الفصول
في السيرة فصل ـ دخول عليه
الصلاة والسلام المدينة
وقد كان بلغ الأنصار مخرجه من مكة وقصده إياهم، فكانوا كل يوم يخرجون إلى
الحرة ينتظرونه، فلما كان يوم الاثنين الثاني عشر من ربيع الأول على رأس
ثلاث عشرة سنة من نبوته صلى الله عليه وسلم وافاهم رسول الله صلى الله عليه
وسلم حين اشتد الضحى، وكان قد خرج الأنصار يومئذ، فلما طال عليهم رجعوا إلى
بيوتهم، وكان أول من بصر به رجل من اليهود ـ وكان على سطح أطمه ـ فنادى
بأعلى صوته: يا بني قيلة هذا جدكم الذي تنتظرون! فخرج الأنصار في سلاحهم
وحيوه بتحية النبوة.
ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء على كلثوم بن الهدم، وقيل: بل على
سعد بن خيثمة، وجاء المسلمون يسلمون على رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وأكثرهم لم يره بعد، وكان بعضهم أو أكثرهم يظنه أبا بكر لكثرة شيبه، فلما
اشتد الحر قام أبو بكر بثوب يظلل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتحقق
الناس حينئذ رسول الله عليه الصلاة والسلام.
(1/117)
فصل ـ استقراره عليه
الصلاة والسلام بالمدينة
فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء أياماً، وقيل: أربعة عشر يوماً،
وأسس مسجد قباء ثم ركب بأمر الله تعالى فأدركته الجمعة في بني سالم بن عوف
فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي رانوناً، ورغب إليه أهل تلك الدار أن
ينزل عليهم فقال: «دعوها فإنها مأمورة» فلم تزل ناقته سائرة به لا تمر بدار
من دور الأنصار إلا رغبوا إليه في النزول عليهم، فيقول: «دعوها فإنها
مأمورة» .
فلما جاءت موضع مسجده اليوم بركت، ولم ينزل عنها صلى الله عليه وسلم حتى
نهضت وسارت قليلاً ثم التفتت ورجعت فبركت في موضعها الأول، فنزل عنها صلى
الله عليه وسلم، وذلك في دار بني النجار، فحمل أبو أيوب رضي الله عنه رحل
رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى منزله.
واشترى رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع المسجد، وكان مربداً ليتيمين،
وبناه مسجداً، فهو مسجده الآن، وبني لآل رسول الله صلى الله عليه وسلم
حجراً إلى جانبه.
(1/118)
وأما علي رضي الله عنه فأقام بمكة ريثما
أدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التي كانت عنده وغير ذلك، ثم
لحق برسول الله صلى الله عليه وسلم.
فصل ـ المواخاة بين المهاجرين والأنصار
ووداع رسول الله صلى الله عليه وسلم من بالمدينة من اليهود، وكتب بذلك
كتاباً
(1/119)
وأسلم حبرهم عبد الله بن سلام رضي الله
عنه، وكفر عامتهم وكانوا ثلاث قبائل: بنو قيقناع، وبنو النصر، وبنو قريظة.
وآخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، فكانوا
يتوارثون بهذا الإخاء في ابتداء الإسلام إرثاً مقدماً على القرابة.
وفرض الله سبحانه وتعالى إذ ذاك الزكاة رفقاً بفقراء المهاجرين، وكذا ذكر
ابن حزم في هذا التاريخ، وقد قال بعض الحفاظ من علماء الحديث: إنه أعياه
فرض الزكاة متى كان.
(1/120)
فصل ـ فرض الجهاد
ولما استقر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة بين أظهر الأنصار
وتكفلوا بنصره ومنعه من الأسود والأحمر، رمتهم العرب قاطبة عن قوس واحدة،
وتعرضوا لهم من كل جانب، وكان الله سبحانه قد أذن للمسلمين في الجهاد في
سورة الحج وهي مكية في قوله تعالى: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن
الله على نصرهم لقدير} ، ثم لما صاروا في المدينة وصارت لهم شوكة وعضد كتب
الله عليهم الجهاد كما قال الله تعالى في سورة البقرة: {كتب عليكم القتال
وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر
لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون} .
فصل ـ أول المغازي والبعوث ـ غزوة الأبواء
وكانت أول غزاة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة الأبواء، وكانت في
صفر سنة اثنتين من الهجرة، خرج بنفسه صلى الله عليه وسلم حتى بلغ ودان،
فوادع بني ضمرة بن
(1/121)
بكر بن عبد مناة بن كنانة مع سيدهم مخشي بن
عمرو، ثم كر راجعاً إلى المدينة ولم يلق حرباً، وكان استخلف عليها سعد بن
عبادة رضي الله عنه.
بعث حمزة بن عبد المطلب
ثم بعث عمه حمزة رضي الله عنه في ثلاثين راكباً من المهاجرين ليس فيهم
أنصاري إلى سيف البحر فالتقى بأبي جهل بن هشام، وركب معه زهاء ثلاثمائة،
فحال بينهم مجدي بن عمرو الجهني، لأنه كان موادعاً للفريقين.
بعث عبيدة بن الحارث بن المطلب
وبعث عبيدة بن الحارث بن المطلب في ربيع الآخر في ستين أو ثمانين راكباً من
المهاجرين أيضاً إلى ماء بالحجاز بأسفل ثنية المرة، فلقوا جمعاً عظيماً من
قريش عليهم عكرمة بن أبي جهل، وقيل: بل كان عليهم مكرز بن حفص، فلم يكن
بينهم قتال، إلا أن سعد بن أبي وقاص رشق المشركين يومئذ بسهم، فكان أول سهم
رمي به في سبيل الله، وفر يومئذ من الكفار إلى المسلمين المقداد بن عمرو
الكندي، وعتبة بن غزوان رضي الله عنهما.
فكان هذان البعثان أول راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن
اختلف في أيهما
(1/122)
كان أول، وقيل: إنهما كانا في السنة الأولى
من الهجرة.
وهو قول ابن جرير الطبري، والله تعالى أعلم.
فصل ـ غزوة بواط
ثم غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة بواط، فخرج بنفسه صلى الله عليه
وسلم في ربيع الآخر من السنة الثانية، واستعمل على االمدينة السائب بن
عثمان بن مظعون فسار حتى بلغ بواط من ناحية رضوى، ثم رجع ولم يلق حرباً
غزوة العشيرة
ثم كانت بعدها غزوة العشيرة، ويقال بالسين المهملة، ويقال العشيراء.
خرج بنفسه صلى الله عليه وسلم في أثناء جماد الأولى حتى بلغها، وهي مكان
ببطن ينبع وأقام هناك بقية الشهر وليالي من جمادى الآخرة [وصالح بني مدلج]
، ثم رجع ولم يلق كيدا، وقد كان استخلف على المدينة أبا سلمة بن عبد الأسد.
وفي
(1/123)
صحيح مسلم من حديث أبي إسحاق السبيعي قال: قلت لزيد بن أرقم: كم غزا رسول
الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: [تسع عشرة غزوة أولها العشيرة أو العشيراء]
. |