه من شديد النكال من التضييق في السجن والشد في القيود
إلى العاية التى هي منتهى طاقته مما لا يمنعه القيام لضرورته ولا يقعده
عن صلاته وهو حكم كل من وجب عليه القتل لكن وقف عن قتله لمعنى أوجبه
وتربص به لإشكال وعائق اقتضاه أمره وحالات الشدة في نكاله تختلف بحسب
اختلاف حاله وقد روى الوليد عن مالك والأوزاعي أنها ردة فإذا تاب نكل
ولمالك في العتبية وكتاب محمد من رواية أشهب إذا تاب
__________
(قوله والنبر) بالنون المفتوحة والموحدة الساكنة والراء مصدر نبره
ينبره نبرا أي لقنه (*)
(2/261)
المرتد فلا
عقوبة عليه وقاله سحنون وأفتى أبو عبد الله بن عتاب فيمن سب النبي صلى
الله عليه وسلم فشهد عليه شاهدان عدل أحدهما بالأدب الموجع والتنكيل
والسجن الطويل حتى تظهر توبته وقال القابسى في مثل هذا ومن كان أقصى
أمره القتل فعاق عائق أشكل في القتل لم ينبغ أن يطلق من السجن ويستطال
سجنه ولو كان فيه من المدة ما عسى أن يقيم ويحمل عليه من القيد ما يطيق
وقال في مثله ممن أشكل أمره يشد في القيود شدا ويضيق عليه في السجن حتى
ينظر فيما يجب عليه، وقال في مسألة أخرى مثلها ولا تهراق الدماء إلا
بالأمر الواضح وفى الأدب بالسوط والسجن نكال للسفهاء ويعاقب عقوبة
شديدة فأما إن لم يشهد عليه سوى شاهدين فأثبت من عداوتهما أو جرحتهما
ما أسقطهما عنه ولم يسمع ذلك من غيرهما فأمره أخف لسقوط الحكم عنه
وكأنه لم يشهد عليه إلا أن يكون ممن يليق به ذلك ويكون الشاهدان من أهل
التبريز فأسقطهما بعداوة فهو وإن لم ينفذ الحكم عليه بشهادتهما فلا
يدفع الظن صدقهما وللحاكم هنا في تنكيله موضع اجتهاد والله ولى الإرشاد
فصل هذا حكم المسلم فأما الذمي إذا
صرح بسبه أو عرض أو استخف بقدره أو وصفه بغير الوجه الذى كفر به فلا
خلاف عندنا في قتله إن
__________
(قوله عتاب) بفتح العين المهمة وتشديد المثناة الفوقية (*)
(2/262)
لم يسلم لأنا
لم نعطه الذمة أو العهد على هذا وهو قول عامة العلماء إلا أبا حنيفة
والثوري واتباعهما من أهل الكوفة فإنهم قالوا لا يقتل
لأن ما هو عليه من الشرك أعظم ولكن يؤدب ويعذر واستدل بعض شيوخنا على
قتله بقوله تعالى (وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم وطعنوا في دينكم)
الآية، ويستدل أيضا عليه بقتل النبي صلى الله عليه وسلم لابن الأشرف
وأشباهه ولأنا لم نعاهدهم ولم نعطهم الذمة على هذا ولا يجوز لنا أن
نفعل ذلك معهم فإذا أتوا ما لم يعطوا عليه العهد ولا الذمة فقد نقضوا
ذمتهم وصاروا كفارا أهل حرب يقتلون لكفرهم وأيضا فإن ذمتهم لا تسقط
حدود الإسلام عنهم من القطع في سرقة أموالهم والقتل لمن قتلوه منهم وإن
كان ذلك حلالا عندهم فكذلك سبهم للنبى صلى الله عليه وسلم يقتلون به
ووردت لأصحابنا ظواهر تقتضي الخلاف إذا ذكره الذمي بالوجه الذى كفر به
ستقف عليها من كلام ابن القاسم وابن سحنون بعد وحكى أبو المصعب الخلاف
فيها عن أصحابه المدنيين واختلفوا إذا سبه ثم أسلم فقيل، يسقط إسلامه
قتله لأن الإسلام يجب ما قبله بخلاف المسلم إذا سبه ثم ناب لأنا نعلم
باطنة الكافر في بغضه له وتنقصه بقلبه لكنا منعناه من إظهاره فلم يزدنا
ما أظهره إلا مخالفة للأمر ونقضا للعهد فإذا رجع عن دينه الأول إلى
الإسلام سقط ما قبله، قال الله تعالى (قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر
لهم ما قد سلف) والمسلم بخلافه
(2/263)
إذ كان ظننا
بباطنه حكم ظاهره وخلاف ما بدا منه الآن فلم نقبل بعد رجوعه ولا
استنمنا إلى باطنه إذ قد بدت سرائره وما ثبت عليه من الأحكام باقية
عليه لم يسقطها شئ وقيل لا يسقط إسلام الذمي الساب قتله لأنه حق للنبى
صلى الله عليه وسلم وجب عليه لانتهاكه حرمته وقصده إلحاق النقيصة
والمعرة به فلم يكن رجوعه إلى الإسلام بالذى يسقطه
كما وجب عليه من حقوق المسلمين من قبل إسلامه من قتل وقذف وإذا كنا لا
نقبل توبة المسلم فأن لا نقبل توبة الكافر أولى.
قال مالك في كتاب ابن حبيب المبسوط وابن القاسم وابن الماجشون وابن عبد
الحكم وأصبغ فيمن شتم نبينا من أهل الذمة أو أحدا من الأنبياء عليهم
السلام قتل إلا أن يسلم وقاله ابن القاسم في العتبية وعند محمد وابن
سحنون وقال سحنون وأصبغ لا يقال له أسلم ولا لا تسلم ولكن إن أسلم فذلك
له توبة وفى كتاب محمد أخبرنا أصحاب مالك أنه قال من سب رسول الله صلى
الله عليه وسلم أو غيره من النبيين من مسلم أو كافر قتل ولم يستتب وروى
لنا عن مالك إلا أن يسلم الكافر وقد روى ابن وهب عن ابن عمر أن راهبا
تناول النبي صلى الله عليه وسلم فقال ابن عمر فهلا قتلتموه وروى عيسى
عن ابن القاسم في ذمى قال إن محمدا لم يرسل إلينا إنما أرسل إليكم
وإنما نبينا موسى أو عيسى ونحو هذا لا شئ
__________
(قوله في كتاب محمد) هو أبو المواز (*)
(2/264)
عليهم لأن الله
تعالى أقرهم على مثله وأما إن سبه فقال ليس بنبى أو لم يرسل أو لم ينزل
عليه قرآن وإنما هو شئ تقوله أو نحو هذا فيقتل قال ابن القاسم وإذا قال
النصراني ديننا خير من دينكم إنما دينكم دين الحمير ونحو هذا من القبيح
أو سمع المؤذن يقول أشهد أن محمدا رسول الله فقال كذلك يعطيكم الله ففى
هذا الأدب الموجع والسجن الطويل قال وأما إن شتم النبي صلى الله عليه
وسلم شتما يعرف فإنه يقتل إلا أن يسلم قاله مالك غير مرة ولم يقل
يستتاب قال ابن القاسم ومحمل قوله عندي إن أسلم طائعا، وقال ابن سحنون
في سؤالات سليمان بن سالم في
اليهودي يقول لمؤذن إذا تشهد كذبت يعاقب العقوبة الموجعة مع السجن
الطويل وفى النوادر من رواية سحنون عنه من شتم الأنبياء من اليهود
والنصارى بغير الوجه الذى به كفروا ضرب عنقه إلا أن يسلم قال محمد ابن
سحنون فإن قيل لم قتلته في سب النبي صلى الله عليه وسلم ومن دينه سبه
وتكذيبه قيل لأنا لم نعطهم العهد على ذلك ولا على قتلنا وأخذ أموالنا
فإذا قتل واحدا منا قتلناه وإن كان من دينه استحلاله فكذلك إظهاره لسب
نبينا صلى الله عليه وسلم قال سحنون كما لو بذل لنا أهل الحرب الجزية
على إقرارهم على سبه لم يجز لنا ذلك في قول قائل كذلك ينتقض عهد من سب
منهم ويحل لنا دمه وكما لم يحصن الإسلام من سبه من القتل كذلك لا تحصنه
الذمة قال القاضى أبو
(2/265)
الفضل ما ذكره
ابن سحنون عن نفسه وعن أبيه مخالف لقول ابن القاسم فيما خفف عقوبتهم
فيه مما به كفروا فتأمله ويدل على أنه خلاف ما روى عن المدنيين في ذلك
فحكى أبو المصعب الزهري قال أتيت بنصراني قال والذى اصطفى عيسى على
محمد فاختلف على فيه فضربته حتى قتلته أو عاش يوما وليلة وأمرت من جر
برجله وطرح على مزبلة فأكلته الكلاب وسئل أبو المصعب عن نصراني قال
عيسى خلق محمدا فقال يقتل وقال ابن القاسم سألنا مالكا عن نصراني بمصر
شهد عليه أنه قال مسكين محمد يخبركم أنه في الجنة ماله لم ينفع نفسه إذ
كانت الكلاب تأكل ساقيه لو قتلوه استراح منه الناس قال مالك أرى أن
تضرب عنقه قال ولقد كدت أن لا أتكلم فيها بشئ ثم رأيت أنه لا يسعنى
الصمت قال ابن كنانة في المبسوطة من شتم النبي صلى الله عليه وسلم من
اليهود والنصارى
فأرى للإمام أن يحرقه بالنار وإن شاء قتله ثم حرق جثته وإن شاء أحرقه
بالنار حيا إذا تهافتوا في سبه ولقد كتب إلى مالك من مصر وذكر مسألة
ابن القاسم المتقدمة قال فأمرني مالك فكتبت بأن يقتل وتضرب عنقه فكتبت
ثم قلت يا أبا عبد الله وأكتب ثم يحرق بالنار فقال إنه لحقيق بذلك وما
أولاه به فكتبته بيدى بين يديه فما أنكره ولا عابه ونفذت الصحيفة بذلك
فقتل وحرق، وأفنى عبيد الله بن يحيى وابن لبابة في جماعة
__________
(قوله على مزبلة) بفتح الميم وتثليث الموحدة (*)
(2/266)
سلف أصحابنا
الأندلسيين بقتل نصرانية استهلت بنفى الربوبية ونبوة عيسى لله وتكذيب
محمد في النبوة وبقبول إسلامها ودرء القتل عنها به قال غير واحد من
المتأخرين، منهم القابسى وابن الكاتب، وقال أبو القاسم ابن الجلاب في
كتابه من سب الله ورسوله من مسلم أو كافر قتل ولا يستتاب وحكى القاضى
أبو محمد في الذمي يسب ثم يسلم روايتين في درء القتل عنه بإسلامه، وقال
ابن سحنون وحد القذف وشبهه من حقوق العباد لا يسقطه عن الذمي إسلامه
وإنما يسقط عنه بإسلامه حدود الله فأما حد القذف فحق للعباد كان ذلك
لنبى أو غيره فأوجب على الذمي إذا قذف النبي صلى الله عليه وسلم ثم
أسلم حد القذف ولكن انظر ماذا يجب عليه هل حد القذف في حق النبي صلى
الله عليه وسلم وهو القتل لزيادة حرمة النبي صلى الله عليه وسلم على
غيره أم هل يسقط القتل بإسلامه ويحد ثمانين فتأمله
فصل في ميراث من قتل في سب النبي صلى الله
عليه وسلم وغسله والصلاة عليه
اختلف العلماء في ميراث من قتل بسب النبي صلى الله عليه وسلم
__________
(قوله استهلت) أي رفعت صوتها (*)
(2/267)
فذهب سحنون إلى
أنه لجماعة المسلمين من قبل أن شتم النبي صلى الله عليه وسلم كفر يشبه
كفر الزنديق، وقال أصبغ ميراثه لورثته من المسلمين إن كان مستسرا بذلك
وإن كان مظهرا له مستهلا به فميراثه للمسلمين ويقتل على كل حال ولا
يستتاب، قال أبو الحسن القابسى: (إن قتل وهو منكر للشهادة عليه فالحكم
في ميراثه على ما أظهر من إقراره يعنى لورثته والقتل حد ثبت عليه ليس
من الميراث في شئ وكذلك لو أقر بالسب وأظهر التوبة لقتل إذ هو حده
وحكمه في ميراثه وسائر أحكامه حكم الإسلام ولو أقر بالسب وتمادى عليه
وأبى التوبة منه فقتل على ذلك كان كافرا وميراثه للمسلمين ولا يغسل ولا
يصلى عليه ولا يكفن وتستر عورته ويوارى كما يفعل بالكفار وقول الشيخ
أبى الحسن في المجاهر المتمادى بين لا يمكن الخلاف فيه لأنه كافر مرتد
غير تائب ولا مقلع وهو مثل قول أصبغ وكذلك في كتاب ابن سحنون في
الزنديق يتمادى على قوله، ومثله لابن القاسم في العتبية ولجماعة من
أصحاب مالك في كتاب ابن حبيب فيمن أعلن كفره مثله، قال ابن القاسم
وحكمه حكم المرتد لا ترثه من المسلمين ولا من أهل الدين الذى ارتد إليه
ولا يجوز وصاياه ولا عتقه، وقاله أصبغ قتل على ذلك أو مات عليه وقال
أبو محمد بن أبى زيد وإنما يختلف في ميراث الزنديق الذى يستهل بالتوبة
فلا تقبل منه فأما المتمادى فلا خلاف أنه لا يورث، وقال
(2/268)
أبو محمد فيمن
سب الله تعالى ثم مات ولم تعدل عليه بينة أو لم تقبل إنه يصلى عليه،
وروى أصبغ عن ابن القاسم في كتاب ابن حبيب فيمن كذب برسول الله صلى
الله عليه وسلم أو أعلن دينا مما يفارق به الإسلام أن ميراثه للمسلمين،
وقال: بقول مالك إن ميراث المرتد للمسلمين ولا ترثه ورثته ربيعة
والشافعي وأبو ثور وابن أبى ليلى واختلف فيه عن أحمد وقال على بن أبى
طالب رضى الله عنه وابن مسعود وابن المسيب والحسن والشعبى وعمر بن عبد
العزيز والحكم والأوزاعي والليث وإسحاق وأبو حنيفة يرثه ورثته من
المسلمين وقيل ذلك فيما كسبه قبل ارتداده وما كسبه في الارتداد
فللمسلمين وتفصيل أبى الحسن في باقى جوابه حسن بين وهو على رأى أصبغ
وخلاف قول سحنون واختلافهما على قولى مالك في ميراث الزنديق فمرة ورثه
ورثته من المسلمين قامت عليه بذلك بينة فأنكرها أو اعترف بذلك وأظهر
التوبة، وقاله أصبغ ومحمد بن مسلمة وغير واحد من أصحابه لأنه مظهر
للإسلام بإنكاره أو توبته وحكمه حكم المنافقين الذين
__________
(قوله أم لم تقتل) بضم المثناة الفوقية أوله (قوله ربيعة) هو ابن أبى
عبد الرحمن واسم أبى عبد الرحمن فروخ مولى المنكدر قال مالك رحمه الله
ذهبت حلاوة الفقه منذ مات أبو جعفر محمد بن على بن الحسين وابنه محمد
كانا يجلسان في حلقته استقدمه أبو العباس السفاح إلى الأنبار لتوليته
القضاء فلم يفعل.
توفى سنة ست وثلاثين ومائة (*)
(2/269)
كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وروى ابن نافع عنه في
العتبية وكتاب محمد أن ميراثه لجماعة المسلمين لأن ماله تبع لدمه، وقال
به أيضا جماعة من أصحابه، وقاله أشهب والمغيرة وعبد الملك ومحمد،
وسحنون
وذهب ابن قاسم في العتبية إلى أنه إن اعترف بما شهد عليه به وتاب فقتل
فلا يورث وإن لم يقر حتى مات أو قتل ورث، قال وكذلك كل من أسر كفرا
فإنهم يتوارثون بوراثة الاسلام وسئل أبو القاسم بن الكاتب عن النصراني
يسب النبي صلى الله عليه وسلم فيقتل هل يرثه أهل دينه أم المسلمون
فأجاب أنه للمسلمين ليس على جهة الميراث لأنه لا توارث بين أهل ملتين
ولكن لأنه من فيئهم لنقضه العهد هذا معنى قوله واختصاره |