الفصول
في السيرة فصل ـ مقاطعة قريش
لبني هاشم وبني المطلب
ثم أسلم حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجماعة كثيرون، وفشا
الإسلام.
فلما رأت قريش ذلك ساءها، وأجمعوا على أن يتعاقدوا على بنى هاشم وبني
المطلب ابني عبد مناف: ألا يبايعونهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا
يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكتبوا يذلك
صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، ويقال إن الذي كتبها منصور بن عكرمة بن عامر
بن هاشم بن عبد مناف، ويقال: بل الضر بن الحارث، فدعا عليه
(1/102)
رسول الله صلى الله عليه وسلم فشلت يده.
وانحاز إلى شعب بنو هاشم وبنو المطلب، مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب لعنه
الله (فإنه ظاهر قريشاً.
وبقوا على تلك الحال لا يدخل (عليهم أحد نحواً من ثلاث سنين.
وهناك عمل أبو طالب قصيد ته المشهورة: جزى الله عنا عبد شمس ونوفلا.
ثم سعى في نقص تلك الصحيفة أقوام من قريش، فكان القائم في أمر ذلك هشام بن
عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيب بن جذيمة بن مالك بن حسل بن عامر بن لؤي،
مشى في ذلك إلى مطعم بن عدي وجماعة من قريش، فأجابوه إلى ذلك، وأخبر رسول
الله صلى الله عليه وسلم قومه أن الله قد أرسل على تلك الصحيفة الأرضة،
فأكلت جميع ما فيها إلا ذكر الله عز وجل، فكان كذلك.
ثم
(1/103)
رجع بنو هاشم وبنو المطلب إلى مكة، وحصل
الصلح برغم من أبي جهل عمرو بن هشام.
واتصل الخبر بالذين هم بالحبشة أن قريشاً أسلموا، فقدم مكة منهم جماعة،
فوجدوا البلاء والشدة كما كانا، فاستمروا بمكة إلى أن هاجروا إلى المدينة،
إلا السكران بن عمرو زوج سود بنت مزمعة، فإنه مات بعد مقدمه من الحبشة بمكة
قبل الهجرة إلى المدينة وإلا سلمة بن هشام، وعياش بن أبي ربيعة، فإنهما
احتبسا مستضعفين، وإلا عبد الله بن مخرمة بن عبد العزى فإنه حبس فلما كان
يوم بدر، هرب من المشركين إلى المسلمين.
(1/104)
فصل ـ خروج النبي
صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
فلما نقضت الصحيفة وافق موت خديجة رضي الله عنها، وموت أبي طالب، وكان
بينهما ثلاثة أيام، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من
سفهاء قومه، وأقدموا عليه، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الطائف
لكي يؤووه وينصروه على قومه، ويمنعوه منهم، ودعاهم إلى الله عز وجل، فلم
يجيبوه إلى شيء من الذي طلب، وآذوه أذى عظيماً، لم ينل قومه منه أكثر مما
نالوا منه.
فرجع عنهم، ودخل مكة في جوار المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف، وجعل يدعو
إلى الله عز وجل، فأسلم الطفيل بن عمرو الدوسي، ودعا
(1/105)
له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل
الله له آية، فجعل الله في وجهه نوراً، فقال: يا رسول الله أخشى أن يقولوا
هذا مثله، فدعا له، فصار النور في سوطه، فهو المعروف بذي النور.
ودعا الطفيل قومه إلى الله فأسلم بعضهم، وأقام في بلاده، فلما فتح الله على
رسوله خيبر قدم بهم في نحو من ثمانين بيتاً.
فصل ـ الإسراء والمعراج وعرض النبي نفسه على
القبائل
وأسري برسول الله صلى الله عليه وسلم يجسده على الصحيح من قولي الصحابة
والعلماء، من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، راكباً البراق في صحبه جبر يل
عليه السلام، فنزل ثم، وأم بالأنبياء ببيت المقدس فصلى بهم.
ثم عرج به تلك الليلة من هناك إلى السماء الدنيا، ثم للتي تليها، ثم
الثالثة، ثم إلى التي تليها، ثم الخامسة، ثم التي تليها، ثم السابعة.
ورأى عندها جبريل على الصورة التي خلقه الله عليها، وفرض الله عليه الصلوات
تلك الليلة.
(1/106)
واختلف العلماء: هل رأى ربه عز وجل أولا؟
على قولين:
فصح «عن ابن عباس أنه قال: رأى ربه وجاء في رواية عنه: رآه بفؤاده» .
وفي الصحيحين «عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها أنكرت ذلك على قائله،
وقالت هي وابن مسعود: إنما رأى جبريل» .
وروى مسلم في صحيحه من «حديث قتادة عن عبد الله بن شقيق عن أبي ذر أنه قال:
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم هل رأيت ربك؟ قال: [نور، أنى أراه! ؟]
وفي رواية [رأيت نوراً] .
» فهذا الحديث كاف في هذه المسألة.
ولما أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه أخبرهم بما أراه الله من
آياته الكبرى، فاشتد تكذيبهم له وأذاهم واستجراؤهم عليه.
وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على القبائل أيام الموسم
ويقول: «من
(1/107)
رجل يحملني إلى قومه فيمنعني حتى أبلغ
رسالة ربي! ؟ فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي» .
هذا وعمه أبو لهب ـ لعنه الله ـ وراءه يقول الناس: لا تسمعوا منه فإنه
كذاب.
فكان أحياء العرب يتحامونه لما يسمعون من قريش عنه: إنه كذاب، إنه ساحر،
إنه كاهن، إنه شاعر، أكاذيب يقذفونه بها من تلقاء أنفسهم، فيصغي إليهم من
لا تمييز له من الأحياء.
وأما الألباء إذا سمعوا كلامه وتفهموه شهدوا بأن ما يقوله حق وأنهم مفترون
عليه، فيسلمون.
فصل ـ حديث سويد بن الصامت وإسلام إياس بن معاذ
وكان مما صنع الله لأنصاره من الأوس والخزرج أنهم كانوا يسمعون من حلفائهم
من يهود المدينة أن نبياً مبعوث في هذا الزمن، ويتوعدونهم به إذا حاربوهم،
ويقولون: إنا سنقتلكم معه قتل عاد وإرم، وكان الأنصار يحجون البيت، (كما
كانت العرب تحجه (وأما اليهود فلا.
فلما رأى الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوالناس إلى الله تعالى،
ورأوا أمارات الصدق عليه قالوا: والله هذا الذي توعدكم يهود به فلا يسبقنكم
إليه.
وكان سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف بن الأوس قد قدم
(1/108)
مكة فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم
فلم يبعد ولم يجب ثم انصرف إلى المدينة، فقتل في بعض حروبهم، وكان سويد هذا
ابن خالة عبد المطلب.
ثم قدم مكة أبو الحيسر أنس بن رافع في فتية من قومه من بني عبد الأشهل،
يطلبون الحلف، فدعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فقال إياس
بن معاذ منهم ـ وكان شاباً حدثاً ـ: يا قوم، هذا والله خير مما جئنا له،
فضربه أبو الحيسر وانتهره، فسكت، ثم لم يتم لهم الحلف، فانصرفوا إلى بلادهم
إلى المدينة، فيقال إن إياس بن معاذ مات مسلماً.
فصل ـ بيعة العقبة الأولى والثانية
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لقي عند العقبة في الموسم نفراً من
الأنصار، كلهم من الخزرج، وهم: أبو أمامة أسعد بن زرارة بن عدس، وعوف بن
الحارث بن رفاعة، وهو ابن عفراء ورافع بن مالك بن العجلان، وقطبة بن عامر
بن حديدة، وعقبة بن عامر بن نابي، وجابر بن عبد الله بن رئاب، فدعاهم رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام، فأسلموا مبادرة إلى الخير، ثم رجعوا
إلى المدينة فدعوا إلى الإسلام، ففشا الإسلام فيها، حتى لم تبق دار إلا وقد
دخلها الإسلام.
(1/109)
فلما كان العام المقبل، جاء منهم اثنا عشر
رجلاً: الستة الأوائل خلا جابر بن عبد الله بن رئاب، ومعهم: معاذ بن الحارث
بن رفاعة، أخو عوف المتقدم، وذكوان بن عبد قيس بن خلدة ـ وقد أقام ذكوان
هذا بمكة حتى هاجر إلى المدينة فيقال: إنه مهاجري أنصاري ـ وعبادة بن صامت
بن قيس، وأبو عبد الرحمن يزيد بن ثعلبة، فهؤلاء عشرة من الخزرج.
واثنان من الأوس وهما: أبو الهيثم مالك بن التيهان.
وعويم بن ساعدة.
فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كبيعة النساء.
ولم يكن أمر بالقتال بعد.
فلما انصرفوا إلى المدينة، بعث معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرو بن
أم مكتوم، ومصعب بن عمير، يعلمان من أسلم منهم القرآن، ويدعوان إلى الله عز
وجل،
(1/110)
فنزلا على أبي أمامة أسعد بن زرارة، وكان
مصعب بن عمير يؤمهم وقد جمع بهم يوماً بالأربعين نفساً، فأسلم على يديهما
(بشر كثير منهم: (أسيد بن حضير، وسعد بن معاذ، وأسلم بإسلامهما يومئذ جميع
بني عبد الأشهل، الرجال والنساء، إلا الأصيرم، وهو عمرو بن ثابت بن وقش،
فإنه تأخر إسلامه إلى يوم أحد، فأسلم يومئذ، وقاتل فقتل قبل أن يسجد لله
سجدة.
فأخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «عمل قليلاً وأجر كثيراً» .
وكثر الإسلام بالمدينة وظهر، ثم رجع مصعب إلى مكة، ووافى الموسم ذلك العام
خلق كثير من الأنصار من المسلمين والمشركين، وزعيم القوم البراء بن معرور
رضي الله عنه.
(1/111)
فلما كانت ليلة العقبة ـ الثلث الأول منها
ـ تسلل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان،
فبايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم خفية من قومهم ومن كفار مكة، على أن
يمنعوه مما يمنعون منه نساءهم وأبناءهم (وأزرهم (.
وكان أول من بايعه ليلتئذ البراء بن معرور، وكانت له اليد البيضاء، إذ أكد
العقد وبادر إليه.
وحضر العباس عم رسول الله صلى الله عليه وسلم موثقاً مؤكداً للبيعة مع أنه
كان بعد على دين قومه.
واختار رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم تلك الليلة اثني عشر نقيباً وهم:
أسعد بن زرارة بن عدس وسعد بن ربيع بن عمرو، وعبد الله بن رواحة بن ثعلبة
بن امرئ القيس، ورافع بن مالك بن العجلان، والبراء بن معرور بن صخر بن
خنساء، وعبد الله بن عمرو بن حرام، وهو والد جابر، وكان قد أسلم تلك
(1/112)
الليلة رضي الله عنه، وسعد بن عبادة بن
دليم، والمنذر بن عمرو بن خنيس، وعبادة بن الصامت.
فهؤلاء تسعة من الخزرج.
ومن الأوس ثلاثة وهم: أسيد بن الحضير بن سماك، وسعد بن خيثمة بن الحارث،
ورفاعة بن عبد المنذر بن زبير، وقيل: بل أبو الهيثم بن التيهان مكانه.
ثم الناس بعدهم.
والمرأتان هما: أم عمارة نسيبة بنت كعب بن عمرو، التي قتل مسيلمة ابنها
حبيب بن زيد بن عاصم بن كعب.
وأسماء بنت عمرو بن عدي بن نابي.
فلما تمت هذه البيعة استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يميلوا على
أهل العقبة فلم يأذن لهم في ذلك، بل أذن للمسلمين بعدها من أهل مكة في
الهجرة إلى المدينة، فبادر الناس إلى ذلك، فكان أول من خرج إلى المدينة من
أهل مكة أبو سلمة بن عبد الأسد، هو وامرأته أم سلمة فاحتبست دونه ومنعت سنة
من اللحاق به، وحيل بينها وبين ولدها، ثم خرجت بعد السنة بولدها إلى
(1/113)
المدينة، وشيعها عثمان بن طلحة، ويقال: إن
أبا سلمة هاجر قبل العقبة الأخيرة، فالله أعلم.
ثم خرج الناس أرسالاً يتبع بعضهم بعضاً.
فصل ـ هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم
ولم يبق (بمكة (من المسلمين إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
وعلي رضي الله تعالى عنهما أقاما بأمره لهما، وخلا من اعتقله المشركون
كرهاً، وقد أعد أبو بكر رضي الله عنه جهازه وجهاز رسول الله صلى الله عليه
وسلم، منتظراً حتى يأذن الله عز وجل لرسوله صلى الله عليه وسلم في الخروج.
فلما كانت ليلة هم المشركون بالفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأرصدوا
على الباب أقواماً، إذا خرج عليهم قتلوه، فلما خرج عليهم لم يره منهم أحد،
وقد جاء في حديث أنه ذر على رأس كل واحد من هم تراباً ثم خلص إلى بيت أبي
بكر رضي الله عنه، فخرجا من خوخة في دار أبي بكر ليلاً، وقد استأجرا عبد
الله بن أريقط، وكان هادياً خريتاً، ماهراً بالدلالة إلى أرض المدينة،
وأمناه على ذلك مع أنه كان على دين قومه، وسلما إليه راحلتيهما، وواعداه
غار ثور بعد ثلاث، فلما حصلا في الغار عمى الله على قريش خبرهما، فلم يدروا
أين ذهبا.
(1/114)
وكان عامر بن فهيرة، يريح عليهما غنماً
لأبي بكر، وكانت أسماء بنت أبي بكر تحمل لهما الزاد إلى الغار، وكان عبد
الله بن أبي بكر يتسمع ما يقال بمكة ثم يذهب إليهما بذلك فيحترزان منه.
وجاء المشركون في طلبهما إلى ثور، وما هناك من الأماكن، حتى إنهم مروا على
باب الغار، وحازت أقدامهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وعمى الله
عليهم باب الغار، ويقال ـ والله أعلم ـ إن العنكبوت سدت على باب الغار، وإن
حمامتين عششتا على بابه، وذلك تأويل قوله تعالى {إلا تنصروه فقد نصره الله
إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن
إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين
كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم} وذلك أن أبا بكر رضي
الله تعالى عنه لشدة حرصه بكى حين مر المشركون، وقال: يا رسول الله، لو أن
أحدهم نظر موضع قدميه لرآنا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا
بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟» .
ولما كان بعد الثلاث أتى ابن أريقط بالراحلتين فركباهما، وأردف أبو بكر
عامر بن فهيرة وسار الديلي أمامهما على راحلته.
وجعلت قريش لمن جاء بواحد من محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر رضي الله
عنه مائةً من الإبل، فلما مروا بحي مدلج، بصر بهم سراقة بن مالك بن جعشم،
سيد مدلج، فركب جواده وسار في طلبهم، فلما قرب منهم سمع قراءة النبي صلى
الله عليه وسلم،
(1/115)
وأبو بكر رضي الله عنه يكثر الالتفات حذراً
على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صلى الله عليه وسلم لا يلتفت، فقال
أبو بكر: يا رسول الله هذا سراقة بن مالك قد رهقنا.
فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فساخت يدا فرسه في الأرض فقال:
رميت، إن الذي أصابني بدعائكما، فادعوا الله لي، ولكما علي أن أرد الناس
عنكما، فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلق، وسأل رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن يكتب له كتاباً، فكتب له أبو بكر في أدم، ورجع يقول
للناس: قد كفيتم ما ههنا.
وقد جاء مسلماً عام حجة الوداع ودفع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم
الكتاب الذي كتبه له، فوفى له رسول الله صلى الله عليه وسلم بما وعده وهو
لذلك أهل.
ومر رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسيره ذلك بخيمة أم معبد فقال عندها،
ورأت من آيات نبوته في الشاة وحلبها لبناً كثيراً في سنة مجدبة ما بهر
العقول، صلى الله عليه وسلم.
(1/116)
|