المستشرقون والسيرة النبوية ـ[المستشرقون والسيرة النبوية]ـ
المؤلف: عماد الدين خليل
الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - 1426 هـ
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(/)
الكتاب: المستشرقون والسيرة النبوية
المؤلف: عماد الدين خليل
الناشر: دار ابن كثير للطباعة والنشر والتوزيع - دمشق، بيروت
الطبعة: الأولى - 1426 هـ
عدد الأجزاء: 1
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
(/)
ملاحظات أساسية
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
1
يجب أن نلاحظ في البداية أنّ المسلم- مهما كانت درجة ثقافته- يتعامل مع
معطيات السّيرة وفق ما يمكن اعتباره شبكة من البدهيات والمسلّمات.. وهي لم
تأت إليه مباشرة عن طريق الأخبار والروايات التاريخية التي قد يكون بعضها
ضعيفا وبعضها الآخر مشكوكا فيه.. بل إن بعض المسلمين لم يقرأ في حياته
كتابا تاريخيا واحدا عن محمد عليه الصلاة والسلام.. إنما جاءته بطرق أكثر
حيويّة كانت أشبه بالروافد المتدفّقة التي تتشكّل لكي تصير نهرا، من خلال
تعامله مع القرآن والحديث، ومن خلال تجربته الإيمانيّة التي تحتّم عليه أن
يكون على معرفة طيبة بسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم من خلال عرف اجتماعيّ
ثقافيّ عام، يقوم على خطوط عريضة وتفاصيل متفق عليها تماما بصدد أحداث
السيرة.. من خلال تقليد زمنيّ؛ تتناقل بواسطته حقائق السيرة من جيل مسلم
إلى آخر.. من خلال تعاطف وتقدير دينيّين إزاء كل ما يتعلّق بحياة الرسول
عليه الصلاة والسلام..
وبالنسبة للمثقّف الأكثر تخصّصا، فإنّ توغّله في الحقائق التاريخيّة للسيرة
يضيف رافدا آخر- ولا شك- إلى هذه الروافد جميعا.
(1/5)
ولكنّ هذه الروافد كافة، ما تلبث أن تتجمّع
لكي تجعل موقف المسلم من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم واحدا. أيّا كان
موقع هذا المسلم، اللهم إلّا في حالات استثنائية تقتصر على الخارجين على
الإسلام بهذه الدّرجة أو تلك، وعلى بعض الدارسين الذين تلقّوا تأثيرات
مضادة عن مصادر غير إسلامية.
إن هذا الموقف المتوحّد من السيرة الذي تتغلغل في نسيجه مشاعر الاحترام
والتقدير والإعجاب والمحبة واليقين.. والذي يجد في السيرة تعبيرا متكاملا
عن العقيدة التي ينتمي إليها، يجد في الدراسات الاستشراقية (الخارجية) عن
السيرة تغرّبا عن مسلّماته وخروجا صريحا عن بداهاته، وما يمكن اعتباره
محاولات متعدّدة لإصابة هذه المسلّمات والبداهات بالجروح والكسور.. وهي لن
تفعل فعلها في يقينه، إلّا في حالات معينة بينما نجدها تدفعه في أغلب
الحالات وأعمّها إلى الاشمئزاز والنّفور.
هذا مع أن معالجة واقعة تمتد جذورها إلى عالم الغيب، وترتبط أسبابها
بالسماء، ويكون فيها (الوحي) همزة وصل مباشرة بين الله سبحانه ورسوله
الكريم، ويتربّى في ظلالها المنتمون على عين الله ورسوله ليكونوا تعبيرا
حيّا عن إيمانهم، وقدوة حسنة للقادمين من بعدهم.. واقعة كهذه لا يمكن بحال
أن تعامل كما تعامل الجزئيات والذرّات والعناصر في مختبر للكيمياء.. أو كما
تعامل الخطوط والزوايا في المساحات على تصاميم المهندسين، بل ولا كما تعامل
الوقائع التاريخيّة التي لا ترتبط بأيّ بعد دينيّ أصيل..
إننا هنا بمواجهة تجربة من نوع خاص، وشبكة من العوامل والمؤثّرات تندّ عن
حدود مملكة العقل، وتستعصي على التحليل المنطقيّ الاعتياديّ المألوف، ومن
ثم فإنّ محاولة قسرها على الخضوع لمقولات العقل الصرف ومعطيات المنطق
المتوارثة لا يقود إلى نتائج خاطئة حينا، ولا تستعصي عليه بعض الظواهر حينا
آخر فحسب، بل إنه يقوم بما يمكن اعتباره جريمة
(1/6)
قتل بشكل من الأشكال، أو محاولة تفحّص
الجسد البشري كما لو كان في حالة سكون مطلق بعيدا عن تأثيرات الروح
وتعقيدات الحياة..
إن الدين، والغيب، والروح، لهي عصب السيرة وسداها ولحمتها..
وليس بمقدور الحسّ أو العقل أن يدلي بكلمته فيها إلّا بمقدار.. وتبقى
المساحات الأكثر عمقا وامتدادا، بعيدة عن حدود عمل الحواس وتحليلات العقل
والمنطق..
إنّنا- ونحن نناقش هذا المستشرق أو ذاك في حقل السيرة النبوية- يجب أن
ننتبه إلى هاتين النقطتين مهما كان المستشرق ملتزما بقواعد البحث التاريخيّ
وأصوله.
إنه من خلال رؤيته الخارجية، وتغرّبه، يمارس نوعا من التكسير والتجريح في
كيان السيرة ونسيجها، فيصدم الحسّ الديني، ويرتطم بالبداهات الثابتة.. وهو
من خلال منظوريه العقليّ والوضعيّ يسعى إلى فصل الروح عن جسد السيرة
ويعاملها كما لو كانت حقلا ماديا للتجارب والاستنتاجات، وإثبات القدرة على
الجدل..
وهو في كلتا الحالتين لن يخدم الموقف الإسلاميّ الجاد من سيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم.. أو يحتل موقفا جادا منها بوجه من الوجوه.
2
لنحاول أن نقرّب المسألة أكثر.. إنّ العمل المعماريّ الكبير إذا أقيم على
أسس خاطئة فإنه سيفقد شرطين من شروطه الأساسية: التأثير الجمالي الذي
يمكّنه من أداء وظيفته الوجدانية، والمقومات العلمية التي تمكّنه من أداء
وظيفته الحيوية.
إن البحث في (السيرة) بوجه خاصّ، ليستلزم أكثر من أيّة مسألة أخرى في
التاريخ البشري هذين الشرطين اللذين يمكن أن يوفّرهما منهج متماسك
(1/7)
سليم يقوم على أسس علميّة موضوعيّة لا يخضع
لتحزّب أو ميل أو هوى..
ويمتلك عناصر جماليّته الخاصّة التي تليق بمكانة الرسول المتفرّدة، ودوره
الخطير في إعادة صياغة العالم بما يردّ إليه الوفاق المفقود مع نواميس
الكون والحياة..
وقد كانت مناهج البحث الغربيّ (الاستشراقيّ) في السيرة تفتقر إلى أحد هذين
الشرطين أو كليهما.. وكانت النتيجة أبحاثا تحمل اسم السيرة وتتحدث عن حياة
الرسول صلى الله عليه وسلم وتحلّل حقائق الرسالة، ولكنها- يقينا- تحمل وجها
وملامح وقسمات مستمدة من عجينة أخرى غير مادّة السيرة، وروح أخرى غير روح
النبوّة.. ومواصفات أخرى غير مواصفات الرسالة.
إن نتائجها تنحرف عن العلم لأنها تصدر عن الهوى، وتفقد القدرة على مسامتة
عصر الرسالة وشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، ونقل تأثيراتهما الجمالية
بالمستوى العالي نفسه من التحقق التاريخي.. لأنها تسعى لأن تخضع حقائق
السيرة لمقاييس عصر تنسخ كل ما هو جميل، وتزيّف كلّ ما هو أصيل، وتميل
بالقيم المشعّة إلى أن تفقد إشعاعها وترتمي في الظلمة، أو تؤول إلى
البشاعة!!.
3
يجب أن نلاحظ أن الفهم الجادّ للسيرة يقتضي منهجا يقوم على طبقات أو أدوار
أو شروط ثلاثة، وإن افتقاد أو تهديم أيّ واحد منها يلحق ضررا فادحا في مهمة
الفهم هذه..
فأمّا الطبقة الأولى الأساسية فهي الإيمان، أو على الأقلّ احترام المصدر
الغيبيّ لرسالة محمد صلى الله عليه وسلم وحقيقة (الوحي) الذي تقوم عليه..
(1/8)
وأما الطبقة الثانية فهي اعتماد موقف
موضوعيّ بغير حكم مسبق، يتجاوز كل الإسقاطات التي من شأنها أن تعطّل عمليّة
الفهم.
وأما الطبقة الثالثة فهي (تقنية) صرفة تقوم على ضرورة الإحاطة الجيّدة
بأدوات البحث التاريخيّ: بدا باللغة وجمع المادّة الأوّلية، وانتهاء بطرائق
المقارنة والموازنة والنقد والتركيب.. إلى آخره..
وإذا كان الغربيون قد بلغوا حد التمكن والإبداع في هذه الدائرة الأخيرة،
فإنهم في نهاية الأمر لم يستطيعوا أن يقدّموا أعمالا علميّة بمعنى الكلمة
لواقعة السيرة، ولا قدروا حتى على الاقتراب من حافّة الفهم، بسبب أنهم كان
يعوزهم التعامل الأكثر علميّة مع الدائرتين الأوليين: احترام المصدر
الغيبيّ، واعتماد الموقف الموضوعيّ.. بصدد النقطة الأولى فإنّه يصعب علينا
أن نطلب من الغربيين النصارى والمادّيّين- وبخاصة الأخيرين منهم- التحقّق
بإيمان كهذا.. بل إنه أمر يكاد يكون مستحيلا.. ولكن من ناحية علمية،
بالمفهوم الشامل للعلم، فإنّه لا بدّ من هذا التحقق إذا أريد إدراك واقعة
السيرة ومتابعة حبكة نسيجها ذي الخلفية الغيبية، باعتباره حركة دين سماويّ
قادم من (فوق) وليس تجربة بشرية متخلّقة في تراب الأرض.
أما بصدد الدائرة الثانية، فإنّ مما يؤخذ على الباحث الغربيّ تجاوزه
(الموضوعية) في مناهج تعامله مع السيرة.. فلو أنه حاول التزامها، وحرر عقله
من عوامل الشد الزمنية والمكانيّة والمذهبيّة والنفسيّة، ولو أنه قدر على
تجاوز النسبيّات وضغوط الإسقاطات المرحلية، فإنه كان سيتمكن من تقديم أعمال
أنضج بكثير، وأقرب إلى روح الواقعة، وتركيبها، وإيقاعها..
إن منهج البحث في السيرة للمؤرخ الغربي أو المستشرق، يمثل بحد ذاته جدارا
يصدّه عن الفهم الحقيقيّ لوقائع السيرة ونسيجها العام..
(1/9)
4
إن مناقشة أيّ من المستشرقين الذين تناولوا السيرة، على مستوى التفاصيل
والجزئيات التاريخيّة والعقديّة، لا تغني شيئا، لأنها ستكون بمثابة نقد
موقوت يتحرّك على السطح، ويستهلك نفسه في الجزئيات؛ دون أن يبحث عن الجذور
العميقة التي تظلّ تنبت الشوك والحسك.
والجذور العميقة هي المنهج الخاطئ الذي تقوم عليه أبحاث هؤلاء المستشرقين
فإذا استطعنا أن نضع أيدينا على عيوب المنهج وشروخه استطعنا معرفة المنبع
الذي يتمخّض عنه تيّار الأخطاء الموضوعيّة، وخلخلة الأسس التي آتت هذه
الثمار المرّة واقتلاعها.. لكي تنظّف الأرضيّة ويمهد الطريق.. ويحين اليوم
الذي تعالج فيه السيرة وفق منهج عدل يعرف كيف يتعامل مع سيرة نبيّ ليست
كالسّير يقينا..
5
هنالك ملاحظة جديرة بالالتفات، بالرغم أنها على قدر كبير جدا من الوضوح،
لكن الوضح الشديد قد يؤدّي إلى الخفاء كما يقول المثل المعروف..
إنّ بحث المستشرقين- بصفة عامة- في السيرة لا يحمل عناصر اكتماله منذ
البداية، بل إنه ليشبه الاستحالة الحسابيّة المعروفة بجمع خمس برتقالات
مثلا- مع ثلاثة أقلام.. إذ لا يمكن أن يكون الحاصل ثمانية.. إن هنالك خلافا
نوعيا لا يمكّن الأرقام من أن تتجمع لكي تشكّل مقدارا موحدا..
إنّ المستشرقين- بعامة- يريدون أن يدرسوا سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم
وفق حالتين تجعلان من المستحيل تحقيق فهم صحيح لنسيج السيرة ونتائجها
وأهدافها التي تحرّكت صوبها والغاية الأساسية التي تمحورت حولها..
(1/10)
فالمستشرق بين أن يكون علمانيا، ماديا، لا
يؤمن بالغيب، وبين أن يكون يهوديا أو نصرانيا لا يؤمن بصدق الرسالة التي
أعقبت النصرانية..
وإذ كانت السيرة، في تفاصيلها وجزئياتها، تنفيذا تاريخيا لعقيدة الإسلام
ذات المرتكزات الغيبية، بل ذات التداخل بين المغيّب والمنظور في السدى
واللحمة، وإذ كانت بمثابة دعوة سماوية أخيرة، جاءت لكي توقف النصرانية
المحرّفة عن العمل وتحلّ محلّها، بما تتضمّنه من عناصر الديمومة والحركية
والاكتمال.. فإنّ ثمّة جدارا فاصلا يقف بين المستشرقين- سواء أكان من الصنف
الأول، أم من الصنف الثاني- وبين فهم السيرة.
ومهما أعمل المستشرق قدراته العقليّة، ومهما اجتهد في تحليلاته المنطقيّة،
ومهما استنفر إمكاناته التقنيّة وحاول الإفادة مما يسمى بالعلوم المساعدة
أو الموصلة للحقيقة التاريخيّة، ومهما ادعى من حياد وموضوعيّة، فإنه غير
واصل البتّة إلى تقديم صيغة أقرب إلى الكمال لسيرة رسول الله صلى الله عليه
وسلم.
ولن يكون غريبا، أو يعد تجاوزا على الواقع، القول: إن أعمال المستشرقين في
السيرة، على تألّق بعضها وعمقه وغنائه، لا يمكن أن ترقى بحال إلى المصاف
الأول من الأبحاث الجادة، ولا يمكن إلّا أن تظلّ في الخطّ الثاني أو
الثالث، وربما العاشر، إذا وجد المستشرق نفسه ينساق بفجاجة وراء تعصبه
النصراني كما فعل لامانس، أو وراء تصوّره المادي للكون والعالم والحياة كما
فعل بندلي جوزي.. إنها لا تغدو أبحاثا حين ذاك ولكن عبثا بمقدساتنا باسم
العلم، وتحويلا للسيرة لكي تكون حقلا لتجارب العقل النقدي الغربي «1» ونحن
يجب أن نرفض التعامل مع هذا العبث وأن نرفض حتى النظر فيه.
__________
(1) انظر على سبيل المثال: مونتغومري وات: محمد في مكة، الصفحات 166- 178،
183- 189، 233- 235.
(1/11)
إنه يجب أن نضع هذه الحقيقة في الحسبان كي
لا نسبح في بحر الجزئيات المتلاطمة دون أن نعرف الحدود النهائية، والملامح
الأساسية، والصورة الشاملة (لوضع البحث الاستشراقي) إزاء سيرة رسول الله
صلى الله عليه وسلم..
ولن يرضى مسلم جاد أن يبقي عقيدته مفتوحة لدخول الريح الصفراء..
6
بما أن وقائع السيرة هي بمثابة التشكّل التاريخي والواقعي لعقيدة الإسلام:
قرآنا وسنّة ورصيدا تشريعيا، وبما أنها البيئة الزمنية والمكانية لفعالية
محمد صلى الله عليه وسلم النبي المبعوث عن الله سبحانه للعالم جميعا، فإنّه
يصعب من الوجهة الإسلامية اعتبارها مسألة تاريخية صرفة تخضع لأساليب النقد
والتحليل التي تعامل بها مراحل التاريخ المختلفة، والمناهج البشريّة
النسبيّة التي تحاول أن تجعل الواقعة التاريخية مسألة مختبرية، أو معملا
للتشريح..
إن السيرة، إذا اعتبرت كذلك، قاد هذا الاعتبار إلى خطأين أساسيين:
أما أولهما: فهو استحالة فهمها ما دام أنها أكبر من المناهج النسبية وأكثر
شمولا، وما دامت تستعصي على أساليب النقد والتحليل المحدودة القاصرة.
وأما ثانيهما: فهو فتح الطريق أمام خصوم الإسلام لتدمير الثقة بمنطلقاته
الأساسية، وأيّ منطلق، بعد القرآن الكريم، أكثر ثقلا وأكبر أهميّة من
السيرة: بيئة التخلّق الإسلامي على كل المستويات، وتشكّله واكتماله؟
لذا فإنه- من الناحية المبدئية- يجب على المثقف المسلم رفض القبول النهائيّ
لنتائج بحوث المستشرقين في حقل السيرة.. لأنها مهما تكن على درجة من
الحياديّة والنزاهة؛ فإنها لا بدّ وأن تسقط الخطأين آنفي الذكر:
القصور عن الفهم وتدمير الثقة بأسس هذا الدين.
ولكن ما دام أن بحوث المستشرقين أمر واقع، وهي تغطي مساحات في السيرة واسعة
في مجال البحث التاريخي، وتفرض ثقلها في الدوائر
(1/12)
الأكاديميّة التخصصيّة بعامة، وما دام أن
في بعض هذه البحوث لمحات منهجية وموضوعية قد تمنحنا المزيد من الإدراك
لنسيج السيرة، وتعطينا المزيد من الأدوات المعينة على الفهم، فلا بأس أن
نتعامل معها على هذا الأساس، وليس أبدا على اعتبار أنها صيغة مقبولة في
التعامل الدراسي مع سيرة رسولنا عليه الصلاة والسلام.
ومن أجل ألّا يختلط الأسود بالأبيض، وتمرّر على العقل المسلم معطيات
المستشرقين المنحرفة وأخطاؤهم المكشوفة أو المستترة، كان لا بدّ من تقديم
العديد من الدراسات النقدية لهذه المعطيات، تكون بمثابة مصدر إنارة للمسلم
في هذا الدرب المعتم الطويل..
7
«إن (مونتغمري وات) يحاول ما وسعه الجهد أن يكون الباحث (الجديد) الذي
يتجاوز أخطاء أسلافه ومعاصريه، بل إنه ليخطو خطوة أخرى، لم يسبقه بها أحد
من أقرانه، فيسعى إلى التحقق بقدر من الاحترام والحيادية إزاء الجذور
الغيبيّة لحقائق السيرة ووقائعها، يقول في مقدمة كتابه (محمد في مكة) :
«فيما يتعلق بالمسائل الفقهيّة التي أثيرت بين المسيحية والإسلام فقد جهدت
في اتخاذ موقف محايد منها، وهكذا بصدد معرفة ما إذا كان القرآن الكريم كلام
الله أو ليس كلامه امتنعت عن استعمال تعبير مثل: (قال تعالى) ، أو (قال
محمد) في كل مرة أستشهد فيها بالقرآن، بل أقول بكل بساطة: (يقول القرآن)
.... وأقول لقرائي المسلمين شيئا مماثلا، فقد ألزمت نفسي، برغم إخلاصي
لمعطيات العلم التاريخي المكرّس في الغرب، ألاأقول أي شيء يمكن أن يتعارض
مع معتقدات الإسلام الأساسية» «1» .
__________
(1) المرجع السابق، ص 5- 6.
(1/13)
ويعلق المستشرق البريطاني المعروف (سير
هاملتون جب) على الكتاب قائلا: بأنّه يجعل القارئ يشعر بأنه كتبه رجل عاش
بالخيال تجربة محمد في مكة أكثر من أي كاتب سابق، يضاف إلى ذلك تنظيمه
الدقيق لمواد البحث الذي يعد إضافة جديدة قيمة لدراسة أصول الإسلام. لقد
اهتم الكتاب خاصة يقول جب- بالأرضية الاقتصاديّة والاجتماعيّة وعلاقاتها
بنظريات القرآن الدينيّة. ولهذا يؤمّل أن يؤدّي إلى تقدير حق لهذا القائد
العظيم أكثر في الغرب مما مضى «1» !!. من أجل هذا وقع الاختيار عليه، لأن
الآخرين من المستشرقين الذين افتقدوا بعض شروط البحث الجادّ، قد نوقشوا
كثيرا؛ فضلا عن أن بحوثهم لم تعد تستحق ذلك العناء الكبير الذي عوملت به في
العقود السابقة بسبب وضوح تناقضاتها وإلحاحها في ملاحقة ما تتصوّره أخطاء
والتشبّث بها، كالمغناطيس الذي يمسك بقطع الحديد المتناثرة..
ثم إن (الدفاع) عن الحقائق الإسلامية العقيدية والتاريخية إزاء أخطاء
الآخرين وتحريفاتهم ليس أكثر أهمية من تقديم أعمال بنائيّة، وإنه ليجب
التأكيد باستمرار على حقيقة أن العمل التاريخي الجادّ بحاجة إلى البناة،
الذين يملكون الحسّ النقدي بطبيعة الحال، أكثر من النقاد، ذلك أن جوانب
كثيرة من تاريخنا وحضارتنا لا تزال تنتظر من يكشف النقاب عنها، أو يعيد
عرضها بالأسلوب الذي يقدمها كما تحققت فعلا، أما ملاحقة دراسات الآخرين
كشفا عن خطأ فيها، ودفاعا عن قيمة ما في تاريخنا وفكرنا وعقيدتنا، فيبدو
أمرا ثانويا يجب ألّا يحتلّ الخطّ الأماميّ إلّا بعد أن يتم القدر الأكبر
من مساحات البناء وتكويناته.
ومع ذلك فإن العملية النقدية- ما دامت تتضمن قدرا من الإنجاز البنائي في
جانب ما من جوانب العقيدة أو التاريخ- تغدو جديرة بالممارسة هي الآخرى، شرط
ألّا تكون هدفا بحدّ ذاتها.
__________
(1) من تعليق جب الذي اعتمده الناشر على غلاف كتاب (محمد في مكة) .
(1/14)
باختصار فإنّ التوجّه الأكثر أهميّة وجدوى
يجب أن يتجاوز الدفاع المتشنّج إزاء كل ما طرحه الخصوم حول هذه النقطة وأن
تكون في مجرى التاريخ والعقيدة الإسلامية صوب أبحاث في تكوين التاريخ
والحضارة والعقيدة والشريعة، نظما وصيرورة وأعمالا بنائيّة، في هذا الجانب
أو ذاك لتقدّم بذاتها القناعات الموضوعيّة التي تتهافت عندها مقولات الخصوم
«1» .
ومن ثمّ، واستنادا إلى ذلك كله؛ وقع الاختيار على (وات) في واحد من كتابيه
المعروفين عن محمد صلى الله عليه وسلم؛ وهو (محمد في مكة) .. ولم أشأ أن
أتناول الكتابين معا لسببين: أولهما: أن حجم المادة سيتضاعف ولا شك، مما لا
يسمح به مجال كهذا الذي أتاحه المجلد الخاص بالمستشرقين.
وثانيهما: إني سأضطر- حينذاك- لوضع القارئ أمام حشد كبير من الشواهد
والنصوص قد تمثل في جوهرها تكرارا لمعان محدّدة.. فما دام أن المنهج في
الكتابين واحد، وأن الخلل الذي يعانيه هذا المنهج واحد كذلك في الكتابين،
فإن التعامل مع أحدهما سيغني بالضرورة عن التعامل مع الآخر.
فهل قدر الرجل على تنفيذ أمنيته التي طرحها في مقدمة بحثه؟
قبل الإجابة على هذا السؤال يجب أن نقوم بعرض مركّز للأدوار التي مرّت بها
الحركة الاستشراقيّة في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، والملامح الأساسية
في مناهجها، لكي نعرف على وجه التحديد موقع (مونتغمري وات) على خارطة
الاستشراق، وبخاصة على مستوى (المنهج) .
__________
(1) انظر: كتاب (فصول في المنهج والتحليل) للمؤلف، فصل (حول تداول السلطة
في العصر الراشدي) .
(1/15)
|