المختصر
الكبير في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وَفَاة آمِنَة أمّ رَسُول الله [صلى الله
عَلَيْهِ وَسلم] / 4 ظ
وَرُوِيَ أنَّ آمِنَة خرجت برَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] وَهُوَ
ابْن سِتّ سِنِين إِلَى أَخْوَاله بني عَديّ بن النجّار بِالْمَدِينَةِ
تزورهم بِهِ، وَمَعَهَا أُمُّ أَيْمَن تحضُنه، وهم على بَعِيرَيْنِ، فَنزلت
بِهِ فِي دَار النَّابِغَة، فأقامت بِهِ عِنْدهم شهرا، فَكَانَ رَسُول الله
(1/26)
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] يذكر أموراً
كَانَت فِي مقَامه ذَلِك، وَنظر إِلَى الدَّار حِين هَاجر إِلَى
الْمَدِينَة فَقَالَ: هَا هُنَا نزلت بِي أُمِّي، وَفِي هَذِه الدَّار
قُبِر أبي عبد الله، وأحسنتُ العومَ فِي بِئْر بني عَديّ بن النجار.
وَكَانَ قومٌ يَخْتَلِفُونَ ينظرُونَ إِلَيْهِ، فَقَالَت أُمُّ أَيْمن:
فسمعتُ أحدَهم يَقُول: هُوَ نبيُّ هَذِه الأُمّة، وَهَذِه دَار هجرته،
فوَعيْتُ ذَلِك كلَّه من كَلَامه. ثُمَّ رجعَتْ بِهِ أمُّه إِلَى مكّة،
فلمّا كَانُوا بالأَبْواء تُوفِّيت آمِنَة بنت وهب، ودُفنت هُنَاكَ، فرجعتْ
بِهِ أُمُّ أَيمن على البعيرَيْن اللذيْن قدمِوا عَلَيْهِمَا إِلَى مكّة.
فَلَمَّا مرَّ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فِي عُمرة
الحُدَيْبيّة بالأَبْواء قَالَ: إنّ الله قد أذِنَ لمحمدٍ فِي زِيَارَة قبر
أمّه، فَأَتَاهُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فأصلحه، وَبكى
عِنْده، وَبكى الْمُسلمُونَ لبكاء رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فَقيل لَهُ، فَقَالَ: أدركَتْني رحمتُها فبكيتُ.
وَقيل: تُوفّيت آمنةُ أُمُّ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
بِمَكَّة، ودُفنت فِي شِعبٍ من شِعاب الحَجون بمكَّةَ. حَكَاهُ ابْن
الْأَثِير قَالَ: وَهُنَاكَ حطَّ النبيُّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] على
ابْن مَسْعُود لَيْلَة الجِنِّ. وَقيل: توفيت وَله -[صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم]- ثَمَان سِنِين، وَقيل: سبعٌ، وَقيل: أربعٌ. والمشهورُ مَا حكيناه
أَولا من أَنَّهَا توفيت بالأَبْواء وَرَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] ابْن ستِ سِنِين، وَبِذَلِك جزم ابْن سعد وَابْن فَارس وَالشَّيْخ
شرف الدّين الدمياطيّ، وَغَيرهم، رَحِمهم الله تَعَالَى.
(1/27)
ضَمُّ عبد الْمطلب ثمَّ أبي طَالب رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] / 5
وَرُوِيَ أنّ عبد الْمطلب ضمَّ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
إِلَيْهِ بعد وَفَاة أمّه، ورقّ عَلَيْهِ رِقّةً لم يرقَّها على وَلَدِه،
وَكَانَ يقرِّبه مِنْهُ ويُدْنيه، ويَدخل عَلَيْهِ إِذا خَلاَ وَإِذا نامَ،
وَكَانَ يَجلس على فرَاشه فَيَأْخذهُ أعمامُه ليؤخِّروه عَنهُ، فَيَقُول
عبد الْمطلب إِذا رأى ذَلِك: دَعُوا ابْني، إِنَّه لَيؤنِسُ مُلْكاً. وَفِي
رِوَايَة: دَعوا ابْني فوَاللَّه إنَّ لَهُ لَشأناً. وَقَالَ عبد الْمطلب
لأمّ أَيْمن، وَكَانَت تحضنُ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : يَا
بَرَكة لَا تغفلي عَن ابْني فإنّي وجدتُه مَعَ غلمانٍ قَرِيبا من
السِّدْرة، وإنّ أهل الْكتاب يَزْعمُونَ أنّ ابْني نبيُّ هَذِه الأمّة.
وَكَانَ عبد الْمطلب لَا يَأْكُل طَعَاما إِلَّا قَالَ: عليَّ بِابْني.
فيُؤتى بِهِ إِلَيْهِ. ولمّا حَضرته الْوَفَاة أوصى أَبَا طَالب بِحِفْظ
رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] . وحِياطته. وَمَات فدُفن بالحَجون،
وَهُوَ يَوْمئِذٍ ابْن اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ سنة، وَقيل: خمس
وَتِسْعين، وَقيل: مائةٍ وعشرٍ، وَقيل: مائةٍ وَعشْرين، وَقيل: مائةٍ
وَأَرْبَعين سنة.
سُئل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أَتذْكر موتَ عبد الْمطلب؟
قَالَ: نعم، أَنا يَوْمئِذٍ ابْن ثَمَان سِنِين. قَالَه الشَّيْخ شرف
الدّين الدمياطي، وَجزم بِهِ، وَهُوَ الْمَشْهُور، وَقيل: تُوفِّي عبد
المطَّلب، ولرسول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] ستُ سِنِين، وَقيل: عشرٌ،
وَقيل:
(1/28)
ثلاثٌ، وَهُوَ أبعد الْأَقْوَال. ثمَّ كفله
عمُّه أَبُو طَالب بعد وَفَاة عبد المطَّلب، وَكَانَ بِهِ رَفِيقًا،
وَكَانَ يُحبّه حُبَّاً شَدِيدا لَا يُحبّه وَلَدَه، وَكَانَ لَا ينَام
إلاّ إِلَى جَنبه، ويخرجُ فَيخرج مَعَه، وَكَانَ يَخصّه بِالطَّعَامِ،
وَكَانَ إِذا أكل عِيالُ أبي طَالب فُرادى أَو جَمِيعًا لم يَشبعوا، وَإِذا
أكل مَعَهم رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] شبِعوا، فَكَانَ إِذا
أَرَادَ أَن يُغدِّيهم أَو / 5 ظ. يُعشِّيهم يَقُول: كَمَا أَنْتُم حَتَّى
يَأْتِي ابْني، فَيَأْتِي رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] فيأكل
مَعَهم. فيَفصِلون من طعامهم، وَكَانَ الصّبيان يُصْبِحُونَ شعثاً
رُمْصَاً، ويَصبح رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] دَهيناً كحيلاً،
وطهّره الله من دَنَس الْجَاهِلِيَّة، وَمن كل عَيبٍ، فَلم يعظّم لَهُم
صَنَماً قطُّ، وَلم يحضر مَشهداً من مَشاهد كفرِهم، وَكَانُوا يطلبونه
لذَلِك فَيمْتَنع ويعصمه الله تَعَالَى من ذَلِك. وَكَانَ يُعرَفُ فِي قومه
بالأَمين، لِما شاهدوه من أَمانته وصِدْق طَهَارَته، وَصِفَاته العَليّة
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
خُرُوج النبيّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] إِلَى الشَّام ثمَّ شهودُه
بُنْيَانَ الْكَعْبَة
لمّا بلغ النبيُّ [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] اثْنَتَيْ عشرَة سنة وشهرين
وَعشرَة أَيَّام، وَقيل: تسعَ سِنِين. خرج مَعَ عمّه أبي طَالب إِلَى
الشَّام حَتَّى بلغ بُصْرى فَرَآهُ بَحيري الرَّاهبُ فَعرفهُ بصفتِه فجاءَ
وأخذَ بِيَدِهِ، وَقَالَ: هَذَا سيّد الْعَالمين، هَذَا رَسُول
(1/29)
ربّ الْعَالمين، هذاَيبعثُه اللهُ رَحمةً
للْعَالمين. فَقَالُوا لَهُ: من أينَ علمتَ هَذَا؟ قَالَ: إِنَّكُم حِين
أقبلتم من العَقَبة لم يبقَ حَجَرٌ وَلَا شجرٌ إلاّ خَرَّ سَاجِدا، وَلَا
يسْجد إِلَّا لنبيٍّ، وَإِنَّا نجده فِي كُتبنا. وَقَالَ لأبي طَالب: لَئِن
قدمتَ بِهِ الشَّام لَتقتلنَّه اليهودُ. وَسَأَلَهُ أَنْ يردَّه خوفًا من
الْيَهُود فردّه.
ثمَّ خرج [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مرّة ثَانِيَة إِلَى الشَّام مَعَ
مَيْسَرة غُلَام خَدِيجة رَضِي الله عَنْهَا فِي تِجَارَة لَهَا قبل أنْ
يتزوّجها، فَلَمَّا قدمَ الشامَ نزل تَحت ظلِّ شجرةٍ قَرِيبا من صَوْمعة
لنَسْطُور الرَّاهب، فَقَالَ: مَا نزلَ تَحت هَذِه الشجرةِ قطُّ إِلَّا
نبيٌّ. ثمَّ قَالَ لمَيْسَرة: أَفِي عَينيه حُمرَةٌ؟ قَالَ: نعم لَا
تُفارقه. قَالَ: هُوَ نبيٌّ، وَهُوَ آخرِ الْأَنْبِيَاء / 6 و.
ثمَّ بَاعَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] سِلْعتَه، فَوَقع بَينه
وَبَين رجل تَلاحٍ، فَقَالَ: احلِفْ بِاللات والعُزَّى. فَقَالَ رَسُول
الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] : مَا حلفتُ بهما قطُّ، إِنِّي لأمرُّ
فأُعْرِض عَنْهُمَا. فَقَالَ الرجل: القولُ قولُك: ثمَّ قَالَ لِمَيْسَرةَ:
هَذَا - واللهِ - نَبيٌّ تَجدُه أحبارُنا مَنعوتاً فِي كتبهمْ. وَكَانَ
مَيْسَرةَ إِذا كَانَت الهاجرة واشتدَّ الحَرُّ يَرى مَلَكين يُظلِّلان
رسولَ الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] من الشَّمْس، فوعى ذَلِك كلَّه
مَيْسَرةَ. وَكَانَ قد ألْقى الله عَلَيْهِ المحبَّة من مَيْسَرة، وَكَانَ
كأنّه عبدٌ لَهُ. وَبَاعُوا تِجَارَتهمْ وربحوا ضعفَ مَا كَانُوا يربحون،
فلمّا رجعُوا وَدخل رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] مَكَّة رَأَتْهُ
خديجةُ وَهُوَ على بعيره، ومَلَكان يُظلاَّنه، فأَرتْه نِساءها فعجبنَ
لذَلِك، وَدخل عَلَيْهَا رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم]
فَأَخْبرهَا بِمَا ربحوا فِي وجههم ذَلِك، فسُرَّت بِهِ، فَلَمَّا دخل
مَيْسَرةُ عَلَيْهَا أخْبرته بِمَا رأتْ. فَقَالَ مَيْسَرةُ: قد رَأَيْت
هَذَا منذُ خروجنا من الشَّام. وأخبرها بِمَا قَالَ نَسطور الراهبُ،
وَبِمَا قَالَ الآخرُ.
(1/30)
وَلما بلغ النبيُّ [صلى الله عَلَيْهِ
وَسلم] خمْسا وَثَلَاثِينَ سنة، وَقيل: خمْسا وَعشْرين، اجْتمعت قريشُ
لِبُنيان الكعبةِ، وَالَّذِي حَملهم على ذَلِك أنّ بابَ الْكَعْبَة كَانَ
بِالْأَرْضِ، وَكَانَ السَّيلُ يدْخل من أَعلَى مَكَّة حَتَّى يدْخل
الْبَيْت، فانصدع، وسرق طِيبَ الكعبةِ، فخافوا أنْ ينهدم الْبَيْت.
وَرُوِيَ أنّ سَبَب انهدامِها أَنّ امْرَأَة جَاءَت بِمجمرة تجمِّر
الْكَعْبَة، سقطتْ مِنْهَا شرارةٌ فتعلّقت بكسوة الْكَعْبَة فاحترقت، وَلما
أَجمعُوا على هدمها قَالَ بَعضهم: لَا تُدخلوا فِي بنائها من كَسْبكم إلاّ
طيِّباً مَا لم تَقطعوا فِيهِ رَحِماً / 6 ظ. وَلم تَظلِموا فِيهِ أحدا.
فَبَدَأَ الْوَلِيد بن المُغيرة بهَدْمها، وَأخذ المِعْولَ، ثمَّ قَامَ
عَلَيْهَا يطْرَح الْحِجَارَة وَهُوَ يَقُول: اللَّهمَّ لم تُرَعْ إِنَّمَا
نريدُ الْخَيْر. فهدَم وهَدمتْ قريشٌ.
ثمَّ أخذُوا فِي بنائها، فلمّا انْتَهوا إِلَى حَيْثُ يُوضَع الركنُ من
الْبَيْت قَالَت كلُّ قَبيلَة: نَحن أحقُّ بِوَضْعِهِ. وَاخْتلفُوا حَتَّى
همّوا بِالْقِتَالِ، وقرَّبت بَنو عبد الدَّار جَفْنةً مَمْلُوءَة دَمَاً،
ثمَّ تعاقدوا هم وَبَنُو عَديّ على الْمَوْت، وأدخلوا أيديَهم فِي ذَلِك
الدَّم فِي تِلْكَ الجَفْنة، فسُمُّوا " لَعَقة الدَّم " ثمَّ اتّفقوا على
أنْ يجْعَلُوا بَينهم أَوّل مَنْ يدْخل من بَاب بني شَيبةَ، يقْضِي بَينهم،
فَكَانَ رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] أوَّلَ مَنْ
(1/31)
دخل من بَاب بني شيبَة، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الأمينُ، قد
رَضينا بِمَا يقْضِي بَيْننَا، ثمَّ أَخْبرُوهُ الخبرَ، فوضعَ رَسُول الله
[صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] رِدَاءَهُ، وبَسَطَه فِي الأَرْض، ثمَّ وضَع
الرُّكْن فِيهِ، ثمَّ قَالَ: " لِتأخذْ كلُّ قبيلةٍ بناحيةٍ من الثَّوب،
ثُمَّ ارفعوه جَمِيعًا " فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذا بلغُوا بِهِ موضعَه،
وضَعَه رَسُول الله [صلى الله عَلَيْهِ وَسلم] بِيَدِهِ الطاهرة، ثمَّ
بَنوا عَلَيْهِ، حَتَّى انْتَهوا إِلَى مَوضِع الخُشب، فَكَانَ خَمْسَة عشر
جَائزاً سقفوا الْبَيْت عَلَيْهِ، وَبَنوهُ على ستّة أَعمدةٍ، وأخرجوا
الحَجر من الْبَيْت. وحُكي أنّ ارْتِفَاع الْكَعْبَة كَانَ من عهد
إِسْمَاعِيل تِسْعَة أَذرعٍ، وَلم يكن لَهَا سَقفٌ، فَلَمَّا بنتهَا قريشٌ
زادوا فِيهَا تِسْعَة أَذرعٍ، وَرفعُوا بابَها عَن الأَرْض، ليدخلوا مَنْ
شاؤوا ويَمنَعوا مَنْ شَاؤُوا. |